تراثيات الغيطاني وجماليات الفنون الإسلامية
تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT
(1)
من بين أبناء جيله جميعا، انفرد جمال الغيطاني (1945-2015) انفرادا يكاد يكون تاما بعلاقات خاصة ووطيدة بالتراث العربي والإسلامي في مجالاته وحقوله كافة، وبالتراث الإسلامي في مصر عبر عصورها منذ دخلها العرب والمسلمون على يد عمرو بن العاص، وحتى نهاية حكم العثمانيين بمجيء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798.
سلك الغيطاني في سبيل تكوين ثقافته الخاصة وذائقته الفنية والجمالية دروبا صعبة، واتجه إلى دوائر وحقول لم يهتم كثير من أبناء جيله بالاهتمام بها أو تعاطوا معها تعاطيا عابرا وسريعا ودون تعمق! لكن الغيطاني منذ بداياته الباكرة كان مولعا بالتاريخ والتراث والأدب القديم، وقد فرضت عليه ظروف نشأته ضمن المسارات الاجتماعية في مصر في خمسينيات القرن الماضي ألا يكمل تعليمه في المسار المعتاد المعروف، واتجه إلى تصميم السجاد التي كان ينظر إليها في ذلك الوقت على أنها ضمن التعليم الفني الأقل درجة أو درجات عن التعليم الرسمي الحكومي المناظر.
ولأن الغيطاني لم يكن كغيره، استعدادا وموهبة وفطرة، فقد استثمر هذه الدراسة كأحسن ما يكون، واعتبرها نافذة رائعة للتعمق في جماليات الزخارف الإسلامية والخط العربي وأنواعه وفنونه، وجماليات التصميم، وانفتحت أمامه عوالم كاملة من دراسة وتذوق جماليات السجاد الإيراني والتركي وتداخل الفنون والعمارة الإسلامية.. إلخ.
اتجه الغيطاني إلى منطقة تكاد تكون بكرا تماما في التكوين الثقافي لأديب يتطلع إلى كتابة الرواية والقصة، وهو ما بدا لاحقا في أعماله الكبيرة واللاحقة، وقد راد طريقا كاملا في توظيف جماليات التراث في الكتابة السردية الروائية والقصصية، وأصبح اسم الغيطاني علما على اتجاه جمالي تشكيلي أصيل تماما وجديد تمامًا في الرواية العربية (الزيني بركات، أوراق شاب عاش منذ ألف عام، رسائل البصائر في المصائر، خطط الغيطاني.. إلخ).
(2)
كان الغيطاني عاشقا مفتونا بالمدن الإسلامية الوسيطة بحكاياها وأساطيرها ومبانيها وعمارتها، تربع على عرش القلب طبعا القاهرة، منذ تأسيسها على يد جوهر الصقلي، وتابعها منذ تأسيسها وحتى دفن فيها وقد صار عارفا بها ملما بأسرارها مطلعا على خفاياها ودروبها الظاهرة والخفية.
كنت أتابع بشغف كتابات الغيطاني واستطلاعاته المصورة عن قاهرة المعز، والقاهرة المملوكية، والعثمانية، التي كان ينشر بعضا منها في مجلة العربي الكويتية، هذا الرجل لديه قدرة باهرة في جَذْبك (بالمعنى الصوفي) لمنطقة تشبه "مثلث برمودا" لن تستطيع أن تقاومها أو تخرج منها أبدا، يكتب الغيطاني بوجد، بهيام، يذوب ذوبا، انظر إليه وهو يتحدث أو يكتب عن مسجد السلطان حسن وبيت القاضي ومجموعة قلاوون وشارع المعز ببابيه الشماليين الفتوح والنصر، وباب زويلة في الجنوب.
يهامس الغيطاني الحجر وينصت له، وكأنه اكتشف الشفرة الخاصة لفك طلاسم اللغة السرية التي تتحدث بها أحجار المساجد والجوامع والخنقاوات والتكايا والأسبلة، المآذن والقباب والمحاريب والأضرحة، يا ربي ما كل هذا الجمال والعشق، هذا رجل يذوب حبا فيما بقي من تاريخنا وتراثنا القديم.. كلما تذكرت كتابه الصغير «قاهريات مملوكية» الذي كان سببا في اقتنائي وقع تحت يدي عن تاريخ مصر الإسلامية وتاريخ الخطط والمساجد الأثرية، أدركتُ قيمة الدور الذي تؤديه "الكتابة العاشقة"، "المخلصة"، "المحرضة"، ولم أفوت له كتابًا في هذه الدائرة: «ملامح القاهرة في ألف سنة»، «استعادة المسافر خانة.. محاولة للبناء من الذاكرة»، وكتب أخرى.
