عادل الباز: اقتصاديات الحرب (1/2)
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
1 منذ أن بدأت الحرب الملعونة التي أشعلها شياطين الجن الجنجويدي، طفقنا نتحدث عن كل شيء يجري بداخلها وحولها، ولكن لم نتحدث إلا نادراً حول اقتصادياتها مع أنها في جوهرها حرب اقتصادية بامتياز في مسبباتها وفي غاياتها النهائية. فهي الحرب التي من سيفوز فيها سيفوز بالكنز، وهو موارد السودان غير المحدودة. وهل أشعلوا الحرب إلا من أجل نهبها؟!.
2
عندما أشعل الجنجويد هذه الحرب، لم يكن في بالهم أنهم سينفقون مليماً واحداً، بل كانوا يخططون لشفشفة مليارات الدولارات عبر النهب المقنن الذي سيتاح لهم بعد سيطرتهم على الدولة. وكان الجنجويد قبل ذلك بسنوات قد أسسوا مئات الشركات في كافة المجالات استعداداً لليوم الموعود، يوم الانقلاب العظيم الذي يستولون عبره على كل مقدرات البلاد. ولكن إرادة الله غالبة، فتحول الانقلاب إلى حرب طاحنة، فبدلاً من أن يحصدوا ما خططوا له، وجدوا أنفسهم ينفقون ما نهبوه طيلة أربعة عشر عاماً من الذهب وأموال الدولة في حرب خاسرة. في سابق تجاربهم، كانت الدولة هي من تتولى الإنفاق على حروبهم المتعددة، إضافة إلى سرقتهم المستمرة من مواردها، ولكن في هذه الحرب لابد من تدابير مختلفة.
واجهت المليشيا تحديين: يتعلق أولهما باستخدام مواردها المنهوبة سابقاً من الدولة في حرب لا يعرف متى تنتهي، في ظل توقف الاستثمارات الأخرى في الشركات ومناجم الذهب. لم يتبقَ للمليشيا من مناجم الذهب إلا منجم “سنقو” شمال دارفور، الذي جرى تدميره جزئياً الشهر الماضي، وبقية المناجم وشركات الذهب التي تمتلكها أو تساهم فيها المليشيا تمت مصادرتها لصالح الدولة.
3
التحدي الثاني هو إيجاد كفيل خارجي تتوحد مصلحته مع الجنجويد بالسيطرة على موارد البلاد. وقد كان الكفيل أصلاً موجوداً يهندس في سيناريوهات الحرب وهو مستعد للإنفاق على الحرب، ولكن ليس إلى ما لا نهاية. وتلك معضلة ظهرت لقادة المليشيا الآن بعد أن بدأت مواردهم الذاتية تنضب، مما دفع الجنجويدي الأخير في خطابه مؤخراً أن يعلن إنه ليس له “إمداد” كافٍ. في الوقت الذي بدأ فيه الكفيل يشعر بالحصار الدولي لدعمه مليشيا تقوم بارتكاب جرائم إبادة! في ذات الوقت الذي يتضعضع فيه وضع قوات المليشيا على الأرض وتتلقى هزائم يومية مما لا يغري بمواصلة تمويل حرب تشنها مليشيا منهزمة، وكما يبدو أنه لا أفق لإنجاز اتفاق سياسي يعيد المليشيا حتى إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب.
4
تحتاج المليشيا وكفيلها الآن للإنفاق على السلاح والذخائر بكافة أنواعها، كما هي بحاجة إلى الإنفاق على تشوين القوات المنتشرة في أكثر من 9 ولايات عبر خطوط إمداد طويلة، ولولا النهب الذي تمارسه تلك القوات لأموال وطعام المواطنين لاستسلمت باكراً. تحتاج المليشيا وكفيلها لتعويض مئات العربات المدججة بكافة أنواع السلاح التي تتعرض للتدمير بشكل يومي من الجيش السوداني وقوات العمل الخاص والطيران والمتحركات الزاحفة الآن من كل اتجاه، إضافة للغنائم السهلة التي تغنمها القوات المشتركة يومياً في مناطق كثيرة بدافور.
على المليشيا أيضاً وكفيلها الإنفاق على مرتبات قواتها المتمردة نفسها والمرتزقة المستجلَبِين من 8 دول أفريقية، إضافة للصرف على وقود العربات والمركبات القتالية عبر مسافات طويلة من صحراء ليبيا إلى الجزيرة الخضراء التي تستعد الآن لإكمال احتفالاتها بالتحرير، إضافة للإنفاق على الأبواق الإعلامية والرشى التي تتسع دائرتها كل يوم للمنظمات الإقليمية والدولية والناشطين السياسيين والمستشارين، وكل ذلك العويش الرخيص الذي يحيط بالمليشيات ويعتاش من فتاتها.
