لجريدة عمان:
2025-03-29@18:07:19 GMT

فلسطين مفهوم القوة والوعي الشقي

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

لم يعد بالإمكان السكوت على فرضية "نهاية التاريخ" فهي مقولة يراد بها ممارسة الإيهام كونها تشير إلى يقينية غير علمية بل وتقف ضد أي معرفة، مقولة تستبطن تعميمية مطلقة، شعار يتغذى على القول بأن العالم غير قابل للتعدد، وأنه لا مجال لأي عقيدة سياسية في عالم اليوم، إلا عقيدة القوة، إنها النظرية التي تريد إقناعنا باستحالة بروز أي نظرية أخرى تؤمن بالأخلاق فوق القوة، وينبغي على العالم أن يرضخ أمام الليبرالية الجديدة.

ولذا فإن أي مجهود بحثي يتملى فهم التحولات الكبرى التي تجري في موازين القوى ينبغي عليه ألا يتجاوز محاولة فهم هذه العقيدة وأفقها المغلق على معنى وحيد في الاقتصاد والسياسة والعلوم الإنسانية كافة، بل ويتصدى لها ويكشف زيفها وتهافتها، فهي القائلة أنه وللحفاظ على العالم الحر فلتكن الكلفة أعلى من أي توقع طالما أنها ستوفر للغرب مصالحه، في بناء العالم وتدبيره.

إن مفهوم "القوة" مركزي في التفكير الغربي، وأنه يجب العمل على تحقيق أكبر قدر من الهيمنة، والطمع في إسقاط أي شكل مستقل للمعرفة والسلطة، ولأجل ذلك فالعمل دؤوب لدى مؤسسات التفكير والبحث في أوروبا وأمريكا لتعميم حضورها عبر صناعة ناطقين باسم ظاهرة القوة الغربية في أوساط المثقفين العرب، إنها المرحلة الثانية من إنجاح الغزوة الليبرالية والتي تتصدى أول ما تتصدى لخصوصية هذه المجتمعات، وتضرب فيها أفق التأمل الحر أو الإرادة المنبعثة من حقائق واقعها الاجتماعي والسياسي، ولذا فإن العقل الغربي شغوف بتغيير طبائع الوعي العربي، ويشغله جداً أن يصاب هذا العقل بالشلل الفكري، وأن يُرغَم على تصديق منظومة الغرب التي تعبد القوة وتستأنس لنفسها صيغ أخلاقية براغماتية، هي مشاغل الغرب تجاهنا وأول ما يتصدر هذه المشاغل هو تجذير صورة الغربي كونه القوة التي لا تقهر، القوة المدججة بالعلم، وأن العرب لا ينبغي لهم أن يملكوا هذه القوة إلا بكمية محدودة، فكلما زاد ما يملكه الآخر (=العرب) قل ما تملكه هي، هذا إن كان يملك السلطة المعرفية في مجتمعه من الأساس. ونظرية الغرب تقوم على أن إعطائك المزيد من القوة يعني فقدانه السلطة، وهي السلطة التي ترتكز لا على علاقات من توازن، يشترط أن تظل علاقات تبادلية داخل السياق، بل هي تبادلية الهيمنة/التبعية؛ إنها قوة تُمارس سلطتها على العقل العربي بتوجيهه من على البعد.

إننا نريد في هذا المقال أن نشير إلى أن الإطار الفكري الذي يعمل بموجبه العقل السياسي العربي يعيش حالات من العزلة عن وسطه الاجتماعي، ولذا فإن الملمات الكبرى في واقعنا يجري التصدي لها بشكل رغائبي يفتقد أدنى درجات المعقولية، دع عنك العقلانية النقدية، وفي علاقات القوة هذه (الغرب/العرب) فإن الحقيقة التي ينبغي أن نعيها هي أن أنظمتنا الاجتماعية غير قادرة بعد على فهم كيف يدبر الآخر (الغربي) صورتنا عن مفاهيم مثل: القوة،العدالة،الحق...إلخ، إذ هي المسائل الأولى في أي سياق اجتماعي يريد أن يفهم العالم، فهذا الغرب يبني منظومته المعرفية على أساس مادي، وهذه المادية هي الحقيقة الوحيدة في تنظيره للسلطة والهيمنة، رغم أن المادة لا تحمل معنى في ذاتها، لكن هذا العقل الغربي وعبر مراحل تطوره المختلفة استطاع أن يصنع أسطورته التاريخية والتي تجعل من الخطر (=الفناء) القضية التي ينبغي الترويج لها باستمرار، بل والقضاء على كل من يتربص بقيمه وعقيدته الفلسفية.