(3)
كان الغيطاني أحد أساتذتي الكبار الذين أخذوا بيدي لاستكشاف آفاق ودروب في تاريخنا الإسلامي، وتراثنا العربي، وفنوننا القديمة في الأدب والشعر والقصص والعمارة والزخارف والتكوينات الجمالية.. إلخ.
وبسبب كتابه البديع اللافت، المهم، القيم، الغائب عن عيون وآذان السادة الأفاضل في التربية والتعليم، «منتهى الطلب في تراث العرب»، اقتنيتُ أيضًا كلّ كتاب تراثي (عربي أو إسلامي) عقد عنه فصلا في هذا الكتاب، بسببه تعرفت على صديقي ورفيقي أبي حيان "التوحيدي"، من خلاصته الرائعة التي جمع فيها نصوصا ممتازة للتوحيدي كانت خير مدخل له، فقرأته ووقعت في غوايته، وسمعتُ لأول مرة عن الأمير أسامة بن منقذ وكتابيه الفريدين في التراث «الاعتبار» و«المنازل والديار»، وانفتحت على باب واسع في الكتابة الذاتية لأعلام التراث العربي وعرفت أن هناك من دون سيرته الذاتية كالسيوطي في «التحدث بنعمة الله»، وابن خلدون في «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا»..
ومنه أدمنتُ قراءة مؤرخي مصر الإسلامية (المقريزي وابن تغري بردي والسيوطي والسخاوي وابن إياس) وسعيت لجمع وقراءة كتب الحوليات والتراجم. في «منتهى الطلب» أيضا أثار فضولي لقراءة موسوعة «تاريخ التراث العربي» لفؤاد سزكين، وكانت مغامرة كبرى من مغامراتي (ربما أرويها في يوم ما) للحصول على هذا الكتاب، ولم أنجح في مطالعته وقراءة أجزاء منه إلا وأنا في الجامعة.
(4)
بفضل الغيطاني، اكتشفت أن كتب التراث شكلت نواة مكتبتي التي تضخمت وتخطت الآلاف العشرة (وربما ضعف الرقم!)، سنوات طويلة وأنا أقتني كتب التراث وأقرأ ما عنّ لي في الأدب والتصوف والتاريخ والفقه وأصوله، في التفسير والقراءات، في البلاغة القديمة وعلوم اللغة (النحو والصرف والمعاجم والمفردات)، أرى مقدمة ابن خلدون وتاريخه الضخم جنبًا إلى جنب مع كتب ابن المقفع، والجاحظ التوحيدي وابن عبد ربه، وابن رشد، والقزويني، والغزالي، ومحيي الدين ابن عربي، الطبري وابن الأثير والأصفهاني وابن قتيبة.. سيبويه، وثعلب، وابن جني، والمتنبي، وأبو تمام، وأبو العلاء المعري، ومهيار الديلمي، وابن شهيد الأندلسي..
ابن عبد الحكم، والكندي، وابن زولاق المصري، وابن حجر، والسخاوي، وابن تغري بردي، والمقريزي، والسيوطي، وابن إياس، وغيرهم.
أتذكر متعة التقليب في كتب حوليات مصر القديمة، والساعات الطوال التي أمضيتها بصحبة ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور» (رحم الله الغيطاني هو الذي جذبني إلى هذا الكتاب؛ بعدما قرأت روايته «الزيني بركات».
الكتاب كان عنصرا تكوينيا بارزا في بناء رواية الغيطاني التأسيسية. لكن الأهم هو حصولي على النسخة الكاملة من هذا الكتاب الفريد في 13 مجلدا بفضل الغيطاني الذي أعاد نشر المخطوطة التي قام بتحقيقها المرحوم محمد مصطفى زيادة في خمسة مجلدات ضخمة، وألحق بها مجلدات الفهارس التي لم تنشر ولم تر النور إلا في هذه الطبعة من الذخائر التي كان يرأس تحريرها المرحوم جمال الغيطاني.
(5)
لم يكن الغيطاني، رحمه الله، روائيا ممتازا من الطبقة الذهبية الأولى في أدبنا المعاصر فقط، أو كاتبا وصحفيا من طراز خاص، بل كان مؤسسة بأكملها، مؤسسة لها تاريخ، ذاكرة حية، ومنجز باق وخالد.. ما بقيت الإنسانية والحضارة والأدب والفن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الکتاب
إقرأ أيضاً: