كان شعبان أحمد الدلو (19 عاماً) طالباً متفوقاً يدرس هندسة الحاسوب في جامعة الأزهر في غزّة ويحلم بإكمال دراسته في ألمانيا. انتظم في دروس مركّزة باللغة الألمانية واجتاز امتحان «توفل» في اللغة الإنكليزية. نزح شعبان، مثل مئات الآلاف من الغزيّين في العام الماضي، مع عائلته، خمس مرات.
وكان ملجأهم الأخير في محيط مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وسط قطاع غزة.
لكن إسرائيل عثرت عليه يوم الأحد 13 أكتوبر، حيث كان يرقد جسده الهش، ضعيف المناعة من جرّاء الإصابة والتجويع، وأحرقته حياً، هو ووالدته آلاء، على مرأى من العالم. استطاع والده أن ينقذ إخوته الصغار الذين أصيبوا مثله هو بحروق، لكنه شاهد ابنه البكر يموت أمام عينيه. تعرّف، محمد، الابن الذي نجا من المحرقة، على جثة والدته، من سوار كان في معصمها لأن النار محت ملامحها.
سيظهر شعبان حياً، ثم محترقاً بنار الإبادة، في صورة رفعتها النائبة اليسارية الإسبانية أيون بيلارا، من حزب بوديموس في البرلمان الإسباني. وسألت بيلارا الحضور: ما الفرق، يا ترى، بين ما تقترفه إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزّة، وغرف الغاز النازية؟ ولم تنتظر الإجابة، بل أكدّت: فلا فرق. ثم طالبت الحكومة «اليسارية» أن تطبّق حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.
في إيطاليا أعلنت رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، اليمينية الفاشية، إيقاف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. وجاء ذلك بعد ضغط وانتقادات من جوسيبي كونتي زعيم حركة الخمسة نجوم، لكن السبب الرئيسي لم يكن الإبادة المستمرّة ضد الفلسطينيين، بل هجوم إسرائيل على قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، المعروفة باليونيفيل، التي تساهم إيطاليا بأكثر من ألف جندي فيها.
أما البرلمان الألماني «البوندستاغ»، في برلين، المدينة التي خطط النازيون فيها لمحرقة القرن الماضي، فقد وقفت أمامه وزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، في الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر وألقت خطاباً طويلاً كررت فيه الخطاب المبتذل الذي يردده الساسة في الديمقراطيات الغربية في هذا السياق.
لكن اللافت أنها «حلّلت» قتل المدنيين، مؤكدة إن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس «لا يعني مهاجمة الإرهابيين، بل تدميرهم… فعندما يختبئ إرهابيو حماس خلف الناس وخلف المدارس، عندها نأتي إلى الأمور الصعبة، لكننا لن نخجل، فالأماكن المدنية تفقد وضع الحماية، لأن الإرهابيين ينتهكونها». وشددت على الارتباط الوثيق بين أمن إسرائيل ووجود ألمانيا». والجدير بالذكر إن بيربوك هذه حفيدة فالديمير بيربوك (1913- 2016) الذي كشفت صحيفة «Bild» الألمانية في شباط/فبراير من هذا العام أنه كان نازياً قحاً، آمن بمشروع هتلر وأهدافه. وحاز وسام الصليب النازي في عام 1944 تقديراً لتفانيه وخدماته.
عندما انتشر المشهد المروع لشعبان الدلو وهو يحترق بنيران الإبادة على وسائل التواصل الاجتماعي، استعاد البعض مشهداً من حوار قديم مع الفيلسوف الإسرائيلي، يشعياهو ليبوفتش (1903- 1994)، الذي يعتبر واحداً من أكثر المفكرين اليهود جرأة وإثارة للجدل في القرن الماضي. حتى إن آيزيا برلين سمّاه «ضمير إسرائيل». ولد ليبوفتش في ريغا في لاتفيا ودرس في ألمانيا وحاز الدكتوراه في الفلسفة في برلين.
هاجر إلى فلسطين في 1935 وعمل أستاذاً في الجامعة العبرية في القدس. وتوزعت اهتماماته وكتاباته بين تاريخ العلوم والفلسفة والفكر اليهودي. كان صهيونياً لكنه أثار حفيظة الكثيرين في إسرائيل بنقده للأحزاب الدينية التي سماها «عشيقة الدولة» كما نقده لسياسات الدولة بعد 1967 حين طالب بالانسحاب من الضفة الغربية وغزة ودعا إلى رفض الخدمة العسكرية أثناء حرب لبنان في 1982.
