بصرف النظر عن اختلاف شرّاح الغرامشي في فهم معنى الكتلة التاريخية -هل هي تحالف طبقات تحت هيمنة الحزب الشيوعي، أم هي تكوين جبهة سياسية تمثل البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة تحت "هيمنة" الحزب الشيوعي- وبصرف النظر كذلك عن الاختلافات الكبيرة بين المؤسسة الدينية الكاثوليكية التي طوّر بعض كهنتها اللاتين مفهوم "لاهوت التحرير" وبين المؤسسات الدينية في الفضاء الإسلامي السني، فإنّ شعارات الثورة التونسية (شغل، حرية، كرامة وطنية) بخلفيتها اليسارية ورهاناتها الاقتصادية والاجتماعية، ودخول "حركة النهضة" بمظلوميتها وبمرجعيتها الاحتجاجية "القيمية" إلى الحقل السياسي القانوني، كل ذلك كان يُبشّر -نظريا- بولادة سجال عمومي يقطع مع السجالات/السجلاّت القولية التي هيمنت على المجال العام في اللحظتين الدستورية (البورقيبية) والتجمعية (فترة حكم المخلوع بن على).



لا يخفى على أحد أن منظومة الحكم بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا قد سيطرت على الفضاء العام باستعمال آلتي القمع الأيديولوجي والأمني، واحتكرت عملية إنتاج الثروات الرمزية -أي "الحقيقة الجماعية" المقبولة والمسموح لها بالتداول- بالتوازي مع احتكار المنظومة الريعية-الزبونية للثروات المادية. وهو ما يعني أن الخروج من "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية كان يستدعي تغيير "البراديغم السياسي"، برهاناته ومفاهيمه ومنطقه القائم على الحكم الأقلي (بنية تسلطية جهوية-زبونية تُشرف على إدارة مرحلة الاستعمار غير المباشر، وذلك بتكريس واقع التخلف والتبعية باستعمال استعارة وطنية تحديثية زائفة).

لم يكن استئناف التفكير في "الكتلة التاريخية" يعني نهاية الخلافات الأيديولوجية ولا تذويب التناقضات المرجعية مع "الإسلاميين"، بل كل ما يعنيه كان تجاوز منطق "الصراع الوجودي" وما يصحبه من تذيّل واقعي لمنظومة الحكم (الرجعية البرجوازية) بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي
لكنّ النخب التونسية -يمينا ويسارا- كسرت أفق هذا الانتظار "المشروع" ودفعت بالكتلة التاريخية ولاهوت التحرير، باعتبارهما أطروحتين قادرتين على إثراء النقاش التأسيسي لبناء المشترك المواطني، إلى دائرة اللا مفكر فيه. وهو "خيار نخبوي" متجاوز للحقل السياسي الصرف. وسنحاول في هذا المقال تقديم بعض عناصر الإجابة عن الأسباب العميقة التي جعلت النخب التونسية تتواطأ -رغم كل خلافاتها الأيديولوجية والسياسية- على تغييب هاتين الأطروحتين عن السجال العمومي.

رغم تخفف كل مكونات اليسار التونسي تقريبا من سمة "الشيوعية"، سواء أكان ذلك راجعا لكون "الشيوعية" قد أصبحت في زمن العولمة من "الكلمات سيئة السمعة" على حد تعبير الراحل عبد الوهاب المسيري، أم كان ذلك الخيار السياسي نتيجة مراجعات فكرية حقيقية، فإن مركزية المسألتين الاقتصادية والاجتماعية في الفكر اليساري، ورهان بناء مشترك مواطني ينفتح على النقيض الأيديولوجي (أي الإسلاميين) تحت سقف الديمقراطية التمثيلية (لا الديمقراطية الشعبية) كانا يجعلان من التفكير في "الكتلة التاريخية" زمن التأسيس أمرا مشروعا، بل أمرا مطلوبا.

