جاء إعلان جوائز نوبل لهذا العام بمثابة المفاجئة والصدمة لبعض العلماء؛ فمنحت جوائز نوبل للفيزياء والكيمياء لمساهمات تتعلق بالذكاء الاصطناعي، وتعدّ هذه سابقة لم ترصد من قبل خصوصا أن بعض العلماء لا يرون تحقق الارتباط الكبير بين علوم الذكاء الاصطناعي وعلوم الفيزياء والكيمياء؛ فيعتبرون أن العلوم الأخيرة ذات طابع كلاسيكي ثابت تتناول عناصره العلمية الشأن النظري العام للظواهر المادية التي تشمل الكون والحياة وطبيعة الأشياء في الوجود، في حين يرى بعض العلماء أن الذكاء الاصطناعي وليد علوم الحاسوب التي تستمر في تطويراتها وبروز طفراتها الرقمية وأنه أقرب للطابع العملي دون النظري؛ ليكون الذكاء الاصطناعي آخر صيحات النمو الحاسوبي.

ولكن مع هذا الرأي؛ فلا يمكن أن ننكر التوافق الأصولي لنشأة الذكاء الاصطناعي عبر مبدأ التزاوج بين اللغة الرياضية والتأصيل الفيزيائي، وهذا ما يمكن أن نفسّر به نشأة علوم الحاسوب برمتها.

مع هذه الآراء وتفاوت مقاصدها، نجد أن هناك توجهًا جديدًا -وإن خالف المألوف وفقَ رأي بعض المختصين- يسعى إلى إبراز المظهر الحديث للعلم في عصرنا الرقمي؛ فجاء إعلان الأكاديمية الملكية السويدية بمنح جائزة نوبل في الفيزياء لكلٍ من «جيفري هينتون» و«جون هوبفيلد» تقديرا لجهودهم في تأسيس أركان الذكاء الاصطناعي بطابعه الحديث خصوصا في مجال التعلّم الآلي والعميق والشبكات العصبية، وجائزة نوبل في الكيمياء لـ«ديفيد بيكر» الذي نال نصف قيمة الجائزة لإسهاماته في ابتكار التصميم الحاسوبي للبروتين، والنصف الآخر للجائزة لكلٍ من «ديميس هاسابيس» و«جون جامبر» للمساهمة في تطوير تقنية التنبؤ بالبنى البروتينية عبر آلية الذكاء الاصطناعي.

مع تفاوت هذه الآراء المؤيدة والرافضة، نرى أن هذا التوجّه يدل على صعود أكبر للذكاء الاصطناعي في قطاعات حياتنا بما فيها تلك التي لم يستطع العلماء عبر وسائلهم العلمية التقليدية كشف أسرارها مثل القدرة على التنبؤ بشكل البروتين وبنيته المعقدة الذي كان تحقيقه يتطلب زمنا طويلا، ولكن بات من اليسير أن ينجزه الذكاء الاصطناعي بدقة عالية في زمن قياسي قصير، وهذا ما نراه في زوايا علمية أخرى استطاع الذكاء الاصطناعي تجاوز عقباتها وفهم أسرارها. نحن أمام حقبة جديدة لا تُعنى بتطوراتنا العلمية فحسب، بل تتجاوز الهدف لإعادة تشكيل حياتنا وفهمنا لها، ولهذا لعلّ الضوء سُلّط بشكل قوي -في جائزة نوبل- على الإنجاز الذي ساهم به الذكاء الاصطناعي في تفسير بنية البروتين، ولكن لا يعفي ذلك بروز ثورة علمية أكثر اتساعا بقيادة الذكاء الاصطناعي تقتحم ما هو أكثر دهشة من قضية البروتين؛ إذ نجد مثلا ثمّة تفاعلات كبيرة تحدث بين الذكاء الاصطناعي ونظامنا الجيني شديد التعقيد وتعديلاته المحتملة، وهذا ما سبق تناوله في مقال سابق. بشكل عام تبرز الأهمية المتزايدة لأنظمة الذكاء الاصطناعي في تشكيل المجتمع الإنساني الحديث بمضمونه العام والشامل؛ فلا يسلّط الاعتراف بتأثير الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الطب، وعلوم المناخ، والكيمياء الضوء فقط على الإمكانات التحويلية لهذه الخوارزميات الذكية، بل أيضا يحفّز الوسطَ العلمي على تبنٍ أعمق لأنظمة الذكاء الاصطناعي وتوسيع دورها في تشكيل مستقبلنا.

