من داخل دائرة صناعة القرار.. شهادتي على اعتصام رابعة
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
تأتي الذكرى العاشرة على فض اعتصام رابعة لتعيد إلى النفس ذكريات وشجونا لا يمكنها أن تمحى من الذاكرة، خاصة وأنّ آثارها لا تزال حاضرة وضاغطة على عشرات الملايين من المصريين، فلا يزال الآلاف معتقلين من يومها، ولا يزال المصريون يعيشون تحت وطأة الفقر والعوز والظلم بعد عشر سنوات من عمر الانقلاب الذي مرّ على جثث المصريين وأشلائهم يوم الفض وما سبقه وما لحقه.
هذه الشهادة هي تاريخ أسجله للأجيال القادمة لعله يكون فيه الفائدة والنفع فلا تتكرر المأساة، فمن تعلم التاريخ حافظ على حاضره ومستقبله.
مع بدء اعتصام رابعة احتاج تحالف دعم الشرعية الذي كان يقود الاعتصام ويقود المواجهة مع الانقلاب إلى عقد عدة جلسات استشارية مع مجموعات متخصصة في مجالات عدة ومن شتّى الاتجاهات، حضرتُ في إحدى هذه اللقاءات مع مجموعة من أساتذة العلوم السياسية وخبراء الشؤون الاستراتيجية للإجابة عن تساؤل وحيد: ما العمل لإسقاط الانقلاب؟ أو كيف ندير المواجهة معه؟
قلتُ لأحد قادة التحالف الجالسين أمامي والذي يمثل فصيل مهم فيه: لكي نبني تصورا استراتيجيا للمواجهة أحتاج إلى معلومات عن الوضع الحالي تفيدني في فهم أبعاد ما نواجهه، وفي نفسي كان السؤال لفهم أبعاد ما لدى التحالف من قدرات، فقلت له: هل هناك تظاهرات وصلت إلى المليون في أعداد المشاركين خلال فترة الاعتصام؟
فقال لي: نعم وصلنا ثلاث مرات إلى متوسط ١-٢ مليون في القاهرة، قلت له: كتلة واحدة أم أكثر، قال لي: كتلتان أو ثلاث أو أكثر، قلت له: أين كانت مواقع التظاهر؟ قال لي: أمام كل الأماكن السيادية في الدولة أجهزة الأمن والمخابرات والحرس الجمهوري ومجلس الوزراء وغيرها، قلت له نصا: وماذا فعلتم بهذه الحشود الهادرة أمام هذه الأجهزة السيادية؟
قال لي: لم نفعل شيئا، قلت له متغابيا: لم تفعل شيئا لأنك لديك خطة أخرى، أم أنّك لم تفعل شيئا لأنك لا تعرف ماذا تفعل؟
فقال لي محرجا: الثانية، فقلت له مندهشا: أنت أمام مؤسسات الدولة التي تملكها كسلطة منتخبة ورئيس منتخب ومحتجز داخل الحرس الجمهوري ولا تعرف ماذا تفعل؟! قال لي: لقد فوجئنا بالأعداد الهائلة من الحشود ولم نعرف ماذا نفعل بها!!
قلت له: فلماذا أخرجتهم إذا؟ ولماذا تحشد فيهم على منصة رابعة وتكلمهم عن الشهادة والجنة والثبات والتضحية ونحو ذلك؟! فلم أتلق ردا.. وبهذا تنتهي الشهادة الأولى.
الشهادة الثانية: ليلة الفض كنت قد خرجت لأمر ما خارج الاعتصام وعدت نحو الثانية عشرة ليلا إلى خيمتي، فشاهدت حالة من الهرج والمرج والتأهب فذهبت إلى أحد القادة الميدانيين المسئولين عن تنظيم الاعتصام وسألته عن سرّ ما أراه، فقال لي: هناك معلومات شبه مؤكدة أن الفض سيتم بعد الفجر، خلال الساعات القادمة، فقلت له: وماذا أعددتم لذلك؟ فقال لي نصا: "سينام نصف المعتصمين لأن هناك تظاهرات في الصباح أمام المباني الحكومية للدولة، والنصف الآخر سيقوم بحراسة بوابات الاعتصام وصد أي هجوم عليها".