فلماذا نحّت كل مكونات اليسار هذا الخيار رغم انتمائه إلى التراث الماركسي؟ ولماذا أعرضت القوى اليسارية عن استئناف أطروحة "غرامشي" وتَونَستها؟ إن تفسير هذا الخيار باختلاف السياقات -أي بكون "الكتلة التاريخية" في فكر غرامشي كانت خيارا تكتيكيا لإسقاط "الفاشية" ولم تكن خيارا استراتيجيا للحكم مع الرجعية الدينية أو مع الرجعية البرجوازية- هو تفسير ممكن، ولكنّ الاستئناف أو "التَونسة" كانت تعني القدرة على توظيف مفهوم" الكتلة التاريخية" لأداء دور مختلف. وهو في تقديرنا دور "تقدمي" بالضرورة لأنه يقطع مع التراث الاستبدادي ويؤسس لنصاب سياسي "ديمقراطي" جديد.

لم يكن استئناف التفكير في "الكتلة التاريخية" يعني نهاية الخلافات الأيديولوجية ولا تذويب التناقضات المرجعية مع "الإسلاميين"، بل كل ما يعنيه كان تجاوز منطق "الصراع الوجودي" وما يصحبه من تذيّل واقعي لمنظومة الحكم (الرجعية البرجوازية) بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي. لقد كانت إعادة تشغيل أغلب القوى اليسارية لمنطق "التناقض الرئيس والتناقض الثانوي" عائقا نظريا أساسيا يمنع إخراج الصراع ضد "الإسلاميين" (أي ممثلي بنية "التسلط الديني" حسب الطرح اليساري) من دائرة التنافي ومفردات النفي وروح "الاستئصال" بشكليه الصلب والناعم، كما كان ذلك المنطق هو المدخل الملكي لتحالف اليسار بعد الثورة مع "الرجعية البرجوازية" (ورثة المنظومة القديمة أو ممثلي بنية التسلط المُعلمن). إذا كانت عطالة القوى اليسارية قد تجلت في تهميش مفهوم الكتلة التاريخية وفي حرف الصراع إلى مدارات "ثقافوية" يصبّ خراجها في خزائن "الرجعية البرجوازية"، فإن حركة النهضة لم تكن في وضع أفضل من جهة العطالة الفكرية والتذيل للمنظومة القديمة منذ المرحلة التأسيسية، أي قبل دخول مرحلة "التوافق" مع ورثة تلك المنظومةوبانعدام القاعدة النظرية لتأسيسٍ جديدٍ بـ"تَونسة" مفهوم "الكتلة التاريخية"، لم يكن أمام اليسار "الثوري" إلا التحول إلى جسم وظيفي في سردية التَّونسة السلطوية، أو في سردية "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" وما يختفي وراءها من خيارات اقتصادية واجتماعية وقيمية "برجوازية".

إذا كانت عطالة القوى اليسارية قد تجلت في تهميش مفهوم الكتلة التاريخية وفي حرف الصراع إلى مدارات "ثقافوية" يصبّ خراجها في خزائن "الرجعية البرجوازية"، فإن حركة النهضة لم تكن في وضع أفضل من جهة العطالة الفكرية والتذيل للمنظومة القديمة منذ المرحلة التأسيسية، أي قبل دخول مرحلة "التوافق" مع ورثة تلك المنظومة.

فعلى الضد مما تفرضه القاعدة الاجتماعية المهمشة -فئويا وجهويا- لحركة النهضة، وعلى الضد من الانتظارات المشروعة لقواعدها ولعموم المواطنين (في مستوى الاحتياجات الأساسية حسب هرم ماسلو)، وقعت النهضة في فخ الصراعات الهوياتية مع القوى "اللائكية" ونواتها اليسارية، وساهمت بالتالي -سواء بمنطق الفعل أو رد الفعل- في حرف الصراع الاجتماعي عن مداراته الحقيقية، وفي تضخيم الدور "التحكيمي" للنواة الصلبة للمنظومة القديمة. فلمواجهة التحالف اليساري-التجمعي الجديد، اختارت النهضة أن تنافس اليسار في خدمة المنظومة القديمة. ولم يكن منطق التوافق -وهو منطق حكم المرحلة التأسيسية ذاتها- إلا تجليا لهذا الخيار الاستراتيجي.