كان يرى أن الإيمان بأن بلداً ما أو مكاناً ما مقدسا بحد ذاته، فكرة وثنية، بلا شك، ولذلك فإن معارضة حل الدولتين على أساس أن الأرض مقدسة لليهود كان باطلاً بالنسبة له. وفي 1993 أعلن عن فوزه بجائزة إسرائيل، وهي أرفع جائزة مدنية. وألقى خطاباً أمام مجلس السلام الإسرائيلي الفلسطيني، شبّه الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي بقوات الأمن الخاصة النازية (أل إس إس). ورفعت طلبات إثرها إلى المحكمة العليا لحجب الجائزة، وهدد إسحق رابين رئيس الوزراء آنذاك بمقاطعة مراسم تسليم الجائزة. لكن ليبوفتش رفضها.
في الحوار التلفزيوني قبل موعد تسلّمه جائزة الدولة يسأل أحد المحاورين ليبوفتش عن قوله، إن إسرائيل دولة يهودية – نازية وليست ديمقراطية. فيوضّح أنه قصد بذلك وجود عقلية يهودية – نازية متفشية في حلقات معينة في إسرائيل. يطالبه المحاور بالتراجع عن هذا الرأي لـ«تلطيف الأجواء» أثناء تسلّم الجائزة، فيجيب ليبوفتش «إن العقلية اليهودية – النازية حيّة ترزق»، وعندها ينبري محاور آخر، وهو تومي لابيد (1931 – 2008)، والد يائير لابيد، زعيم المعارضة في إسرائيل حالياً) ليسأل ليبوفتش: «إذن هناك يهود يحرقون ملايين العرب من أجل المتعة؟
وهناك حلقات تنوي إقامة معسكرات اعتقال لتحرق العرب؟» يجيب ليبوفتش: «أعلم إن دولة إسرائيل تحتجز الآلاف من العرب في معسكرات اعتقال»، ويلح لابيد ويكرّر سؤاله باستفزاز: «وهل ستحرقهم؟» فيرد ليبوفتش بغضب: «هذه نبوءتك أنت! هذه نبوءتك أنت للمستقبل!». أشار ليبوفتش مراراً إلى جملة أثيرة لديه كان قد اقتبسها من الكاتب النمساوي فرانز غرلبارزر الذي شهد صعود القوميات في القرن التاسع عشر واستعادها ليبوفتش لوصف مسار إسرائيل ومآلاتها: «من الإنسانية إلى القومية إلى الوحشية».
يظل الفرق بين المحرقة النازية في القرن السابق، والإبادة الصهيونية الآن، أن النازيين كانوا يحرصون على إخفائها عن العالم، أما الصهاينة فإنهم يتباهون بوحشيتهم.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة غزة قصف جباليا مجازر الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
ديفيد هيرست: تغلب الفلسطينيين على حرب الإبادة الإسرائيلية وعادوا إلى الديار
تناول مقال للكاتب البريطاني ديفيد هيرست في موقع "ميدل إيست آي" عودة الفلسطينيين إلى شمال القطاع بعد 15 من حرب الإبادة الإسرائيلية.
وقال هيرست، إن "العودة التاريخية للفلسطينيين، بعد خمسة عشر شهراً من التدمير الإسرائيلي، مؤشر على انتصار الروح الإنسانية على القهر المنظم".
وأضاف، أن "صور الدمار في غزة سوف تحرق ثقبا تاريخيا في الرواية التأسيسية لإسرائيل كدولة ولدت من رحم المحرقة وقامت على أكتاف ضحاياها".
وتابع، "سوف يخلد رفع الحصار عن شمال غزة – مهما كان مؤقتاً – في التاريخ الفلسطيني كما خلد فك الحصار عن لينينغراد (والذي حصل أيضاً في السابع والعشرين من يناير) في التاريخ الروسي للحرب العالمية الثانية. إنه لا يقل أهمية عنه".
وفيما يلي نص المقال:
يمكن للمذيع الخارجي أن تحيق به الكثير من الفجائع – في هذه الحالة، أفضل مخططات البي بي سي لعمل برنامج "اليوم" من معسكر أوشفيتز، وتكريس اليوم بأكمله للبث عبر العديد من القنوات إحياء للذكرى السنوية الثمانين لتحرير المعتقلين في ذلك المعسكر.
قد ينقطع البث من بولندا، وهو انقطاع – في زمن البث عبر الإنترنيت والأقمار الصناعية في أيامنا هذه – قد لا يتجاوز بضع ثوان، والأسوأ من ذلك هو أن ينشغل الناس عن الحدث نفسه بحدث أكبر منه تشهده الساحة العالمية، وذلك كان هو حادث تصادم السيارات الذي وقع يوم الاثنين.
