الكوز المستتر
رشا عوض
من الاتهامات السمجة السخيفة التي تواجهني بها أبواق الحرب إنني أمارس إرهابا معنويا ضد منتقدي “الحرية والتغيير” و”تقدم عبر اتهام كل من يفعل ذلك بأنه كوز مستتر! هذا اتهام مجاني أكثر رعونة من اتهام التحالف مع الجنجويد!
ليس كل من انتقد “الحرية والتغيير” و”تقدم” كوز مستتر، فهذه تحالفات سياسية بكل تأكيد فيها عوامل ضعف وقلة كفاءة واختلالات تنظيمية، وارتكبت أخطاء تجعل نقدها بصرامة واجبا وطنيا! وشخصي لم انتم مطلقا لـ”الحرية والتغيير”، وتقدمت باستقالتي من “تقدم” منذ أبريل الماضي، ولا مصلحة عامة أو خاصة لي في تحصين أي فاعل سياسي من النقد والرقابة الشعبية، وإرشيفي المكتوب والمسموع والمرئي حافل بانتقادات أساسية لـ”الحرية والتغيير” فلا يعقل أن أجرم فعلا كنت وما زلت وسأظل أمارسه (المساءلة النقدية للمؤسسات والشخصيات العامة)!
الكوز المستتر، من وجهة نظري هو الذي يتماهى تماما مع سرديات الكيزان تجاه هذه القوى السياسية في قضية المسؤولية عن كارثة الحرب الحالية، عبر ممارسة عملية الـ blame shifting (تحويل اللوم) التي بموجبها تصبح “الحرية والتغيير” بقدرة قادر هي المسؤولة عن جريمة إشعال الحرب، وفي الوقت الذي يسلخ جلد النملة في توبيخ “قحت” على إشعال الحرب يتصدى بشراسة لمن يكشف علاقة الكيزان بالحرب! بل يزجر ناقدي الكيزان ويعتبرهم مختلين عقليا ونفسيا تحت توصيفات الكوزوفوبيا!!
هذا ليس نقدا لـ”قحت”، بل هذه جريمة تضليل مكتملة الاركان لا يتورط فيها إلا شخص مغفل تنقصه المعرفة العميقة بالشأن السوداني والمعلومات الأولية عن الحرب كما سأفصل لاحقا، أو شخص محتال يفتقر إلى الحدود الدنيا من النزاهة، فيغالط الحقائق التاريخية وينكر المعلومات الصلبة التي يجب أن لا تتأثر بتأييد أو معارضة فصيل سياسي، وأهم هذه المعلومات ما يلي:
أولا: السبب الرئيس الذي قاد للحرب هو رسوخ فكرة حيازة السلطة بالقوة العسكرية في ظل واقع تعدد الجيوش الطامعة في السلطة، فهذه وصفة حرب ولا شيء غير الحرب! نظام الكيزان هو الذي كرس عمليا لفكرة الحكم بقوة السلاح عندما استولى على السلطة بالقوة وضرب حول نفسه سياجا عسكريا من المليشيات، وحول جهاز الأمن نفسه إلى قوة مقاتلة، ونظام الكيزان بقيادة البشير ونافع وصلاح قوش هو من صنع قوات الدعم السريع وجعلها كيانا عسكريا مستقلا وفتح لها أبواب العلاقات الإقليمية والدولية! هذه معلومات وحقائق وليست آراء مزاجية!
هذه القوات (الدعم السريع) نشأت في المناخ السياسي الإنقاذي وتشبعت في ظله بفكرة “قوة السلاح هي وسيلة حيازة السلطة” ووجدت نفسها قوية بل أقوى من الذين تحرس كراسيهم! ولذلك فكر قائدها حميدتي في الصعود إلى السلطة متوكئا على بندقيته ما دام الأمر أولا وأخيرا قوة ولا شيء غير القوة! فبدأ مشوار الصعود بالتمرد على أوامر البشير بقتل المعتصمين امام القيادة، ثم الانقلاب على الثورة نفسها بالشراكة مع البرهان مرتين: مرة بفض الاعتصام ومرة في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٥ الانقلاب الذي تراجع عنه حميدتي، وانتهى بهذه الحرب التي اشعلها الكيزان من أجل العودة إلى السلطة في سويعات بعد إزاحة الدعم السريع نهائيا أو بعد ضربة مدمرة تعيده إلى بيت الطاعة الكيزاني كخفير مأجور يحرس القصر دون أن يفكر في دخوله كمالك أو كشريك مساوي! ولكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر! دخلت الحرب شهرها التاسع عشر دون نصر عسكري حاسم وسريع يدخل الدعم السريع إلى بيت الطاعة ويعيده إلى وضعية الخفير أو يقضي عليه تماما!
