لجريدة عمان:
2025-01-27@04:45:19 GMT

أحلم بمدينة تتكلم كلُها بالعربية

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

يفتتح عبد الفتاح كيليطو كتابه «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» بالإشارة إلى مقطعٍ يرد في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، متحدثا فيه عن لغة الإنسان الأول، آدم، في سياق وصفه للآخرة. ما يهمنا، هنا، هو تعليق كيليطو على ذلك المقطع «المثير» بقوله: «نعلم من خلاله أن آدم كان يتكلم اللغة العربية في الجنة، كما نقرأ أنه عندما هبط من الفردوس، نسي العربية فأخذ يتكلم السريانية.

وهكذا اقترن عنده تغيير المكان بفقدان لغةٍ واكتساب أخرى؛ ندرك أن نسيان اللغة الأصلية يعتبر عقابا. وبطبيعة الحال، بعد البعث والعودة إلى الجنة، سينسى آدم السريانية ويستعيد اللغة العربية». ويخلص الناقد المغربي للقول: إنه «لا تغيير للمكان من دون عقاب: فقد ينسى المرء لغته، وبعبارة أخرى، قد يصبح آخر».

نعم، إن قصة آدم مع العربية تشبه قصص كثير من العرب اليوم، ممن غادروا أماكنهم -طوعا أو كُرها- إلى بلاد أجنبية، فغادروا معها لغة المكان ليستوطنوا في لغات أجنبية. هكذا ينسى المهاجرون والمنفيون العرب، تدريجيا، لغتهم في بلاد الآخرين. وهكذا تتفاقم المسافة جيلا بعد جيل بين المرء والمكان الأصلي. وتلك إذن إحدى الضرائب الباهظة التي يدفعها ابن آدم لقاء تبديل المُقام.

نفهم من ذلك أيضا مدى اشتباك العلاقة بين لغة الإنسان ومكانه الموصوف «وطنا». فاللغة ليست مجرد عنصر من عناصر المكان أو صفة رسمية من صفات دولته المنصوص عليها في الدستور، كلا. لكنني أستطيع القول: إن اللغة شرطُ المكان، شرط حقيقي من شروط الانتماء الكامل إليه والاستيطان فيه. فلا يمكن أن تدخل المكان تماما وأن تبقى خارج لغته في الوقت نفسه، أو على هامشها. وكي أرصف المعنى في عبارة أدق سأقول إن «إتقان المكان» لا يكتمل إلا بإتقان لغته. (ولاستيضاح معناي من هذا التعبير، إتقان المكان، أتمنى من القارئ مراجعة مقال نشرتُه قبل مدة على هذه الزاوية من جريدة «عُمان»، بعنوان: « تبديل المكان: المُقام كأنه قيد»).

إلى جانب اغتراب السحنة والملامح وانقطاع اليد الغريبة عن أسباب رزقها وممتلكاتها، أثقلت على أبي الطيب المتنبي، شاعر العربية الكبير، غربته اللغوية في بلاد فارس. تصف لنا قصيدته في مديح عضد الدولة ما تنَّعمت به عينه من متنزهات شِعب بَوّان البديعة في طريقه إلى شيراز، إلا أن «الفتى العربي» ظل مع ذلك «غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان». لم تكتمل تلك الجنة البصرية للمتنبي؛ لأن ازدهار العين رافقه طمس لثلاثة أعضاء وجودية في غربتها عن مكانها الأليف، من بينها لسان الفتى البليغ. وكيف لشاعرٍ كالمتنبي ألا يكون كائنا لغويا بامتياز، يضطرب وجوده إذ يغترب خارج جغرافيا اللغة العربية!

اللغة بوصفها شرطا للمكان تعني أيضا أنها تمثل جانبا من مناعته وتمنعه على الغرباء القادمين من خارج لغته، أكانوا سُياحا أم مهاجرين، أو كانوا أعداء أجنبيين. إنها آخر غشاء خفي يقي خصوصية الهوية المحلية من الانتهاك السافر للفروقات والتمايزات بين البشر الذي تشنه العولمة المتوحشة على مختلف الصُعد، وما ينتج عنه من اقتلاع للجذور واقتطاع للأنساب ومحوٍ وإحلالٍ ثقافيين.

ولكن هل يحدث، في عصر ارتطام العوالم هذا والانكشاف الكلي المخيف، أن ينسى المكان -نفسه- لغته وأن يتغرَّب ويتغربل في لغة أجنبية بديلة؟ كيف أصبحت المدن العربية إذن مهددة بنسيان لغتها والتحول التدريجي والطوعي إلى ما يشبه المنفى المحلي في قلب إنسانها العربي الذي يرفض الهجرة معتصما بخيار الوطن لأسباب كثيرة، ربما يكون أحدها خوفه من ذلك العقاب الذي وصفه كيليطو؛ نسيان اللغة الأم؟

يمكننا أن نفهم الظاهرة الأولى التي ينسى فيها العربي لغته في بلاد من المهجر والمنفى. فدوامة العنف والحرائق وانهيار العواصم لم تتوقف عن طرد العرب من جغرافيا اللغة العربية لأكثر من قرن من الزمان. ويمكننا أن نعدد، منذ شعراء المهجر حتى اليوم، ما لا يُحصى من أسماءٍ بارزة في ثقافتنا العربية المعاصرة كتبت وتكتب بحبر غير عربي، ومن بينهم كيليطو نفسه. بل يمكننا أن نسلّم بأن نسيان اللغة «عقاب» طبيعي يتعرض له أي إنسان يغادر جغرافيا لغته ليندمج في مجتمع جديد يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهو عقاب لا يطال العرب وحدهم، فالبشر منذ أن تكلم الإنسان الأول ما زالوا يهاجرون ويغتربون وينسون لغاتهم ويستبدلونها. ولكننا لا نستطيع أن نستوعب نسيان المكان العربي للغته إلا كانقلابٍ قاسٍ ومخيف على سكانه الأصليين. ففي حين تمسَّك بعض العرب بمدينته رافضا إغراءات المنفى، وجد مدينته تستبدل لغته وتنقلب عليه بلغة جديدة وتتحول إلى منفى محلي.