بينما كان رجالات الدولة يتجمعون من مختلف أرجاء العالم في معسكر الإبادة السابق، كان مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين عانوا خمسة عشر شهراً من القصف المدمر والتجويع والمرض على أيدي دولة ولدت بعد المحرقة يمشون إلى شمال غزة في مسيرة عودة استمرت عدة ساعات.
لوحظ غياب شخصين مهمين عن هذا التجمع في بولندا. أما الأول والأبرز فهو رئيس البلد الذي كانت قواته هي من قام بتحرير معسكر الموت النازي، أي رئيس روسيا فلاديمير بوتين.
وأما الغائب الثاني فهو رئيس وزراء البلد الذي بذل أقصى ما في وسعه خلال فترة احترافه للعمل السياسي من أجل أن يقبض ثمن الشعور الأوروبي بالذنب إزاء المحرقة، ومن أجل تبرير محاولات إسرائيل المتكررة لتطهير فلسطين عرقياً من الفلسطينيين.
ثمة أسباب عملية من وراء غياب بنيامين نتنياهو عن أوشفيتز. أما الأول فهو خشيته من أن يتم إلقاء القبض عليه بموجب المذكرة التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية بحقه عن ارتكاب جرائم حرب في غزة.
وأما السبب الثاني فهو مثوله أمام محكمة إسرائيلية بتهم متعددة تتعلق بالفساد.
تناقض صارخ
انسجاماً مع تعامل إسرائيل الخسيس تاريخياً مع الناجين من المحرقة، لم تتحول قنواتها التلفزيونية الرئيسية إلى سمت "لقد ماتت الملكة" كما فعلت البي بي سي، بل استمرت تلك القنوات في بث برامجها الاعتيادية طوال اليوم.
لم يمض دون أن يلفت الأنظار نفاق إسرائيل في تعاملها مع واحدة من أهم الذكريات السنوية في التاريخ اليهودي، ولا التناقض الصارخ الذي يولده ذلك إذا ما أخذنا بالاعتبار ما تعودت عليه إسرائيل من اغتنام كل فرصة ممكنة لاتهام نقادها بمعاداة السامية وبإنكار المحرقة.
لم ينس أحد تلك الحركة الاستعراضية التي قام بها نتنياهو عندما ألبس أعضاء وفد إسرائيل إلى الأمم المتحدة نجوماً صفراء بعد هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 – وهي الحركة الاستعراضية التي ندد بها رئيس النصب التذكاري للمحرقة المسمى ياد فاشيم، معتبراً إياها إهانة لضحايا الإبادة الجماعية ولدولة إسرائيل في آن واحد.
إلا أن رد البي بي سي على هذه الأزمة من القيم الإخبارية كان بالفعل سوفياتياً: وهو أن تقوم بمحو الأخبار التي لا تتناسب مع توجه الحزب.
لا ريب أن ذلك كان بأوامر من الجهات العليا، وذلك أن كل واحد من معدي البرامج فعل نفس الشيء. بعد تدبر عميق طوال اليوم، منحت نشرة أخبار العاشرة مساء في تلفزيون البي بي سي 22 دقيقة لذكرى المحرقة وأربع دقائق لغزة.
وضعت تغطية الذكرى السنوية للمحرقة ضمن إطار توجيه رسالة إلى عالم اليوم. قال المتحدثون، الواحد تلو الآخر، إن الدروس المستوحاة من المحرقة لا ينبغي أن تموت مع آخر من تبقى من الناجين منها، على الأقل بسبب ما يجتاح العالم من مستويات غير مسبوقة من معاداة السامية.
لا يمكن للمرء معارضة هذا التصريح. إلا أن الفيل الذي في الحجرة كان التشابه بين ما فعله النازيون باليهود وما لم يزل يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة على مدى خمسة عشر شهراً، ونحن هنا لا نتكلم عن التشابه خطابياً أو بلاغياً فحسب، بل من حيث أنه بات الأساس الذي انبني عليه إجراءان قضائيان في أرفع المحاكم الدولية.
ومع مرور اليوم نما أكبر فأكبر. في برنامج "اليوم" توجه فيليب ساندز، الخبير القانوني في جرائم الحرب، إلى المستمعين بشرح لتاريخ المحاولات التي بذلت تاريخياً من أجل تصنيف الإبادة الجماعية جريمة حرب.
ذكر ساندز كلمة "غزة" المحرمة، ولكنه سعى للقول إنه أياً كان ما توصف به ما تقوم به إسرائيل من أفعال في فلسطين وغزة، فما كان ينبغي له أن يحصل. رغم أن محكمة العدل الدولية تنظر حالياً في تهمة الإبادة الجماعية التي توجهت بها جنوب أفريقيا ومعها بلدان أخرى، إلا أن المذيع وساندز كلاهما التزما الصمت إزاء القضية رغم أنها ماتزال حية. لا يمكن لهما التأثير على المحلفين لأنه لا وجود لمحلفين. إذن، لابد من أن صمتهما وراءه سبب آخر.
تاريخ لا ينسى
ثمة جدل حول الأفعال الإسرائيلية في غزة حتى داخل إسرائيل.
أجرى اثنان من مؤرخي المحرقة، وهما دانيال بلاتمان وآموس غولدبيرغ، مقارنات مخيفة وخلصا منها إلى التالي: "مع أن ما يحدث في غزة ليس أوشفيتز، إلا أنه ينتمي إلى نفس العائلة – جريمة الإبادة الجماعية."
لنتنياهو نفسه ينسب الفضل في وقوع هذين الحدثين الدوليين الهائلين في نفس اليوم – أكبر عودة فلسطينية إلى الأرض التي طردوا منها في تاريخ الصراع والذكرى السنوية لتحرير أوشفيتز.
فقراره منع الفلسطينيين من العودة يوم السبت كما كان مقرراً لهم، بسبب خلاف حول من ينبغي أن يطلق سراحه من الرهائن الإسرائيليين، هو الذي أخر مسيرة العودة شمالاً يومين حتى الاثنين.
من خلال ذلك، أسس نتنياهو وزمرة المتعصبين الدينيين من حوله لمناسبة تضاف إلى التاريخ الإسلامي والعربي.
لم يكن يوم الاثنين، السابع من يناير (كانون الثاني) أي إثنين يُستهل به العام الجديد. صادف ذلك في التقويم الإسلامي يوم السابع والعشرين من رجب، والذي لم يزل حتى هذا الأسبوع يُحتفل به من قبل المسلمين في أنحاء العالم لحدثين آخرين تصادف وقوعهما فيه.
ليلة الإسراء والمعراج هي الليلة التي حملت الملائكة فيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المسجد الأقصى قبل أن تعرج به إلى السماوات العلى ثم تعود به إلى مكة. تلك الرحلة، التي اجتمع فيها النبي بموسى وإبراهيم وآدم وعيسى، وتلقى من الله التعليمات، هي جزء مهم في الدين. فهي تربط المسلمين بالمسجد الأقصى، وخلدت ذكرها آيات في القرآن الكريم.
هذا من مبادئ العقيدة. ولكن تصادف نفس اليوم مع مناسبة أخرى وقعت في التاريخ العربي، وهي أيضاً حدث يربط العرب بالقدس، كان ذلك في عام 1187 عندما حرر صلاح الدين مدينة القدس من لورد باليان أوف إبيلين، منهياً بذلك قرناً من الاحتلال الصليبي.
والآن أضاف نتنياهو مناسبة ثالثة إلى السابع والعشرين من رجب.
سعادة وتحدي
هذا هو اليوم الأول في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يمارس فيه الفلسطينيون حق العودة إلى أراض لم تدخر إسرائيل وسعاً في محاولة إخراجهم منها عنوة. كل الأحداث الثلاثة ترسخ وتعزز إيمان الفلسطينيين بأن القدس هي عاصمتهم الوطنية، وكذلك إيمان المسلمين بأن القدس جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية.
ما شهدناه هذا الأسبوع من مسيرة طويلة لمئات الآلاف من الفلسطينيين وهم يعودون إلى ديارهم لهو حدث ملحمي وتاريخي – ليس فقط بسبب ما في المشهد من صور، وإنما لما سيكون لهذا الحدث من أثر عميق على الأجيال القادمة.
لقد أثبتت غزة لكل فلسطيني ولكل العالم أن حقهم في العودة ليس ممكناً فحسب، بل وقريب المنال كذلك.
ما يقرب من نصف مليون فلسطيني عادوا إلى الشمال، وذلك رغم علمهم التام بأن منازلهم أصبحت ركاماً وأنهم قد لا يرون أفراداً من عائلاتهم تركوهم خلفهم عندما خرجوا.
يعبّرون في طريق عودتهم عن السعادة، وكلهم عزم، وتصميم، وتحد. في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قالت كبير روسومي، وهي من بيت لاهيا، إنها تتجه نحو الشمال لتبحث عن أحبتها، سواء من كانوا على قيد الحياة أو من كانوا في عداد الأموات.
