لجريدة عمان:
2024-10-19@19:13:48 GMT

نضال الليبيين ضد الاستعمار في روايتين

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

تحدثتُ فـي مقال الأسبوع الماضي عن وجوب الإشارة إلى الرواية التخييلية عند توظيف فكرتها الفريدة أو الاستفادة منها، وضربتُ مثالًا بإشارة ماركيز فـي مقدمة روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات» إلى رواية «الجميلات النائمات» للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا، وفـي المقابل رأيتُ عدم وجوب ذلك تجاه الرواية المقتبِسة أحداثَها من التاريخ، ووعدتُ أن أتحدث فـي مقال اليوم عن روايتَيْن عربيّتيْن صدرتا فـي السنوات الأخيرة وتناولتا موضوعًا تاريخيًّا واحدًا، لكن إحداهما اتُّهِمتْ بتدوير فكرة الرواية الأخرى، متجاهِلًا -مَن اتهمها بذلك- أن الروايتَيْن اعتمدتا المصادر التاريخية نفسها.

وفـي تفاصيل الحكاية، فإن الروائي الليبي صالح السنوسي كتب على صفحته فـي فـيسبوك قبل نحو عام ونصف أن قراءً تواصلوا معه يخبرونه أن فـي رواية «صندوق الرمل» للروائية (الليبية أيضا) عائشة إبراهيم تقليدا وتدويرا لفكرة رواية السنوسي «الهروب من جزيرة أوستيكا». كلتا الروايتين تستلهم التاريخ الليبي الحديث، فـ«الهروب من جزيرة أوستيكا» تسلط الضوء على فترة نضال الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي وترحيل المجاهدين الليبيين إلى جزيرة أوستيكا، من خلال قصة سالم البراني، مدرس ليبي من مدينة درنة، يقع فـي حب فتاة إيطالية تُدعى لورينزا، تعمل فـي سجن الجزيرة. رغم قسوة السجن وصرامة الحراس، تنشأ علاقة حب سرية بينهما، ما يخلق توازنًا بين قسوة الحياة فـي السجن وأمل الحب والحرية. تتوازى هذه القصة مع تعاطف السجناء الليبيين مع السجناء السياسيين الإيطاليين المعارِضين للفاشية، ما يكسر القالب النمطي للمحتلّ، ويُظهِر أن الفاشية ليست عدوّة الليبيين فقط، بل هي أيضًا عدوّة الشعب الإيطالي. تنتهي الرواية بمحاولة فاشلة لهروب سالم ولورينزا، حيث يُقتل سالم برصاص قناص، إلا أن أمل الحرية يستمر مع نجاة لورينزا وحملها بطفلِ سالم، ما يعكس استمرارية النضال ضد الظلم والحلم بمستقبل أفضل.

أما رواية «صندوق الرمل» للكاتبة عائشة إبراهيم فتدور حول ساندرو كومباريتي، صحفـي إيطالي شاب يُجَنَّد فـي الحملة الإيطالية على ليبيا عام 1911. وبالرغم من قناعاته بالسلام وحبه للموسيقى والحرية، يجد ساندرو نفسه جزءًا من آلة الحرب التي سحقت أحلامه. خلال وجوده فـي طرابلس، يقع فـي حب بائعة حليب ليبية اسمها حليمة، ولكن سرعان ما تنقلب الأمور عندما يتسبب، من خلال مشاركته فـي الحرب، بمقتل عائلتها. الرواية تستعرض بشاعة الحرب من منظور الجنود المستعمِرين، وهذه أيضًا زاوية تناول غير نمطية، وتُبرِز التناقضات التي يعيشها هؤلاء الجنود بين الشعارات الحماسية والحقيقة المريرة فـي الميدان. يحاول ساندرو التكفـير عن خطاياه عبر البحث عن محبوبته وإيصال صوتها ومعاناتها للعالم. إنها رواية تسلط الضوء على معاناة النساء الليبيات فـي السجون الإيطالية بأسلوب سردي مميز يمزج بين الحقائق التاريخية والأبعاد الإنسانية.