ثانيا: ما هي مصلحة قوى سياسية مدنية لا تمتلك مسمارا في آلية عسكرية في إشعال الحرب؟ كيف تراهن قوى سياسية على خيار الحرب الذي يجعل الرافعة السياسية الوحيدة للسلطة هي البندقية مما يعني عمليا الحكم بإعدام الدور السياسي المدني لزمن طويل! ومن الناحية العملية كيف يشعل المدنيون الحرب؟
وقائع التاريخ القريب تشهد بأن القوى السياسية المدنية وتحديدا قوى الحرية والتغيير سعت سعيا حثيثا لتفادي الحرب وفشلت في ذلك.
ثالثا: فشل “قحت” في تفادي الحرب كان حتميا لسبب موضوعي جدا هو أن “مثلث الحرب” ومن ورائه الأيدي الخفية الخارجية التي تدعمه قرر إشعالها مع سبق الإصرار والترصد! وليس مهما من أطلق الرصاصة الأولى، شخصيا أرجح أن الكيزان هم من أطلقوها وهم أهم وأقوى سبب لاشتعالها واستمرارها لأنهم يرغبون في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ولم يدركوا حقيقة أن الأشياء ما عادت هي الأشياء! ولكن واقع تعدد الجيوش وسيادة فكرة الحكم بقوة السلاح، والمحيط الإقليمي المعادي للحكم المدني الديمقراطي وكل دولة فيه تساند ضلعا من أضلاع مثلث الحرب، كلها أسباب جعلت من اشتعال هذه الحرب امرا يصعب تفاديه حتى لو كانت لنا قوى سياسية مدنية منزلة من السماء ومبرأة من العيوب.
مثلث الحرب يتكون من الآتي:
١- الكيزان بترسانتهم العسكرية الضخمة ممثلة في تنظيمهم الكبير المسيطر داخل الجيش، وهيئة عمليات جهاز الأمن وشرطة أبو طيرة وكتائب الظل المتعددة، وبسيطرتهم على مفاصل الدولة العسكرية والاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية التي أعادهم إليها البرهان بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وبرغبتهم الأكيدة في استعادة السلطة ولو عبر الحرب التي هددوا بها واستنفروا لها بأعلى صوت عقب التوقيع على الاتفاق الاطاري.
٢- الجيش الذي يطمع قائده وعدد من جنرالاته غير الكيزان أو المنشقين عن الكيزان في سلطة عسكرية تقليدية يعتلي البرهان قمتها ويعيد نفس لعبة البشير: تخويف كيزان الجيش بالدعم السريع وتخويف الدعم السريع بالكيزان داخل الجيش وخارجه ليضمن استدامة سلطته العسكرية في توازن الرعب هذا!! وللمفارقة هذه نفس اللعبة التي انتهت بالبشير إلى سجن كوبر!
٣- الدعم السريع المارد العسكري المرتبط سياسيا بمحور إقليمي معادي للكيزان، وصاحب الإمبراطورية الاقتصادية الضخمة. وقيادة الدعم السريع طامعة في السلطة لحراسة هذه الإمبراطورية، هذا المارد العسكري منذ صعود نجمه عام ٢٠١٣ كان واضحا انه يتطلع لدور سياسي في الدولة يوازي ما يقدمه للنظام الحاكم حينها من خدمات عسكرية، هذا لم يكن وليد الفترة الانتقالية أو نتيجة تحريض “قحت” كما يزعم الضلاليون، بل ظهر في مناسبات عدة وبلسان حميدتي منذ عهد البشير (البلد دي بلفا عندنا، الما بقاتل ما عنده راي، نحن الفازعين الحراية، الحكومة لما تسوي ليها جيش تتكلم وهكذا)، كان واضحا ان هذا المارد مستعد للحرب لمواجهة أي محاولة لإزاحته من المشهد العسكري والسياسي. ولذلك رهان الكيزان على العودة إلى السلطة بانقلاب عسكري على الفترة الانتقالية لا يعني سوى الحرب، لأن تصدي الدعم السريع لهم عسكريا كان أمرا واضحا لا لبس فيه.
هذا هو مثلث برمودا العسكركيزاني الذي بسببه اشتعلت الحرب، مفهوم جدا أن يستميت الكوز في صياغة سردية مضللة حول أسباب الحرب مفادها أن “قحت” سبب الحرب ليضرب عصفورين بحجر: يزيح الملامة عن جماعته لأن الحرب جريمة نكراء في حق الوطن وكلفت الشعب فاتورة باهظة من الدماء والخسائر، وفي الوقت ذاته يخدم هدفه الاستراتيجي وهو شيطنة القوى الديمقراطية وشيطنة الثورة وتحويل الحرب التي اشعلها هو بكل فظاعتها إلى رافعة سياسية للتيار العسكركيزاني وحفر مقبرة لكل من يطالب بالديمقراطية بذريعة إنه “قحاتي” وعميل وخائن تسبب في إشعال الحرب. من مصلحة الكوز تحويل الحرب التي تسبب فيها هو إلى مقصلة إعدام يتخلص بواسطتها من كل خصومه السياسيين ، ومن مصلحته كذلك تكريس أكذوبة أن الذي قاد البلاد إلى الحرب هو الثورة من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية حتى يدخل في روع السودانيين أن شرط السلام والاستقرار هو الاستسلام الأبدي للحكم العسكركيزاني! باختصار تحويل الغضب الشعبي الذي يجب أن يتوجه إلى صناع الحرب الحقيقيين (الكيزان والجيش والجنجويد) إلى الأحزاب السياسية والقوى المدنية الديمقراطية!