5
تبقت للمليشيا مصادر محدودة للتمويل، وهي فرض رسوم وضرائب على الأهالي والمنتجات التي تُنتج وتُصدر من مناطق سيطرتها في غرب السودان. ومن غباء المليشيا أنها أقدمت على خطوة سرعان ما تراجعت عنها، وذلك حين أوقفت تصدير سلع حيوية إلى مصر كانت تتربح منها بسبب رغبتها في الإضرار بالاقتصاد المصري. وهم طبعاً من فرط جهلهم لا يعرفون عن الاقتصاد المصري شيئاً، ويعتقدون أنه سيتضرر أو تحيق به كارثة بسبب وقف استيراد بضع سلع من دارفور!
حجم الاقتصاد المصري بحسب تقديرات البنك الدولي وتقاريره العام الماضي بلغ حوالي 387 مليار دولار، مما أهله ليكون ضمن أقوى 34 اقتصاداً في العالم، ويأتي في المرتبة الثانية من حيث حجم الاقتصاديات في أفريقيا بعد نيجيريا. وهو اقتصاد متنوع، تمثل إيرادات قطاع الخدمات جزءاً كبيراً منه، إضافة إلى أنه اقتصاد مفتوح على السوق العالمية. ولذا فإن الخاسر الأول من هذا القرار هو المليشيا ابتداءً، لأنها ستخسر الإتاوات والضرائب التي تفرضها على التجار، والخاسر الثاني هو اقتصاد السودان، وخاصة إذا ما تحولت مصر كلياً لاستيراد اللحوم إلى الصومال وجيبوتي، اللتان تتنافسان مع السودان الآن في سوق اللحوم الحية. فمن جملة 2.5 مليون طن تستهلكها مصر سنوياً، تنتج داخلياً ما يقارب 30% وتستورد من جيبوتي والصومال تقريباً 30% من احتياجاتها من اللحوم الحية، والباقي من أسواق متنوعة، أهمها السودان.
6
إلى هنا نرى أن موارد المليشيا تنحسر، وهي ناضبة أو نضبت. إذن كيف ستواصل حربها بلا موارد ضخمة تنفقها على قائمة متطلبات الحرب؟ هذه هي ورطتها الكبرى، ولذا أصبحت تعتمد على الكفيل كلياً بعد أن أوشكت على الإفلاس. المشكلة الآن إدراك الكفيل أنها خسرت الحرب، وليس ثمة طريقة لإيقافها الآن، وهو نفسه يتعرض لضغوط إعلامية ودولية متصاعدة. وحتى لو رغب أن يستمر في تمويل حرب خاسرة… فإلى متى؟.في ظل استحالة انتصار المليشيا وبدون أفق لحل سياسي ما وضغوط دولية، لابد من القبول بخسارة الحرب ليتوقف نزيف الصرف الهائل بلا طائل. صحيح أن قبول المليشيا وكفيلها بخسارة الحرب هو بمثابة تجرع السم، ولكن لا مناص من تجرعه.
7
في هذه الحرب خسرت المليشيا سياسياً بإشانة سمعتها بجرائمها التي ارتكبتها، كما خسر الكفيل سمعته بأنه يمول مليشيا مجرمة، في الوقت الذي تخسر فيه المليشيا عسكرياً وتتوالى هزائمها. إذا كان كل ذلك يمكن احتماله إلى حين تتغير الظروف وتتبدل موازين القوى، ولكن الذي لا يمكن ويستحيل احتماله هو خسران مئات الملايين من الدولارات يومياً في حرب خاسرة دون جدوى أو نتائج إيجابية محتملة. ولذا المتوقع أن ينهي الاقتصاد هذه الحرب قبل أن يفعل ذلك السلاح والقتال في الميادين. قديماً قالوا: إنه الاقتصاد يا غبي.
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
حصاد 2024.. أجمل الكتب التي بقيت راسخة في ذاكرة المبدعين
باريس- لأن "حياة واحدة لا تكفي" كما قال العقاد، نلتجئ للكتب والقراءة لكي تهبنا حيوات جديدة كل مرة. ولأن القراءة سفر وترحال أبدي لا ينتهي عبر سفينة الخيال، يأخذنا كل كتاب جديد نفتحه إلى بحار من حبر وكلم وقصص ليس لها مرافئ ولا تعترف بالوصول.
