الذكرى الستون لثورة أكتوبر 1964
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
الذكرى الستون لثورة أكتوبر 1964
تاج السر عثمان بابو
1تمر الذكرى الستون لثورة أكتوبر 1964 والبلاد تشهد حربا ضروسا أحدثت دمارا في البنية التحتية وأدت لفقدان الآلاف من الأرواح، ونزوح الملايين داخل وخارج السودان وتدهور غير مسبوق في الأوضاع المعيشية والصحية والإنسانية، وقمع ومصادرة للحقوق والحريات الأساسية وإبادة جماعية وتطهير عرقي في غرب دارفور واغتصاب للنساء وغير ذلك من مآسي الحرب التي رصدها تقرير اللجنة المستقلة لحقوق الانسان، وحسنا تم قرار بمد فترة عمل اللجنة لاستكمال رصد جرائم الحرب، مما يتطلب قيام الجبهة الجماهيرية القاعدية لوقف الحرب واسترداد الثورة واستعادة وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، وإنجاز مهام ثورة ديسمبر المجيدة.
بعد الاستقلال كان من المفترض استكماله بالاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بانجاز مهام النهضة الوطنية الديمقراطية وبناء المجتمع الصناعي الزراعي المتقدم، لكن ذلك لم يحدث، ونشأت الأزمة الوطنية العامة التي بدأت بنقض العهود والمواثيق بعدم اعطاء الحكم الفدرالي للجنوبيين والقسمة الضيزى في وظائف السودنة مما أدى لانفجار تمرد 1955، واشتدت ضغوط حزب الأمة الذي لم يقبل بهزيمته أمام الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الأزهري في انتخابات 1954 على الحكومة الوطنية الأولى التي بدأت بأحداث مارس 1954 يوم افتتاح البرلمان بحضور الرئيس المصري اللواء محمد نجيب التي راح ضحيتها عدد من المواطنين، كما حدثت مجزرة عنبر جودة التي راح ضحيتها عدد من المزارعين في ظروف حبس غير انساني، وواصل حزب الأمة ضغوطا على الحكومة، وتم لقاء السيدين بهدف اقصاء حكومة الأزهري الذي بدأ يأخذ مواقف مستقلة عن الطائفتين، وبهدف حماية مصالح الطائفتين الاقتصادية، وتحت الضغوط تمت ازاحة الأزهري بعد انقسام الحزب الوطني الاتحادي بخروج حزب الشعب الديمقراطي منه، وتكونت حكومة السيدين الائتلافية والتي فشلت في تحقيق الاستقرار، والدستور الدائم، ووقف الحرب، وحل الأزمة الاقتصادية والمعيشية، اضافة لحرق العملة لأن فيها توقيع الزعيم الأزهري!!، ولم يتم الاعتراف باتحاد العمال واشتدت المحاولات لشق الحركة النقابية من الحكومة التي فشلت.
3أدى كل ذلك لتكوين جبهة عريضة ضمت الحزب الشيوعي، اتحاد نقابات عمال السودان، اتحاد المزارعين، اتحادات الطلاب، الحزب الفدرالي الجنوبي الذي دعا ميثاقها الى: الغاء القوانين المقيدة للحريات، رفض المعونة الأمريكية التي باركها حزب الأمة، السيادة الوطنية وتأكيد التزام السودان بالحياد الايجابي، صياغة دستور قومي ديمقراطي. الخ.، كما حدث الاضراب العام لاتحاد العمال في 21 أكتوبر 1958 لتحسين الأجور والاوضاع المعيشية التي تدهورت، والاعتراف باتحاد العمال.
مع اشتداد المقاومة والرفض الواسع لحكومة عبد الله خليل التي كان من المتوقع سحب الثقة عنها في جلسة البرلمان في 17 نوفمبر 1958، وفي هذه اللحظة سلم عبد الله خليل رئيس الوزراء الحكم للفريق إبراهيم عبود.