تتجاوز تأثيرات جائزة نوبل لعام 2024 صور الاحتفاء بهذه الإنجازات؛ فكما أشرنا؛ فهذا التفاعل الكبير مع الذكاء الاصطناعي بمنزلة الإعلان الرسمي على أهمية وجود الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي المستقبلي؛ فتتجه قدرة الذكاء الاصطناعي على تسريع وتيرة الاكتشافات نحو آفاقٍ جديدة عبر تخصصات متعددة، من الفيزياء الفلكية إلى العلوم البيولوجية الدقيقة؛ فيشير هذا الاعتراف إلى ضرورة التعاون بين المؤسسات العامة والشركات الخاصة لتطوير حلول تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمعالجة التحديات العالمية، وبالنسبة لقطاع الاستثمار في الاقتصاد الرقمي، تدفع جائزة نوبل الشركات التجارية إلى الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لتحقيق هدفين: الربح المالي، والمساهمة في حل القضايا الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والصحية. كذلك يأتي هذا القرار من لجنة نوبل بمثابة الرسالة القوية إلى المجتمع العلمي العالمي مفادها: الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل يعتبر قوة تحويلية يمكنها حل بعض مشكلات الإنسانية الأكثر تعقيدًا، ويشجّع هذا الاعتراف على زيادة الاستثمار في أبحاث الذكاء الاصطناعي ويحرّك الجيل القادم من العلماء لاستكشاف الإمكانات التي يحملها الذكاء الاصطناعي؛ فتبرز على مستوى أدوات البحث وإستراتيجياته مستجدات ضاعفت من جودة البحث العلمي وسرعته؛ فنأخذ أحد أبسط الأدوات الرقمية الخاصة بالبحث العلمي «NotebookLM» الذي جعلته شركة «جوجل» متاحا لجميع الباحثين بشكل مجاني؛ فبعد عدة تجارب مع هذه المنصة التي تعتمد الذكاء الاصطناعي؛ أيقنتُ بتحقق قفزة هائلة في أساليب البحث العلمي تستطيع أن تسرّع مسار البحث وترفع من جودته، وسنخصص مقالا مستقلا مستقبلا -بإذن الله- يتناول ماهية هذه الأداة وقدراتها العجيبة في البحث العلمي.

عروجا إلى محور مقالنا الرئيس، ومن زاوية أخرى، فإن إدراج الذكاء الاصطناعي في جائزة نوبل يثير تساؤلات أخلاقية واجتماعية مهمة؛ إذ إنه في حين أن هذه التقنية تقدّم فوائد كبيرة للمجتمعات الإنسانية؛ فإن ثمّة تحديات ومخاوف تصحب تصاعد طفراتها، لا سيما تلك التي تخص قضايا التحيّز ومضاعفة الفجوات الاجتماعية نتيجة فقدان الكثير من البشر للوظائف لصالح الذكاء الاصطناعي وأصحاب الأعمال، وتسارع وتيرة التنافس العسكري الذي يقود العالم إلى مزيد من الدمار، وفي ظل ما يمكن أن نقرأه من تداعيات جائزة نوبل لعام 2024 ودلالات اقترانها بالذكاء الاصطناعي ومساهماته؛ فنحن بحاجة إلى التذكّر بأن تنفيذ هذه التقنيات يجب أن يصاحبه أطر أخلاقية قوية تتمثل في حوكمة واضحة وصارمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأبحاثه، ومع تزايد تكامل أنظمة الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية وعمليات اتخاذ القرار، تصبح معالجة مثل هذه المخاوف أمرًا أكثر إلحاحًا.

لست في الجانب السلبي فيما يخص توجهات جائزة نوبل وتحوّل مسارها، بل أراها خطوة إيجابية تخرج المنظومة العلمية من عباءتها التقليدية؛ فتلبسها لباسًا مواكبًا لمستجدات عصرنا الرقمي، ولهذا فإن هذه الجوائز التي مُنحت لمساهمات الذكاء الاصطناعي وتطويراته ستقود المجتمع العالمي إلى بذل مزيد من الجهود العلمية -عبر تسخير مقدرات الذكاء الاصطناعي- الساعية لإيجاد حلول لمشكلات تواجه الإنسان، وستدفع المؤسسات العلمية والحكومات إلى تخصيص جوائز مشابهة للمساهمات العلمية التي تعتمد تفعيل الذكاء الاصطناعي.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی فی البحث العلمی جائزة نوبل

إقرأ أيضاً:

تحديثات Pixel الجديدة تتضمن حماية ضد السرقة مدعومة بالذكاء الاصطناعي

تطرح Google مجموعة من التحديثات لساعات Pixel والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. في كثير من الحالات، تحصل أسلافهم أيضًا على الميزات الجديدة، مثل Night Sight لـ Instagram - المتوفرة على جميع أجهزة Pixel 6 أو الأحدث، بما في ذلك هواتف سلسلة A.

