ماضي الهيمنة والاستعمار.. هل تتغلب الفرنكوفونية على انحسارها في ديارها بالتوسع خارجا؟
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
في قلعة كوتيريه (80 كم شمال شرق باريس) حيث وقع الملك فرانسوا الأول في أغسطس/آب 1539 مرسوم فرض اللغة الفرنسية لتكون لغة إدارية لمملكة فرنسا بدلًا من اللاتينية، وحيث أنشئت أخيرا المدينة الدولية للغة الفرنسية، تنادى رؤساء الدول الفرنكوفونية سعيا لتدارك حالة الانحسار التي تعانيها لغة موليير.
خرجت القمة الـ19 للدول الفرنكوفونية المنعقدة في فرنسا في 4 و5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري والتي شارك فيها ممثلون عن 88 دولة بتوصيات أهمها العمل على تعزيز استخدام اللغة الفرنسية في المؤسسات الدولية، وتفعيل وجودها في مجالات التعليم والسياسة والتكنولوجيا الرقمية.
وصادقت القمة على توسيع المنظمة بمنح العضوية الكاملة لكل من قبرص وغانا، ومنح صفة مراقب لكل من: أنغولا وتشيلي ونوفاسكوشا (كندا) وبولينيزيا الفرنسية وسارلاند.
كما تم تناول بعض الأزمات والحروب التي تعصف بالفضاء الفرنكوفوني، وفي هذا الصدد كان هناك إعلان تضامن على استحياء مع لبنان وهو من الدول المؤسسة للفرنكوفونية، ويتعرض حاليا لعدوان إسرائيلي خلّف حوالي ألفي قتيل، لكن الإعلان اكتفى بإدانة الأعمال العشوائية ضد المدنيين دون ذكر إسرائيل.
وقد عبر الوفد اللبناني عن خيبة أمله لغياب إدانة واضحة للعدوان الإسرائيلي، فقد عجز بيان القمة حتى عن تسمية إسرائيل، بل إنه كلما ذكر اسم إسرائيل بادرت العديد من الدول بإعلان التضامن معها والدفاع عنها، وعلى وجه الخصوص كندا ورومانيا وألبانيا.
خريطة اللغة الفرنسية في العالميوجد أكثر من 60% من الناطقين بالفرنسية في أفريقيا، وحسب دراسة للنائب السابق لمدير السياسة اللغوية والتعليمية في وزارة الخارجية الفرنسية روجر بيلهيون فإن الناطقين بالفرنسية في العالم يتوزعون على النحو التالي:
قرابة 44% في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، 15% في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، 33% في أوروبا بما في ذلك حوالي 28% في فرنسا، 7% في أميركا، 3% في آسيا وأوقيانوسيا.
واللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في 13 دولة بينها في أوروبا: فرنسا وموناكو، وفي أفريقيا: بنين وبوركينا فاسو والكونغو الديمقراطية والكونغو وساحل العاج والغابون وغينيا ومالي والنيجر والسنغال والتوغو، وهي إحدى اللغات الرسمية لـ16 دولة أخرى بينها بلجيكا وسويسرا والكاميرون وجزر القمر وجيبوتي وتشاد وكندا وهاييتي وغيرها.
كما تعد اللغة الفرنسية لغة موجودة، دون صفة رسمية، في 7 دول أخرى، إذ يتحدث بها أكثر من 20% من السكان في الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا، وفي لبنان وغيرها.
قمم بلا جدوىفي مقال بصحيفة "لي ديفوار"، رأى الكاتب الفرنسي جان فرانسوا ليزيه الذي حضر 4 قمم سابقة للفرنكوفونية أن القمم الفرنكوفونية بلا جدوى وتسير من فشل إلى آخر.
