اللاّمفكر فيه بعد الثورة التونسية: الكتلة التاريخية ولاهوت التحرير
تاريخ النشر: 18th, October 2024 GMT
بصرف النظر عن اختلاف شرّاح الغرامشي في فهم معنى الكتلة التاريخية -هل هي تحالف طبقات تحت هيمنة الحزب الشيوعي، أم هي تكوين جبهة سياسية تمثل البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة تحت "هيمنة" الحزب الشيوعي- وبصرف النظر كذلك عن الاختلافات الكبيرة بين المؤسسة الدينية الكاثوليكية التي طوّر بعض كهنتها اللاتين مفهوم "لاهوت التحرير" وبين المؤسسات الدينية في الفضاء الإسلامي السني، فإنّ شعارات الثورة التونسية (شغل، حرية، كرامة وطنية) بخلفيتها اليسارية ورهاناتها الاقتصادية والاجتماعية، ودخول "حركة النهضة" بمظلوميتها وبمرجعيتها الاحتجاجية "القيمية" إلى الحقل السياسي القانوني، كل ذلك كان يُبشّر -نظريا- بولادة سجال عمومي يقطع مع السجالات/السجلاّت القولية التي هيمنت على المجال العام في اللحظتين الدستورية (البورقيبية) والتجمعية (فترة حكم المخلوع بن على).
لا يخفى على أحد أن منظومة الحكم بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا قد سيطرت على الفضاء العام باستعمال آلتي القمع الأيديولوجي والأمني، واحتكرت عملية إنتاج الثروات الرمزية -أي "الحقيقة الجماعية" المقبولة والمسموح لها بالتداول- بالتوازي مع احتكار المنظومة الريعية-الزبونية للثروات المادية. وهو ما يعني أن الخروج من "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية كان يستدعي تغيير "البراديغم السياسي"، برهاناته ومفاهيمه ومنطقه القائم على الحكم الأقلي (بنية تسلطية جهوية-زبونية تُشرف على إدارة مرحلة الاستعمار غير المباشر، وذلك بتكريس واقع التخلف والتبعية باستعمال استعارة وطنية تحديثية زائفة).
لم يكن استئناف التفكير في "الكتلة التاريخية" يعني نهاية الخلافات الأيديولوجية ولا تذويب التناقضات المرجعية مع "الإسلاميين"، بل كل ما يعنيه كان تجاوز منطق "الصراع الوجودي" وما يصحبه من تذيّل واقعي لمنظومة الحكم (الرجعية البرجوازية) بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي
لكنّ النخب التونسية -يمينا ويسارا- كسرت أفق هذا الانتظار "المشروع" ودفعت بالكتلة التاريخية ولاهوت التحرير، باعتبارهما أطروحتين قادرتين على إثراء النقاش التأسيسي لبناء المشترك المواطني، إلى دائرة اللا مفكر فيه. وهو "خيار نخبوي" متجاوز للحقل السياسي الصرف. وسنحاول في هذا المقال تقديم بعض عناصر الإجابة عن الأسباب العميقة التي جعلت النخب التونسية تتواطأ -رغم كل خلافاتها الأيديولوجية والسياسية- على تغييب هاتين الأطروحتين عن السجال العمومي.
رغم تخفف كل مكونات اليسار التونسي تقريبا من سمة "الشيوعية"، سواء أكان ذلك راجعا لكون "الشيوعية" قد أصبحت في زمن العولمة من "الكلمات سيئة السمعة" على حد تعبير الراحل عبد الوهاب المسيري، أم كان ذلك الخيار السياسي نتيجة مراجعات فكرية حقيقية، فإن مركزية المسألتين الاقتصادية والاجتماعية في الفكر اليساري، ورهان بناء مشترك مواطني ينفتح على النقيض الأيديولوجي (أي الإسلاميين) تحت سقف الديمقراطية التمثيلية (لا الديمقراطية الشعبية) كانا يجعلان من التفكير في "الكتلة التاريخية" زمن التأسيس أمرا مشروعا، بل أمرا مطلوبا.
فلماذا نحّت كل مكونات اليسار هذا الخيار رغم انتمائه إلى التراث الماركسي؟ ولماذا أعرضت القوى اليسارية عن استئناف أطروحة "غرامشي" وتَونَستها؟ إن تفسير هذا الخيار باختلاف السياقات -أي بكون "الكتلة التاريخية" في فكر غرامشي كانت خيارا تكتيكيا لإسقاط "الفاشية" ولم تكن خيارا استراتيجيا للحكم مع الرجعية الدينية أو مع الرجعية البرجوازية- هو تفسير ممكن، ولكنّ الاستئناف أو "التَونسة" كانت تعني القدرة على توظيف مفهوم" الكتلة التاريخية" لأداء دور مختلف. وهو في تقديرنا دور "تقدمي" بالضرورة لأنه يقطع مع التراث الاستبدادي ويؤسس لنصاب سياسي "ديمقراطي" جديد.