قد يجادل البعض في أنه من العبث أن نطالب مَن اختار التوافق مع المنظومة بشروطها، ومَن اعتبر أن تناقضه الرئيس هو مع اليسار ومقولاته "الاستئصالية"، أن يطرح على نفسه بناء "لاهوت تحرير إسلامي" يوازي لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ويتبنى عمليا -لا خطابيا- شعار "الخيار التفضيلي للفقراء". ونحن لا ننفي وجاهة هذا الاعتراض ولكننا نرى أنّ ما يؤسسه -أي التحالف مع ورثة المنظومة القديمة بمنطق "الاستضعاف الحداثي" بعد ذهاب ريح "الاستعلاء الايماني"- هو نتيجة لغياب التفكير في استمرار الحاجة إلى مقولات اليسار وإمكانية "أسلمتها" -أو توظيفها في بناء المشترك المواطني- كما فعل لاهوت التحرير بـ"تمسيح"/ تعميد مقولات الصراع الطبقي.

فشل الانتقال الديمقراطي في تونس ليس مردودا فقط إلى طبيعة خياراته اللاوطنية واللاشعبية التي كانت النواة الصلبة للمنظومة القديمة أكبر مستفيد منها، بل هو مردود أساسا إلى "قمع" بعض الخيارات الجماعية التي كانت ممكنة منذ لحظة التأسيس
لقد نجح اليسار والنخب الليبرالية الفرانكفونية بعد الثورة في دفع حركة النهضة إلى تبنّي منطق "مشبوه" لمعنى "التَّونسة"، أي ذلك المعنى الذي يقوم على أساس التسليم بالأساطير المؤسسة للدولة-الأمة باعتبارها "مقدسا مُعَلْمَنا" لا يقبل المساءلة وإعادة التفاوض الجماعي.

إذا كان اليسار قد تَونَس نفسه -منذ عهد المخلوع- بصورة جعلته مجرد ملحق سياسي أو حقوقي أو مدني أو نقابي في خدمة النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي، فإن النهضة بخضوعها للابتزاز "الحداثوي" من جهة، وبعجزها من جهة ثانية على تطوير مقولاتها الكلامية وخياراتها الفقهية -باستئناف النظر في الترات وكذلك بالانفتاح على التراث العالمي- قد تتونَست بصورة جعلتها مجرد وكيل "مؤقت" لمنظومة الاستعمار غير المباشر أو منظومة الإذلال المزدوج: أولا، إذلال الخارج للسلطة بصورة تفقدها مقومات السيادة في ظل وهم "الاستقلال"؛ ثانيا، إذلال السلطة للمواطنين بصورة تفقدهم مقومات المواطنة والعيش الكريم في ظل وهم "الانتقال الديمقراطي".

وقد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن فشل الانتقال الديمقراطي في تونس ليس مردودا فقط إلى طبيعة خياراته اللاوطنية واللاشعبية التي كانت النواة الصلبة للمنظومة القديمة أكبر مستفيد منها، بل هو مردود أساسا إلى "قمع" بعض الخيارات الجماعية التي كانت ممكنة منذ لحظة التأسيس. وهي خيارات قد يكون تغييبها سببا من أهم الأسباب التي أفشلت الانتقال الديمقراطي وحوّلت "الجمهورية الثانية" -بتأسيسها وبانتقالها الديمقراطي وبتصحيح مسارها- إلى مجاز حقيقتُه النواة الصلبة في "الجمهورية الأولى".

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية اليسارية الصراع تونس اليسار اسلاميين صراع أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتقال الدیمقراطی حرکة النهضة التفکیر فی التی کانت من جهة لم یکن

إقرأ أيضاً:

رئيس التحرير يكتب: حسام أبو صفية.. غزة إذ تنتظر أحد جبالها الراسخات

علق رئيس تحرير "عربي21" فراس أبو هلال على المشاهد التي بثتها سلطات الاحتلال للطبيب الأسير حسام أبو صفية الأربعاء، وظهر فيها مكبل اليدين والقدمين، معتبرا أن الأنباء التي تفيد بقرب الإفراج عنه؛ تعد تكريما لكل شهداء وجرحى وأبطال القطاع الطبي في غزة.