واستدل الكاتب على فشل المنظمة الدولية للفرنكوفونية بأنها سلمت قيادتها لممثلة رواندا التي اختارت اللغة الإنجليزية لغة للدراسة والعمل ولا يتحدث الفرنسية من سكانها سوى 6% فقط، كما أن العديد من ممثلي الدول الأعضاء لم يتمكنوا من الحديث بالفرنسية لأنها لغة غريبة عليهم، كما هو الحال في اليونان (يتحدث 7% من السكان الفرنسية)، وكمبوديا (3%)، وبلغاريا (2%)، وفيتنام (0.7%)، وحتى كندا وهي إحدى الدول المؤسسة الرئيسية للمنظمة لا يتحدث رئيسها الحالي اللغة الفرنسية.
واستدرك الكاتب ليزيه أن المنظمة لا يمكن أن تفعل شيئا ما دامت فرنسا رائدة الفرنكوفونية قد باتت "مستعمرة باللغة الإنجليزية" في كل المجالات؛ الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية، حتى إن الرئيس إيمانويل ماكرون قرر أن تكون بطاقة الهوية الفرنسية من الآن فصاعدا باللغة الإنجليزية، وهو يتولى الإشراف على معارض شعارها Made in France ويطلق مبادرة لجذب الاستثمار الدولي عنوانها "French Touch".
واعتبر الكاتب أن ما تزعمه منظمة الفرنكوفونية من انتشار للغة الفرنسية ووجود أكثر من 321 مليون ناطق بها غير دقيق، وأعطى مثالا على ذلك بتصنيف مصر دولة ناطقة باللغة الفرنسية في حين أن 3% فقط من سكانها يتحدثونها.
وأضاف أن المعيار الموضوعي لتحديد الناطقين بالفرنسية يكون بحساب عدد الأشخاص الذين تمثل الفرنسية لغتهم الأولى، وحسب موقع Ethnologue المتخصص في لغات العالم فإن الرقم المعقول للناطقين بالفرنسية هو 80 مليونًا.
ويخلص الكاتب إلى أن منظمة الفرنكوفونية تصدق يوما بعد يوم ما يصفها به البعض من كونها مجرد أداة للسياسة الخارجية في أيدي الرؤساء الفرنسيين، وهي الأداة التي بدأت فعاليتها في التضاؤل.
انحسار في المواطن الأصليةانعقدت القمة الحالية في وقت تراجع فيه الحضور الفرنسي في أفريقيا التي تضم أغلبية الناطقين بالفرنسية إلى أدنى مستوياته وخصوصا في منطقة الساحل التي كانت الحديقة الخلفية لفرنسا، وقد تمت ترجمة ذلك في غياب تمثيل العديد من الدول الأفريقية في القمة.
فقد غابت دول الساحل التي قطعت علاقاتها مع فرنسا وطردت القوات الفرنسية من بلدانها مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر (الدولة التي أعلن منها ميلاد المنظمة الدولية للفرنكوفونية في 20 مارس/آذار 1970).
وكان غياب الرئيس السنغالي بشيرو ديوماي فاي ملاحظا بقوة سواء من طرف الصحافة الفرنسية أو السنغالية، فهذه أول مرة منذ تأسيس المنظمة يقاطعها رئيس سنغالي، فالسنغال عضو مؤسس مهم لعب دورا بارزا في تاريخ هذه المنظمة، وكان الرئيس السنغالي الأول ليوبيد سينغور ممن خدموا اللغة الفرنسية وأحد مؤسسي منظمة الفرنكوفونية، كما تولى خلفه عبدو ديوف منصب الأمانة العامة للمنظمة من 2002 حتى 2015.
وقد اعتبرت ماريا مالاجارديس مراسلة إذاعة فرنسا الدولية في تعليق على غياب الرئيس السنغالي أنه يعكس حالة عدم الثقة تتزايد لدى كثير من الأفارقة تجاه منظمة الفرنكوفونية، بينما رأته صحف سنغالية نذير اضمحلال للمنظمة، ويجسّد اتجاها جديدا في السياسة الخارجية السنغالية عكسته تصريحات رئيس الوزراء عثمان سونوغو الطامحة للتحرر من كل تبعية لفرنسا سواء في المجال العسكري أو السياسي أو الثقافي.