4* كانت ثورة أكتوبر نتاجا لتراكم نضال الشعب السوداني طيلة الست سنوات من الحكم العسكري شارك فيه: العمال، المزارعون، المرأة السودانية، الطلاب، المثقفون، الشعب النوبي ضد التهجير، القوات المسلحة الوطنية، جبهة أحزاب المعارضة، إضافة لصمود المعتقلين في السجون وأمام المحاكم، واستمر هذا التراكم والزخم النضالي حتى لحظة الانفجار التي كانت ندوة جامعة الخرطوم شرارتها التي استشهد فيها الطالب احمد القرشي، وبعدها اشتعلت الثورة، وتم الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي قادته جبهة الهيئات التي تكونت من النقابات والأحزاب السياسية حتى تمت الاطاحة بحكم الفريق عبود (للمزيد من التفاصيل: راجع كتاب ثورة شعب، ست سنوات من النضال ضد الحكم العسكري، اصدار الحزب الشيوعي 1965).
* كان من أهم دروس تجربة أكتوبر تجربة الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي أصبح سلاحا في يد الجماهير لاسقاط النظم الديكتاتورية، كما حدث في انتفاضة مارس– ابريل 1985، وثورة ديسمبر 2018 التي كانت اوسع بتجربتها في الاعتصام، وموكب 30 يونيو 2019 بعد مجزرة القيادة العامة التي ما زالت اسر الشهداء تنتظر نتيجة التقصي فيها وتقديم المجرمين للعدالة ومتابعة المفقودين.
* أكدت ثورة أكتوبر أن ساعة التغيير لأي نظام ديكتاتوري لا تحددها رغبة هذا الحزب أو ذاك، بل تتحدد بتوفر الظروف الموضوعية والذاتية (أو نضج الأزمة الثورية) التي تحددها:
– عجز النظام عن الحكم وتفككه وعمق الصراعات داخله، بحيث يصبح من العسير قمع الثورة، ووصول الجماهير لحالة من الضيق بحيث تصبح الحياة لا تُطاق تحت ظل النظام الحاكم.
– وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل لنظام الحكم.
– وجود الجيش الثوري الذي على استعداد لمواصلة الثورة حتى النصر.
وتلك هي نظرية الثورة السودانية التي أكدتها ثورة أكتوبر 1964 وتجارب الثورة المهدية 1881، وانتفاضة مارس– أبريل 1985، وثورة ديسمبر 2018.
5* أحدثت ثورة أكتوبر تحولات كبيرة في المجتمع السوداني وهزت ساكن الحياة في القطاعين الحديث والتقليدي، وفتحت الطريق للتحول الديمقراطي رغم الانتكاسة، وشاركت المرأة بشكل أوسع في البرلمان والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والرياضية، وشقت جماهير القطاع التقليدي أو الريف السوداني طريقها للمطالبة بالتنمية والاصلاح الزراعي الديمقراطي، والتعليم والصحة والخدمات البيطرية والمياه والكهرباء، والاصلاح الاداري والقبلي، وقامت تنظيماتها لذلك الهدف مثل: جبهة نهضة دارفور، اتحاد أبناء جبال النوبا، اتحاد شمال وجنوب الفونج، وقبل ذلك تاسس مؤتمر البجا في أكتوبر 1958، كما قام مؤتمر المائدة المستديرة 1965 الذي لم يصل لحل لمشكلة الجنوب، ولكنه كان فرصة للتعرف على وجهات نظر الجنوبيين وطريقة تفكيرهم. وانتشرت الأندية القبلية في المدن لتطوير مناطقها ومساعدة إبنائها وبناتها في المدن.
كما أكدت أن الحقوق والحريات الديمقراطية عامل مهم لجذب الجماهير للنشاط السياسي والتغيير الاجتماعي، وأن الحقوق الديمقراطية لا تنفصل عن التغيير الاجتماعي.
* من نواقص ثورة أكتوبر، لم يكن للجماهير افق للتغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بعد الثورة، ولكنها اكتفت بانهاء الحكم العسكري والعودة للديمقراطية البرلمانية التي أجهضتها الأحزاب التقليدية. وكانت القوي المضادة للثورة اسرع من قوي الثورة، لأن الحكم العسكري أبقي علي مصالحها الطبقية، وقام الحكم العسكري اصلا لحماية مصالح قوي اليمين الطبقية، كما كان من عناصر الضعف عدم تمكن الجماهير من حماية الثورة، عندما شهرت القوي المضادة للثورة بمليشياتها السلاح في وجهها.