إن بلاغة الليبرالية تتجلى في صناعة العدو ووضعه دائماً في إطار من المواجهة معها، ولذا فإن أي حديث عن أخلاق للقوة في المفهوم الغربي لا تعدو إلا محاولة تبسيطية لفهم هوية هذا العقل، وإطاره المفاهيمي، والذي يجب ترويجه أن الغرب في خطر داهم ويواجه أعداء افتراضيون يعملون على القضاء على جنته المصنوعة بعناية التدليس، وهذا يفسر لك لماذا يسكت العقل الغربي عن عنف الآلة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، يسكت لأنه استطاع أن يجعل من قضية (المجتمع الغربي في خطر) مصدر كل فاعليته السياسية، وهنا فالقوة سوف تتجرد من أي قيمة أخلاقية طالما أنها تدافع عن قيم الغرب التي باتت لها الكلمة العليا في راهن البشرية. فإذا مات الآلاف من أطفال فلسطين فهم ليسوا إلا آثاراً جانبية لدواء ينبغي أن يتجرعه العربي المتخلف، العربي الذي تراه يدس خنجره المسموم لينال من جسد الحضارة والتقدم، وهنا لتقتل إسرائيل من تشاء طالما أنها تحقق نظرية (القوة بالفعل)، ولا مجال لأية محاسبة أخلاقية، فالقوة أولاً وأخيراً.

إن أزماتنا على الصعيد العربي هي بنت مشكلات الوعي فينا، فلا يزال العقل العربي يعيش حالات من الرغائبية دون أن يتفهم طبيعة الصراع، وموازين القوى، إننا بالفعل نعيش إنكار للواقع، وهو واقع مليئ بالتفكير المقلوب، أو لنسميه "الوعي الشقي" فالذي يصيبنا من مآسي مرده في المقام الأول نظرتنا غير الواقعية للعالم والأشياء، نحن لا نزال نؤمن بفرضيات غير متحققة في الواقع، وأهم هذه الفرضيات، فرضية حقنا المهدور من قِبل ظلم العالَمْ، انه الاستثمار في المظلومية، وفي الوقت ذاته الظن بأننا على حق، ونحن في الحقيقة على حق، لكن أي حق غير محروس بالوعي هو حق محروق بذاته، حق غير قادر على أن يبصر السبيل إلى الإعلان عن نفسه، والحل يبدأ من تحرير العقل العربي من طرائق تفكيره الخرافية إلى بناء منظومته من الوعي القادر على توفير الشروط الموضوعية لنيل الحقوق المهدورة..

الحل في العقلانية والتخلص من التفكير بالرغبة.

• غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الأوهام البصرية وخدع العقل هل يمكن تفاديها؟

تجذب الأوهام البصرية اهتمام الكثير من الجماهير الذين يجدون فيها متعة كبيرة، والأمر كذلك بالنسبة للعلماء الذين يحاولون تفسير عمل الدماغ مع المعطيات البصرية، وتستطرد دراسة حديثة منشورة في دورية "ساينتفك ريبورتس" مسألة قدرة البشر على تجاوز هذه الأوهام البصرية دون الانزلاق فيها، وتوضح نتائج الدراسة أن الأمر ممكن للغاية، لكن وفقا لضوابط.

ويقع الإنسان في الوهم البصري بسبب اعتماد الدماغ على ربط سياقات معينة في تحليل الصور والمشاهد المرئية، فالعين لا تتناول المجسمات والأشياء على حدة، بل يركز الدماغ على جميع العناصر في الصورة. ومثال على ذلك "وهم إبنجهاوس" الذي سُمِّيَ نسبة لعالم النفس الألماني هيرمان إبنجهاوس.

"وهم إبنجهاوس" نسبة لعالم النفس الألماني هيرمان إبنجهاوس (مواقع التواصل) وهم إبنجهاوس

وبالنظر إلى الصورة السابقة، يتضح بأن ثّمة مجموعتين من الدوائر الرمادية، ينتصف كلّ مجموعة دائرة برتقالية، وللوهلة الأولى لا تبدو الدائرتان متساويتين على الرغم أنهما متطابقتان تماما، وذلك بسبب تأثير الأجسام -الدوائر الرمادية- على الصورة بالمجمل، ويُعزى ذلك إلى أن الدماغ يحلّل الأجسام ضمن سياقاتها، فلا يدركها بمعزل عن محيطها.

وتختلف طريقة إدراك الأوهام البصرية من شخصٍ لآخر بناء على عدة عوامل، فقد أظهرت الدراسات أن النساء أكثر تأثرا بهذه الأوهام مقارنة بالرجال، ويُرجَّح أن السبب في ذلك هو اعتمادهن بشكل أكبر على المعلومات السياقية والاستطرادية.

إعلان

وبالمثل، لا يدرك الأطفال الصغار هذه الأوهام على الإطلاق، نظرا لأن أدمغتهم لم تتعلّم بعد كيفية تفسير الإشارات السياقية والتعمّق فيها.

كما تلعب العوامل العصبية والثقافية دورا مهمّا في هذا السياق، فالأفراد المصابون بالتوحّد أو الفصام يميلون إلى رؤية الأوهام البصرية بشكل أقل، لأنهم يركّزون بشكل أكبر على العناصر الفردية بدلا من محيطها.