توسع لتعويض الانحسارفي كتاب "الفرنكوفونية.. الوهم الضائع" ترى الكاتبة الفرنسية بيرتين لوبلان أن المنظمة الفرنكوفونية تسعى لتعويض انحسارها في مواطنها الأصلية عبر التوسع خارج الحدود الأفريقية، ولكن المفارقة أن هذا التوسع يشمل بلدانا غير ناطقة أصلا بالفرنسية، فالدولتان مثلا اللتان صادقت القمة الحالية على انضمامها ليس لهما ارتباط واضح بالعالم الناطق بالفرنسية، ففي قبرص يتحدث 6% فقط من السكان الفرنسية ولغتاها الرسميتان اليونانية والتركية، أما غانا فهي دولة ناطقة بالإنجليزية بالكامل تقريبا، مع نسبة 1% تتحدث الفرنسية، وليست تشيلي وأنغولا اللتان منحتا صفة مراقب بأحسن حالا.
وإذا كانت المنظمة الدولية للفرنكوفونية في موقعها الإلكتروني تعرف الفرنكوفونية بأنها في المقام الأول نساء ورجال يتشاركون لغة مشتركة هي الفرنسية، فإن نظرة على قائمة الأعضاء الـ88 تعكس واقعا مختلفا، ففي كثير منها لا تستخدم الفرنسية في الحياة اليومية ولا وجود لها في الدساتير.
هذا التناقض حاولت المتحدثة باسم منظمة الفرنكوفونية تبريره عندما استشكلته الصحافة، فرأت أنه يتم أحيانا ضمّ بعض البلدان بهدف تعزيز حضور اللغة الفرنسية في مناطق معينة، فغانا مثلا بلد محاط بالبلدان الناطقة بالفرنسية وانضمامها يسهم في بناء تكامل فرنكوفوني إقليمي، وينطبق الوضع نفسه ربما على أنغولا الدولة الوحيدة الناطقة بالبرتغالية في منطقة فرنكوفونية، إذ تمت الموافقة على ضمها بصفة عضو مراقب.
لكن هذا التفسير لا ينطبق على عدد من الدول الأعضاء التي لا تستخدم الفرنسية ولا تحاط ببلدان تستخدمها مثل ألبانيا التي لا يتجاوز الناطقون بالفرنسية فيها نسبة 2%، وهي عضو منذ عام 1999، ومولدوفا بنسبة استخدام للفرنسية لا تتجاوز 1%، وهي عضو منذ عام 1996، وكذلك بالنسبة لدول أخرى قديمة العضوية مثل فيتنام (1970) أو كمبوديا (1991) المرشحة لتنظيم القمة المقبلة.
وكانت قطر قد نالت صفة عضو مشارك في المنظمة سنة 2012، وهو المنصب الذي ترشحت المملكة العربية السعودية أيضا للحصول عليه سنة 2018 لكنه ترشح قوبل بالرفض.
العولمة الإنجليزية الجارفةيفسر المؤرخ الفرنسي ومؤلف كتاب "فرنسا والفرنكوفونية السياسية، تاريخ التجمع الصعب" فريديريك توربين هذا التوسع غير الخاضع للمعيار اللغوي أن فرنسا منذ بداية التسعينيات فرضت انفتاحًا واسعًا في ما يتعلق بالعضوية في المنظمة الدولية للفرنكوفونية، بهدف مواجهة تيار العولمة "الإنجليزي" الجارف.
وهكذا سعى جاك شيراك إلى تطوير المنظمة الفرنكوفونية لتصبح منظمة دولية كبيرة تستند إلى التعاون الحكومي بين أكبر عدد ممكن من الدول بدلًا من الاستمرار في التركيز على عدد قليل من الدول الناطقة بالفرنسية المحدودة النطاق والمحدودة التأثير.
وقد أقرّت الأمينة العامة الحالية للفرنكوفونية لويز موشيكيوابو بضبابية معايير العضوية الحالية، وطالبت بوضع معايير جديدة ومنطقية لا أن يستمر التوسع من أجل التوسع.
