أظهر تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة لعام «2023» -نسخة المجتمع- تميزا بالشفافـية وفـي تطبيق المعايير العالمية لهيئات الرقابة. تضمن التقرير الكثير من الملحوظات والمخالفات التي تم ضبطها أثناء مراجعة مصروفات وإيرادات الوحدات الحكومية والهيئات والشركات. لم يكتف جهاز الرقابة بفحص الجوانب المالية المتمثلة فـي اكتشاف الاختلاسات التي طالت الأموال العامة وتجاوز الصلاحيات، بل شمل مراجعة الأداء والاستثمارات المالية للشركات الحكومية ومدى تطبيق مبادئ الحوكمة فـي اتخاذ القرارات ومنح الصلاحيات للموظفـين.

كما يلاحظ ارتفاع عدد الوحدات الحكومية التي نُشرت أسماؤها ضمن التقرير من «11» وحدة حكومية إلى «15» وحدة، وأيضا من «6» التي تمثل الهيئات إلى «16» هيئة وشركة حكومية بين عامي «2022 و2023»، الأمر الذي يشير إلى زيادة الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز عما كان عليه سابقا. فـي الجانب الآخر فإن التقرير أشار إلى الانخفاض فـي تنفـيذ ملحوظات الجهاز من «43%» فـي عام «2022» إلى «26%» فـي عام «2023» كما أن النسب الباقية هي قيد التنفـيذ. كما جاء بالتقرير أن هناك هيئة حكومية لم تلتزم بالأوامر السامية القاضية بتحويل فوائض إيراداتها عن السنوات السابقة لوزارة المالية. مثل هذه المخالفات قد تعكس أمرين: إما أن بعضًا من الملحوظات تنظر إليها الوحدات والشركات الحكومية من باب أن لها القوامة على الجوانب الإجرائية والتنظيمية وكون تلك المخالفات ليست جسيمة أو بها شبه جنائية، وبالتالي، قد لا تستجيب لتنفـيذ الملحوظات بالسرعة المطلوبة. أو أن هناك غيابا فـي تطبيق مبادئ الحوكمة فـي الصلاحيات المناطة بتلك الوحدات وبالتالي يؤدي ذلك إلى التأثير فـي التقيد بتطبيق مبدأ سيادة القانون على الجميع. هذا الرأي قد تؤيده نتائج مؤشر الحوكمة العالمية لعام «2023» المتعلق بسيادة القانون، الذي حصلت فـيه سلطنة عُمان على الترتيب «72» عالميا، مع العلم بأن هذا الترتيب -هو نفسه- فـي عام «2017»، بمعنى أنه لم يطرأ على مؤشر الحوكمة المتعلق بسيادة القانون أي تغيير خلال السنوات السبع الماضية، وإن كان واقع الحال يعكس غير ما ورد بنتائج المؤشر السابق ذكره، نظرًا للتغييرات الجذرية التي حدثت من إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وبسط سيادة القانون على الجميع - دونما استثناء. أين يكمن الخلل ؟ فقد تم تحقيق معدلات جيدة فـي بنود ترشيد الإنفاق الحكومي حسب معطيات برنامج التوازن المالي، الأمر الذي انعكس إيجابيا على التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان لمستويات مستقرة وبعضها إيجابية. هذا الترشيد فـي الإنفاق أيضا سانده ارتفاع أسعار النفط، حيث تم توجيه الفوائض المالية لسداد الدين العام بما يقرب من «6» مليارات ريالات. ولكن قد يكون لذلك الترشيد تأثير مباشر على الاعتمادات المالية السنوية لبعض الوحدات الحكومية وبالتالي، نتج عنها ملحوظات بتقرير الجهاز، تتعلق بعضها بانخفاض الأداء الحكومي لأنها لم تراعِ اتساع متطلبات التنمية الناتجة عن التوسع العمراني وزيادة عدد السكان. ذلك التأثير كان واضحا فـي القطاع التعليمي. ولعل بعضًا مما ورد بالتقرير عن ارتفاع أنصبة الحصص للمعلمين فـي أغلب المحافظات وارتفاع الكثافة الصفـية يتقاطع مع ما أشرنا إليه فـي مقال سابق بجريدة «عُمان» «مهنة المعلم بين الحقوق والواجبات». وبالتالي، قد يكون من المناسب توجيه ملحوظات جهاز الرقابة نحو إعادة رسم السياسات المتعلقة بترشيد الإنفاق بحيث تكون القطاعات التعليمية والصحية والتنمية الاجتماعية دون مساس عند اعتماد ميزانياتها للأعوام القادمة.