إن نظرة عابرة على لوحات المحال وأسماء العلامات التجارية في شوارع مدينة عربية تكفي لتصيب العربي بالشك في موقعه من الزمان والمكان. فالحروف اللاتينية التي تغزو معالم المكان وملامحه ليست إلا بداية الإصابة بالمنفى والإحساس بالاغتراب عن المكان في قلب المكان، ليكتمل المنفى المحلي بطغيان اللغة الإنجليزية على لغة التعليم والتجارة والأعمال والفن ومختلف مجالات الحياة. مهنٌ كاملة تمت مصادرتها من اللغة العربية. أما كلام الناس في الأسواق والمقاهي والمؤتمرات، في البيت والمدرسة والوظيفة، فضرب من الكلام الهجين الذي لا تميز فيه جملة عربية من جملة إنجليزية. ويصبح هذا النوع من الكلام مدعاة للاستفزاز حين يصدر في الإعلام من شخصية تحمل الصفة الرسمية.

هي حالة من حالات التشوه الكثيرة التي تتفشى في حياتنا الثقافية والسياسية، لكنها لا تمنعك من الضحك الباكي على جملة تسمعها لم يبق فيها من العربية إلا أسماء الأشخاص أو حروف الجر أحيانا. بوسعك أن تفهمها عَرَضا طبيعيا لا يهدد هويتك، ويحق لي أن أراها كما يراها المدافعون التقليديون عن اللغة العربية: غزوا أجنبيا ناعما وبأدواتٍ وموارد محلية.

ولا تغيب عن بالي معاناة شريحة كبيرة في المجتمع ممن لم تحالفهم الفرص لتعلم اللغة الإنجليزية. أليس من حقهم أن يطلبوا القهوة بكلمات عربية في مقهى ما في شاطئ القرم؟ أليس من حق كبار السن أن يشرحوا علتهم الصحية بكلمات عربية للطبيب في مستشفى من مستشفيات البلاد؟ أليس من حقي وحق الأجيال العربية القادمة أن يحلموا بدراسة الهندسة والطب والعلوم في جامعات بلادي وبلاد العرب باللغة التي درس وألف بها أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في بغداد القرن الثالث الهجري؟

في صلب مهمتي الشعرية إصرار «سياسي»، أجل أستطيع أن أقول ذلك، إصرار سياسي لتذكير العرب بأن لغة قصيدتي لغة حياة، علما وعملا، وليست مجرد لغة للشعر، أو لغة مقدسة محفوظة في الكتاب، حالها كما كانت اللغة العبرية يوما ما لغة صلاة وعبادة لا غير. وبوسعي أن أحلم في قصيدتي بمدينة تتكلم كلها بالعربية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللغة العربیة

إقرأ أيضاً:

عاجل- القضاء الإداري يلغي قرار إضافة مادتي اللغة العربية والتاريخ

 أصدرت محكمة القضاء الإداري قرارًا بإلغاء قرار وزير التربية والتعليم بشأن إضافة مادتي اللغة العربية والتاريخ إلى المجموع الكلي لطلاب الشهادات الدولية، مثل الدبلومة الأمريكية والشهادة البريطانية (IGCSE). وجاء هذا القرار بعد مطالبات من أولياء الأمور ومحامي الطلاب الذين رأوا أن هذا التعديل يضر بمسار التعليم الدولي الذي يتميز بمعايير ومناهج خاصة تختلف عن النظام المحلي.

 

القرار القضائي: إلغاء إضافة مادتي اللغة العربية والتاريخ

أعلن عمرو عبدالسلام، محامي طلاب الشهادات البريطانية المتضررين من هذا القرار، أن محكمة القضاء الإداري أصدرت حكمًا بإلغاء قرار وزير التربية والتعليم الخاص بإضافة درجات مادتي اللغة العربية والتاريخ إلى المجموع الكلي لطلاب الشهادات الدولية ويشمل الحكم طلاب الشهادات الدولية مثل الدبلومة الأمريكية والشهادة البريطانية واستند القرار القضائي إلى كون النظام الدولي له معاييره المستقلة التي يجب احترامها وعدم دمجها بمعايير النظام المحلي.

 

 

مقالات مشابهة

  • عاجل- القضاء الإداري يلغي قرار إضافة مادتي اللغة العربية والتاريخ
  • مجمع اللغة العربية عن تعريب علوم الطب: الأمر ليس قفزة في الظلام
  • “موارد الترجمة الآلية بين اللغة العربية والإنجليزية” جديد مركز جامعة مصر للنشر
  • جامعة الدول العربية تدين استهداف المستشفى السعودي بمدينة الفاشر وحرق مصفاة نفط في الخرطوم
  • معرض الكتاب يستضيف نقاشًا حول تأثير اللغة العربية في مفردات الإيطالية
  • موارد الترجمة الآلية بين اللغة العربية والإنجليزية في معرض الكتاب 2025
  • معرض القاهرة للكتاب يناقش الأدب اليوناني وترجمته إلى العربية
  • أثر اللغة العربية على الثقافة الأفريقية فى نقاشات معرض القاهرة للكتاب 2025
  • ندوة بـ معرض الكتاب تناقش أثر اللغة العربية على الثقافة الأفريقية (صور)
  • معرض القاهرة للكتاب يناقش أثر اللغة العربية على الثقافة الأفريقية