ونحن نودّع سنة ونستقبل أخرى، يُطرح سؤال عن أجمل الكتب التي بقيت راسخة في ذاكرة الكتاب والمبدعين، بعد عام من القراءة والبحث والتنقيب والكتابة، وتظل أبواب المعرفة والسؤال مشرعة بحثا عن إجابات طريفة، وحصاد أدبي وثقافي متميز، عن أجمل الكتب والقراءات التي بقيت عالقة في ذهن نخبة من الكتاب والمبدعين العرب خلال هذا العام الذي أوشكت شمسه على الغروب، فضلا عن فعل القراءة وأثرها السحري في المبدع والإنسان عموما. فإلى الاستطلاع:
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"ريفوبليكا" ثلاثية يوسف فاضل عن الريف والمقاومة والحلم بالتغييرlist 2 of 2صلاح جرار: الفلسطينيون شاركوا بفتح الأندلس وحنين قصائدي لغرناطة وجنين وعمّانend of list القراءة ضرورة والكتاب دواء ووقايةفي رحلةٍ أدبية ثرية، يأخذنا الكاتب الليبي الدكتور "محمد قصيبات" عبر آفاق القراءة التي شكلت عامه 2024. فقد قرأ الكثير من الكتب التي أثرت فيه وهزته، وبعين الناقد والمتذوق عرض تجاربه مع نصوص أدبية خالدة. فمن بين صفحات "تيريز دوكيرو" للكاتب الفرنسي فرنسوا مورياك، الحائز على نوبل للآداب عام 1952، إلى عوالم "المركب المفتوح" للكاتب الأميركي ستيفان كران، يرسم قصيبات خريطة أدبية غنية بالاكتشافات والتأثيرات.
إعلانويستحضر قصيبات ذكريات دراسته في كامبردج، حيث تعرف على أعمال جوزيف كونراد الشهيرة، ليفاجئنا باكتشافه المتأخر لرواية "آمي فوستر" تلك الجوهرة الأدبية المخبأة التي تحمل العنوان الأنثوي الوحيد في أعمال كونراد:
حدثنا الدكتور ترنر عن جوزيف كونراد ورواياته المشهورة مثل "من قلب الظلمات" و"لورد جيم" ولكني لم اكتشف روايته المجهولة التي تحمل عنوان "آمي فوستر" إلا عام 2024
وبحس الروائي المرهف، يسبر قصيبات أغوار هذه الرواية القصيرة، مستعرضاً شخصياتها الثلاث بدقة وعمق، والمتمثلون في شخصيات الدكتور الكندي "طبيب القرية" وهو الراوي، و"يانكو" المهاجر الذي ألقى به البحر، و"آمي فوستر" المرأة غير الجميلة التي يتزوج بها "يانكو".
"آمي فوستر" لجوزيف كونراد الرواية الوحيدة التي تحمل عنوان أنثوي في أعماله (الجزيرة)في سرده للقصة، يلفت قصيبات إلى أن الرواية تمثل صورة إنسانية مؤثرة لمأساة الهجرة والاغتراب والصراع اللغوي، إذ تتناول حكاية "يانكو" الذي يبيع والداه بقرتين وقطعة من الأرض لكي يتمكن من الحصول على أجرة المهربين لتهجيره من بولندا إلى أميركا، من أجل عمل يستطيع من خلاله مساعدة عائلته، لكن المهربين يغرقون السفينة ويلقون بركابها إلى شواطئ كينت في بريطانيا، ليصبح يانكو لاجئا ينظر إليه أهل القرية باحتقار.
ورغم قدم الرواية التي صدرت عام 1901، فإنها ما زالت تنبض بالحياة والراهنية في عالمنا المعاصر. لذا ينوه الكاتب فيقول "قد يظن القارئ للوهلة الأولى أن أحداث الرواية تدور في زمننا هذا حول المهاجرين غير الشرعيين القادمين من البحر".
وفي غمرة تأثره بالرواية، يصف كيف سكنته حتى ظن أنه كاتبها، وألهمته لمحاولات ترجمة متعددة، يتعاطف من خلالها كل مرة مع إحدى الشخصيات الرئيسية الثلاث، متمنيا أن يستطيع إنهاء هذه الترجمة عام 2025.
