3 دلائل واضحة على سعي إسرائيل لاستهداف دولاً أخرى بعد لبنان
تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT
في طفولتنا كنا نتهامس فيما بيننا معلومةً مغلوطةً كانت منتشرةً في كثير من المجتمعات العربية، مفادها أن الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي يوجد فيه لوحة كبيرة في وسطه تقول: "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل"، وأن هناك فكرةً تسيطر على عقول الإسرائيليين مفادها أن أرض الميعاد تمتد فيما بين نهر الفرات ونهر النيل.
ثم كبرنا وعرفنا أن لا وجود للوحة كهذه في الكنيست الإسرائيلي، وأصر الإعلام الإسرائيلي على تناول كلام ياسر عرفات حول عملة العشر أغورات بالسخرية، باعتبار أن الصورة التي تحملها تلك العملة تمثل صورة عملةٍ متآكلة الجوانب من عصر مملكة يهوذا كرمزٍ على الوجود اليهودي التاريخي في فلسطين فقط.
وأذكر خلال فترة موجة توقيع اتفاقيات أوسلو ووادي عربة أن بعض المتحمسين لفكرة السلام مع إسرائيل كان يسخر في إعلام بعض الدول العربية من تلك القصص المنتشرة عن إسرائيل الكبرى، ومن فكرة كون إسرائيل راغبةً في التوسع أصلًا، ويؤكد أن هذه الفكرة غير صحيحة بتاتًا، وأن إسرائيل لا ترغب بأكثر من الأراضي التي حصلت عليها عام 1948 فقط (وليس حتى الضفة وغزة)، وأننا ظلمنا إسرائيل باتهامها بأنها تطمع في البلاد العربية المحيطة بها، وأن فكرة "إسرائيل الكبرى" لم تكن أكثر من مجرد فريةٍ افتراها قومنا على إسرائيل، إلى غير ذلك من موجة جلد الذات في خضم تلك الفترة المليئة بأحلام السلام وحل القضية الفلسطينية، وغير ذلك.
الصهيونية الدينية اليوم تؤمن بدولة الشريعة والنبوءات الدينية ونصوص التوراة والتلمود، ولا ترى في السياسة أو المتغيرات الإقليمية ما قد يحدّ من طموحاتها في إنشاء إسرائيل الكبرى
مع الزمن، تداعت أحلام السلام تحت فضائح الماء الملوث الذي أرسلته إسرائيل إلى الأردن عام 1998، وتهاوت تلك الصورة اللطيفة لإسرائيل التي سعى البعض لإقناع الشعوب العربية بها تحت وطأة دبابات الاحتلال وطائراته التي قصفت المدن الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى.
وبدأت الأمور تأخذ منحى مختلفًا عندما دارت رحى الحرب في لبنان عام 2006، ثم أربع مراتٍ في قطاع غزة، خامستها نعيشها اليوم، وتكشفت وحشية النظام الإسرائيلي الذي قصف المدنيين بالفسفور الأبيض المحرم دوليًا ولم يتوانَ عن التعامل بمنتهى الوحشية مع المدنيين العزل وحرقهم أحياء.
إلا أن كل ذلك لم يشفع لبعض مدعي التعقل والحكمة الذين كانوا يجدون لإسرائيل عذرًا في كل مرةٍ تحت ادعاء أن المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية هي التي ينبغي لومها؛ بسبب "استفزازها" إسرائيل و"دفعها" إلى الرد بعنف، وكأن لوم الضحية ديدنٌ لدى البعض على مدار السنوات الماضية حتى اليوم.
كل ذلك تغير الآن في ظل الحرب الطاحنة التي أعلنتها إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي إبان عملية طوفان الأقصى، وبالرغم من أن نفس الأصوات خرجت علينا تلوم الضحية كالعادة، فإن شيئًا ما تغير في إسرائيل هذه المرة.