وقال رئيس التحرير، في مقال له، إن الاحتلال تعمد نشر مقاطع فيديو مجتزأة للدكتور أبو صفية أرادوا فيها هز صورته، لكنها ما رسمت عليه إلا علامات الكبرياء والشموخ والصمود.

وأردف أبو هلال قائلا: "أرادوا إهانته بهذه المقاطع المصورة، ولكن الفلسطيني وغيره من أحرار العالم يعلمون أن جبلا مثل أبو صفية لا يهان، وأنه -حتى عندما يفقد حريته- يبقى حرا، وأنه هو من يقود سجانيه الجبناء -حتى إن كان مثقلا بالقيود".  

وتفيد بعض المصادر بأن "أبو صفية" سيفرج عنه يوم السبت المقبل ضمن دفعة التبادل الأخيرة في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. 


وقال رئيس التحرير، إن هذه الحرب -في أحد وجوهها المهمة- كانت حربا إجرامية ضد المستشفيات والقطاع الطبي. بدأت باستهداف المستشفى الأهلي/ المعمداني، ثم باقتحام وإحراق درة مستشفيات غزة "مستشفى الشفاء" مرتين، قبل أن يتم قصف واستهداف كل المستشفيات والمراكز الصحية. 

أضاف أبو هلال: "لم يكن حسام أبو صفية وحيدا في مركز هذه الحرب، بل كان جنبا إلى جنب مع الطبيب العظيم مروان البرش الذي اغتاله الاحتلال تحت التعذيب في السجون، ومع محمد أبو سلمية الذي ناله نصيب من الاعتقال، ومئات الأطباء والممرضين والمساعدين وعاملي النظافة في المستشفيات الذين تصدوا للموت والقتل ولمهمتهم العظيمة في علاج المصابين والجرحى والمرضى حتى آخر رمق". 

تاليا نص مقال رئيس تحرير "عربي21" فراس أبو هلال :
تقول الجغرافيا إن غزة لا جبال فيها، فهي قطاع ساحلي منبسط وسهل تماما، ولكن الحقائق التاريخية تقول إن الجغرافيا كاذبة. فغزة العظيمة، امتلكت عددا لا نهائيا من الجبال، من رجالها ونسائها، "السهلين" على أحبائهم، صعبي المراس على عدوهم، أولئك الذين سطروا تاريخا من الصمود والأساطير، وكانوا وكنّ أشد رسوخا من الجبال الطبيعية. فهل نصدق التاريخ أم الجغرافيا؟
هل نصدق الكتب العلمية "الباردة" أم حكمة التاريخ الساخنة كمياه المتوسط في تموز؟ هل نصدق "حسّاسات" الجيولوجيا المعدنية أم "مجسّات" القلب التي لا تخطئ أبدا؟ هل نصدق بلدوزرات كيان الإبادة الجماعية أم سمّاعات طبيب الأطفال "حسام أبو صفية"؟ 

هذه الحرب العدوانية على غزة منذ بدايتها وحتى توقف السلاح، مؤقتا، هي حرب الصورة. حاولت ماكينة الإبادة الجماعية أن تنشر صورا لتحقيق أهدافها في كسر الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، ولكنها كانت دائما تفشل، وكانت الصورة تفعل العكس تماما. يحصل هذا لأن هذا المحتل لا يفهمنا.
يملك الاحتلال تاريخا طويلا من "العلاقة" مع الفلسطيني -علاقة الاحتلال بالشعب المحتل-، ويملك مئات الخبراء "بالشؤون الفلسطينية" والمستشرقين ومراكز التفكير والدراسات، ولكنه يفشل بعد أكثر من ستة وسبعين عاما من الاحتلال في فهم الشعب الفلسطيني، ولهذا فإن كل محاولاته في ربح معركة الصورة تخسر دائما. 

