يذهب مفهوم المقايضة -عموما- إلى الشأن التجاري أكثر منه إلى الشأن الإنساني، وذلك حسب العرف المتداول بين الناس، حيث تتم المقايضة سلعة بسلعة، وهذا أسلوب قديم -ربما- قبل أن يتطور النظام المالي المتداول بين الناس، كما هو الحال في الوقت الحاضر، حيث يتم دفع المال مقابل السلع، وأصبح من النادر جدا أن يعود أسلوب المقايضة التقليدية في عرفها القديم، والذي يهمنا أكثر في هذه المناقشة هي المقايضة الوجدانية، وهي المقايضة التي أراها من وجهة نظر شخصية، أنها امتحان كبير للذات التي تقف على طرف مقابل لتزن مستويات التفاعل بين الطرفين: إن سلم علي فسأسلم عليه، وإن زارني فسأزوره، وإن سأل عني فسأسأل عنه، وإن قدم لي هدية قدمت له هدية، وإن قابلني مبتسما فسأبتسم له، وإن واجهني بوجه مكفهر فسيكون موقفي كذلك؛ فأنا لست أقل منه، وتتناسل هذه المشاعر المتقايضة مع الطرف الآخر، وكأننا في حلبة نزال المنتصر فيها من يكون شعوره وفق هذه الصورة.
هذه الهواجس -يقينًا- لا يصرّح بها الفرد مع آخرين من حوله بصورة مباشرة، وإنما يضمرها في ذاته، ليقابل كل من يتوقع منه أن يكون نقيضًا لما يشعر به، بذات الأسلوب، والسلوك «مقايضة» وبالتالي متى وصل أحدنا إلى هذا المستوى من الشعور الذاتي تجاه الآخرين من حوله، فَقَدَ •–•كما أتصور– بوصلته الإنسانية، وأسقط نفسه «مع سبق الإصرار والترصد» في مأزق العلاقات الذهنية، وخرج بكامل إرادته عن مجموعة من الخيارات الإنسانية التي يحملها بين جنباته، حيث إن كل إنسان لا يمكن أن يعيش حالة جدب قاحلة وقاسية من كثير من المعززات الإنسانية التي يحملها بين جنباته، وإلا أصبح وحشًا كاسرًا لا يطيقه حتى أقرب الناس إليه، من أسرته في بيته الصغير، ولا أتصور أن إنسانًا طبيعيًا يمكن أن تصل حالته إلى هذا المستوى من الضعف.
ولأن الأمر كذلك فكيف يستطيب لفرد أن يتحرر من هذه التجاذبات الإنسانية التي يحملها بين جنباته؟ وبصورة أخرى كيف تكون له القدرة على لعب دورين في آن واحد، وهو ما يسمى بـ«انفصام الشخصية»؟ ما قد يحصل في مثل هذه الحالة عندما يواجه الفرد ضغطًا شعوريًا غير مسبوق، وتكون ردة الفعل لزمن قصير جدا، حتى «تهدأ العاصفة» أما أن يكون وفق ما جاء أعلاه سلوك ممنهج على طول الخط مع الآخرين، فهنا المسألة تأخذ بعدًا آخر، يندرج تحت الأمراض النفسية، ومعنى ذلك، فمتى أحس أحدنا بأنه وقع في مثل هذه المأزق أن يراجع نفسه سريعًا؛ لأن الأمر غير طبيعي بالمطلق، واستحسانه لهذا السلوك الذي يتصادم به مع الآخرين، فلن يكون على رأس قائمته أحد، حيث العزلة عندئذ.
يأتي البغض هنا، انعكاسا لمآلات النتائج المتوقعة من استمرار حالات المقايضة الوجدانية بين الناس، حيث يظل كل فرد يتوجس الأمر السيء من الآخر، ولا يأمن ما يضمره الآخر له، مع أن الآخر عندما يواجهك بوجه عبوس، أو عدم القدرة على التفاعل معك بالصورة التي تتوقعها -ربما- أنه يمر بحالة وجدانية صعبة، ربما عنده مشكلة أو أزمة في أمر ما، ربما كان مرهقا نفسيا أو جسديا، ربما لا يملك مالًا ليقابلك بمستوى هداياك، ربما لم يجد الفرصة المناسبة ليزورك، ربما انشغل عن الاتصال بك، فقائمته من العلاقات ليست أنت فقط، ثم، أين البذخ الإنساني الذي تتمتع به، وتشعر نفسك بأنك تمتلكه دون غيرك؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: خفض المساعدات الإنسانية قد يؤدي إلى وفاة مزيد من الأطفال
(الولايات المتحدة"أ.ف.ب": حذّرت الأمم المتحدة من أن خفض المساعدات الدولية قد يضع حدا للتقدم المسجل على مدى عقود في مجال مكافحة وفيات الأطفال، بل أنه قد يؤدي إلى عكس الاتجاه.