كنّا أمام حالة من الارتباك الكامل وأن الاستراتيجية الوحيدة هي الانتظار عسى أن تسفر الاتصالات الدولية عن شيء، وكان قادة الاعتصام رغم إخلاص غالبيتهم للقضية ونضالاتهم في سبيل حرية الوطن طوال حياتهم لا يمتلكون القدرة النفسية الكافية -إلا من رحم ربي- على التعامل مع تحد بهذا الشكل
فقلت له وقد أصابني الذهول مما أسمع: "ينام نصف المعتصمين!!! كيف هذا؟ هل تظن أنه سيبقى حجر وأشجر أو بشر إذا كان الجيش قادما للفض؟!! إذا كان الفض خلال ساعات فسيتم محو هذا المكان من على الخريطة بمن فيه". وحتى أدلل على جدية ما أقول، حملت أوراقي المهمة وحقيبة الحاسب المحمول وقلت سأضعهم في المركز الإعلامي (مبني أسمنتي ملحق بمسجد رابعة) لأن الخيمة التي نقف فيها الآن ستحترق ويتم تجريفها، فنظر لي مشدوها متوترا وقال لي: لا تخبر أحد برأيك هذا حتى لا نتسبب بالبلة بين المعتصمين.
فقلت له: احمل رأيي هذا إلى المسئولين عن الاعتصام حتى لا تحمل وزر هؤلاء الناس، وكتبت ليلتها على حساباتي الشخصية على منصات التواصل أننا ننتظر الفض بعد قليل، إبراء للذمة، ولا تزال هذه التغريدة موجودة كما هي لمن يريد التأكد. وطبعا حدث الفض أسوأ مما توقعت وانتهى اليوم بإصابتي برصاصة غادرة في ظهري نحو الخامسة عصرا، ونجاني الله من الموت بأعجوبة بعد المرور بنحو ١٢ كمين مع الإخوة الكرام الذي حملوني مصابا حتى كتب الله لي النجاة.
لقد كنّا أمام حالة من الارتباك الكامل وأن الاستراتيجية الوحيدة هي الانتظار عسى أن تسفر الاتصالات الدولية عن شيء، وكان قادة الاعتصام رغم إخلاص غالبيتهم للقضية ونضالاتهم في سبيل حرية الوطن طوال حياتهم لا يمتلكون القدرة النفسية الكافية -إلا من رحم ربي- على التعامل مع تحد بهذا الشكل، فغالبيتهم الساحقة أطباء ومهندسون ورجال أعمال ومهنيون من تخصصات مختلفة، تنتهي قدرات أغلبهم عند عمل برلماني أو إدارة نقابة مهنية أو لقاءات تربوية أو محاضرات تثقيفية أو نحو ذلك.
لكن صراعات حدية تقوم على أسنة الرماح وفوهات المدافع وحسابات دولية معقدة يتداخل فيها الأمن القومي مع مصالح أجهزة سيادية واستخباراتية فهذا أكبر من احتمال معظمهم ولم يكن هذا منقصة فيهم مع العيش في ظل ديكتاتورية متأصلة كمصر لم تسمح لغير رجال النظام باكتساب هذه الخبرات، لذلك كان البقاء على وهم الانتظار أفضل لديهم من حقيقة التحدي المٌرّة التي لا يقووا على مواجهتها.
هنا قد يعترض معترض ويقول لم يكن هناك خيارات أمامهم غير هذا الانتظار، وأحيل أصحاب هذا الرأي إلى مقال قديم نشرته في موقع "عربي٢١" تحت عنوان "في ذكرى رابعة.. هل كان من الممكن اجتناب المجزرة؟"، والذي يجيب بشكل تفصيلي وواضح عن هذا التساؤل، وسأقتبس فقرة صغيرة منه هنا توضح فكرة أنه إذا كانت إمكانياتك العقلية والنفسية ومواردك غير مؤهلة لصراع كهذا، فلم يكن ينبغي عليك خوضه وإذا خضته ما كان يجب عليك الاستمرار فيه، خاصة وقد اتضح لك في مجزرة المنصة والحرس الجمهوري والتي وقعتا قبل فض رابعة أنّه لا حدود للقتل وإراقة الدماء لدى هذا السّفاح ورجاله.. قلت في المقال: "وهنا ننتقل الى الخطأ الاستراتيجي الثالث، والقاتل كذلك، وهو غياب الرؤية والاستراتيجية للتعامل مع الأزمة، رغم أنه كانت هناك سيناريوهات متعددة للتعامل معها أنتجها عدد من الباحثين، وكنت واحدا منهم، لكن متخذ القرار لم يجرؤ على تنفيذ أي منها، فلا هو قادر على المواجهة ولا قادر على الانسحاب حتى لا يخذل أنصاره ومؤيديه.