قد يستطيع الاحتلال تسجيل نقاط في هذه الحرب عند جمهوره المتعطش للدماء والقتل والمذبحة، وقد يكسب من يحكم هذا الكيان قليلا في معاركه السياسية ضد خصومه الداخليين من خلال هذه الصور، لكنه لا يربح أبدا في معركة الصورة مع الشعب الفلسطيني، لأنه باختصار لا يفهمه، ولا يدرك أنه يقدس "الصمود" حتى لو تبعه سجن أو موت، وأنه يتبتل في حضرة الشهداء والمعتقلين الذين "يمضون إلى حتفهم باسمين"، وأنه يقتات عزة وأنفة من رجاله ونسائه الذين يثبتون كالجبال ولا يمنحون عدوهم، رغم الحزن والألم، "نشوة" الانتصار. 


تقول بعض المصادر إن "أبو صفية" سيفرج عنه يوم السبت المقبل ضمن دفعة التبادل الأخيرة في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار.

في هذه الحرب، حفظ الفلسطينيون وأحرار العالم صورا كثيرة خسر فيها كيان الإبادة الجماعية أمام الفلسطيني الأعزل إلا من كرامته وأسطورته. بعض هذه الصور سيستمر لأجيال طويلة بدون شك، وسيكتب عنها صحفيون وشعراء وناثرون مجدّون سيأتون بعد عشرين أو مئة أو ألف عام، وكأن قدرك أيها الفلسطيني أن تكون صانعا للمجد، وصانعا للتاريخ، وصانعا للمادة التي سيعتاش عليها صنّاع الأدب والثقافة والصحافة إلى أبد الآبدين!.

ماذا سيكتب الشعراء عن صورة "حسام أبو صفية" وهو يمشي بمريوله الأبيض نحو دبابات القتلة الذين سيعتقلونه؟ كان يمشي رافعا رأسه للسماء، كأنه يستمد القوة والعزيمة من قوة إلهية أكبر من كل القتلة، ظهره لم ينحن تماما رغم أنه يمشي بين الركام الذي خلفه القصف. يمشي تاركا وراءه مستشفى "كمال عدوان" التي ظل فيها حتى آخر نفس ولكن قلبه ظل معلقا فيها رغم مغادرته للمكان.

ماذا سيكتب الشعراء عن "جبل" مشى نحو حتفه دون أن يهتز، وعن أمة تملأ أعدادها عين الشمس ولكنها لم تستطع أن تملأ عين كيان الإبادة الجماعية لتمنعه من اعتقال هذا الجبل؟ وكيف سيفسر علماء "الواقعية السياسية" و"تقدير الموقف" المبني على موازين القوى هذا المشهد؟ وأي قوة جعلت هذا الرداء الأبيض يواجه الموت الأسود الذي يمارسه القتلة لأسابيع ضد المستشفى، قبل أن تأتي لحظة الاعتقال؟ 

لم يكن اعتقال "حسام أبو صفية" في الثامن والعشرين من كانون أول/ ديسمبر الماضي هو الأول خلال هذه الحرب. ولم يكن هذا الاعتقال هو صورة الصمود الوحيدة للطبيب الغزاوي في مواجهة تنكيل الاحتلال. اعتقل أبو صفية لفترة قصيرة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024. وبعد أن أفرج عنه، لجأ الاحتلال للانتقام منه عبر اغتيال أحد أبنائه، وهذه كانت إحدى "صور" أبو صفية التي خسر فيها الاحتلال، حين ظهر صامدا -وإن كان حزينا كما يليق بأب شهيد- أثناء إمامته لصلاة الجنازة على ابنه الصغير. في تلك الصورة، لم يجهش أبو صفية، "وكم صعب أن لا يجهش (أب) شهيد" كما قال مظفر النواب مرّة عن أمهات الشهداء.  


لم يكتف القتلة السفلة -وكل احتلال هو بالضرورة قاتل سافل- بقتل ابن "حسام أبو صفية"، بل وجهوا له طائرة "كواد كابتر" غادرة مثلهم في المستشفى، حيث قصفته وأصابته عدة إصابات في 24 تشرين ثان/ نوفمبر الماضي. في هذا القصف، خسر الاحتلال "حرب الصورة" مرة أخرى، فقد أرادت أن تضعف معنوية الفلسطيني وخصوصا من أبناء القطاع الطبي من خلال هذا الاستهداف، ولكن "الجبل" أبو صفية كان له رأي آخر عندما قال بعد الإصابة وجسده مكلل "بالشاش " الأبيض: إصابتي شرف لي. فأي جبل أنت يا حسام؟ وأي نوع من البشر أنت؟! 