لم يكن استئناف التفكير في "الكتلة التاريخية" يعني نهاية الخلافات الأيديولوجية ولا تذويب التناقضات المرجعية مع "الإسلاميين"، بل كل ما يعنيه كان تجاوز منطق "الصراع الوجودي" وما يصحبه من تذيّل واقعي لمنظومة الحكم (الرجعية البرجوازية) بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي. لقد كانت إعادة تشغيل أغلب القوى اليسارية لمنطق "التناقض الرئيس والتناقض الثانوي" عائقا نظريا أساسيا يمنع إخراج الصراع ضد "الإسلاميين" (أي ممثلي بنية "التسلط الديني" حسب الطرح اليساري) من دائرة التنافي ومفردات النفي وروح "الاستئصال" بشكليه الصلب والناعم، كما كان ذلك المنطق هو المدخل الملكي لتحالف اليسار بعد الثورة مع "الرجعية البرجوازية" (ورثة المنظومة القديمة أو ممثلي بنية التسلط المُعلمن). إذا كانت عطالة القوى اليسارية قد تجلت في تهميش مفهوم الكتلة التاريخية وفي حرف الصراع إلى مدارات "ثقافوية" يصبّ خراجها في خزائن "الرجعية البرجوازية"، فإن حركة النهضة لم تكن في وضع أفضل من جهة العطالة الفكرية والتذيل للمنظومة القديمة منذ المرحلة التأسيسية، أي قبل دخول مرحلة "التوافق" مع ورثة تلك المنظومةوبانعدام القاعدة النظرية لتأسيسٍ جديدٍ بـ"تَونسة" مفهوم "الكتلة التاريخية"، لم يكن أمام اليسار "الثوري" إلا التحول إلى جسم وظيفي في سردية التَّونسة السلطوية، أو في سردية "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" وما يختفي وراءها من خيارات اقتصادية واجتماعية وقيمية "برجوازية".
إذا كانت عطالة القوى اليسارية قد تجلت في تهميش مفهوم الكتلة التاريخية وفي حرف الصراع إلى مدارات "ثقافوية" يصبّ خراجها في خزائن "الرجعية البرجوازية"، فإن حركة النهضة لم تكن في وضع أفضل من جهة العطالة الفكرية والتذيل للمنظومة القديمة منذ المرحلة التأسيسية، أي قبل دخول مرحلة "التوافق" مع ورثة تلك المنظومة.
فعلى الضد مما تفرضه القاعدة الاجتماعية المهمشة -فئويا وجهويا- لحركة النهضة، وعلى الضد من الانتظارات المشروعة لقواعدها ولعموم المواطنين (في مستوى الاحتياجات الأساسية حسب هرم ماسلو)، وقعت النهضة في فخ الصراعات الهوياتية مع القوى "اللائكية" ونواتها اليسارية، وساهمت بالتالي -سواء بمنطق الفعل أو رد الفعل- في حرف الصراع الاجتماعي عن مداراته الحقيقية، وفي تضخيم الدور "التحكيمي" للنواة الصلبة للمنظومة القديمة. فلمواجهة التحالف اليساري-التجمعي الجديد، اختارت النهضة أن تنافس اليسار في خدمة المنظومة القديمة. ولم يكن منطق التوافق -وهو منطق حكم المرحلة التأسيسية ذاتها- إلا تجليا لهذا الخيار الاستراتيجي.
قد يجادل البعض في أنه من العبث أن نطالب مَن اختار التوافق مع المنظومة بشروطها، ومَن اعتبر أن تناقضه الرئيس هو مع اليسار ومقولاته "الاستئصالية"، أن يطرح على نفسه بناء "لاهوت تحرير إسلامي" يوازي لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ويتبنى عمليا -لا خطابيا- شعار "الخيار التفضيلي للفقراء". ونحن لا ننفي وجاهة هذا الاعتراض ولكننا نرى أنّ ما يؤسسه -أي التحالف مع ورثة المنظومة القديمة بمنطق "الاستضعاف الحداثي" بعد ذهاب ريح "الاستعلاء الايماني"- هو نتيجة لغياب التفكير في استمرار الحاجة إلى مقولات اليسار وإمكانية "أسلمتها" -أو توظيفها في بناء المشترك المواطني- كما فعل لاهوت التحرير بـ"تمسيح"/ تعميد مقولات الصراع الطبقي.
فشل الانتقال الديمقراطي في تونس ليس مردودا فقط إلى طبيعة خياراته اللاوطنية واللاشعبية التي كانت النواة الصلبة للمنظومة القديمة أكبر مستفيد منها، بل هو مردود أساسا إلى "قمع" بعض الخيارات الجماعية التي كانت ممكنة منذ لحظة التأسيس
لقد نجح اليسار والنخب الليبرالية الفرانكفونية بعد الثورة في دفع حركة النهضة إلى تبنّي منطق "مشبوه" لمعنى "التَّونسة"، أي ذلك المعنى الذي يقوم على أساس التسليم بالأساطير المؤسسة للدولة-الأمة باعتبارها "مقدسا مُعَلْمَنا" لا يقبل المساءلة وإعادة التفاوض الجماعي.
