دارت الأيام .. والتقيت بصديقي بعد ستين عاماً .. فهل لكم أن تتخيلوا كيف كان اللقاء ؟
تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
في أول شبابي، استمعت لأغنية ( دارت الأيام) التي أبدعت في أدائها كوكب الشرق ام كلثوم، واجاد في تأليفها الشاعر الكبير مأمون الشناوي، وأكمل روعتها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، بلحن موجع، يتناغم مع وجع الكلمات وحنجرة السيدة المكتنزة بالحنين والأسى.
تلك الأغنية التي تفاعلت معها، رغم أني لم أكن أعاني من (بعاد وخصام).
وطبعاً لم يخطر في بالي وقتها، أن الأيام ستدور بي دورتها القاسية، وستمر على قلبي بكل ما فيها من لوعة و (بعاد وخصام)، وغربة، وشجن، وحنين يفجر الدمع في العيون..
سأحكي لكم اليوم قصتي مع صديق افترقت عنه عام ١٩٦٣ ، والتقيته عام ٢٠٢٤، دون أن نلتقي قط ستين عاماً.. نعم ستون عاماً كاملة لم أره في شارع من شوارع بغداد التي نسكنها معاً.. ولا في ملعب من ملاعبها، أو مطعم من مطاعمها، أو باراتها – اكتشفت أمس أنه لا يشرب- .. !
فمن يصدق أن صديقاً في هذه الدنيا، لم يرَ صديقه لمدة ستين عاماً؟!
إذن، إسمعوا الحكاية:
عندما انتقلنا من ناحية كميت في محافظة العمارة، وسكنا في صرائف راغبة خاتون خلف السدة الشرقية عام ١٩٦٠ .. كنت فتى صغيراً خجولاً، منطوياً على نفسي، لذلك لم أحظ بأصدقاء جدد كثيرين في سكننا الجديد، وأظن أن انكماشي هذا، وخجلي المفرط، وكذلك لهجتي الجنوبية الريفية، التي كانت تثير الضحك والسخرية لدى زملائي الطلبة من أبناء الأعظمية، لاسيما طلبة مدرستي : مدرسة الحارث الابتدائية، فقد كنت مثلاً ألفظ حرف الجيم ياءً، وبدلاً من كلمة دجاجة، كنت أقول: (ديايه)،وألفظ أيضاً العدد أربعين بلفظة مختلفة، إذ كنت ألفظها- بكسر الباء وليس بفتحه.. وغير ذلك من الألفاظ الجنوبية جداً .
وعدا لهجتي، كنت أشعر بالحرج من نظرات الطلبة وتعليقاتهم حول ملابسي الفقيرة والبائسة، لاسيما وأن أغلب زملائي الطلبة كانوا يرتدون اغلى وأثمن الملابس والموديلات ..
طبعاً أنا اتحدث هنا عن رفقائي في المدرسة، ولا اتحدث عن أقراني من أبناء الصرائف، الذين لم يكن فيهم إلا العدد القليل جداً الذي يواظب على الدراسة والتعليم، فقد كان أغلب ابناء صرائفنا لايذهبون إلى المدارس للأسف، إنما كانوا يساعدون آباءهم، او يعملون في أعمال بائسة رغم صغر سنهم، مثل (العمالة)، أو الحمالة، وبعضهم يشتغلون من اجل تعلم مهنة الحلاقة أو الحدادة او غيرها من المهن والأعمال المشابهة
لكن، ورغم هذا العذاب والمعاناة التي عشتها لاسيما في السنة الأولى من قدومنا إلى العاصمة بغداد، كان في المقابل فتيان رائعون من نفس عمري تقريباً، وفي المنطقة ذاتها أيضاً، حيث وقف هؤلاء معي بصدق ومودة، فقدموا لي كل ما أحتاجه من دعم واخوة وإسناد وثقة، حتى صرت واحداً منهم، فأدخلوني بيوتهم أو بالأحرى (قصورهم) المقفلة، وتعرفت على عوائلهم الكريمة، رغم الفوارق الطبقية التي كانت بيني وبين اغلبهم.. وكانوا وعوائلهم يعاملونني باحترام وتقدير عاليين .. ومن بين هؤلاء الأصدقاء الرائعين يأتي الأخوان محمد كاظم الرديني وشقيقه الراحل جواد، وصالح الساعدي وشقيقه الراحل علي، وكذلك علي الكردي وعبد الأمير عزاوي، وحمودي ابن المقاول، وحمودي مجبل، والعزيز حميد علي موسى (أبو نور) وغيرهم.
لقد كنا بحق ذلك الـ ( گروب) المنسجم والمتآخي والمحب لبعضه ولغيره من الزملاء.
وهنا أقسم بأني لم أكن- حتى هذه اللحظة- أعرف من كان فيهم الشيعي ومن فيهم السني، ومن المسيحي ومن المسلم، حتى ان صديقنا الذي كان يحمل اسم (علي الكردي) هو الذي اختار لقبه هذا، وأطلقه على نفسه، ولسنا نحن من أطلقه عليه ..!
في عام ١٩٦٣ وقبل انقلاب شباط الأسود بفترة قصيرة، منحنا الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم- قطع أراض في مدينة الثورة، لكننا لم ننتقل اليها.. وبعد (استشهاده)، أمرت الحكومة الجديدة بازالة الصرائف وتفريق سكانها بين مدن الثورة والشعلة ومناطق أخرى، وهكذا غادرنا مكرهين (بيوتنا) خلف السدة عام ١٩٦٤ .. لننتقل إلى مدينة الثورة ونستقر فيها دهراً..
لقد كان الوداع حزيناً ومبكياً، فها هم أصدقائي يأتون لتوديعي بالأحضان، والدموع، ولم يخطر في بالي وقتها، أن الغياب عن هؤلاء الأحبة سيكون طويلاً، بل طويلاً جداً سيستغرق عقوداً عديدة من السنين ..
ودارت الأيام، ولم يرَ أيٌّ منا اصحابه طيلة هذه السنين.. فقد ضاعت أخبارنا عن بعضنا، وتغرب بعضنا دون أن ندري، ومات البعض الآخر من هذه المجموعة دون أن نعلم، حتى ضحكت الأقدار لي شخصياً قبل أيام، بعد أن لعبت الصدفة لعبتها الحسنة، حين ذهب مدير ادارة ( جريدة الحقيقة) الزميل عباس غيلان إلى إحدى الدوائر الحكومية لاستلام أجور الإعلانات، وكان (التخويل ) مذيلاً باسمي وتوقيعي الشخصي… لكن الموظفة المسؤولة ابتسمت للزميل عباس وهي تقول: ( الأستاذ فالح حسون الدراجي صديق بابا، وسيفرح كثيراً لو يعرف بذلك ..)!
وهنا مسك (عباس) بهذا الخيط المهم، وقال لها: ومن هو أبوك رجاءً ؟
فقالت له: أنا نور ابنة حميد علي موسى ..
في الساعة ذاتها أخبرني عباس بما دار مع هذه الموظفة، وكأنه يعرف شوقي لرؤية ( حميد) !!
يا الهي .. ما هذا الخبر العظيم، أحقاً سأراك يا حميد بعد كل هذه السنين الطويلة.. حميد أيها الصديق العزيز، الذي كانت أمي رحمها الله تسألك حين تأتي من المدرسة وحدك، قائلة بلهجة ولهفة أم جنوبية: يمه حميد چا أخيك – بتشديد الياء -وينه ؟!
فتجيبها بذات الجواب : خاله، فالح مو وياي، هو بغير مدرسة ..!
وطبعاً، فقد أعطاني عباس رقم تلفون حميد، واتصلت به، وكان الاتصال ( رهيباً) بكل ما في الكلمة من معنى.. ثم اتفقنا على موعد اللقاء، واقترحت عليه احد المطاعم المعروفة، لكنه اقترح أن يكون اللقاء في نادي الصيد!
قلت له ضاحكاً: بعدك لهسه يا حميد برجوازي .. فضحك وقال: وانت بعدك لهسه على (حطتك) ماتغيرت ؟!
وهكذا وقف أخي حميد بعد ستين عاماً ينتظرني بقامته الفارعة عند باب نادي الصيد، ومعه زوج ابنته نور، المهندس حيدر – وللحق، فإن هذا الشاب أدهشني بتواضعه وأدبه الجمّ، واحترامه واخلاقه، وشخصيته الرائعة – ..!
وطبعاً لن أحكي لكم كيف كان لقائي بصديقي حميد، وكم استغرق هذا اللقاء من الوقت، وكيف كانت الكلمات تتسابق على لساني ولسانه ايضاً .. ونحن نتحدث في كل شيء وعن كل شيء وبلا تحديد ..وطبعاً لن أحكي لكم عن عمل حميد، وعن تغربه مثلي هو الاخر، ولا عن توجهاته الفكرية التي لم أطلع عليها- طبعاً لم تكن لدينا أفكار وتوجهات سياسية حين كنا صغاراً- كما لن أحدثكم عن معاناته وعذاباته، خاصة بعد وفاة شقيقيه خالد ومحمد، ورحيل زوجته أم نور .. ولن أحدثكم عن بقية الگروب، الذي يبدو أن حميد يعرف أخباره جيداً .. وطبعاً (ما راح) احكي لكم أيضاً عن كل ما قلناه في ذلك اللقاء، وما دار بيننا من حديث، إنما سأترك لكم التوقع، والتأويل والتصور لطبيعة ونوع لقاء بين صديقين بعد فراق دام ستين عاماً .. أكرر بعد ستين عاماً !!
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات ستین عاما
إقرأ أيضاً:
الدُّب … الذي بكته السماء !
مناظير الخميس 1 مايو، 2025
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.
* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.
* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.
* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.
* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.
* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.
* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.
* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.
* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.