أعود إلى منشور صالح السنوسي الذي يبدو منه أنه لم يقرأ رواية عائشة إبراهيم، إذْ يكتب: «إذا كانت الروائية قد أشارت فـي مقدمة روايتها إلى هذا التأثير فهذا أمر مقبول مهما كان حجم التدوير لأنه سبق للروائي الأوروجوياني كارلوس ليسكانو أن كتب فـي مقدمة روايته «ذكريات الحرب الأخيرة» أنه قرأ رواية الروائي الإيطاليّ دينو بوتزاتي «صحراء التتار» عندما كان فـي السجن، وأنه مدين له بذلك، أما إذا صح ما تقولونه ولم تُشِر الروائية إلى ذلك فإننا نكون أمام تدوير للفكرة وإنكار ذلك فـي الوقت نفسه»، منهِيًا منشوره بالإشارة إلى أن روايته صدرت عام 2018، فـي حين صدرت «صندوق الرمل» عام 2022، داعيًا النقاد -خصوصا الليبيين منهم- أن يقرأوا «صندوق الرمل» ويصدروا حُكْما موضوعيًّا.

استجابت الناقدة الليبية أحلام العيدودي لدعوة السنوسي ونشرت مقالًا بعنوان «صندوق الرمل.. والهروب من جزيرة أوستيكا.. بين المحاكاة وإعادة تدوير الفكرة» ناقشت فـيه التشابه بين الروايتين مستعرِضةً أمثلة مقارِنة بين الروايتين لتوضيح أوجه التشابه، مثل تصوير نفـي الشخصيات إلى المنفى فـي جزيرة أوستيكا وأساليب السجن والظروف القاسية التي تعرضوا لها، ويبدو أنها خَلُصتْ فـي نهاية مقالها إلا أن الرواية المتأخرة أعادت تدوير المتقدمة، ورغم أنها ترى أن إعادة تدوير الأفكار ظاهرة أدبية مشروعة، لكنها أكدت فـي الوقتِ نفسه أهمية أن يُشارَ إلى التأثر بشكل صريح، متخذة من روايتَيْ ليسكانو وبوتزاتي اللتين استشهد بهما السنوسي مثالًا!

وفـي تصوُّري أن اشتراط كلٍّ من السنوسي والعيدودي إشارةَ «صندوق الرمل» إلى الرواية التي سبقتْها هو اشتراط فـي غير محلّه، فنحن هنا إزاء عمَلَين يمتحان من التاريخ نفسه، وما رصدته أحلام من نقاط تشابه بين الروايتين، وهي باختصار: اقتياد المعتقلين إلى مركب فـي البحر، والسير بهم إلى مكان مظلم يُفضي إلى قاع مجهول، ونزع ملابسهم وتركهم عرايا رجالًا ونساءً، ووجود مترجِم لهم إلى العربية، ومحاولات بعضهم الهروب من سجن الجزيرة، كل هذه التفاصيل التي اشتركت الروايتان فـي إيرادها ضمن نسيج الحكاية، وردتْ أيضًا فـي وثائق ليبية وثقت مأساة هؤلاء المساجين، أذكر منها كتاب «المنفـيون الليبيون إلى سجون الجزر الإيطالية: وثائق أرقام، أسماء صور» الصادر عن مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية عام 1991، و«موسوعة روايات الجهاد: جزء خاص بالمنفـيين» الصادرة عام 1988م. إن الاعتماد على المصدر التاريخي نفسه هنا لا يُعدّ انتحالًا أو تدويرًا للفكرة، حتى لو تشابهت التفاصيل. ما يحدد الانتحال هو أخذ الأسلوب الأدبي أو الإضافات الخيالية أو المعالجة المتميزة التي أضافها الكاتب الأول. لذلك، المهم هو كيفـية استخدام المصدر التاريخي وليس التشابه فـي المعلومات المستنِدة إلى هذا المصدر.

