لجريدة عمان:
2024-10-19@20:00:48 GMT

أحلم بمدينة تتكلم كلُها بالعربية

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

يفتتح عبد الفتاح كيليطو كتابه «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» بالإشارة إلى مقطعٍ يرد في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، متحدثا فيه عن لغة الإنسان الأول، آدم، في سياق وصفه للآخرة. ما يهمنا، هنا، هو تعليق كيليطو على ذلك المقطع «المثير» بقوله: «نعلم من خلاله أن آدم كان يتكلم اللغة العربية في الجنة، كما نقرأ أنه عندما هبط من الفردوس، نسي العربية فأخذ يتكلم السريانية.

وهكذا اقترن عنده تغيير المكان بفقدان لغةٍ واكتساب أخرى؛ ندرك أن نسيان اللغة الأصلية يعتبر عقابا. وبطبيعة الحال، بعد البعث والعودة إلى الجنة، سينسى آدم السريانية ويستعيد اللغة العربية». ويخلص الناقد المغربي للقول: إنه «لا تغيير للمكان من دون عقاب: فقد ينسى المرء لغته، وبعبارة أخرى، قد يصبح آخر».

نعم، إن قصة آدم مع العربية تشبه قصص كثير من العرب اليوم، ممن غادروا أماكنهم -طوعا أو كُرها- إلى بلاد أجنبية، فغادروا معها لغة المكان ليستوطنوا في لغات أجنبية. هكذا ينسى المهاجرون والمنفيون العرب، تدريجيا، لغتهم في بلاد الآخرين. وهكذا تتفاقم المسافة جيلا بعد جيل بين المرء والمكان الأصلي. وتلك إذن إحدى الضرائب الباهظة التي يدفعها ابن آدم لقاء تبديل المُقام.

نفهم من ذلك أيضا مدى اشتباك العلاقة بين لغة الإنسان ومكانه الموصوف «وطنا». فاللغة ليست مجرد عنصر من عناصر المكان أو صفة رسمية من صفات دولته المنصوص عليها في الدستور، كلا. لكنني أستطيع القول: إن اللغة شرطُ المكان، شرط حقيقي من شروط الانتماء الكامل إليه والاستيطان فيه. فلا يمكن أن تدخل المكان تماما وأن تبقى خارج لغته في الوقت نفسه، أو على هامشها. وكي أرصف المعنى في عبارة أدق سأقول إن «إتقان المكان» لا يكتمل إلا بإتقان لغته. (ولاستيضاح معناي من هذا التعبير، إتقان المكان، أتمنى من القارئ مراجعة مقال نشرتُه قبل مدة على هذه الزاوية من جريدة «عُمان»، بعنوان: « تبديل المكان: المُقام كأنه قيد»).

إلى جانب اغتراب السحنة والملامح وانقطاع اليد الغريبة عن أسباب رزقها وممتلكاتها، أثقلت على أبي الطيب المتنبي، شاعر العربية الكبير، غربته اللغوية في بلاد فارس. تصف لنا قصيدته في مديح عضد الدولة ما تنَّعمت به عينه من متنزهات شِعب بَوّان البديعة في طريقه إلى شيراز، إلا أن «الفتى العربي» ظل مع ذلك «غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان». لم تكتمل تلك الجنة البصرية للمتنبي؛ لأن ازدهار العين رافقه طمس لثلاثة أعضاء وجودية في غربتها عن مكانها الأليف، من بينها لسان الفتى البليغ. وكيف لشاعرٍ كالمتنبي ألا يكون كائنا لغويا بامتياز، يضطرب وجوده إذ يغترب خارج جغرافيا اللغة العربية!

اللغة بوصفها شرطا للمكان تعني أيضا أنها تمثل جانبا من مناعته وتمنعه على الغرباء القادمين من خارج لغته، أكانوا سُياحا أم مهاجرين، أو كانوا أعداء أجنبيين. إنها آخر غشاء خفي يقي خصوصية الهوية المحلية من الانتهاك السافر للفروقات والتمايزات بين البشر الذي تشنه العولمة المتوحشة على مختلف الصُعد، وما ينتج عنه من اقتلاع للجذور واقتطاع للأنساب ومحوٍ وإحلالٍ ثقافيين.