وينتقل قصيبات بسلاسة من عالم الأدب إلى مجال تخصصه الطبي، مسلطاً الضوء على العلاقة الوثيقة بين القراءة والصحة العقلية، وتأثير القراءة على الإنسان من أكثر من زاوية. ويستعرض بعين العالِم والأديب معاً أهمية القراءة في الوقاية من مرض ألزهايمر، فقد صار هناك تخصص يتعلق بالعلاج بالقراءة، والتي تعد ضرورةً ملحة وحاجةً هامة للإنسان.
إعلانوخلص إلى أن أهم الدراسات الحديثة حول هذا الموضوع تلك التي تم نشرها بمجلة علم الأعصاب، وهي تتعلق بحوالي ألف من المصابين بألزهايمر تم توزيعهم إلى مجموعتين: الذين يقرؤون والذين لا يقرؤون، حيث كانت النتائج تقول إن نسبة الإصابات بالمرض هي 18% و35% على التوالي.
ويختتم قصيبات حديثه مؤكداً أن الكتاب قد أصبح في عصرنا هذا دواءً ووقاية، في مزيج فريد يجمع بين متعة الروح وصحة العقل.
القراءة مقدمة لأي مشروع ابداعييرى الروائي والشاعر المغربي عبد النور مزين أن القراءة تشكل جزءًا لا يتجزأ من مشروع الكتابة لأي كاتب يعتز بقضايا الكتابة ومسؤولياتها، فهي العنصر الأساسي في تكوين أي تجربة إبداعية. ويصف القراءة كفعل يومي ملازم لمشروع الكتابة لديه ولصيق بها، فهي تتيح له التجدد والتعمق في روح الأشياء، كونها مقدمة ضرورية لأي فعل إبداعي.
وفي حديثه للجزيرة نت، عبّر مزين عن تأثير بعض الكتب في حياة الإنسان ونظرته للأمور بشكل لا رجعة فيه. وهو ما حدث معه أثناء قراءته رواية الكاتبة الأميركية توني موريسون بعنوان (Home) والتي ترجمها بكلمة "وطن" وأعاد قراءتها هذا العام.
عبد النور مزين: بعض الكتب لها تأثير في حياة الإنسان مثل رواية توني موريسون بعنوان (Home) (الجزيرة)سأترجمها بكلمة "وطن" مع العلم أنه يصعب إيجاد كلمة أقرب إلى عمق المعنى الذي يجسد عمق الانتماء كالبيت. هذا لأن السؤال الرئيسي الذي دار في رأس بطل الرواية "فرانك ماني"، الشاب الأسود الذي حارب من أجل أميركا في الحرب الكورية، وظل يتساءل بعد عودته إلى بلده التي استقبلته بواقع التمييز العنصري المنظم، كان بالذات عن معنى هذا الانتماء
ومع تطور الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي، يرى صاحب رائعة "رسائل زمن العاصفة" أن سؤالي الهوية والانتماء يزدادان أهمية بشكل مخيف.
وشدد مزين إلى أن الوعي بهذه الأبعاد التي طرحتها موريسون -في روايتها عن معاني الانتماء المتعددة- غيّره وأثر فيه لدرجة تركيزه بوعي على هذا البعد الهوياتي في روايته الأخيرة "جسر النعمانية" بالغوص عميقا في كل الأبعاد التي تميز الهوية المغربية.
وخلص إلى أن هذه الومضات -التي تحدثها بعض النصوص في المبدع- تجعله أكثر نضجًا وأقرب إلى فطرته وطفولته التي تأثرت بتغيرات الحياة المتلاحقة والسريعة.
إعلان عناق إنساني لا يمكن وصفهتنسج الكاتبة الروائية الجزائرية حياة قاصدي، المقيمة في مرسيليا، رؤية بديعة للكتاب، فتصوره بالنافذة الجميلة التي نطل من خلالها على أنوار الثقافة والإبداع. وعبر حروفه وصفحاته، ننطلق نحو المدن الفاضلة والقيم الإنسانية الراقية، لنستكشف جوهر الإنسان وربيعه الداخلي المتجدد. فالقراءة، في عيني حياة، ليست مجرد نشاط، بل هي غاية سامية تسعى إليها على مدار العام، بحثًا عن عوالم الدهشة المتجددة.
وبالنسبة لقاصدي، تمثل القراءة لها ككاتبة ما تمثله التربة الخصبة للبذرة، فهي المادة الحيوية التي تنمي بذور الإبداع وتغذي النهم الثقافي الذي يحتاجه المبدع لتجديد طاقاته الفكرية وبناء جسور التواصل الإنساني. فالكتاب -في رؤيتها- هو مهد الحضارات والطاقة الإيجابية التي تدفع عجلة التطور البشري، بغض النظر عن الأفكار والتوجهات التي يحملها. وبقدر اطلاع الكاتب يستمر بداخله ذلك الامتداد الروحي بينه وبين عوالم الإبداع والمعرفة، فالقراءة في جوهرها عناق إنساني منساب لا يمكن وصفه.