هو شيءٌ جعل مهمة المبررين لها صعبةً للغاية؛ ذلك أن هذه هي الحرب الأولى التي تجري في ظل حكم جماعات تيار الصهيونية الدينية الكاهاني، الذي لا يؤمن بالآخر أصلًا، ولا يؤمن بفكرة السلام ولا غيرها فيما يتعلق بالعرب، بل يؤمن بالإزالة الكاملة والإبادة الشاملة.
وهذا ما كان الحاخام مائير كاهانا، الأب الروحي لهذا التيار، يملأ الدنيا صراخًا به قبل اغتياله في نيويورك عام 1990.
التيار الذي يسيطر اليوم على إسرائيل ويسعى لتثبيت نفسه فيها وإعادة صياغة الدولة بالكامل حسب رؤيته الدينية، يؤمن بدولة الشريعة والنبوءات الدينية ونصوص التوراة والتلمود، ولا يؤمن بألاعيب السياسة أو المتغيرات الإقليمية، أو غيرها. فهو تيار ديني يرى في نفسه المنفذ لأوامر الله الواردة في التوراة والتلمود فقط.
ومن الغريب أن صعود هذا التيار وأثره البالغ في استمرار هذه الحرب وتوسيعها رافقه إعادة ظهور فكرة "إسرائيل الكبرى" مرةً أخرى، تلك الفكرة التي سعت تيارات السلام سواء في إسرائيل أو في الدول العربية لإقناع الشعوب بأنها فكرة مكذوبة ولا وجود لها في الذهنية الإسرائيلية أو العقلية الصهيونية عمومًا.
بيدَ أن تيار الصهيونية الدينية جاء ليكشف المستور ويعيد هذه القضية بقوةٍ إلى الواجهة، عبر تصريحاتٍ مباشرةٍ قالها عدد من زعماء هذا التيار غير مرةٍ، ليكشفوا أن ما كان يقال لنا قديمًا إنه كذب ليس إلا الحقيقة بالفعل!
في وثائقيٍّ أنتجته شبكة TRT World التركية بعنوان (الخلاص المقدس)، تتحدث دانييلا فايس، إحدى أكبر قيادات هذا التيار والمتخصصة في التخطيط والتحريض على الاستيطان في الضفة الغربية وتجنيد مليشيات ما يعرف باسم "فتية التلال" من غلاة المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية، وتقول: "حدود دولة اليهود هي الحدود التي وعد الرب بها إبراهيم: من الفرات إلى النيل".
وعندما سُئلت في المقابلة عن كون هذه الحدود تشمل أراضي من دول أخرى قالت: "بالطبع، تشمل أراضي من دول أخرى، لكن لدينا كتابنا المقدس، وهو الوثيقة الوحيدة التي نحتاجها". وهي تشير هنا إلى آيةٍ من سفر التكوين (15: 18) في التوراة، يذكر فيها الرب وعدًا لإبراهيم: (لنسلك أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)، وهي وأتباعها يقررون أن المقصود من نسل إبراهيم المذكور في هذا النص الديني هم بنو إسرائيل أو اليهود اليوم.
فكرة إسرائيل الكبرى لم تكن يومًا خيالًا، وإنما رؤية حقيقية تسعى الجماعات الدينية المتطرفة في إسرائيل لتحقيقها، ضاربةً عرض الحائط بأحلام السلام أو الاستقرار الإقليمي
دانييلا فايس ليست مجرد شخصيةٍ متطرفةٍ هامشية في إسرائيل، وإنما تعتبر قياديةً فعليةً في الدولة، وهي إحدى المسؤولات عن حركة الاستيطان في الضفة الغربية، وتمثل إحدى الأذرع الأساسية لتيار الصهيونية الدينية.
لكن بما أن البعض يمكن أن يوهم نفسه أن هذا الأمر لا يتعدى هذه الشخصية فقط وأنها لا تؤثر على سياسة الدولة، فإننا نقول إن ما تنادي به دانييلا فايس لا يختلف عما طرحه بكل وضوح وصراحة وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، زعيم تيار الصهيونيّة الدينية، وهو اليوم واحد من أهم الشخصيات السياسية في دولة الاحتلال.