لكن كان هناك طريق ثالث وسط، كان يمكن عن طريقه اجتناب المجزرة أو تقليل خسائرها في الأرواح للحد الأدنى، وهو الانسحاب التكتيكي الذي يقيك المواجهة التي لست مستعدا لها أو يظهرك وسط أنصارك بالمتراجع، كان يمكن الإعلان عن نقل الاعتصام لمكان آخر لسحب الناس من الميدان. وبكل تأكيد لن يسمح لك النظام بنقل الاعتصام، وتكون قد أنهيته دون إعلان ذلك، ويتفرق الناس. وحتى لو استخدم العنف معهم، فسيكون بكل تأكيد محدودا؛ لأن اشتباكات الشوارع لا تسمح له بالسيطرة الكاملة كما في حالة الاعتصام.
كان يمكن كذلك الخروج من الميدان بتظاهرات ضخمة تسحب معظم المعتصمين من الميدان لأماكن مختلفة، وعندما يجد الأمن الميدان شبه فارغ ستتم محاصرته ويمنع المتظاهرين من العودة إليه، وبالتالي تتفرق الجموع وتحقن دماؤها، أو تقل خسائرها للحد الأدنى.
مواجهة الناس بالحقيقة المرّة أهم كثيرا من أن تجعلهم يعيشون الوهم أو السراب اللذيذ، فالحقائق تضع الجميع أمام مسئولياتهم وتترك للناس حرية الاختيار ما يناسبهم، لكن الوهم اللذيذ يجعل الجميع أسرى لما ينتظرونه منك، فتتحمل وزرهم حين ينقشع السراب وتـأتي الحقيقة تتسربل في الدماء
هذه الحلول كانت ستحافظ على قوتك وتعيد انتشارها في المحافظات، وتحقن بها كثير من الدماء، وتعطيك فرصة لاستكمال رؤيتك لمواجهة الانقلاب".
في باقي المقال السابق رددت على كل الحجج التي قد تعترض على هذا الطرح فيُفضل الرجوع إليه حتّي تكتمل الفكرة.
إن الغاية التي أرجوها من خلال هذا المقال والتي أتمنى أن تكون درسا مستفادا للأجيال القادمة في نضالاتهم من أجل الحرية والكرامة، هي ألا تخوض معركة لا تملك أدواتها ولا إمكانياتها، وإذا فرضت نفسها عليك فيجب عليك أن تقدر حسابات الربح والخسارة فيها، فإذا ما استقر في يقينك أنّ الخسارة شبه مؤكدة فالانسحاب بأقل الخسائر حقنا للدماء هو الحل المٌرّ الواجب أحيانا، وقد فعله سيدنا خالد سابقا، وتحدث عنه القرآن (إلا متحرفا لقتال)، فالانسحاب لا يعني الاستسلام ولكن يعني إعادة التموضع لإعادة الكرّة مرة أخرى بمعطيات مختلفة.
أيضا الدرس الأهم كذلك أن مواجهة الناس بالحقيقة المرّة أهم كثيرا من أن تجعلهم يعيشون الوهم أو السراب اللذيذ، فالحقائق تضع الجميع أمام مسئولياتهم وتترك للناس حرية الاختيار ما يناسبهم، لكن الوهم اللذيذ يجعل الجميع أسرى لما ينتظرونه منك، فتتحمل وزرهم حين ينقشع السراب وتـأتي الحقيقة تتسربل في الدماء.
ولا تزال المعارضة المصرية حتى الآن -إلا من رحم ربي- لم تتعلم الدرس ولا تزال تبحث عن بوصلتها التي فقدتها في الشارع المظلم، تبحث عنها في شارع آخر مضيء، طلبا للأسهل والأريح لها وهروبا من استحقاقات البحث في الشارع المظلم الذي تعلم يقينا أن البوصلة ضاعت فيه!!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رابعة المصريين مصر رابعة الإنقلاب مجازر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من المیدان لا تزال قال لی ة التی
إقرأ أيضاً:
ما خيارات نتنياهو أمام دعوات العصيان داخل الجيش؟ محللان يجيبان
اتفق محللان سياسيان على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يواجه تحديات غير مسبوقة داخل الجيش الإسرائيلي، في ظل تصاعد دعوات العصيان والرفض للخدمة العسكرية، خاصة في صفوف الاحتياط.