قاصدي: هذه الرواية رحلة متكاملة تحاكي مسيرة الإنسان العربي ثقافيًا وتاريخيًا وعمقا وجوديا (الجزيرة)وعن رحلتها القرائية بالأدب الإنساني العربي والعالمي لعام 2024، استوقفت قاصدي رواية "أنا والمستحيل" للمبدع الجزائري خليفة عبد السلام. إذ تصف هذا العمل كرحلة متكاملة تحاكي مسيرة الإنسان العربي ثقافيًا وتاريخيًا وعمقا وجوديا. ولكن ما أثار دهشتها أثناء قراءتها للرواية هو البنية الجديدة التي قدمها الكاتب في صياغة النص الروائي:
اعتدنا على كون الإنسان هو من يمثل شخوص الرواية، ولكن أن نعثر على إبداع يخرج الإنسان كعنصر أساسي في بنية العمل الروائي، ويعوض وجوده بأيقونات فلسفية نكون قد اطلعنا على بنية جديدة في طريقة كتابة النص الروائي العربي
وتستعرض قاصدي بعين الناقد الحصيف شخصيات الرواية، فتقول "شخوص هذه الرواية أيقونات تتصارع في حوار فلسفي وهي الذات والتاريخ والماضي والحاضر والمستحيل والانكسارات والأمل. ولهذه الشخصيات وجودها الملموس ومثلت الجانب السّيكولوجي لـ(الأنا) والتي نجح الكاتب في جعلها تلعب دورا أساسيًا داخل عباءة فلسفية قوية عندما أخضع (الأنا) لسلطة الفلسفة".
إعلان الكاتب الذي لا يقرأ لا يجدّد أدواته ومضامينهأما الكاتب والمترجم التونسي "أبو بكر العيادي" المقيم في باريس، فقد أشاد بقوة برواية "الطوفان" للأميركي ستيفن ماركلي والتي صدرت ترجمتها الفرنسية الصّيف الماضي، ويصف العمل بأنه آسر للقارئ، فبالرغم من حجمها الضّخم (1039 صفحة) فإنّ قارئها لا يمكن أن يتركها لحظة، ولا يستطيع أن يمنع نفسه من المرور إلى الصفحة الموالية، تباعًا، حتى النهاية، بفضل لغتها الواضحة، ومضمونها الذي يرجّ القارئ، ويجعله يعيد النّظر في كثير من ممارساته اليوميّة تجنّبا لخطر حقيقي.
ويصنف العيادي الرواية -في معرض حديثه للجزيرة نت- فيقول:
الرواية من النّوع الديستوبي، الاستباقي، ولكنّها ليست من الخيال العلمي، بل تستند إلى واقعنا الحالي، وهو واقع كرة أرضية صارت مهدّدة بالزّوال
ويسرد القصة التي تمتد أحداثها من عهد أوباما حتى نهاية ثلاثينيات القرن الحالي. فعلى الرغم من تحذيرات المتخصصين المتكررة، ودعوات المنظّمات العالمية إلى توخّي تدابير لا محيد عنها لإنقاذ الأرض وما فيها ومن عليها، يستهين زعماء البلدان المصنّعة بالتحذيرات ويعتبرونها من قبيل "نظريّات المؤامرة".
كينغ وصف رواية "الطوفان" للأميركي ماركلي بأنها "تنبؤيّة ومرعبة" (الجزيرة)أما عن شخصية البطل بالرواية "توني بيتروس" فيسلط العيادي الضوء عليه، فهو يصدر كتابًا عن اختلال المناخ، وبعدها يتلقّى تهديداتٍ ممّن لا يفكّرون إلّا في مصالحهم الخاصّة.
ويرسم الكاتب من خلال كل هذا صورة للعالم وهو يشهد تصاعدًا في الكوارث الطبيعية كارتفاع درجات الحرارة واستشراء القيظ والفيضانات والحرائق والأعاصير التي باتت تهدّد البشريّة قاطبة وتضعها على شفير الهاوية. ويطرح سؤالًا جوهريًا: بِمَ تقبل أن تضحّي لأجل إنقاذ الإنسانيّة؟
ويذكر العيادي قول "ستيفن كينغ" عن الرواية أنها "تنبّؤيّة ومرعبة" فالقارئ لا يمكن أن يتخلّص منها بعد طيّها، لأنّها تطرح أسئلة آنية حارقة وتتحدّث عن البشر وعن مصيرهم ومصير الأجيال المقبلة على وجه أرض يهدّدها سكّانها، فيهدّدون بذلك وجودهم وبقاء جنسهم.
قراءة الكتب تنير البصائر، وتفتح العيون على تقاليد أمم أخرى وتجارب إنسانيّة متنوّعة، وتزيد الانسان معرفة بموقعه من العالم
وبوصفه كاتبّا، يشدد على أهمية القراءة للكاتب في حلّه وترحاله، لأن الكاتب الذي لا يقرأ باستمرار نصيبًا من نتاج البشريّة، قديمه وحديثه، لا يجدّد أدواته، ولا مضامينه.
إعلان اقرأ حتى أراكتمتلك الشاعرة والروائية اللبنانية شادن دياب شهية قرائية ثرية، ففي عام 2024، قرأت حوالي 40 كتابًا بين الروايات الأجنبية والعربية، وكتب الفلسفة والعلوم السياسية. لكن من بين كل هذا، برزت رواية "غداء في بيت الطباخة" للكاتب المصري محمد الفخراني كجوهرة فريدة استحوذت على اهتمامها، متميزة بسياقها الاستثنائي وأسلوبها الفني المبتكر.
الرواية استعرضت أبعاد الحرب الإنسانية حيث تتحول الخنادق من مواقع للصراع إلى مساحات للكشف عن جوهر الإنسان (الجزيرة)وتكشف شادن عن شغفها الخاص بموضوع الرواية قائلة:
لدي اهتمام خاص بموضوع الحرب والسلام، وهذه الرواية كُتبت في سياق استثنائي بعيد عن النمطية، مما جعلها تجربة أدبية مميزة بالنسبة لي. فهي تقدم رؤية أدبية جديدة للحرب تتجاوز الصور النمطية المألوفة. بعيدًا عن مشاهد الأشلاء والدماء المعتادة، وتعيد الرواية تعريف الحرب كحالة إنسانية عميقة، وتكشف عن روح الإنسان وهشاشته في مواجهة الصراعات، وقد فازت بجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2024
وعن براعة الفخراني في توظيف الرموز والألوان، تقول شادن إنه استخدم أسماء مجردة تضفي على العمل طابعًا فلسفيًا وتأمليًا عميقًا. وعبر هذه الشخصيات، يستعرض الكاتب أبعاد الحرب الإنسانية، حيث تتحول الخنادق من مواقع للصراع إلى مساحات للكشف عن جوهر الإنسان، ومن خلال حوارات ومواقف تجمع شخصين من طرفين متعارضين وسط الحرب، تظهر إنسانيتهما رغم عدائية الظروف التي تحيط بهما.
وتستشهد الشاعرة اللبنانية بمقطع من الرواية يجسد عمقها الفلسفي "لا أحد يعرف. في الحرب لا يمكنك أن تعرف حتى ترى بعينيك. وعندما ترى بعينيك تتأكد أكثر أنك لا تعرف". وهذا المقطع يلخص الأسئلة الجوهرية التي تثيرها الرواية حول طبيعة المعرفة والحقيقة في زمن الحرب.
وبنظرة عميقة، تخلص الروائية إلى جوهر القراءة، والتي تمثل وجهة نظر تعكس وعينا الواعي وغير الواعي في اختياراتنا للكتب التي نقرأها، أو هي في عبارة موجزة "اقرأ حتى أراك".
كالميت بين يدي غاسلهيعيش الكاتب التونسي "شكري الباصومي" منذ أشهر تحت سلطان كتاب "الموازي في أخبار المسرح النشازي.. ومهملات أخرى" للمبدع المسرحي توفيق الجبالي الذي ضل طريق الكتابة.
ويتساءل حائرا كيف بإمكانه في سطور أن يعبر عن محتوى هذا الكتاب الملغوم؟ فهو يرى أنه حين يكتب الجبالي فهو قادر على امتاع القارئ، فقد اعتنق الكتابة الشاملة المنفلتة التي تتميز بأن المعرفة عمادُها، والجبالي يمتلك جرأة في القول، ويقدر على تسمية الأمور بأسمائها، قدر المستطاع، ويتميز بسخرية تغيظ بعض الفاعلين، وتشفي صدور القراء.