أما استشهاد كلّ من السنوسي والعيدودي بأن الأوروجوياني كارلوس ليسكانو أشار فـي مقدمة روايته «ذكريات الحرب الأخيرة» إلى تأثره برواية الإيطالي دينو بوتزاتي فهو أيضًا فـي غير محله، فـ«صحراء التتار» رواية تخييلية، ولا علاقة لها بالتاريخ، لذا فإن المتأثر بها -وهو هنا ليسكانو- كان عليه أن يُشير إليها بالفعل، لأنها ألهمته فـي سرد تجربة الانتظار والعبث، التي عايشها خلال سنوات اعتقاله فـي سجون المجلس العسكري فـي أوروجواي. وجد ليسكانو فـي «صحراء التتار» انعكاسًا لحالته، فكما انتظر الجندي دروغو غزوًا من التتار لم يحدث، عاش هو فـي انتظار حربٍ لم تبدأ. بوتزاتي، الذي كان كتابه موجودًا فـي مكتبة السجن، أصبح رفـيقًا روحيًّا لليسكانو، ما دفعه لكتابة روايته تكريمًا لهذا التأثير الأدبي والمعنوي الكبير، تماما مثلما ألقى ماركيز تحيته على كاواباتا.

خلاصة القول إن روايتَيْ «الهروب من جزيرة أوستيكا» و«صندوق الرمل» روايتان جميلتان تحدثتا عن النضال الليبي ضد الاستعمار الإيطالي، من زاويتَي تناول غير تقليديَّتَيْن، استحقتا عليه الإعجاب والتقدير، وليس من الحصافة القول إن إحداهما انتحلتْ أو تأثرتْ بالأخرى.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تدویر ا

إقرأ أيضاً:

نقاشات حول الرواية والأدب المسرحي في مؤتمر إقليم غرب ووسط الدلتا

عقدت رابع جلسات المؤتمر الأدبي لإقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي في دورته الثالثة والعشرين، المقام ضمن برامج وزارة الثقافة، وتنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، بمحافظة المنوفية، بعنوان "الأجناس الأدبية وآليات التلقي.. أدب الإقليم نموذجا" دورة الشاعر الراحل "مصطفى عبد المجيد سليم".

وشهدت قاعة المؤتمرات بفندق جامعة المنوفية، الجلسة التي أدارها الشاعر محمد عزيز، وتضمنت مناقشة بحثين، الأول بعنوان "الرواية وآليات التلقي"، قدمه الباحث سالم محمود سالم، ناقش خلاله مفهوم الرواية موضحا أهميتها كأحد الأجناس الأدبية التي تعكس روح البيئة من خلال رصد الحالات والاتجاهات، خاصة الاتجاهات الحديثة  التي عالجت بعض قضايا المجتمع من خلال كُتّاب استحوذت عليهم الرواية كجنس أدبي لديه قدرة الاستحواذ على المتلقي.

كما تناول تفصيليا عناصر الرواية من حيث الشكل والبناء الدرامي والمضمون واللغة ومستويات السرد، وغيرها، موضحا أن اللغة تأتي في المقدمة لأنها بصمة الكاتب، ويمكن للكاتب استخدام اللغة الفصحى في السرد، والعامية في الحوار، والجمع بين الاثنين (سردا وحوارا) لإيصال الفكرة إلى المتلقي الذي يشارك غالبا فى الأحداث من خلال ملء الفراغات الموجودة في العمل، والتي يتركها المؤلف بقصد أو بغير قصد.

أما عن الأحداث قال: تأتي على لسان الراوي في أغلب فصول الرواية بضمير الغائب، عدا القليل من المواضع خصوصا الحوارية منها، فهو ينتقل للضمائر الأخرى وتتعدد الأصوات في الحوارات، وهذا المزج الملازم للحوار يجعل للغة مقومات حاضرة على طول المشهد الروائي، مع عدم الافراط فى اللغة العامية، إلا في جمل قصيرة.