ولكن هل يحدث، في عصر ارتطام العوالم هذا والانكشاف الكلي المخيف، أن ينسى المكان -نفسه- لغته وأن يتغرَّب ويتغربل في لغة أجنبية بديلة؟ كيف أصبحت المدن العربية إذن مهددة بنسيان لغتها والتحول التدريجي والطوعي إلى ما يشبه المنفى المحلي في قلب إنسانها العربي الذي يرفض الهجرة معتصما بخيار الوطن لأسباب كثيرة، ربما يكون أحدها خوفه من ذلك العقاب الذي وصفه كيليطو؛ نسيان اللغة الأم؟

يمكننا أن نفهم الظاهرة الأولى التي ينسى فيها العربي لغته في بلاد من المهجر والمنفى. فدوامة العنف والحرائق وانهيار العواصم لم تتوقف عن طرد العرب من جغرافيا اللغة العربية لأكثر من قرن من الزمان. ويمكننا أن نعدد، منذ شعراء المهجر حتى اليوم، ما لا يُحصى من أسماءٍ بارزة في ثقافتنا العربية المعاصرة كتبت وتكتب بحبر غير عربي، ومن بينهم كيليطو نفسه. بل يمكننا أن نسلّم بأن نسيان اللغة «عقاب» طبيعي يتعرض له أي إنسان يغادر جغرافيا لغته ليندمج في مجتمع جديد يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهو عقاب لا يطال العرب وحدهم، فالبشر منذ أن تكلم الإنسان الأول ما زالوا يهاجرون ويغتربون وينسون لغاتهم ويستبدلونها. ولكننا لا نستطيع أن نستوعب نسيان المكان العربي للغته إلا كانقلابٍ قاسٍ ومخيف على سكانه الأصليين. ففي حين تمسَّك بعض العرب بمدينته رافضا إغراءات المنفى، وجد مدينته تستبدل لغته وتنقلب عليه بلغة جديدة وتتحول إلى منفى محلي.

إن نظرة عابرة على لوحات المحال وأسماء العلامات التجارية في شوارع مدينة عربية تكفي لتصيب العربي بالشك في موقعه من الزمان والمكان. فالحروف اللاتينية التي تغزو معالم المكان وملامحه ليست إلا بداية الإصابة بالمنفى والإحساس بالاغتراب عن المكان في قلب المكان، ليكتمل المنفى المحلي بطغيان اللغة الإنجليزية على لغة التعليم والتجارة والأعمال والفن ومختلف مجالات الحياة. مهنٌ كاملة تمت مصادرتها من اللغة العربية. أما كلام الناس في الأسواق والمقاهي والمؤتمرات، في البيت والمدرسة والوظيفة، فضرب من الكلام الهجين الذي لا تميز فيه جملة عربية من جملة إنجليزية. ويصبح هذا النوع من الكلام مدعاة للاستفزاز حين يصدر في الإعلام من شخصية تحمل الصفة الرسمية.

هي حالة من حالات التشوه الكثيرة التي تتفشى في حياتنا الثقافية والسياسية، لكنها لا تمنعك من الضحك الباكي على جملة تسمعها لم يبق فيها من العربية إلا أسماء الأشخاص أو حروف الجر أحيانا. بوسعك أن تفهمها عَرَضا طبيعيا لا يهدد هويتك، ويحق لي أن أراها كما يراها المدافعون التقليديون عن اللغة العربية: غزوا أجنبيا ناعما وبأدواتٍ وموارد محلية.

ولا تغيب عن بالي معاناة شريحة كبيرة في المجتمع ممن لم تحالفهم الفرص لتعلم اللغة الإنجليزية. أليس من حقهم أن يطلبوا القهوة بكلمات عربية في مقهى ما في شاطئ القرم؟ أليس من حق كبار السن أن يشرحوا علتهم الصحية بكلمات عربية للطبيب في مستشفى من مستشفيات البلاد؟ أليس من حقي وحق الأجيال العربية القادمة أن يحلموا بدراسة الهندسة والطب والعلوم في جامعات بلادي وبلاد العرب باللغة التي درس وألف بها أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في بغداد القرن الثالث الهجري؟

في صلب مهمتي الشعرية إصرار «سياسي»، أجل أستطيع أن أقول ذلك، إصرار سياسي لتذكير العرب بأن لغة قصيدتي لغة حياة، علما وعملا، وليست مجرد لغة للشعر، أو لغة مقدسة محفوظة في الكتاب، حالها كما كانت اللغة العبرية يوما ما لغة صلاة وعبادة لا غير. وبوسعي أن أحلم في قصيدتي بمدينة تتكلم كلها بالعربية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللغة العربیة

إقرأ أيضاً:

أبو سنة: يجب توحيد الجهود العربية من أجل حماية البيئة

ترأس الدكتور علي أبو سنة، الرئيس التنفيذى لجهاز شؤون البيئة، نيابة عن الدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة البيئة، اجتماع المكتب التنفيذي (60) لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة.

جاء ذلك بحضور وفد المملكة العربية السعودية، ووفد سلطنة عمان رئيس الدورة الـ34 لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة نائب رئيس المكتب التنفيذي والدكتور محمود فتح الله مدير إدارة البيئة والأرصاد الجوية بجامعة الدول العربية، وأعضاء المكتب التنفيذي من خبراء البيئة بالدول العربية الشقيقة والمنظمات الدولية والإقليمية ، ويأتي الاجتماع ضمن فعاليات الدورة 35 لمجلس وزراء البيئة العرب، والمنعقدة بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية.