 تتيح لك الأداة التقاط الصور مباشرة على Instagram دون القلق بشأن ظهورها مظلمة.

 قد يكون هذا مثاليًا إذا كنت من الأشخاص الذين يحبون التقاط الصور في الحفلات الموسيقية أو الحفلات دون القلق بشأن تشغيل فلاش ساطع.

 تتضمن التحديثات الأخرى المتوفرة لأجهزة Pixel 6 أو الأحدث التصوير الفلكي من خلال Night Sight وحماية السرقة.

الآن، أصبحت حماية السرقة متاحة عالميًا، وهي واحدة من أكثر التحديثات شمولاً وتنطبق بالفعل على جميع أجهزة Android 10 أو الأحدث (تم إصدار Android 15 اليوم) - وليس Pixel فقط. ثم في وقت لاحق من هذا العام، ستصدر Google ميزة Identity Check، وهي ميزة تتطلب مصادقة بيومترية للوصول إلى إجراءات مثل تغيير رقم التعريف الشخصي وتعطيل حماية السرقة.

 تتضمن الميزة الجديدة أدوات مثل قفل اكتشاف السرقة المدعوم بالذكاء الاصطناعي، والذي يستخدم التعلم الآلي على الجهاز للكشف عن المحاولات المحتملة لسرقة جهازك وسيقوم بقفله تلقائيًا إذا حدث ذلك.

 تتضمن الميزات الإضافية القفل عن بُعد، والذي يتيح لك إغلاق جهازك برقم هاتف تم التحقق منه فقط، وقفل الجهاز غير المتصل بالإنترنت. 

يمكنك مشاهدة نظرة عامة كاملة على حماية السرقة على صفحة YouTube الخاصة بنظام Android.

أصدرت Google أحدث تشكيلاتها في أغسطس: Pixel 9 وPixel 9 Pro XL وPixel 9 Pro وبعض أحدث ميزاتها حصرية لها. هذه هي الحال بالنسبة لامتداد Gemini للقطات الشاشة، وهي أداة تتيح لك "مرحبًا Google" طريقك إلى الصورة الدقيقة التي تبحث عنها. على سبيل المثال، يمكنك أن تقول، "مرحبًا Google، استخدم لقطات الشاشة للعرض للعثور على القميص الأحمر الذي حفظته". بالإضافة إلى ذلك، يمكنك الآن استخدام حافظة مقاومة للماء لالتقاط صور ومقاطع فيديو محسنة تحت البحر.

 أشارت Google في البداية إلى أن أجهزة Pixel A-series لن تتمكن من الوصول إلى ميزة Night Sight for Instagram. ومع ذلك، أكدت الشركة لاحقًا - عبر مراسل أندرويد ميشال رحمن - أن "ميزة Night Sight لـ Instagram متاحة على هواتف Pixel 6 والإصدارات الأحدث، بما في ذلك سلسلة A".

مقالات مشابهة

  • تحديثات Pixel الجديدة تتضمن حماية ضد السرقة مدعومة بالذكاء الاصطناعي
  • العريفي تحصد جائزة القادة الرياضيين لعام 2024 على مستوى العالم
  • 16 باحثا وباحثة عدد المتقدمين لحملة جائزة نوبل للكيمياء
  • «Core42» تُطلق خدمة الاستدلال بالذكاء الاصطناعي المدعومة من مُسَرِّعات «Qualcomm»
  • كيف نجا خبير مايكروسوفت من مكالمة احتيالية بالذكاء الاصطناعي؟
  • مشروع “عمارة وتوسعة مسجد قباء والمناطق المحيطة به” ينال جائزة أفضل مشروع إسلامي لعام 2024
  • شركة دي في كوم تكنولوجي تقدم حلولها المستقبلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي في معرض جيتكس العالمي 2024
  • YangoGPT: التقنية التي أُطلقت حديثًا لتشغيل مساعدة الذكاء الاصطناعي ياسمينة
  • بلومبرغ: أمريكا تدرس تقييد صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي لبعض الدول