ومع أن التقرير السنوي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي لم يذكر الولايات المتحدة تحديدا، إلا أنه يأتي في وقت ألغت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معظم برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو إس إيد) التي كانت تخصص لها ميزانية سنوية تبلغ 42.8 مليار دولار.
وقالت المديرة المساعدة لقسم الصحة في اليونيسيف فوزية شفيق لفرانس برس إن "قلق أوساط الصحة العالمية في ذروته".
وحذّر التقرير الذي نشر امس من أن تداعيات خفض المساعدات ستكون الأسوأ في البلدان حيث تعد معدلات الوفيات في أوساط الرضّع هي الأعلى راهنا، على غرار إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا.
وأفاد التقرير "ببساطة، ما لم تتم المحافظة على دعم الخدمات المنقذة للأرواح، يمكن للكثير من البلدان أن تتوقع ازديادا في أعداد الوفيات لدى الأطفال وحديثي الولادة".
في العام 2023، واصل عدد الوفيات في أوساط الأطفال دون سن الخامسة انخفاضه مع تسجيل 4.8 ملايين وفاة، بينها 2.3مليون طفل حديث الولادة دون سن الشهر، بحسب التقرير.
تراجع عدد هذه الوفيات إلى ما دون خمسة ملايين للمرة الأولى في العام 2022، ويمثّل العدد القياسي المنخفض الجديد تراجعا نسبته 52 في المائة منذ العام 2000.
لكن شفيق شددت على أن "4.8 ملايين ليس بعدد قليل".
ومنذ العام 2015، تباطأ التقدّم الذي يسجل في مكافحة وفيات الأطفال مع إعادة توجيه أموال المساعدات لمكافحة كوفيد. وقد يكون ذلك بداية نمط خطير.
وقالت المديرة التنفيذية لليونيسيف كاثرين راسل في بيان إن "خفض وفيات الأطفال التي يمكن تجنّبها إلى مستوى قياسي هو إنجاز لافت. لكن في غياب خيارات السياسة الصحيحة والاستثمار المناسب، نواجه خطر تبديد هذه المكاسب التي تحققت بصعوبة".
وأضافت "لا يمكننا السماح بحدوث ذلك".
تظهر من الآن بعض التداعيات السلبية لخفض التمويل مثل نقص في عدد العاملين في مجال الصحة وإغلاق عيادات وعرقلة في برامج التطعيم ونقص في الإمدادات الضرورية على غرار علاجات الملاريا.
وعلى سبيل المثال، تعاني إثيوبيا من ازدياد كبير في أعداد الإصابات بالملاريا، بحسب شفيق.
في الوقت ذاته، تعاني الدولة الإفريقية نقصا حادا في الفحوص التشخيصية والناموسيات المعالَجة بالمبيدات الحشرية للأسرّة وتمويل حملات الرش ضد البعوض الناقل للأمراض.
وخلص تقرير منفصل للمنظمات ذاتها إلى تسجيل عدد كبير من حالات وفاة متأخرة للأجنة أي بعد 28 أسبوعا من الحمل وقبل أو أثناء الولادة، إذ بلغ عدد هؤلاء حوالى 1.9 مليون حالة في 2023.
وأفاد التقرير الثاني بأنه "في كل يوم، تمر أكثر من خمسة آلاف امرأة حول العالم بالتجربة المفجعة المتمثلة بولادة جنين ميت".
وبوجود الرعاية المناسبة أثناء الحمل والولادة، بمكن تجنّب الكثير من هذه الوفيات، كما يمكن تجنّب ولادة أطفال ضعفاء بشكل مبكر.
يمكن أيضا تجنّب وفاة الأطفال إلى حد كبير عبر مكافحة أمراض يمكن الوقاية منها مثل الالتهاب الرئوي والإسهال.
وقال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس "من مواجهة الملاريا وصولا إلى منع الإملاص والرعاية المدعومة بالأدلة لأصغر الأطفال حجما، يمكننا تغيير الوضع بالنسبة لملايين العائلات".