هدف التوسع لذاته دفع المنظمة إلى منح العضوية لكيانات غير حكومية، كما هو حال سارلاند أو نوفا سكوتيا، وهو ما رأى فيه البعض مساسًا بمصداقية المنظمة بل وخرقا للقانون الدولي، حيث تتحكم منظمات في عضوية دولة ذات سيادة وتعلق عضويتها أحيانا.
البلدان الناطقة بالفرنسية أكثر تخلفاتصنف الأمم المتحدة 7 دول أفريقية ناطقة بالفرنسية ضمن البلدان العشرة الأسوأ تصنيفا في معدلات التنمية البشرية، و3 منها توجد في المراكز الثلاثة الأخيرة: بوروندي، والنيجر، والكونغو الديمقراطية.
وفي تحقيق للصحفي بمجلة جون آفريك آلان فوجاس تحت عنوان "لماذا تتخلف البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية عن الركب؟"، وصف الكاتب منطقة غرب القارة حيث تنتشر لغة موليير بأنها منطقة يغلب على سكانها الكسل والحلم بالهجرة، لكن بمجرد الاتجاه شرقا حيث البلدان التي تسود فيها لغة شكسبير يكون النشاط محمومًا، والمشاريع وافرة، والفواتير تدفع بنقرة زر أو عبر الهاتف.
وخلص الكاتب إلى أن طبيعة التعليم والتكوين، والافتقار إلى البنية التحتية، وضعف ثقافة الأعمال، والفساد الإداري أمور من بين أخرى أدت إلى تخلف الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية عن ركب جيرانها الناطقين بالإنجليزية.
حسب دراسة لمنظمة "سوليداريتي لائيك" بعنوان "اللغة الفرنسية من الهيمنة إلى التكامل" نشرت في مارس/آذار 2019، فإن اللغة الفرنسية تحتاج جهدا كبيرا لصقلها مما لحقها من أدران بسبب ارتباطها الوثيق بتاريخ استعماري مؤلم جعلها لغة اضطهاد وهيمنة.
وحسب الدراسة، فإن اللغة الفرنسية تصنف في البلدان الناطقة بالفرنسية المتعددة اللغات على أنها لغة النخبة المهيمنة الفاسدة وأداة للفصل الاجتماعي.
ففي معظم هذه البلدان لا يتقن جزء كبير من السكان اللغة الفرنسية، ومع ذلك تُدار السياسة والتعليم والعمل بشكل كلي تقريبا باللغة الفرنسية، وهو ما يولد غبنًا اجتماعيا لأغلب السكان.
ويرى الباحثون اللغويون أن اللغة الفرنسية لغة إقصائية لا تقبل التعايش مع اللغات الأخرى، ولعل من أسباب تخلف الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية فرض تدريس التلاميذ والطلاب باللغة الفرنسية، وهي لغة أجنبية عليهم.
وحسب مقال بعنوان "الإرث الاستعماري للفرنكوفونية" للكاتب عبد القادر خرفوش، فإن اللغة الفرنسية إنما نشرت بسفك الدماء وكانت أداة استعمارية هدفها إخضاع الشعوب وغسل عقولها وشحن ذاكرتها بالقيم الاستعمارية العنصرية.
فالجزائريون مثلا تعلموا من اللغة الفرنسية "أن رينيه كان ذكيا، وأن عليا غبي مثل الحمار"، كما هو مصفوف في الكتب المدرسية خلال الحقبة الاستعمارية.