مفهوم جدا أن يستهلك الكوز قصارى جهده في ترويج هذه السردية التافهة!
ولكن غير المفهوم بتاتا هو أن يتبرع شخص يدعي النقاء الثوري بترويج هذه السردية المضللة عن الحرب فيحمل مسؤوليتها للقوى السياسية! ويتبرع بتزيين أكاذيب الكيزان بطلاء ثوري زاهي الألوان لتبدو هذه الأكاذيب صحيحة بل ومتفوقة أخلاقيا!
من يفعل ذلك كوز مستتر!
ومن يتواطأ مع الآلة الإعلامية الكيزانية الفاجرة في اغتيال الشخصيات الديمقراطية التي تتصدى فكريا وسياسيا لهزيمة خطاب الكيزان الحربي فهو بلا شك كوز مستتر!
من لا يتأذى عفافه الثوري من القتال في صفوف كتيبة البراء بن مالك أو الرقص خلف الكضباشي وفي ذات الوقت يرى أن الانتماء لتقدم جريمة مخلة بالشرف الثوري! كوووز مستتر!
الكوز المستتر ليس هو المعارض لقحت وتقدم، وليس هو الناقد الجذري للأحزاب السياسية .
الكوز المستتر هو من يتخلى متعمدا عن النزاهة والموضوعية في اختلافه مع القوى المدنية الديمقراطية ومن يتماهى تماما مع سرديات الكيزان المضللة حول الحرب، وهو من يغلف هذه السرديات الكذوبة بطهرانية ثورية، فيجعل خطاب الثورة خادما لأجندة علي كرتي وصلاح قوش.
الوسومالجيش الدعم السريع الكوز المستتر قحت مثلت الحرب
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش الدعم السريع قحت مثلت الحرب
إقرأ أيضاً:
مقتل 5 سودانيين بقصف «الدعم السريع» على مسجد في أم درمان
أدى القصف المدفعي إلى وفاة 5 مدنيين على الفور، فيما بترت رجل إمام المسجد، كما أصيب عدد من الأطفال إصابات بالغة، وتم نقلهم للعلاج في مستشفيات المنطقة..
التغيير: الخرطوم
أعلنت السلطات السودانية، الاثنين، مقتل 5 مدنيين جراء قصف مدفعي شنته “قوات الدعم السريع” على مسجد بمدينة أم درمان غرب العاصمة الخرطوم.
وقالت حكومة ولاية الخرطوم في بيان: “قصفت قوات الدعم السريع المصلين بمسجد الرشاد بالريف الشمالي لمنطقة كرري، أثناء صلاة المغرب أمس الأحد”.
وأضاف البيان: “أدى القصف المدفعي إلى وفاة 5 مدنيين على الفور، فيما بترت رجل إمام المسجد، كما أصيب عدد من الأطفال إصابات بالغة، وتم نقلهم للعلاج في مستشفيات المنطقة” دون ذكر عددهم، وفق ما نقله موقع الأناضول.
وحتى الساعة 17:00 (ت.غ) لم يصدر عن قوات الدعم السريع تعليق على البيان الحكومي السوداني.
وفي الآونة الأخيرة تشهد أم درمان قصفا مدفعيا متقطعا بين “الدعم السريع” والجيش السوداني الذي يسيطر على أجزاء واسعة من أم درمان بما فيها شمال المدينة بالكامل.
وفي سياق منفصل، أفادت منظمة “أطباء بلا حدود” في بيان الاثنين، بأن “16 بالمئة من مرضى الحرب الذين تم علاجهم في مستشفى بشائر التعليمي (حكومي يقع جنوب الخرطوم) هم أطفال”.
وأضافت المنظمة الدولية: “خلال الفترة الممتدة بين 19 أكتوبر الماضي و8 نوفمبر الجاري، تم فحص 4 آلاف و186 امرأة وطفلاً في الخرطوم بسبب سوء التغذية، بينهم ألفا و559 يعانون من سوء التغذية الحاد، و400 يعانون من سوء التغذية المعتدل”.
وأكد البيان أن “الأرقام تتزايد يومًا بعد يوم، والأطفال هم الأكثر تأثرًا في النزاعات”.
وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب بما يجنب السودان كارثة إنسانية بدأت تدفع ملايين إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18.
ومنذ منتصف أبريل 2023 يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 13 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
الوسومأمدرمان الدعم السريع القصف المدفعي حرب الجيش والدعم السريع