الاجتماع التحضيري للجنة المشتركة للبيئة والتنمية

وخلال كلمته، أعرب الدكتور علي أبو سنة عن امتنانه وتقديره للمملكة العربية السعودية حكومة وشعبا لحفاوة الاستقبال وحسن الضيافة، كما تقدم بالشكر والتقدير للخبراء على الاجتماع التحضيري للجنة المشتركة للبيئة والتنمية بالوطن العربي لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة في اجتماعها الخامس والعشرين، من أجل إثراء المناقشات وإبداء الملاحظات والمقترحات على جدول الأعمال، مثمنا الجهد المبذول لتحسين البيئة في وطننا العربي من أجل تحقيق تنمية مستدامة حقيقية، مؤكدا على تنفيذ العديد من القرارات والأنشطة والبنود خلال الدورة الـ34 مع الاستمرار في متابعة القرارات والموضوعات الأخرى.  

الذكرى الثلاثين لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر

كما أشار أبو سنة إلى أهمية المشاركة في الذكرى الثلاثين لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، مؤكدا على دعم جمهورية مصر العربية لجهود المملكة العربية السعودية لاستضافتها الدورة السادسة عشرة لمؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر في العاصمة السعودية، الرياض، خلال الفترة من 2 - 13 ديسمبر من العام الحالي، كما توجِّه مصر الدعوة للدول العربية الشقيقة وكل المنظمات الدولية للمشاركة لإنجاح هذه الدورة ومخرجاتها.

واستكمل الرئيس التنفيذي لجهاز شؤون البيئة، مؤكدا على ضرورة تنسيق الأمانة الفنية مع برنامج الأمم المتحدة في وضع آلية تمكن من تحمل مشاركة جميع الدول العربية والأفريقية والأسيوية في الفعاليات التي يتم تنظيمها بشكل مشترك، متوجها بالشكر إلى الأمانة العامة لإدارة البيئة والأرصاد الجوية، ومنظمتي الإسكوا (ESCWA) واليونيب (UNEP) على العمل جنبا إلى جنب للأعداد والتنظيم الجيد للمنتدى العربي للبيئة الثالث والذي تم عقدة بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، والموضوعات المهمة التي تم عرضها في الجلسات والمناقشات والتفاعل بين كل الأطراف المعنية والمشاركة حضورياً وافتراضياً والرسائل التي توافقت مع ما تم عرضه في الجلسات وما هو مطلوب على الساحة العربية، حيث تناغمت أهدافه ومعطياته مع ما هو إقليمي وعالمي.      

واختتم الدكتور علي أبو سنة كلمته بالتأكيد على بذل الجهود والاستمرار في العمل لتنفيذ كل التوصيات والنتائج مع الشركاء على المستوى الدولي والإقليمي والوطني من أجل إنجاز وتنفيذ هذه التوصيات لتحقيق التنمية المستدامة للمجتمع الدولي عامة ولأمتنا العربية خاصة، معربا عن أمله في أن نكون في مقدمة الصفوف، وتوحيد الجهود من أجل الحفاظ على بيئتنا العربية.

جدير بالذكر أن مصر قد فازت بمنصب رئيس المكتب التنفيذي لمجلس وزراء البيئة العرب للفترة 2024-2025، للعام الثاني على التوالي، ما يعكس ثقة الدول العربية في دور مصر القيادي والريادي في مجال البيئة.

مقالات مشابهة

  • الاختبار التقييمي: %68 متوسط أداء الصف الـ3 بالعربية و%69 بالرياضيات
  • القيب يُخصص 40 مقعدًا للدراسات العليا في ليبيا لصالح غامبيا بمجالات العربية والدراسات الإسلامية
  • «أبوظبي للغة العربية» يستعرض الحلول الرقمية في قطاع النشر في «جيتكس جلوبال 2024»
  • مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يشارك بمؤتمر الإطار الأوروبي المرجعي للغات بإسبانيا
  • مشاريع "أبوظبي للغة العربية" في "جيتكس" ترسخ مواكبته التطورات التكنولوجية
  • سلطان يشهد إطلاق «جي بي تي» المعجم التاريخي للغة العربية
  • أبو سنة: يجب توحيد الجهود العربية من أجل حماية البيئة
  • حاكم الشارقة يشهد إطلاق مشروع جي بي تي المعجم التاريخي للغة العربية
  • الجامعة العربية تنظم اجتماعا للاحتفال بمدينة الكويت عاصمة للإعلام العربي