سموتريتش كان قد ظهر في فيديو بتاريخ 19 مارس/آذار 2023 في العاصمة الفرنسية باريس، متحدثًا في لقاءٍ لتأبين اليهودي الفرنسي جاك كوبفير الذي توفي عام 2021، والذي كان أحد زعماء منظمة "إسرائيل إلى الأبد" المعنية بحشد اللوبي المناصر لإسرائيل في فرنسا، ويمثل أحد أقطاب اليمين المتطرف من أتباع تيار كاهانا.
وظهر سموتريتش يومها يقف على منصة تحمل شعارًا يشبه شعار منظمة الإرغون الإرهابية، حيث تحمل صورة الأردن وفلسطين معًا، مع الشمعدان اليهودي وعبارة "إسرائيل إلى الأبد". وأثار هذا الظهور يومها حفيظة الأردن الذي أصدر بيانًا رسميًا أدان فيه هذا التصرف.
إلا أن سموتريتش عاد مرةً أخرى ليثير حفيظة العالم بتصريح مثير ظهر خلال مشاركته في وثائقي فرنسي بعنوان: "إسرائيل: وزراء الفوضى" نشر نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، حين أجاب عن سؤالٍ حول رغبته في دولة يهودية كاملة، وما إذا كانت السيادة اليهودية في نظره ينبغي أن تمتد على كامل المنطقة ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، قائلًا: "نعم، في الوقت الحالي"، مما حدا بالصحفي أن يستوضح فيما لو كانت السيادة اليهودية في نظره ستمتد إلى شرق نهر الأردن (أي إلى المملكة الأردنية اليوم)، فأجاب: "نعم، بهدوء"، ثم وضح مقصده قائلًا: "في نصوصنا المقدسة ورد أن القدس وحدها ستمتد إلى دمشق"، واصفًا في ذلك رؤيته حول إسرائيل الكبرى.
يعيدنا ذلك إلى صورةٍ مستفزةٍ ظهرت خلال يوميات الحرب على غزة، حيث ظهر بعض جنود الاحتلال المقاتلين في غزة من أتباع تيار الصهيونية الدينية الذي يتزعمه سموتريتش وبن غفير، وهم يرتدون شعارًا يحتوي خريطةً لما يسمى "إسرائيل الكبرى" وهي تمتد بوضوح ما بين الفرات والنيل مع عبارة "أرض إسرائيل الموعودة"، وتظهر فيها معالم تشمل أراضي من مصر وفلسطين والأردن ولبنان وسوريا والعراق والسعودية.
كما يشار هنا أيضًا إلى فيديو شهير انتشر مع بدء الحرب التي تشنها إسرائيل حاليًا على لبنان، يظهر فيه رجل متدين يحكي لطفله قصةً عن لبنان وكونها ملكًا لليهود.
هذه الأحداث المتسارعة والمتتالية تبين أن ما يسمى حلم "إسرائيل الكبرى" لم يكن يومًا خيالًا ولم يكن مجرد حلمٍ لدى بعض المتطرفين المهووسين بالميثولوجيا أو النصوص الدينية المقدسة، وإنما هو رؤية حقيقية يرى كثير من أبناء التيارات الدينية المتطرفة في إسرائيل وخارجها أنها ستتحقق كما تحقق غيرها من "المعجزات".
فهؤلاء يرون أنهم في عصر المعجزات، ولذلك لم يعودوا يخفون أحلامهم وطموحاتهم التي تمتد حتى خارج حدود الأراضي الفلسطينية دون خجل أو خوف. وهذا جزء من التحول الكبير الذي يجري حاليًا في إسرائيل مع سعي تيار الصهيونية الدينية لإحكام السيطرة على مفاصل الحكم في البلاد ضمن رؤيته الدينية الخلاصية.
وبالتالي فإن على الأنظمة العربية الرسمية قبل غيرها أن تعي أن إسرائيل الجديدة، الصهيونية الدينية، لا تريد أقل من الحصول على كل هذه الأرض بما يشمل بالطبع إسقاط الأنظمة العربية المحيطة وتغيير المنطقة ديمغرافيًا وسياسيًا، وبالتالي فهي تشكل خطرًا داهمًا على المحيط العربي والإقليم كاملًا بمفاهيم السياسة اليوم.
