لجريدة عمان:
2024-10-19@20:06:06 GMT

الحقوق التاريخية لا تضيع بالتقادم

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

أخذتنا الحرب المستعرة على فلسطين طوال عام كامل، ورحنا نتابعها بألم ومرارة، والخوف من المستقبل الذي ينتظر منطقتنا العربية، وكل يوم يتضاعف خوفنا على مستقبل أمتنا العربية البائسة التي أسلمت مقاليد أمورها لغيرها، وفي نهاية كل يوم عبر عام كامل رحت أحصي عدد الشهداء سواء في غزة أو الضفة الغربية، ثم بعد ذلك لبنان، وغداً سوف تكون العراق وسوريا ولا أعتقد أن ما أسماه عدونا (الشرق الأوسط الجديد) سوف يكون بعيداً عن المشهد الذي ينتظرنا مهما حاولنا أن نوهم أنفسنا بأن أوطاننا سوف تنجو مما يُخطط لها في المستقبل القريب أو البعيد، شاء قدرنا أن نشهد هذه المآسي كلها وقلوبنا تنفطر من هول الدماء والدمار لإخوة لنا يستشهدون كل يوم، بل كل ساعة، ولا يملك ذويهم حتى مجرد دفنهم بطريقة إنسانية.

حاولت الابتعاد قليلاً عن المشهد البائس لكي أستعيد روحي وعقلي، إلا أنني لم أستطع تجاوز هول المأساة، ورحت أتساءل: ماذا سيكتب المؤرخون من ذوي الضمائر الحية عن كل هذه المآسي؟ رغم أن العالم قد مر بأحداث مأساوية، سواء في الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية، وما أعقبهما من الصراع السوڤيتي الغربي، وقبل ذلك كله ما حدث من استعمار الدول الأوروبية لأكثر من سبعة وخمسين مليون ميل مربع، هي مساحة العالم المعمور.

في أقل من أربعمائة عام اجتاحت الدول الأوروبية العالم، لدرجة أن بريطانيا وحدها حتى الحرب العالمية الثانية كانت تسيطر على مساحة تزيد عن مساحتها ب١٤٢ مرة، وفرنسا ٢٢ مرة، وهولندا ٢٢ مرة، وبلچيكا ٥٢ مرة، وإيطاليا ١٩ مرة، والمفارقة العجيبة أن ما سيطر عليه الاستعمار في أربعة أو خمسة قرون أجهزت عليه حركات التحرير في عشرين عاماً ١٩٤٥-١٩٦٥، ورغم أن استعمار الأوروبيين للعالم حدث في عدة قرون لكن جاء التحرير في موجة واحدة كاسحة، وإذا كانت قمة الاستعمار خلال القرن التاسع عشر فقد جاء القرن العشرين ليحرر الأوطان من هيمنة المستعمر، وعلى ضوء التجارب التاريخية فإن الاستعمار الذي ظهر بطريقة غير شرعية إلا أن قواه قد تبددت خلال سنوات قليلة، وتهاوت قواه في عقود، حدث ذلك في آسيا خلال الأربعينيات، وفي العالم العربي خلال الخمسينيات، وفي أفريقيا خلال الستينيات، ولعل ما يعنينا هو العالم العربي الذي حصلت معظم دوله على استقلالها خلال الخمسينيات من القرن الماضي، ولو أن طلائع التحرير ظهرت مبكرا في لبنان وسوريا في الأربعينيات، وتأخرت في دول الخليج العربي والجزائر إلى بداية الستينيات، واليمن الجنوبي إلى نهاية الستينيات، وحصلت ليبيا على استقلالها ١٩٥١، كما تحررت مصر نهائيا بعد حرب عصابات ضارية في قناة السويس ١٩٥٢.

كانت جذور الاستعمار عميقة ومتغلغلة في عالمنا العربي، وخصوصاً في بلد كالجزائر واليمن الجنوبي، وزادت أطماعه عقب ظهور البترول، لذا إستمات الاستعمار بشراسة لكنه قوبل بحركات وطنية ضارية، من قبيل الجزائر الذي أخذ فيه الاستعمار طابعاً استيطانيا سكنياً، وهو ما ضاعف من شراسة الوطنيين الجزائريين الذين خاضوا حروباً ليس ضد المستعمر فقط وإنما ضد المستوطنين الذين زودتهم فرنسا بكل الأسلحة الحديثة، وحاول الاستعمار الفرنسي تقسيم الجزائر إلى دولتين، واحدة أوروبية على الساحل، وأخرى صحراوية في الداخل، لكن الشعب الجزائري خاض حربا ضارية لم يتحملها المستعمر إلى أن انتهى الأمر بتحرير الجزائر، وكان استقلال جنوب اليمن نموذجاً رائدا، فقد تشبث الإنجليز بالبقاء بغضل الموقع الجغرافي، وبعد أن فقدوا وجودهم على قناة السويس، لذا تشبث الإنجليز باحتلال جنوب اليمن، وجعلوه أكبر قاعدة بحرية في شرق السويس، لكن الأرض كما هي القاعدة قد حاربت مع أصحابها وتكررت تجربة الجزائر على نطاق ضيق، فلعبت جبال ردفان الدور الأهم في حرب العصابات، بينما لعبت الأحياء الشعبية في عدن نفس الدور الذي لعبته مدن الساحل الجزائري، وكما قاوم الجزائريون فكرة التقسيم، قاوم اليمنيون محاولة سيطرة بريطانيا على الجزر الساحلية من اليمن بهدف أن يتخذها المستعمر قواعد عسكرية لخدمة مصالحه في آسيا والمحيط الهندى.

خلال هذا العرض التاريخي لا يمكن أن تغيب فلسطين عن المشهد، وخصوصاً في مقاومة أهلها ودفاعهم عن وطنهم، وإذا كان العالم العربي قد تحرر من الاستعمار خلال عقدين من الزمن فان فلسطين بقيت منذ عام ١٩٤٨، يخوض أهلها حروبا متقطعة إلا أنها قد ازدادت خلال العام المنصرم، ولا ينبغي أن يخدعنا عامل الزمن ويُدخل القضية إلى عالم النسيان، فالزمن مجرد لحظة في التاريخ الإنساني، صحيح أن الاستعمار في فلسطين استعمار استيطاني يشبه كثيرا حالة الجزائر، إلا أن الدروس المستفادة من حالة الجزائر وعدن تُقدم لنا تجربة قابلة للتحقق على أرض الواقع ما بقي الشعب الفلسطيني يناضل بإمكاناته المتواضعة، فالشعور بالحق والإصرار على التمسك بالأرض يعد الوسيلة العملية لعودة الحقوق إلى أهلها، ولعل ما يراه المستعمر عامل قوة قد يتحول إلى عامل هدم، فالاحتكاك الحضاري الذي يصاحب المستعمر لا يلبث أن يُضيق الهوة الحضارية التي هي أساس تفوقه، وخصوصا في الجانب العسكري، وهكذا يؤدي منطق الاستعمار واستعلائه بقوته إلى استهلاك نفسه، ومهما حاولت إسرائيل أن تستخدم أسلحة جديدة فتاكة، لكن يبقى الإنسان صاحب الأرض بأسلحته التقليدية وبقائه على أرضه هو العامل الحاسم في كل الصراعات التي حدثت في العالم، الذي تحرر من ربقة الاستعمار.

صحيح أن موجة التحرر في العالم خلال القرن الماضي كان في مقدمة نجاحاتها هو ذاك الصراع المحتدم بين الاتحاد السوفييتي والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أما في قضيتنا العربية (فلسطين) فإن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يشكلان معا قوة واحدة ذات أهداف واضحة، لكن ما نلاحظه على أرض الواقع أن أمريكا في طريقها إلى أن تفقد قدرتها وسط محيط متلاطم من الكراهية وظهور تيار شعبي يعم العالم، مناصر للحق الفلسطيني، ومهما كانت تعقيدات المشهد إلا أن الفلسطينيين طالما بقوا على أرضهم متمسكين بحقهم يُستشهد المئات منهم كل يوم - فلن تتمكن إسرائيل من البقاء في حياة طبيعية إلا بعودة الحقوق إلى أصحابها والزمن لا يمثل عائقا، فسيذهب المتشددون في إسرائيل إلى مزبلة التاريخ، وسيظهر جيل جديد يتطلع إلى الحياة الآمنة، حتى ولو كان الثمن ن هو إقامة دولة فلسطينية حرك مستقلة على حدود ١٩٦٧.

د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلا أن کل یوم

إقرأ أيضاً:

السيد القائد: تضحيات الشعب الفلسطيني المظلوم ومجاهديه لن تضيع أبداً

السيد القائد: تضحيات الشعب الفلسطيني المظلوم ومجاهديه لن تضيع أبداً

مقالات مشابهة

  • فلسطين مفهوم القوة والوعي الشقي
  • نضال الليبيين ضد الاستعمار في روايتين
  • نائب رئيس جامعة الأزهر: العلم الذي دعا إليه الإسلام شمل كل مناحي الخير
  • الجزائر ترفض الابتزاز الذي يمارسه المغرب ضد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
  • السيد القائد: تضحيات الشعب الفلسطيني المظلوم ومجاهديه لن تضيع أبداً
  • نائب «عمال مصر»: قانون العمل الجديد يحدد ضوابط لإنهاء الخدمة ويحمي الحقوق
  • شهادة معتمدة من المهندسين والتنسيق الحضاري في ترميم المباني التاريخية
  • مونيكا وليم تكتب: اقتصاد حرب.. ما بين التحولات التاريخية والتحديات المعاصرة
  • شعبان الدلو.. الشاب الفلسطيني الذي شاهده العالم يموت حرقاً