إذا كان اليسار قد تَونَس نفسه -منذ عهد المخلوع- بصورة جعلته مجرد ملحق سياسي أو حقوقي أو مدني أو نقابي في خدمة النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي، فإن النهضة بخضوعها للابتزاز "الحداثوي" من جهة، وبعجزها من جهة ثانية على تطوير مقولاتها الكلامية وخياراتها الفقهية -باستئناف النظر في الترات وكذلك بالانفتاح على التراث العالمي- قد تتونَست بصورة جعلتها مجرد وكيل "مؤقت" لمنظومة الاستعمار غير المباشر أو منظومة الإذلال المزدوج: أولا، إذلال الخارج للسلطة بصورة تفقدها مقومات السيادة في ظل وهم "الاستقلال"؛ ثانيا، إذلال السلطة للمواطنين بصورة تفقدهم مقومات المواطنة والعيش الكريم في ظل وهم "الانتقال الديمقراطي".
وقد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن فشل الانتقال الديمقراطي في تونس ليس مردودا فقط إلى طبيعة خياراته اللاوطنية واللاشعبية التي كانت النواة الصلبة للمنظومة القديمة أكبر مستفيد منها، بل هو مردود أساسا إلى "قمع" بعض الخيارات الجماعية التي كانت ممكنة منذ لحظة التأسيس. وهي خيارات قد يكون تغييبها سببا من أهم الأسباب التي أفشلت الانتقال الديمقراطي وحوّلت "الجمهورية الثانية" -بتأسيسها وبانتقالها الديمقراطي وبتصحيح مسارها- إلى مجاز حقيقتُه النواة الصلبة في "الجمهورية الأولى".
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية اليسارية الصراع تونس اليسار اسلاميين صراع أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتقال الدیمقراطی حرکة النهضة التفکیر فی التی کانت من جهة لم یکن
إقرأ أيضاً:
مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد البيعة
بعد 1300 عام من بناء مسجد البيعة على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في مشعر منى بمنطقة مكة المكرمة، جاء مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية في مرحلته الثانية ليجدده ويعيد بناءه، في خطوة يسعى من خلالها إلى تعزيز الحضارة الإسلامية للمملكة وإعادة الحياة إلى مواقع كان لها أثر تاريخي واجتماعي في تشكيل محيطها البشري والثقافي والفكري، واستعادة الدور الديني والثقافي والاجتماعي للمساجد التاريخية عبر المحافظة عليها.
ويمثّل مسجد البيعة الذي بُني في العام 144هـ بالقرب من جمرة العقبة بمشعر منى أحد المساجد المستهدفة بالتطوير لما يمثله من أهمية تبرز في سيرته الذاتية، حيث يتميز المسجد الواقع في “شعب الأنصار” مكان البيعة التي نتجت عنها هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – في مشعر منى، بخصائص معمارية فريدة، تعتمد على مجموعة من القيم الفنية والسياقية في مجال العمارة والبناء.
ويعمل مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية على ترميم مسجد البيعة – “https://goo.gl/maps/NwZpmNV5azRxtvhU7” – على الطراز المعماري للمنطقة الغربية، وذلك على مساحته الأساسية التي تقدر بنحو 457.56م2، وبطاقته استيعابية لـ68 مصليًا في وقت واحد.
ويتميز البناء على الطراز المعماري للمنطقة الغربية بتحمل الظروف الطبيعية المحيطة، فيما تشكل المساجد التاريخية فيه تحف معمارية تعكس ثقافة بناء متقنة تتكون من الطوب المنقبي والجبس والأخشاب حيث تتسم المساجد ببساطة تصميم الواجهات.
اقرأ أيضاًالمجتمعرئيس “سدايا” يزور مركزي عمليات المسجد الحرام وأمن الطرق بالشميسي
ويأتي مسجد البيعة ضمن مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية في مرحلته الثانية التي شملت 30 مسجدًا في جميع مناطق المملكة الـ13، بواقع 6 مساجد لمنطقة الرياض، و5 مساجد في منطقة مكة المكرمة، و4 مساجد في منطقة المدينة المنورة، و3 مساجد في منطقة عسير، ومسجدين في المنطقة الشرقية، ومثلهما في كل من الجوف وجازان، ومسجد واحد في كل من الحدود الشمالية، تبوك، الباحة، نجران، حائل، والقصيم.
يذكر أن إطلاق المرحلة الثانية من مشروع تطوير المساجد التاريخية أتى بعد الانتهاء من المرحلة الأولى التي شملت إعادة تأهيل وترميم 30 مسجدًا تاريخيًا في 10 مناطق.
وينطلق المشروع من أربعة أهداف إستراتيجية، تتلخص بتأهيل المساجد التاريخية للعبادة والصلاة، واستعادة الأصالة العمرانية للمساجد التاريخية، وإبراز البعد الحضاري للمملكة، وتعزيز المكانة الدينية والثقافية للمساجد التاريخية، ويسهم في إبراز البُعد الثقافي والحضاري للمملكة الذي تركز عليه رؤية المملكة 2030 عبر المحافظة على الخصائص العمرانية الأصيلة والاستفادة منها في تطوير تصميم المساجد الحديثة.