أين يكمن الخلل؟ وقلّما يندر اجتماع لمجلس الوزراء، إلا وتتم مطالبة الجهات الحكومية بتطبيق مبدأ التكامل المؤسسي للخدمات المقدمة للأفراد والمستفـيدين، إلا أن ذلك التكامل لم يصل للأهداف المرجوة منه كما أن منظومة الإجادة الفردية والمؤسسية اللتين تم تطبيقها قبل مدة بهدف رفع مستوى الأداء وتعظيم العائد على الإنفاق ورفع الإنتاجية، أيضًا لم تعطِ مؤشرات حقيقية على أرض الواقع، حيث أغلب ملحوظات جهاز الرقابة المتعلقة بالوحدات الحكومية، تشير إلى استمرار عدم التكامل بين الأنظمة الإلكترونية وبطء فـي تقديم الخدمات، ومن ذلك ما ورد بالملحوظات الخاصة بوزارة التراث والسياحة أن «14» تصريحًا للحصول على الموافقة المبدئية لمنشآت إيوائية وسياحية أخذت خمسة أشهر تقريبا تتداول بين المستويات التنظيمية بالوزارة.

وقد يلوم البعض الوحدات الحكومية بأن أعمالها ليست ذات كفاءة فـي استخدام الموارد المالية وفـي تنفـيذ الخطط الاستراتيجية والتشغيلية لأنها وحدات لا تهدف للربح ولا تطبق المعايير المحاسبية فـي الرقابة على موازنتها المالية، حتى وصل الأمر بتوجه الوحدات الحكومية انتداب بعض من الكفاءات من الشركات للعمل معها للاستفادة من خبراتها. بيد أن واقع الحال نفسه فـي الشركات التي وصل فـي بعضها العمل دون اعتماد خطط سنوية لتنفـيذ الخطط الاستراتيجية للشركة -كما هو الحال- فـي مجموعة عمران. وبالتالي، مثل هذه الملحوظات وغيرها يعطي مؤشرا بمدى فاعلية مجالس الإدارة التي من المفترض أن تتشكل من تلك المجالس لجان متخصصة، منها على سبيل، لجان للتدقيق تتبع مجالس إدارة الشركات، مهمتها متابعة مدى التقيد بالأنظمة والمعايير المحاسبية التي تطبقها الشركات الحكومية. وإن كانت تلك اللجان يتم تشكيلها من قبل مجالس الإدارات بالشركات الحكومية، فإن السؤال عن مدى فاعليتها مقارنة بالملحوظات المالية والمحاسبية الواردة بتقرير الجهاز، تبقى محل تساؤل.

أين يكمن الخلل؟ هناك شركات ذات مكانة مالية واقتصادية عالية ولكن لا تفصح عن بياناتها المالية حسب ما تطلبه المعايير المحاسبية الدولية. تلك البيانات التي هي بمكانة أداة لمدى كفاءة وفاعلية الإدارة التنفـيذية. كما أن ما كشفه تقرير الجهاز خلال السنوات الماضية بأن هناك غيابا فـي آليات موحدة لتعيين الرؤساء التنفـيذيين ومديري العموم فـي الشركات الحكومية التي يشرف عليها جهاز الاستثمار العماني، حيث تجاوب جهاز الاستثمار مع تلك الملحوظة بإعداد دليل استرشادي موحد من شأنه المساهمة فـي العمل على الاختيار السليم للكفاءات القيادية التي تدير الشركات الحكومية، وأن يكون تقييم تلك الكفاءات بناء على معايير الأداء والجودة والتنافسية على المستويين المحلي والدولي.

عند قراءة تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية، وخاصة الملحوظات المتعلقة بشركتي تنمية نفط عُمان ومجموعة أوكيو، فـيما يخص فحص العمليات المالية، فإن الشركتين تمثلان نموذجا متميزا فـي القيادة وفـي التخطيط الاستراتيجي والأداء المؤسسي. وأيضا تدير عمليات تشغيلية تصل قيمتها لمليارات الدولارات، فإن واقع الحال بأن الملحوظات والمخالفات قد تكون واردة شأنها شأن الشركات العالمية العاملة فـي المجال نفسه. بيد أن بعضًا من تلك المخالفات، منها ما يتعلق بأخطاء فـي التوجيه المحاسبي للأصول المالية، وعدم التحكم فـي المخزون الاستراتيجي للمواد، وعدم وجود مستندات مؤيدة للصرف، وتخفـيض المبالغ المخصصة للمحتوى المحلي مع تقليل نسبة المبالغ المخصصة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. هذه الملحوظات من الممكن تفاديها فـي حال فاعلية العمليات التشغيلية مع التسارع فـي استخدام الأنظمة الإلكترونية وفـي ظل استخدام منهجية «لين» التي تم تدشينها بشركة تنمية نفط عُمان منذ عام «2016». تلك المنهجية من أهدافها الأساسية تقليل الضياع والهدر فـي العمليات للحصول على أعلى كفاءة إنتاجية مع تكاليف مالية أقل.