لا يكل الاحتلال ولا يمل من معركة الصور مع الفلسطيني رغم خسارته الدائمة فيها.

حوّل ما يسمى بالقضاء -وهو شريك أساسي بالإبادة والجريمة- أبو صفية للمحاكمة بصفة "مقاتل غير شرعي"! فأي مقاتل أنت يا صاحب الرداء الأبيض وأنت لا تملك سلاحا سوى "سماعة" الأذن و"قسم أبوقراط" وعزيمة لا تلين؟ 

أثناء المحكمة- المهزلة، نشر الاحتلال مقاطع فيديو مجتزأة للدكتور أبو صفية أرادوا فيها هز صورته، كان يمشي بيدين ورجلين مكبلتين، يبدو عليه التعب، ولكن والله ما بدت عليه إلا علامات الكبرياء والشموخ والصمود. أرادوا إهانته بهذه المقاطع المصورة، ولكن الفلسطيني وغيره من أحرار العالم يعلمون أن جبلا مثل أبو صفية لا يهان، وأنه -حتى عندما يفقد حريته- يبقى حرا، وأنه هو من يقود سجانيه الجبناء -حتى إن كان مثقلا بالقيود-!  

هذه الحرب -في أحد وجوهها المهمة- كانت حربا إجرامية ضد المستشفيات والقطاع الطبي. بدأت باستهداف المستشفى الأهلي/ المعمداني، ثم باقتحام وإحراق درة مستشفيات غزة "مستشفى الشفاء" مرتين، قبل أن يتم قصف واستهداف كل المستشفيات والمراكز الصحية. 

لم يكن حسام أبو صفية وحيدا في مركز هذه الحرب، بل كان جنبا إلى جنب مع الطبيب العظيم مروان البرش الذي اغتاله الاحتلال تحت التعذيب في السجون، ومع محمد أبو سلمية الذي ناله نصيب من الاعتقال، ومئات الأطباء والممرضين والمساعدين وعاملي النظافة في المستشفيات الذين تصدوا للموت والقتل ولمهمتهم العظيمة في علاج المصابين والجرحى والمرضى حتى آخر رمق. 

تقول بعض المصادر إن "أبو صفية" سيفرج عنه يوم السبت المقبل ضمن دفعة التبادل الأخيرة في المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. غزة وأحرار العالم كلهم يرجون أن يكون هذا الخبر صحيحا، فالجبل أبو صفية يليق بالحرية وهي تليق به، والإفراج عنه هو تكريم لكل شهداء وجرحى وأبطال القطاع الطبي في غزة، وهذا القطاع المنبسط الذي وهبته الجغرافيا سهولة رائقة، ينتظر على أحر من الجمر أحد جباله ورجاله الذين لا يتكررون، إلا مرة كل ألف عام!

مقالات مشابهة

  • مع بدء تأثير الكتلة القطبية .. نصائح وتحذيرات من الأرصاد الجوية
  • لطيفة التونسية: سعيدة بقراري بعدم الإنجاب
  • التبرير اللا اخلاقي .. كيف يُعاد تشكيل العقول؟
  • رئيس التحرير يكتب: حسام أبو صفية.. غزة إذ تنتظر أحد جبالها الراسخات
  • محافظ الشرقية يُهنئ فريق مدرسة الشهيد محمد قطب دياب 2 لتكريمهم بالعاصمة التونسية لفوزهم في مسابقة الأسبوع العربى للبرمجة
  • بعد قليل.. محاكمة 3 متهمين في قضية أحداث فض اعتصام النهضة
  • إعادة محاكمة 3 متهمين في قضية "فض اعتصام النهضة" اليوم
  • بوتين: المحادثات الروسية الأمريكية التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض كانت “إيجابية”.. ويسعدني لقاء ترامب
  • فساد المرتزقة.. نفقات كهرباء عدن المستأجرة تفوق تكاليف سد النهضة الأثيوبي
  • ارتفاع تأييد اليسار الألماني بفضل حضوره القوي على الإنترنت قبل الانتخابات