وأشارا في حديث للجزيرة إلى أن هذه الظاهرة تعكس أزمة أعمق تتعلق بتآكل ثقة الجنود بقيادتهم السياسية والعسكرية، فضلًا عن تزايد الضغوط الشعبية المطالبة بوقف الحرب والتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى.
وكانت هيئة البث الإسرائيلية قد أفادت بأنّ العشرات من جنود الاحتياط في سلاح الطب أعلنوا أنهم لن يكونوا مستعدين للعودة للمشاركة في القتال بقطاع غزة.
وقالت الهيئة إن جنود الاحتياط برتبة مقدم وما دون من بينهم أطباء ومسعفون ومسعفون مقاتلون أشاروا في عريضتهم إلى أن رفضهم للخدمة العسكرية سببه دعوات الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين في غزة والدعوة إلى توطينها.
وقال الخبير في الشأن الإسرائيلي وديع عواودة إن نتنياهو لا يبدي اهتماما بحالة التململ المتزايدة داخل الجيش، رغم التقارير اليومية التي تشير إلى تراجع معنويات الجنود ورفضهم العودة إلى الخدمة.
وأوضح أن البيان الذي أصدره عشرات الأطباء والمسعفين في الجيش الرافضين للخدمة العسكرية يحمل دلالة نادرة في إسرائيل، حيث تطرق إلى الأضرار التي تلحق بالمدنيين الفلسطينيين إلى جانب المخاوف على مصير الأسرى الإسرائيليين.
إعلان شرخ بالمؤسسة العسكريةوأكد أن هذا الخطاب يكشف عن شرخ داخل المؤسسة العسكرية، خاصة في ظل ازدياد حدة الاحتجاجات الشعبية ضد استمرار الحرب، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن 70% من الإسرائيليين يطالبون بوقفها والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى.
وبحسب عواودة، فإن نتنياهو يسعى إلى كسب مزيد من الوقت عبر إطالة أمد المفاوضات دون التوصل إلى اتفاق حقيقي، وهو ما أكده رئيس جهاز الشاباك في وقت سابق.
ولفت إلى أن الحسابات السياسية الداخلية تلعب دورًا رئيسيًا في قرارات نتنياهو، الذي يواجه ضغوطًا من حلفائه في اليمين المتطرف، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهو ما يدفعه لتجاهل حالة الغضب داخل الجيش والمجتمع.
من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي عبد الله العقرباوي أن السياسة التي ينتهجها نتنياهو، بما في ذلك فرض الحصار والتجويع على قطاع غزة، تهدف إلى تنفيذ مشروع تهجير الفلسطينيين، وسط صمت عربي رسمي.
وأكد أن حكومة الاحتلال تتعامل مع الحرب بمعايير خاصة، حيث سبق أن أعلنت المحكمة العليا الإسرائيلية أن حروب إسرائيل لا تخضع للقوانين الدولية، وهو ما يبرر عمليات القتل العشوائي والقصف المكثف للمدنيين.
تداعيات إقليمية خطيرةوأضاف العقرباوي أن استمرار هذه السياسة من دون رد فعل قوي من الدول العربية والإسلامية قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية خطيرة، إذ ترى حكومة نتنياهو في الفراغ الإقليمي فرصة للتمدد في سوريا ولبنان والضغط على الأردن ومصر، فضلًا عن تهديد دول أخرى مثل إيران وتركيا.
وأكد أن السبيل الوحيد لمواجهة هذه المخططات يكمن في ممارسة ضغوط حقيقية على الاحتلال، بدءا من الشارع العربي ووصولا إلى الحكومات، من أجل إجباره على وقف عدوانه وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وفي سياق متصل، أشار عواودة إلى التقارير التي تتحدث عن اجتماع أمني مصغر في إسرائيل لمناقشة تطورات التصعيد في غزة والخطط العسكرية المستقبلية.
إعلانوقال إن الجيش الإسرائيلي يدفع باتجاه شن عمليات برية جديدة، بينما تتحدث تسريبات عن احتمال إرسال وفد إسرائيلي إلى الدوحة لمواصلة المفاوضات بشأن صفقة الأسرى، لكن نتنياهو يبدو غير جاد في التوصل إلى اتفاق.
وتساءل عواودة عن موقف الدول العربية من استمرار الحصار والمجازر في غزة، مؤكدا أن الفلسطينيين لا يطلبون سوى الحد الأدنى من الدعم الإنساني، بينما يستمر الاحتلال في استخدام سلاح التجويع والحرمان في ظل غياب أي ضغوط دولية فاعلة عليه.