وتواصلت فعاليات الجلسة مع البحث الثاني "تداخل الأجناس الإبداعية في المسرح" للشاعر أشرف أبو جليل، ناقش خلاله مدى تأثر الحركة الأدبية في العالم العربي بالغرب في العصر الحديث، خاصة مع بدايات القرن العشرين، الأمر الذي ساعد على تقسيم الإبداع إلى أجناس، بل ظهور معظم الأجناس الإبداعية التي يمارسها المبدعون العرب كمحاكاة لنظائرها في الغرب، فظهر ما يعرف بالقصة الشاعرة، المسرح الشعري، الشعر القصصي، وشعرية السينما، وغيرها من المطبوعات الأدبية والنقدية.

وأشار "أبو جليل" أن تاريخ الإبداع العربي ظل لفترة طويلة بعيدا عن كل من هذه التقسيمات، وظل العرب يقسمون الكلام إلى قسمين وهما الشعر والنثر، واستفاضوا في وضع الكتب التي تُعرِفهما، ووضعوا قواعد تفرق بين النوعين بشكل صارم، باستثناء لمحات عابرة أشارت إلى تداخل النوعين الأمر الذي أدى إلى تجاهل فنون المقامة والسير والحكايا والطرائف، وعدم تدوين القصص الممسرحة على الرغم من أنه كان من الممكن البناء عليها لخلق مسرح عربي.

وأضاف أنه مع مرور الوقت ظهرت أنواع جديدة من الأدب وأصبح النثر يتفرع منه القصة والمسرحية والمقالة والرسالة، وقُسمت القصة إلى رواية وقصة قصيرة، وانقسمت المسرحية إلى كوميدية، وتراجيدية، مشيرا إلى أن أهم ما تتناوله هذه الدراسة هو "الأدب المسرحي" وليس العرض المسرحي فالمعروف أن المسرح أبو الفنون كونه يضم الشعر والقصة والسينما والفنون الشعبية والموسيقى والغناء والرسم "الديكور"، ومع ظهور المسرحة أمكن مسرحة الفكر والقرارات السياسية والنظريات العلمية والمناهج الدراسية والمشكلات الاجتماعية كالبطالة وزيادة السكان وقضايا الإرهاب وحقوق المرأة وغيرها.

المؤتمر يعقد برئاسة الشاعر جابر بسيوني، وأمانة الشاعر حمدي فرحات، ويقام بإشراف إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، برئاسة أحمد درويش والإدارة المركزية للشئون الثقافية، برئاسة الشاعر د. مسعود شومان وينفذ بالتعاون بين الإدارة العامة للثقافة العامة، برئاسة الشاعر عبده الزراع، وفرع ثقافة المنوفية برئاسة ربيع الحسانين. ويشهد إقامة عدد من الجلسات البحثية، بمشاركة نخبة من النقاد والباحثين بجانب الأمسيات الشعرية.

مقالات مشابهة

  • الحقوق التاريخية لا تضيع بالتقادم
  • طفلة تنهي حياتها شنقاً بالإسكندرية| تفاصيل
  • نقاشات حول الرواية والأدب المسرحي في مؤتمر إقليم غرب ووسط الدلتا
  • السنوسي: تكالة ومجموعته أسقطوا مجلس الدولة في وحل الانقسام الذي سيخرج المجلس من المشهد حتماً
  • كاتب صحفي: غموض الرواية الإسرائيلية لاغتيال يحيى السنوار
  • أبو الهول: غموض في الرواية الإسرائيلية الخاصة باغتيال السنوار
  • نضال البطاينة يستقيل من رئاسة حزب إرادة
  • لتسهيل الحركة.. محطتان تبادليتان بين مترو الإسكندرية وترام الرمل
  • إحالة أوراق نجار قتل زوجته فى الرمل بالإسكندرية للمفتى