نختم القول بما ذكره منظمو جائزة نوبل فـي الاقتصاد لعام «2024»، والتي كانت عن دراسة تشكيل المؤسسات وتأثيرها على الازدهار، بأن «المجتمعات التي تقدم أداء ضعيفا فـيما يتعلق بسيادة القانون والمؤسسات وتستغل السكان لا تحقق أي نمو أو تغيير نحو الأفضل». عليه فإن تقرير جهاز الرقابة المالية للدولة لعام «2023» جاء شاملًا يعطي خارطة طريق مفاده بأن الجميع ينبغي أن يتقيد بمعايير الرقابة الداخلية وبتفعيل مبادئ الحوكمة حسب منطلقات «رؤية عُمان 2040» المتمثلة فـي تحقيق مبادئ العدالة والمحاسبة والمساءلة فـي جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية فـي ظل سيادة القانون على الجميع لتحقيق بيئة عمل منتجة بكفاءة عالية وبمعايير تنافسية.

• د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الوحدات الحکومیة الشرکات الحکومیة

إقرأ أيضاً:

الرقابة المالية تدشن أول مختبر تنظيمي لدعم الشركات الناشئة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أصدر مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية، القرار رقم 163 لسنة 2024، برئاسة الدكتور محمد فريد، بإنشاء وتشغيل مختبر تنظيمي للتطبيقات التكنولوجية يسمح لمزاولي الأنشطة المالية غير المصرفية باستخدام التكنولوجيا المالية وللجهات الراغبة في القيد والمقيدة بسجل التعهيد في مجالات التكنولوجيا المالية في الأنشطة المالية غير المصرفية لدى الهيئة، بإجراء اختبارات على تطبيقات التكنولوجيا المالية المبتكرة بما في ذلك نماذج الأعمال والآليات ذات العلاقة.

ويهدف المختبر التنظيمي إلى دعم وتسهيل دخول الشركات الناشئة ذات الحلول الذكية الرقمية إلى السوق، وتعزيز الفهم التنظيمي، للتكنولوجيا المالية وتحسين الممارسات التنظيمية دعما للنمو المالي المستدام والشامل، وتعزيز مستويات الابتكار في القطاع المالي غير المصرفي من خلال الاستمرار في جهود تهيئة البيئة التنظيمية المواتية والداعمة لتوفير حلول تمويلية واستثمارية وتأمينية للأفراد والشركات.

توسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات المالية غير المصرفية

قال الدكتور محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، إن المختبر التنظيمي سيعمل على تعزيز جهود الهيئة العامة للرقابة المالية، في دعم الشركات الناشئة التي تعمل على أساس تكنولوجي رقمي في تقديم خدمات مالية غير مصرفية، وهو ما يرفع بدوره مستويات الابتكار داخل القطاع المالي غير المصرفي، ومن شأنه أن يؤدي إلى توسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات المالية غير المصرفية، وتطوير قدرات وامكانيات الشركات المالية غير المصرفية ومقدمي الخدمات على أساس رقمي.

وأضاف، أن الهيئة تعمل على مواكبة التطور التكنولوجي غير المسبوق بما يحقق صالح المتعاملين، عبر ضمان وجود بيئة تفاعلية بين الشركات التي تقدم الحلول الذكية لصالح المؤسسات المالية غير المصرفية والمراكز البحثية والجامعات بالإضافة إلى حاضنات ومسرعات الأعمال والمستثمرين وشركات التكنولوجيا العالمية.  

وأوضح، أن المختبر التنظيمي للقطاع المالي غير المصرفي، سيساعد الهيئة أيضاً لتحقيق رؤيتها في دعم وتشجيع الابتكار في الخدمات المالية غير المصرفية، مع العمل على تحقيق استفادة المستهلكين من التقنيات الناشئة وكذلك الحفاظ على المعايير التنظيمية، على أن يساعد المختبر التنظيمي الشركات الناشئة على كسب ثقة المستثمرين وجذب رؤوس الأموال وذلك لخلق بيئة تفاعلية نحو النمو المستدام.

وذكر الدكتور فريد، أن المختبر التنظيمي التابع للهيئة العامة للرقابة المالية، سيعمل على دعم المبتكرين لفهم وتحسين الامتثال والممارسات التنظيمية، وكذلك دعم النمو المالي المستدام والشامل للقطاع المالي غير المصرفي، ولتوفير بيئة تجريبية آمنة للشركات الناشئة لاختبار منتجاتها وخدماتها تحت إشراف الهيئة.

ووجه رئيس الهيئة الدعوة للشركات الناشئة ورواد الأعمال في مجال الخدمات المالية غير المصرفية ذات الحلول الذكية والمبتكرة للاستفادة من المختبر التنظيمي في تطوير نماذج أعمالهم وزيادة كفاءة مشاريعهم.

يأتي ذلك اتساقا مع رؤية الهيئة العامة للرقابة المالية، لرقمنة المعاملات المالية غير المصرفية، وإتمام عملية التحول الرقمي داخل القطاع، تسريعا وتيسيرا للوصول والحصول على الخدمات المالية غير المصرفية، وتوسيع قاعدة المستفيدين منها.
كانت الهيئة انتهت من الإطار التنظيمي والتشريعي الخاص بالتحول الرقمي، حيث أصدرت في عام 2022 القانون رقم 5 لسنة 2022 لتنظيم استخدام التكنولوجيا المالية في الأنشطة المالية غير المصرفية وتبعه قرار رقم 58 لسنة 2022 بشأن الشروط والإجراءات المتطلبة للتأسيس والترخيص والموافقة للشركات والجهات الراغبة في مزاولة الأنشطة المالية غير المصرفية من خلال تقنيات التكنولوجيا المالية، إيماناً من الهيئة بأهمية التحول الرقمي في تحقيق مستهدفاتها.

وأصدرت الرقابة المالية، القرار رقم 139 لسنة 2023 بشأن التجهيزات والبنية التكنولوجية وأنظمة المعلومات ووسائل الحماية والتأمين اللازمة لاستخدام التكنولوجيا المالية لمزاولة الأنشطة المالية غير المصرفية، وكذا القرار رقم 140 لسنة 2023، بشأن الهوية الرقمية والعقود الرقمية والسجل الرقمي ومجالات استخدام التكنولوجيا المالية لمزاولة الأنشطة المالية غير المصرفية ومتطلبات الامتثال، وهو ما يعد أول قرار تنظيمي صادر عن جهات الرقابة على القطاعات المالية، والذي حدد تفصيلاً متطلبات التعرف الإلكتروني الرقمي على العملاء.

بالإضافة إلى القرار رقم 141 لسنة 2023، بشأن سجل التعهيد في مجالات التكنولوجيا المالية لمزاولة الأنشطة المالية غير المصرفية، وهي الشركات التي يجوز لها توفير خدمات التعرف على العملاء وسجلات العقود إلكترونياً، للشركات المالية العاملة في المجال، والذي سمح بإنشاء سجلات التعهيد، وقيد 4 شركات حتى الآن، وتستهدف عدة شركات أخرى الانتهاء من إجراءات القيد خلال الفترة المقبلة.

مقالات مشابهة

  • جلسة سرية بـ"الشورى" لمناقشة وزير المالية حول مشروع "ميزانية 2025"
  • غدا .. جلسة سرية لـالشورى لمناقشة الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2025
  • محافظ المركزي يعقد اجتماعاً مع لجنة الشؤون المالية بالمجلس الأعلى للدولة
  • الرقابة المالية تدشن أول مختبر تنظيمي بالقطاع المالي غير المصرفي
  • الرقابة المالية: تنفيذ صفقة بيع 350 شهادة خفض انبعاثات كربونية
  • الرقابة المالية: تنفيذ صفقة بيع 350 شهادة خفض انبعاثات كربونية |تفاصيل
  • «الرقابة المالية»: تنفيذ صفقة بيع 350 شهادة خفض انبعاثات كربونية
  • قرار عاجل من وزير العدل للعاملين في «الرقابة المالية» صفة الضبطية القضائية
  • «الرقابة المالية» تدشن أول مختبر تنظيمي بالقطاع المالي غير المصرفي
  • الرقابة المالية تدشن أول مختبر تنظيمي لدعم الشركات الناشئة