وبالرغم من أن قصص عبارة الكنيست وخريطة أرض الميعاد على العملة الإسرائيلية لم تكن صحيحة، فإن ما كشفته الأحداث منذ طوفان الأقصى حتى اليوم يؤكد أن أطماع إسرائيل الدينية الجديدة في الأردن وسوريا ومصر ولبنان والعراق والسعودية حقيقة لا نقاش فيها، فإسرائيل في أصلها دولةٌ إحلالية، واليوم أصبحت فوق ذلك دولةً ثيوقراطيةً مسكونةً بجنون العظمة والخرافات الدينية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات إسرائیل الکبرى هذا التیار فی إسرائیل
إقرأ أيضاً:
معالم التصعيد الاسرائيلي واضحة.. فهل يرفع حزب الله التحدي؟
بات واضحا ان لبنان لن يقبل الورقة الاميركية التي وصلته بعد مشاورات اميركية اسرائيلية، اذ لديه ملاحظات جدية مرتبطة بلجنة الرقابة الغربية التي ستشرف على تنفيذ القرار 1701، لذلك فإن فشل موجة التفاوض الحالية بات مرجحا مع توقع الذهاب بعد ذلك الى مستوى جديد من التصعيد العسكري لينتقل الجميع مجددا الى التفاوض.
معالم التصعيد العسكري الاسرائيلي باتت واضحا، اذ انه مرتبط بكمية الاستهدافات اكثر من ارتباطه بنوعيتها، اي ان كثافة القصف على الجنوب وعلى الضاحية والبقاع ستكون اكبر من السابق على ان يترافق ذلك مع عمليات تقدم برية لتحقيق انجازات واضحة في الميدان، لذلك يحصل إلتفاف بإتجاه بلدة شمع للسيطرة على بعض المرتفعات الاساسية.
يصبح السؤال اليوم كيف يمكن ان يكون تصعيد "حزب الله" ؟ هل يتجه الحزب الى تكثيف ضرباته ضمن الشعاع ذاته؟ او انه سيزيد من استهدافاته بإتجاه وسط اسرائيل وتحديدا حيفا وتل ابيب التي يحيدها بشكل شبه كامل ويحصر قصفه الصاروخي بالقواعد العسكرية هناك، وعليه فإن التصعيد والتصعيد المضاد سيكون هو العامل الحاكم للوصول الى مفاوضات جدية جديدة.
وترى المصادر ان اسرائيل لديها قلق جدي من استمرار تعافي "حزب الله" لان هذا الامر سيؤدي الى تمكن الحزب من ايلام الداخل الاسرائيلي اكثر، وعليه فإن المكاسب التي ممكن ان يمكن ان يحصل عليها نتنياهو اليوم ستكون اقل من التي قد يحصل عليها لاحقاً بعد تمكن الحزب من تعزيز امكانياته العسكرية او ترميمها..
وتعتبر المصادر ان" حزب الله" لديه قناعة بأن اسرائيل لن تستطيع تحقيق اكثر مما حققت ولذلك فإن الوقت سيكون لمصلحته ولتحسين شروطه السياسية لاحقا، من هنا يصبح الميدان اليوم مسارا إلزاميا في الاسابيع المقبلة خصوصا اذا بدأ الرئيس الاميركي دونالد ترامب الضغط على تل ابيب لانهاء الصراع في الشرق الاوسط ليصبح عندها الحزب اقدر على تحقيق شروطه..
اوحى "حزب الله" امس ايضا انه بات يتعافى بسرعة قياسية في ما يخص قدراته الصاروخية اذ وجه ضربات مكثفة جدا بإتجاه حيفا، فإستهدف خمس قواعد عسكرية في لحظة واحد بعشرات الصواريخ الكبيرة، وهذا يعني ان الحزب يريد التفاوض بشكل جدي، وإن من اجل الوصول الى تسوية في المدى المتوسط.. المصدر: خاص "لبنان 24"