ولعل ارتباطها بالاستعمار هو ما يفسر أن الجزائر المستعمرة الفرنسية السابقة ليست جزءا من المنظمة الدولية للفرنكوفونية على الرغم من أنها تشكل ثاني مجتمع أفريقي ناطق بالفرنسية بعد الكونغو الديمقراطية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فكر المنظمة الدولیة للفرنکوفونیة اللغة الفرنسیة فی الفرنسیة من فی أفریقیا من السکان من الدول
إقرأ أيضاً:
10 إشكاليات لدى قيادة الشرعية الفلسطينية
"البطاقة الحمراء" سترفع في وجهك إذا ما حاولت بشكل جادّ العمل على إصلاح أو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وسيقوم "السدنة" المستحوذون على "الشرعية" باتهامك بالتآمر وإخراجك من الصفّ الوطني، إذا قمت بأي جهد جماعي لدفع عجلة إصلاح المنظمة إلى الأمام.
ثمة إصرار عجيب من قيادة المنظمة على إبقائها جسدًا بلا روح في "غرفة الإنعاش"، واستحضارها فقط عند الحاجة لتغطية سلوك القيادة أو للتصديق على قراراتها. فلا مؤسسات فاعلة، ولا دوائر عاملة، ولا تمثيل للناس وهمومهم، ولا استيعاب للكفاءات والقدرات الهائلة للشعب الفلسطيني، مع استبعاد شبه كامل لفلسطينيي الخارج.
يحدث هذا، في مرحلة هي الأقسى والأصعب في تاريخ الشعب الفلسطيني، حيث يستهدف بالشطب والإلغاء؛ وحيث تقع أبشع المجازر وتسفك الدماء ولا يبقي العدو الصهيوني حجرًا على حجر في قطاع غزة، وحيث يُهوّد الأقصى والقدس والضفة الغربية، وتتصاعد مخططات الضمّ والتهجير، بما في ذلك إغلاق ملف السلطة الفلسطينية نفسها؛ بينما تعيش القيادة الرسمية "المزمنة" خارج حركة الحياة وخارج حركة التاريخ.
وطوال نحو عشرين عامًا شارك كاتب هذه السطور، إلى جانب المئات والآلاف من الرموز والشخصيات الفلسطينية والقوى الوطنية للدفع قدمًا باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس من النزاهة والشفافية والتمثيل الشعبي الحقيقي؛ وعُقدت مئات المؤتمرات وحلقات النقاش، ووُقّعت عشرات العرائض، ولكن النتائج حتى الآن لم تتجاوز "الصفر"!
إعلانلم تكن المشكلة أبدًا في الأفكار ولا في الآليات ولا في البيئات الشعبية، ولكن العقدة كانت تقف في النهاية عند قيادة المنظمة (التي هي قيادة سلطة رام الله وقيادة حركة فتح).. عقدة انعدام الإرادة الحقيقية للإصلاح.
في الأسطر التالية سنحاول تلخيص أبرز إشكالات هذه القيادة "الشرعية الفلسطينية":
1- إشكالية التماهي بين القيادة والمنظمة:وهذا تماهٍ مصطنع، يخلط بشكل متعمّد بين منظمة التحرير ومكانتها السياسية والمعنوية وأدوارها ومهامها ومؤسساتها، وبين قيادتها التي هي حالة مؤقتة تحت النقد والمحاسبة وإمكانية التغيير.
وعلى طريقة الملك لويس الرابع عشر الذي حكم قبل نحو أربعمائة عام، وكان رمزًا للحكم المطلق، وفق تعبيره "أنا الدولة والدولة أنا"؛ يُصبح نقد القيادة كالطعن في المنظمة نفسها. ويُعطي المتحكمون بالمنظمة لأنفسهم مكانة لا تعطيهم إياها لا لوائح منظمة التحرير نفسها، ولا إرادة الشعب الفلسطيني نفسه؛ مما يجعل أيّ عملية إصلاحية معقدة وبعيدة المنال.
إن شرعية المنظمة لا تعني بالضرورة شرعية القيادة، خصوصًا عندما تتجاوز هذه القيادة مدتها القانونية، وتتجاوز اللوائح، وتتجاهل الإرادة الشعبية.