* رغم انتكاسة ثورة اكتوبر، الا أن جذوتها ما زالت متقدة، ومن المهم عدم التقليل من أهميتها، فهي تجربة وذخيرة ورصيد مفيد لشعب السودان، وكان لها انجازاتها في استعادة الحقوق والحريات الديمقراطية التي كرّسها دستور 1956 المعدل 1964، وإلغاء قانون النقابات 1960، إجازة قانون النقابات 1966 الذي اعترف باتحاد العمال، دعم حركات التحرر الوطني في العالم وموقف شعب السودان الرافض لهزيمة يونيو 1967، وقيام مؤتمر القمة العربي في الخرطوم في أغسطس 1967 الذي خرج بلاءاته الثلاثة: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف باسرائيل، إلغاء قانون الجامعة لعام 1960، اطلاق سراح المعتقلين وعودة الضباط المفصولين في ظل الحكم العسكري، صدر قانون الانتخابات 1965 الذي أعطي النساء حق الترشيح. الخ.
6* واجهت ثورة أكتوبر، المؤامرات التالية: الضغوط على حكومة سر الختم الخليفة رئيس الوزراء ومحاصرته بالمليشيات المسلحة حتى تمّ اجباره على الاستقالة، وفرض الانتخابات المبكرة قبل انجاز مهام الفترة الانتقالية، وعدم مشاركة أغلب جماهير المديريات الجنوبية بسبب الحرب، أحداث الأحد الدامي التي راح ضحيتها عدد من الأشخاص، المحاولة الانقلابية في 9/ 11/ 1964 (التي تمت مقاومتها في ليلة المتاريس) وتم اقالة المجلس العسكري واجبار الفريق عبود على التنحي، بعد الانتخابات المبكرة في عام 1965 وقيام الجمعية التأسيسية ضاقت الأحزاب التقليدية بالديمقراطية (الأمة، الوطني الاتحادي، الإخوان المسلمون) بالديمقراطية، وتمت مؤامرة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، مما خلق أزمة سياسية ودستورية وأخلاقية بـ”الفبركة” ومحاكمة حزب بأقوال طالب لا علاقة له بالحزب الشيوعي، وانتهاك استقلال القضاء برفض حكم المحكمة العليا بعدم دستورية حل الحزب الشيوعي، كما استمرت الصراعات الحزبية غير المنتجة مثل: انقسام حزب الأمة لجناحي الصادق والهادي المهدي، والدعوة للجمهورية الرئاسية والدستور الإسلامي، مما أدى لاشتداد حرب الجنوب والتوتر السياسي في البلاد، والأزمة الدستورية الثانية التي نشأت بعد حل الجمعية التأسيسية في فبراير عام 1968، وقيام محكمة الردة للاستاذ محمود محمد طه عام 1968، والهجوم الإرهابي الذي قام به الإخوان المسلمون على معرض الفنون الشعبية الذي أقامته جمعية الثقافة الوطنية والفكر التقدمي بقاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم والذي أدى لمقتل طالب وجرحى، والذي وجد استنكارا واسعا، كما تدهورت الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتم الاضراب العام الذي قام به اتحاد العمال عام 1968 لتحسين الأجور والأوضاع المعيشية، وتم الفشل في التوافق على الدستور الدائم واشتد الانقسام في المجتمع والأحزاب وموجة الاضرابات والاحتجاجات. في هذه اللحظة وقع انقلاب 25 مايو 1969.
7وأخيرا، يبقيى من المهم الاستفادة من تجربة انتكاسة أكتوبر ترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، حتى لا يتكرر الفشل كما حدث في تجارب الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة، والفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر التي انتهت بالحرب حاليا، التي لم يتحقق فيها ترسيخ الديمقراطية، الدستور الدائم، السلام مما أدى لانفصال الجنوب، كما لم يتم تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتحقيق السيادة الوطنية، والتنمية المتوازنة بين أقاليم السودان مما أدى لانفجار الأوضاع في المناطق المهمشة أو الأكثر تخلفا، الخ، مما أدى للدخول في الحلقة الجهنمية (ديمقراطية- انقلاب– ديمقراطية. الخ).