وقالت: "الشمال هو القلب والروح، الشمال هو الأرض التي فقدناها. نأمل أن نلتحف بهذه الأرض، أرض ديارنا، وأرض شعبنا، التي فقدناها."
رسومي محقة. فقد عانى شمال غزة من أطول وأصعب فترة احتلال لقطاع غزة طوال أيام الحرب التي بلغت 471 يوماً. فقد كان المكان الذي حاولت إسرائيل مراراً وتكراراً إخلاءه من مقاتلي حماس، ثم من كل المواطنين، من خلال فرض التجويع.
يمكننا أن نعبر عن ذلك بالأرقام. فقد نقلت قناة الجزيرة عن مصدر طبي القول إن ما لا يقل عن خمسة آلاف إنسان قتلوا أو فقدوا، وأن 9500 جرحوا، بسبب حملة التطهير العرقي التي أطلق عليها خطة الجنرالات، والتي بدأت في وقت مبكر من شهر أكتوبر (تشرين الأول).
رغم ذلك، خرج من تحت الركام مقاتلو حماس ومن بحوزتهم من رهائن. يمكن لملايين الإسرائيليين الذين أيدوا الحرب أن يروا الآن بأعينهم عبثية ما جنتهم أياديهم وما تسببوا به من دمار.
هنا ليبقوا
سوف تحرق صور الدمار في غزة ثقباً تاريخياً في الرواية التأسيسية لإسرائيل كدولة ولدت من رحم المحرقة وقامت على أكتاف ضحاياها.
سوف يخلد رفع الحصار عن شمال غزة – مهما كان مؤقتاً – في التاريخ الفلسطيني كما خلد فك الحصار عن لينينغراد (والذي حصل أيضاً في السابع والعشرين من يناير) في التاريخ الروسي للحرب العالمية الثانية. إنه لا يقل أهمية عنه.
أكثر من أي شيء آخر، يعتبر هذا الصمود الجماعي في وجه كل العوامل الطاغية، ووسط دمار لا يقل عما لحق بهيروشيما من دمار، أفضل رد على نتنياهو وعلى المجتمع الدولي، الذي ظل يتفرج سامحاً للكارثة أن تحصل – ثم على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لم يكن من باب الصدفة، عشية ذلك الحدث التاريخي، أن يقول ترامب بعفوية خادعة تصدر عنه كلما أراد الحديث عن تحركات محسوبة بعمق إنه ينبغي أن تُنظف غزة من مليون ونصف المليون فلسطيني، بحيث يتم نقلهم إلى الأردن ومصر لإتاحة المجال لإعادة تعمير القطاع. ينسجم ذلك تماماً مع طلب نتنياهو في الأيام الأولى من الحرب من ذراعه الأيمن، رون ديرمر، البحث عن طرق لتقليل عدد السكان في غزة.
فقط بيرني ساندرز، السيناتور المستقل من فيرمونت، أطلق على هذه الخطة ما ينطبق عليها تماماً، حيث قال: "هناك اسم لهذا – تطهير عرقي – وهو جريمة حرب."
لحسن الحظ، لا توجد فرصة لتطبيق خطط ترامب ونتنياهو في التطهير العرقي – والتي أعيدت تسميتها الآن لتصبح "الهجرة الطوعية". فخلال ساعات، أعلن كل من الأردن ومصر عن رفضهما لأي تهجير للسكان – ليس من باب التعاطف مع الفلسطينيين، ولكن بشكل أساسي لأن الدولتين تعلمان بأن تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين إليهما يمكن أن تشكل مزيجاً متفجراً.
يعتبر الأردن ومصر ذلك مشكلة وجودية تهدد نظاميهما. ثم ورد اسم ألبانيا، ولكن ما لبثت تيرانا أن رفضت ذلك بعد ساعات.
في فترته الرئاسية الأولى، أخفق ترامب في بيع "صفقة القرن" للمنطقة، والتي كانت محاولة لدفن الحقوق الفلسطينية في قبر شيد بالصفقات التجارية وبكثير من الخرسانة. وفي فترته الثانية، أخفقت حتى قبل أن تبدأ خطته لبيع التطهير العرقي للفلسطينيين إلى جيرانهم. وهذا أمر أكثر أهمية.
هذا يعني أن الفلسطينيين هنا ليبقوا، وبأعداد أكبر من اليهود، داخل فلسطين التاريخية. تحقق ذلك في خضم معاناة شخصية غير مسبوقة، ورغم ذلك أثبت الفلسطينيون تمسكهم بهذه الأرض.
هذا هو انتصار الروح الإنسانية على القهر المنظم. وهذا هو أيضاً الدرس المستفاد من المحرقة.