2- إشكالية اعتبار الاستهداف بالإصلاح كالاستهداف بالإلغاء:فلقيادة المنظمة حساسية بالغة تجاه أي جهد جماعي فلسطيني مخلص، يسعى لتفعيل منظمة التحرير وإصلاحها وإعادة بنائها، أو يكشف جوانب الضعف والقصور والعجز في المنظمة ومؤسساتها ودوائرها، ويدعو بالتالي لانتخابات نزيهة شفافة أو توافق وطني يعكس بشكل حقيقي حجم القوى الفاعلة على الأرض، ويستوعب بشكل فعال فلسطينيي الداخل والخارج.
ومهما كان هذا الجهد وطنيًا ويقوم عليه شخصيات ورموز وتجمعات فلسطينية مخلصة؛ فإن القيادة ووكلاءها سيعدُّون ذلك تآمرًا على منظمة التحرير ومكانتها وشرعيتها.
إعلانوفي نظر هكذا قيادة، يُوضع الشرفاء المخلصون الذين يريدون للمنظمة استعادة قوتها وألقها وعنفوانها، في مريّعٍ واحد مع الصهاينة والأميركان الذين يريدون شطب المنظمة وإلغاءها وإغلاق الملف الفلسطيني. بينما في الحقيقة، فإن إبقاء المنظمة على حالها المزري المهمَّش منعدم الفاعلية، هو أكبر خدمة لأعداء فلسطين وقضيتها.
ولذلك، لم تتوانَ قيادة المنظمة عن الهجوم الإعلامي، وتوجيه سيل الاتهامات إلى المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج- والمؤتمر الشعبي الفلسطيني 14 مليونًا- والمؤتمر الوطني الفلسطيني (الذي عقد في الدوحة)… وغيرها؛ لأن هذه الحراكات تكشف حجم الثغرات ومدى تقصير القيادة بحق شعبها، وتهدّد مكانتها ومكاسبها الذاتية.
3- شرعية التعطيل لا شرعية التفعيل:فقيادة المنظمة (التي هي قيادة فتح) تُعطّل أعمال دوائر المنظمة ومؤسساتها، وتفقدها أيّ فاعلية، وتجعل المنظمة بندًا في ميزانية سلطة رام الله التي هي تحت الاحتلال.
وتحتكر الهيمنة على الاتحادات والنقابات والجاليات الفلسطينية في الخارج، وتبقيها في حالة "موت سريري"، وتمنع إعادة تشكيلها وتفعيلها واستيعابها كافة المكونات الفلسطينية، وإطلاق طاقاتها الهائلة في خدمة قضية فلسطين. وينطبق ذلك على عشرات الاتحادات والنقابات في الخارج كالأطباء والمهندسين والمعلمين والطلاب والمحامين… وغيرهم.
وإذا ما قامت أي جهة بمحاولة التفعيل أو تشكيل أطر نقابية فإنها تُتَّهم فورًا "بالخروج عن الشرعية" وغيرها من التهم الجاهزة "المُعلَّبة".
4- شرعية الفصيل لا شرعية التمثيل:ثمة إصرار عنيد من قيادة المنظمة على احتكار فصيل فلسطيني واحد (فتح) للهيمنة على المنظمة. وبالرغم من وجود فصائل قوية وفاعلة وذات شعبية واسعة في الساحة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي، فإن قيادة المنظمة تغلق الباب أمام أي عملية استيعاب حقيقية لهذه الفصائل تعكس وزنها الشعبي، ويتم اختلاق كافة الذرائع والمعوقات لتهميشها، وإبقاء حالة الهيمنة بيد الفصيل الواحد.
إعلانوعلى الرغم من كثرة الحديث عن الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام، وإنفاذ اتفاق القاهرة، فإن التهرّب من استحقاق الانتخابات- كما حدث في سنة 2021، ووضع شروط وتعقيدات ليست مرتبطة بالضوابط اللائحية الخاصة بالمنظمة- يظلّ سلوكًا متعمدًا ومعتمدًا لدى هذه القيادة.
5- شرعية الاستحواذ واحتكار القرار:تسيطر القيادة الحالية على المنظمة بحكم الأمر الواقع، وتُعطّل أي انتخابات تعكس الأوزان الحقيقية للقوى الفلسطينية، وتتجاهل الإطار القيادي المؤقت.
وبالرغم من معرفتها -وفق كل استطلاعات الرأي- أنها لا تمثل الأغلبية الفلسطينية في الداخل والخارج، فإنها تُصرّ على ممارسة كافة الصلاحيات السيادية والدستورية العليا، حتى تلك التي تمسّ المصالح العليا للشعب الفلسطيني؛ فتتحدث باسم الجميع وغصبًا عن الجميع.
6- شرعية أوسلو لا شرعية الميثاق الوطني:لم يعد دخول منظمة التحرير مرتبطًا بالالتزام بالميثاق الوطني الفلسطيني، ولا بالثوابت الفلسطينية؛ لأن قيادة المنظمة نفسها هي التي رعت تعطيل الميثاق، وإلغاء بنوده المتعارضة مع مسار التسوية، ولأنها تنازلت عن معظم فلسطين لصالح العدو، كما تنازلت عن حق الشعب الفلسطيني في المقاومة المسلحة، بل والتزمت بالتنسيق مع العدو ومطاردة المقاومة.
وفوق ذلك اشترطت على من يدخل منظمة التحرير الموافقة على تعهداتها تجاه العدو، وجعلت اتفاقات أوسلو الكارثية حاكمة على المبادئ والقواعد التي نشأت منظمة التحرير على أساسها!
وأصبح إخراج منظمة التحرير من مستنقع أوسلو وإعادتها لدورها الطبيعي الذي نشأت لأجله هو التهمة؛ بينما أصبح القيام بأدوار معاكسة هو شعار "العمل الوطني" لهذه القيادة.
7- شرعية التمديد والتأبيد:مع إغلاق الأبواب في وجه مشاركة قوى فاعلة ووازنة في الساحة الفلسطينية، ومع تعطيل عمل المجلس الوطني الفلسطيني الذي لم ينعقد على مدار 34 عامًا (منذ 1991) إلا ثلاث مرات، تحت الاحتلال الإسرائيلي، أخذت طابعًا إجرائيًا ووظيفيًا (1996، و2009، و2018)؛ خلا المجال لقيادة المنظمة للتمديد لنفسها، ولترتيب ملء الفراغات عند الحاجة؛ دون وجود أي بيئة فعالة تسمح بتداول حقيقي للسلطة، أو تضخّ دماء شابَّة في القيادة التنفيذية والتشريعية الفلسطينية.
إعلان 8- شرعيه العكازات الخارجية في مواجهة الإرادة الشعبية:في الوقت الذي تتهرب فيه قيادة المنظمة من أي استحقاقات انتخابية تُعبّر عن الإرادة الحرّة للشعب الفلسطيني؛ فإنها تمارس شرعيتها مستندة إلى الاعتراف الرسمي العربي والدولي بها، وكذلك الاعتراف الإسرائيلي؛ وإلى معاداة أو خصومة هذه البيئات لخط المقاومة وتيارات "الإسلام السياسي".
وتستفيد من هذه "الميّزة" في التعامل بالأمر الواقع مع القوى الفلسطينية الوازنة، وفي مواجهة الإرادة الشعبية. وبالطبع فإن الأثمان هائلة في مقابل الحفاظ على هكذا "رضا" وعلى هكذا "شرعية"! لأنها شرعية مُصمَّمة على مقاسات المطبِّعين والخصوم والأعداء؛ وتمّ تكييفها وفق معاييرهم.
9- شرعية تحت الاحتلال:وهي شرعية يتم ممارستها تحت سقف الاحتلال وتحت أعين الاحتلال؛ فالقيادة التنفيذية تعقد اجتماعاتها تحت الاحتلال، وكذلك المجلس المركزي الفلسطيني، والمجلس الوطني الفلسطيني.