لقد طرحت ثورة أكتوبر آمال وتطلعات شعب السودان في الانعتاق من أسر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي منذ نهوض الحركة الوطنية الحديثة الواسع بعد الحرب العالمية الثانية وحتى تحقيق الاستقلال في يناير 1956.
الوسومالأميرلاي عبد الله خليل الاستقلال السودان الفريق إبراهيم عبود انقلاب مايو 1969 تاج السر عثمان بابو ثورة اكتوبر 1964 ثورة ديسمبر حزب الأمة سر الختم الخليفةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاستقلال السودان ثورة اكتوبر 1964 ثورة ديسمبر حزب الأمة الأوضاع المعیشیة ثورة أکتوبر 1964 الحزب الشیوعی الحکم العسکری اتحاد العمال ثورة دیسمبر حزب الأمة مما أدى کان من
إقرأ أيضاً:
روبير الفارس يكتب: القمص سرجيوس الذى أغضب الاحتلال والكنيسة..أول كاهن خطب فى الأزهر وقاد المظاهرات فى ثورة ١٩١٩.. صديق سعد زغلول اعتقله الإنجليز بعد خطبتين فى جامع ابن طولون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يحمل شهر مارس من كل عام ذكري ثورة ١٩١٩ الخالدة، التي تظل دومًا كنزًا نعود إليه لنلتمس مركز قوة وحدتنا الوطنية. وننجذب لشخصيات قدمت أدوارًا رائدة في تاريخنا المعاصر، هم الذين شاركوا فيها، على رأسهم خطيب ثورة ١٩ القمص سرجيوس.الذي كتب عنه تلميذه القمص بولس باسيلي في كتابه النادر ذكرياتي في نصف قرن، يقول باسيلي في كتابه: هو ملطى سرجيوس عبد الملاك ولد سنة ۱۸۸۳ والتحق بالكلية الإكليريكية سنة ١٨٩٩ وتخرج فيها سنة ١٩٠٤، وعمل بخدمة الكنيسة في الزقازيق، ثم في الفيوم بسنورس، ثم عين قسًا في ملوى، وأخيرًا قام بترقيته قمصًا الأنبا مكاريوس، مطران أسيوط، باسم القمص مرقس سرجيوس وعينه وكيلًا لمطرانيته سنة ١٩٠٧ وفى سنة ١٩١٢ عين وكيلًا لمطرانية في السودان، ولم يلبث هناك سوى ثلاث سنوات كان يخطب فيها عن الاستقلال فخشيه الإنجليز وقرروا استبعاده فعاد إلى مصر سنة ١٩١٥، حيث بدأ خدمته في كنيسة مارجرجس في منطقة القللي؛ وعندما اندلعت ثورة سنة ١٩١٩ تجلى القمص سرجيوس كأحد زعمائها إذ كان أول كاهن يخطب من على منبر الأزهر ويخطب من فوقه خطبه الثورية القوية واعتقله الإنجليز بعد خطبتين ألقاهما فى جامع ابن طولون والكنيسة ومكث في الاعتقال بسجن رفح حوالي ثمانين يومًا !!
وفى سنة ١٩٤٤ عين وكيلًا للبطريركية في عهد البابا مكاريوس الثالث للبطريركية سنة ١٩٤٩ وفى عام سنة ١٩٥٠ فاز فى انتخابات المجلس الملى العام.
زعيم الطلبة
ويروي عنه القمص بولس
الكثير من القصص، فقد كان زعيمًا منذ البداية؛ فقد تزعم وهو الطالب الشاب الصغير طلبة الإكليريكية كلية اللاهوت وتوجه به إلى الدار البطريركية يعتصمون بها حتى تجاب مطالبهم من رفع مستوى المعيشة بها وضمان مستقبل خريجيها، ولما هدد مدير البطريركية الطلبة باستدعاء البوليس لطردهم لجأ الفتى الصغير «سرجيوس» إلى عميد الأقباط وقتئذ المرحوم بطرس باشا غالى فأمر بفتح أبواب جمعية التوفيق لهم حتى تحل مشاكلهم، ومنذ ذلك الوقت خشيت البطريركية سرجيوس وفكرت في طريقة لتكميم فمه، وكانت خطتهم في ذلك أن يرسموه كاهنًا ليكون تحت إمرتهم يسلطون عليه عند اللزوم سيف الحرمان والتجريد ونجحت البطريركية فعلًا في إغراء الفتى الصغير فلبس عمامة الكهنوت سنة ۱۹٠٤ ولم يتعد عمره الواحد والعشرين ربيعًا، وعرف منذ نشأته بسرجيوس الثور.
يقول القمص بولس: «لست أريد في هذا المجال أن أسترسل في تفاصيل تاريخ حياته وما أعمقها وأطولها وأعرضها، ولكني أكتفى أن أرسم بعض خطوط صغيرة استرجعها في ذاكرتي لهذه الشخصية الكبيرة، فلا يمكن الإلمام بها، فلا أقل من أن نلمح إليها؛ ولست أنسى أول لقاء بى معه فى عام ١٩٥٩ في منزلة القديم المتهدم سألته عن ذكرياته عن الكلية الإكليريكية القديمة فارتسمت على جبهة المخضرم عدة خطوط، وكأنما كان يستوحى ذكريات عبر التاريخ فقد مرت خمسة وخمسين عامًا منذ أن تخرج من الإكليريكية؛ ثم اعتدل وكأنما كان يقرأ في كتاب مفتوح قال:
شهدت المدرسة الإكلريكية القديمة مثل أي مشروع فى بدايته يتعذر الطريق ويصطدم بالوعر والشوك، وتقابل المدرسة العثرات والاضطرابات تارة من البطريركية، وتارة أخرى من المجلس الملي، الذى كان يعرف فى ذلك الوقت، بـ«اللجنة الملية»؛ وتاريخ الإكليريكية يبدأ منذ سنة ۱۸۹۳ وبالتحديد في يوم ٢٩ نوفمبر. أن ذلك التاريخ يوم أن دوت أول صرخة لذلك المعهد في منزل متواضع بالفجالة بدأت فيه المدرسة سنة واحدة ذهبت بعدها إلى البطريركية بالدرب الواسع، ومن الدرب الواسع انتقلت إلى دار في «سوق القبيلة» ثم عادت ثانية إلى البطريركية، ثم اشترى لها منزلًا خاصًا في مهمشة نقلت إليه سنة ۱۹۱۲ ولبثت فيه نحو نصف قرن، وكان ذلك بفضل الإكليريكي الأول المغفور له الأستاذ حبيب جرجس. وفى سنة ١٩٠٣ تخرج ملطى سرجيوس. وكنت حديث التخرج في الإكليريكية- والحديث للقمص سرجيوس- وقد استبقاني المرحوم يوسف بك من قريبوس ناظر المدرسة حينذاك ريثما يبحث لي عن وظيفة، وكان رحمه الله يستخدمني في كثير من الأحايين عندما يتغيب مدرس، مثلى مثل «معاون لسد الفراغ».
هدف اسمى
ذات يوم- والحديث للقمص سرجيوس- دخلت الفصل فوجدت الطلبة ثائرين وعلمت أن سبب الثورة هو أن البطريركية كانت قد قررت خفض الجراية اليومية للطالب من رغيفين عيش ونصف إلى رغيفين فقط!! فقلت للطلبة الثوار: «لو عرف الشعب سر ثورتكم لرجمكم وبدأت أحول تيار الثورة وهدفها من ثورة لأجل البطون إلى ثورة لأجل الإصلاح».
أخطر ما فعل في حياته
كثيرًا ما أزعج القمص سرجيوس الكنيسة، خاصة مطالبته بالإصلاح وكتاباته في مجلة المنارة المصرية، لكنه كاد أن يهدم النظام المؤسسي للكنيسة عندما قام بعمل البطرك والأساقفة المقصور عليهم أي رسامة الكهانة.
يقول القمص بولس. ومن نوادر القمص سرجيوس أنه قد نصب يومًا نفسه أسقفا، ففوجئت- يومًا اجتماعًا زاخرًا له- وكانت كل اجتماعاته زاخرة عامرة وكنت أنا واحدًا من آلاف الحاضرين- فوجئت بإعلانه فى بدء الاجتماع سنحتفل اليوم برسامة طبيب أسنان قسًا!!»، وهنا اشرأبت جميع الأعناق إلى طبيب الأسنان الشهير بشبرا يسجد أمام الهيكل وأمامه القمص سرجيوس بثياب الأسقفية البراقة الفضفاضة، ثم نستمع إلى «الأسقف» يقول: «ألا تؤمنون معى أن يدى هذه تستطيع أن تحول القربان إلى جسم المسيح والخمر إلى دم المسيح كما ترون ذلك في كل قداس؟! إذن اليد التي تصنع هذا، ألا تستطيع ان تحول الدكتور تودرى إلى القس باسيليوس ؟! »، وهنا بدأ مراسيم الرسامة من نفس كتاب الرسامات الطقسى، وإذا بنا نرى القس يخرج لنا بثياب الكهنوت !! ويبدو أن الاسقف والقس قد شعرا أخيرًا بهذا الخطأ، فاذا بالقس يطلب الحل ويرسم قانونيا بيد الاسقف الرسمي بأمر البابا وبهذا تنتهى الرواية.
الأهرام تنعى القمص سرجيوس
ولسنا ننسى أن نسجل المقال التاريخي العظيم الذي نشرته الأهرام في عددها الصادر في ١٩٦٤/٩/٢٤ بعد وفاة الرجل بأيام تقول: «مصر كلها كانت كنيسة مرجيوس». وقد تضمن هذا المقال تاريخ حياة سرجيوس كجزء لا يتجزأ من تاريخ نضال الشعب المصرى بكل آلامه وآماله نحو غد أفضل، فليس هناك من معركة في تاريخنا منذ نوره ١٩١٩ ضد الاستعمار أو الاستعباد أو الإقطاع أو التعصب الديني أو المصري لم يكن لسرجيوس دور قيادى فيها، وكان دائمًا فى جانب القوى الشعبية. وإذا كانت ثورة عرابي قد أنجبت نموذجًا تقدميًا من رجال الدين تجسد في الإمام الشيخ محمد عبده، فإن ثورة ۱۹۱۹ قد أنجبت أيضًا نموذجها القمص سرجيوس، وقد رفع كلاهما كتابه المقدس في شجاعة الأنبياء ووعي الفاضلين في وجه الطغاة والمستعمرين، إن الذين يؤرخون لثورة ۱۹۱۹ يعثرون مع كل خطوة باستمرار ووضوح على بصمات كفاح سرجيوس ابتداء من التعبئة الشعبية والقيادة المظاهرات حتى توزيع المنشورات الوطنية وتحمل مشقة التعذيب والنفى إلى رفح؛ ليدخل سرجيوس دائرة التاريخ التي لا ينطقي لها نور لينعم بتقدير وحب شعبنا، ويعتلى مكانة في تراثنا القومي جنبا إلى جنب مع الطهطاوى والأفغاني ومحمد عبده.
حوار نادر
في مجلة المصور عدد أبريل ١٩٥٤ يوجد حوار نادر مع القمص سرجيوس نشر تحت عنوان القمص سرجيوس على كرسى الاعتراف. وجاء في نص الحوار:
أصدرت محكمة القضاء الإداري منذ أيام أول حكم من نوعه في تاريخ القضاء المصري، وهو يقضي بإعادة القمص سرجيوس إلى أحضان الكنيسة، وبهذا أضاف مجلس الدولة فصلا جديدا إلى قصة كفاح القمص الثائر سرجيوس.. يرويها هنا بنفسه لقراء «المصور».
كان أبي قسيسا، وجدي قسيسا، وجد جدي قسيسا، ولهذا كان طبيعيا أن أنتظم أنا الآخر في سلك الكهنوت.. وكنت أستمع إلى القسس والوعاظ الذين يطوفون القرى والبلاد، ويخلبون– أحيانا– ألباب الناس بسحر بلاغتهم، فأحلم بأن أكون مثلهم.
أول إضراب
في المدرسة الإكليريكية بالقاهرة، بدأت أمارس هوايتي وقدرتي على الخطابة بين زملائي الطلبة، وكانت نظم التعليم في المدرسة تقوم على الأساليب الكنسية القديمة، ولذلك فقد اتخذت من موضوعها مادة لخطبي وجعلت أطالب بإصلاحها، حتى لا تتهم بالجمود والرجعية. وما لبثت هذه الدعوة حتى انتشرت بين الطلبة ورسخت في نفوسهم، فعقدوا اجتماعا عاما، انتهوا فيه إلى اتخاذ عدة قرارات، حملتها بنفسي إلى رجال المدرسة، ولكن نصيبها كان الرفض، ولم أجد ما تجيب به على هذا الرفض سوى أن أدعو الطلبة للإضراب، وهكذا وقع أول إضراب في تاريخ مصر! وكان ذلك سنة ١٩٠٢.
وبعد إضرابنا بقليل أضرب عمال السجاير ذلك الإضراب الذي يؤرخون به حركات الإضراب والعمال في مصر، ثم نشرت سلسلة من المقالات في الصحف المصرية، شرحت فيه أسباب الإضراب والأسس التي أقيم عليها، فانهالت البرقيات والاحتجاجات على المدرسة الإكليريكية، تطالب جميعها بتحقيق مطالبنا؛ وسويت المسألة، وتخرجت في المدرسة، وأردت أن أشتغل واعظا عاديا، لكن رجال الكنيسة رشحوني لكي أكون قسيسا، فطلبوا مني أن أتزوج فتزوجت، وكنت وقتئذ في الحادية والعشرين من عمري، ومنذ ذلك اليوم – أي منذ خمسين عاما – وأنا أعيش مع زوجتي التي أنجبت منها خمسة بنين وخمس بنات. وألقيت محاضرة بعنوان "عيشوا بسلام". كان لهذه المحاضرة أثر كبير في القضاء على الخلاف، وقد هنأني عليها رجال الدين المسلمون هناك.
طردنى الإنجليز
في السودان أنشأت مجلتي «المنارة المصرية»، وجعلت منها متنفسًا لآرائي التقدمية، وكانت هي والخطب والعظات التي ألقيها، مثار إعجاب شديد وجدل ونقد أشد، وفي ذات يوم استدعاني «مستر مور» مدير الخرطوم، وقال لي: «إن الحاكم العام للسودان، يطلب اليك أن ترحل في خلال أربع وعشرين ساعة».
فقلت له: «أنا لست في لندن حتى يأمرني الحاكم العام بمغادرة البلاد في أربع وعشرين ساعة، أنا هنا في بلادي، وليرحل هو إذا شاء».
فقال: «لا تحرجني يا سرجيوس ونفذ الأمر».
فقلت: «إن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها تنفيذ الأمر، هو أن تضع القيود في يدي وقدمي، وتخرجني من بلادي في الجنوب قسرًا، حتى اشهد العالم على استبدادكم».
وعمد الرجل إلى الملاينة، فقلت له إني أريد أن أعرف السبب أولًا، فقال لي: «لو قلت لك السب، هل تعطيني كلمة شرف تعد فيها بمغادرة البلاد؟».
ولما وافقت قال لي: «أنت بطبعك تنزع إلى الحرية، ونحن نحكم هذه البلاد بالسيف، ولهذا فان طبيعتك لا تلائمنا، وسوف نتعبك وتتعبنا».
وعدت إلى مصر سنة ١٩١٥، وقبعت في بلدتي جرجا. ودخلت الأزهر في مظاهرة وظللت بعيدًا عن القاهرة، حتى شب أولادي فأردت أن ألحقهم بالمدارس، واضطررت للسفر إلى العاصمة، وحينما أحتاج حزب الوفد للمال، صحبت فتح الله بركات في جولة بين القرى والضياع، وكنت أظل أخطب في أهلها حتى أحس أن المستمعين قد وصلوا مرحلة التضحية بأموالهم، فأشير إلى فتح الله، وكان يحمل حقيبة كبيرة كحقيبة القومسيونجي، فيفتحها أمام المستمعين، وإذا هي تمتلئ في لحظات.
هتفت: «يحيا الإنجليز»
ذات يوم كنا في ميدان الأوبرا وكان أكثر من عشرين ألفا، وقد وقفوا صامتين كأن على رءوسهم الطير، يستعدون للاستماع إلى خطاب، وصعدت على أكتاف طالبين، وفي وسط هذا الصمت الرهيب، بدأت خطابي قائلًا: «اهتفوا معي.. يحيا الإنجليز!».
وبهت الجمع الحاشد لهول المفاجأة وعدت أقول: «لن أخطب حتى تهتفوا.. يحيا الإنجليز".. فهتفوا، واستطردت قائلًا: "يحيا الإنجليز الذين استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجرهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة"...وصفقوا تصفيق صم الآذان.
قلت لسعد: أنت مجنون
ومرة أخرى كنت في السرادق الضخم الذي أقيم لتكريم سعد بعد عودته من المنفى، وكان زعيم الوفد في أوج عظمته ومجده، وكنت قد ذهبت إلى السرادق، بعد جفوة بيني وبين المغفور له فتح الله بركات باشا، وأخذت الجماهير تنادي «سرجيوس.. سرجيوس.. سرجيوس». ووقف سعد رحمه الله قائلا: «فليسمعنا خطيب الثورة كلمته».
وصمت الجميع، ووقفت أخطب فقلت: «والله انك لمجنون يا سعد»، وبهت الجميع، ولكني استطردت قائلًا: «والله إنك لمجنون يا سعد تقوم على دولة عظمى خرجت منتصرًا من حرب عظمى، وتملك كل شيء».
وفي الكنيسة كنت أخطب فتغلق كل الشوارع المؤدية للكنيسة بكتل بشرية متراصة، ولم يستطع فيلبس أن يجد لنفسه طريقًا إلا بشق النفس، وحينئذ التفت إلى قائلًا: يا سرجيوس أنت مارتن لوثر مصر.
وظللت في كنيستي مدة عام أعاني قرار الحرمان، وما لبثت الكنيسة هي الأخرى، حتى انتزعت مني، ولكني لم أيأس وذهبت إلى الفجالة، واستأجرت فناء كبيرا صففت فيه المقاعد، وأقمت حوله سورًا، واتخذت منه كنيسة ومنبرا للعظات، وكان الذين يهرعون إليه يفوقون عدد الذين يذهبون إلى عدة كنائس مجتمعة.
وظللت في كنيستي الجديدة حتى سنة ١٩٣٥ عندما أعدت لكنيستي الأولى، ولكني ما لبثت حتى صدر ضدي قرار حرمان آخر سنة ١٩٢٦ وعدت مرة ثانية سنة ١٩٢٧.
من غير فلوس يا سرجيوس
وفي سنة ١٩٤٩، رأيت أن أخوض معركة الانتخابات والتفت جماهير الحي حولي وكان شعارها «من غير فلوس يا سرجيوس» فلم يكن معي مليم أشتري به نصف صوت، ولكن تأييد الناس كاد يبكيني. لولا أن طلب إلى النحاس أن أتنازل من الدائرة لإبراهيم فرج، بحق ذكرياتنا وكفاحنا القديم، فتنازلت فأرسل إلى النحاس بخطاب قال فيه: «لقد أضفت موقفًا مشرفًا إلى مواقفك، الوطنية السابقة». ووجدت في الخطاب ترضية مما ارتكبه الوفد في حقي.
والتفت إلى الإصلاح القبطي، ثم صدر ضدي قرار حرمان آخر، فرفعت أمري إلى القضاء العادل، فأعادني إلى الكنيسة.