والأمر ينطبق كذلك على مستوى المجتمعات، فالأشخاص المنتمون إلى الثقافات الآسيوية الشرقية، مثل اليابان، التي تميل إلى تبنّي الإدراك الشمولي، يكونون أكثر عرضة للأوهام البصرية مقارنة بذوي الثقافات الغربية التي تركز غالبا على الأشياء المعزولة، كما هو الحال في بريطانيا على سبيل المثال، وفقا لمخرجات الدراسة.

التأثر بالأوهام البصرية والوقوع فيها سمة فطرية لدى البشر لا يمكن التحكم بها (مواقع التواصل) هل يمكن التغلب على الأوهام البصرية بالتدريبات؟

ويفترض الكثير من الباحثين أن التأثر بالأوهام البصرية والوقوع فيها سمة فطرية لدى البشر لا يمكن التحكم بها، غير أن ما أظهرته الدراسة الحديثة تدحض هذا الافتراض، إذ تشير إلى أن التدريبات قد تقلل من اعتماد الدماغ على الإشارات البصرية المضللة.

وفي الدراسة قُورن بين مجموعتين، واحدة تشمل على أخصائيين في مجال الأشعة، وأخرى تشمل طلابا يدرسون الطب وعلم النفس.

وتبيّن أن أخصائيي الأشعة كانوا أقل عرضة للأوهام البصرية بشكل ملحوظ، ويُعزى ذلك -على الأرجح- إلى السنوات الطويلة من التدريب المكثف، والتي تمكنهم من التركيز على التفاصيل الحرجة في فحوصات التصوير الطبي مع تجاهل العناصر الخلفية المشتتة.

وتضمنت الدراسة عرض أشكال مختلفة من "وهم إبنجهاوس" على المشاركين، وفي إحدى التجارب، كانت الدائرة البرتقالية على اليسار -في الصورة- أصغر من نظيرتها على اليمين، لكن معظم الأشخاص رأوها على العكس من ذلك.

إعلان

ومع ذلك، تمكّن أخصائيو الأشعة من تحديد الأحجام الحقيقية بدقة أكبر، مما يدلّ على أن تدريبهم البصري ساعدهم في التغلب على الخدعة البصرية. ومن اللافت أن أخصائيي الأشعة في بداية تدريبهم لم يُظهروا هذه الميزة، مما يشير إلى أن القدرة على تجاوز هذه الخدع البصرية تتطور مع مرور الوقت واكتساب الخبرة.

التعلم ممكن

وتقترح الدراسة أن خاصية التعلم والتطور في هذه السمة لا تقتصر على مجال واحد بعينه، فمثلا لا يؤدي إتقان لعبة الشطرنج بالضرورة إلى تحسين مهارات حل المشاكل في مجالات أخرى. وعلى النقيض، فالتدرب والتعلم في مجال معيّن -مثل علم الأشعة- قد يعزّز القدرات البصرية الإدراكية بشكل عام، بما في ذلك مقاومة الأوهام البصرية.

ويفتح هذا الاكتشاف آفاقا جديدة في العديد من المهن التي تعتمد على الإدراك البصري الدقيق، ويتساءل الباحثون عن مدى جدوى إيجاد تدريبات خاصة مماثلة لما وُجدت في الدراسة للطيارين والجراحين والمتحرين في الأمن والمباحث.

وإذا كان الأمر كذلك، فقد يؤدي تطوير برامج متخصصة لتعزيز الإدراك البصري إلى تحسين الأداء في هذه المجالات الحيوية. وعلاوة على ذلك، يدرس الباحثون حاليا ما إذا كان تدريب الأشخاص على الأوهام البصرية نفسها يمكن أن يعزز مهارات الإدراك، تماما كما تقوّي التمارين البدنية العضلات.

ويشير الباحثون إلى أن الأمر يتطلب تدريبا مكثفا ومنهجيا، ومن الممكن أن تكون نتائج هذه التدريبات محمودة في تحسين قدرة الأفراد على مواجهة المعلومات المرئية المضلّلة، وتحسين الإدراك البصري سواء في الحياة اليومية أو في بيئات العمل.

مقالات مشابهة

  • تعليم الشرابية تقيم ندوة توعوية حول «التغيرات المناخية» للحفاظ على البيئة
  • «مصطفى بكري» يوجه رسالة نارية إلى العالم: أين ضمائركم من جرائم نتنياهو ضد أطفال فلسطين الذين يُحرقون بالقنابل؟
  • كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟
  • مزيج من الهاتف واللابتوب.. هواوي تبتكر مفهوم الكمبيوتر الهجين
  • الأوهام البصرية وخدع العقل هل يمكن تفاديها؟
  • ما مفهوم الإيمان بالله؟.. علي جمعة يجيب
  • «الشيخ خالد الجندي»: مصر البلد الوحيد في العالم التي سمعت كلام الله مباشرةً (فيديو)
  • (صنعاء) ومؤتمر فلسطين..!
  • كيف سيكون الطقس خلال عيد الفطر في العالم العربي؟
  • تعرف على قائمة المنتخبات التي ضمنت تأهلها مبكرا إلى كأس العالم 2026