فكيف تتمُّ المحافظة على "القرار الوطني الفلسطيني المستقل"؟! وكيف يتم تمثيل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني المقيم في الخارج؟! وكيف يمكن إدارة مشروع "التحرير" تحت أعين مَن يعمل ليل نهار لاجتثاث الشعب الفلسطيني وقمعه ومصادرة أرضه ومقدساته وتهجيره؟!
كانت منظمة التحرير قبل أوسلو تعلم مخاطر ضغط الاحتلال، فعقدت كل اجتماعاتها في الخارج، وجعلت تمثيل الداخل الفلسطيني في المجلس الوطني بنحو 180 عضوًا، ولكنهم غير معلني الأسماء، ولا يشترط حضورهم، وغير محتسبين في نصاب الانعقاد، لأنهم تحت الاحتلال.
10- من الشرعية المقاوِمة إلى مقاوَمة المقاوَمة:فإذا كانت المنظمة أنشئت لتحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها بالكفاح المسلح، وإذا كانت فتح نالت قيادة المنظمة نتيجة أدائها المقاوم؛ فإن شرعية القيادة ما بعد أوسلو انتقلت إلى "مقاومة المقاومة"، ومنع العمل المسلح، والتنسيق مع العدو في مطاردة المقاومين وقمعهم، حتى في أجواء المجازر والدمار في غزة، وأجواء التهويد والتهجير وامتهان السلطة وإضعافها في الضفة.
إعلاننحن الآن إذ نواجه ظرفًا تاريخيًا حاسمًا، وجراحنا تنزف في كل مكان، ونواجه تحدّيات الضم والتهجير والإلغاء، نحتاج إلى قيادة رسالية، ذات دينامية عالية، قادرة على تفعيل الشعب الفلسطيني ومؤسساته، وتفعيل الأمة وأحرار العالم لمواجهة المشروع الصهيوني.
غير أننا على أرض الواقع مفجوعون (ومنذ سنوات) بقيادة خارج التاريخ ما زالت تعيش أوهام أوسلو حتى بعد أن تجاوزها الاحتلال، وجعل سلطة رام الله نفسها في مهبّ الريح. في الوقت نفسه، يطالب أكثر من 85% من الشعب الفلسطيني (عيّنة الضفة والقطاع) محمود عباس بالاستقالة وفق استطلاعات الرأي.
في مثل هذه الظروف تدير قيادة المنظمة والسلطة أخطر الأمور بعقلية "إدارة الفشل"، وعقلية تفعيل أداء "الحصان الميت"، وتفقد الرؤية والبوصلة، وتبقى معبرًا للتطبيع، وتقدّم مبررًا للأعداء والخصوم أننا شعب لا يستحق أن يحكم نفسه بنفسه.
وقيادة المنظمة إذا كانت تخاف على "الشرعية" فيجب أن تخاف عليها من عدوها وليس من شعبها. ولا يجوز بأي حال أن تُنسق مع الأعداء والخصوم، وتتجاهل شعبها وإرادته، ثم تتباكى على "الشرعية".
الشعب الفلسطيني وقواه الحيَّة يئس أو كاد من هذه القيادة.. ولم يعد يشعر أن ثمة فائدة من استمرار الطرق على الأبواب المغلقة في الوجه، بينما أصبحت التهم التي توجهها هذه القيادة لقوى الإصلاح والتغيير تهمًا ممجوجة تجاوزها الزمن.
إن الضغط على هذه القيادة وإجبارها على إفساح المجال لإعادة بناء المنظمة وفق أسس صحيحة مبنية على الثوابت كان وما زال واجبًا وطنيًا. وإن لم تفعل، فليس ثمة ترف في الوقت للانتظار، فلا بدّ من تجاوزها وتجاوز "فزاعة الشرعية"، ولا بد من السعي لتطوير أدوات ضاغطة عليها للنزول عن الشجرة، كإيجاد أوسع تحالف وطني شامل، والسعي لإيجاد إطار قيادي انتقالي مؤقت، وتفعيل مؤسسات التمثيل الشعبي كالنقابات والاتحادات والجاليات وغيرها.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline