خطيب المسجد النبوي: الناس يوم القيامة صنفان أهل إجرام وفلاح
تاريخ النشر: 18th, October 2024 GMT
قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ أحمد بن طالب بن حميد، إن الله سبحانه وتعالى أقسم على فلاح من زكى نفسه، وخيبة من دنسها، في قوله جلّ جلاله : «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا».
وتحدّث الشيخ بن حميد في خطبة الجمعة من المسجد النبوي، عن مكانة القلب من سائر الجسد، ينشغل به المرء في طاعة ربّه جل وعلا، وإخلاص العمل والعبادة له سبحانه، وبصلاحه يصلحُ العمل كلّه، وبفساده يخيب سائر العمل.
الناس يوم القيامة صنفان
وأوضح أن الناس يوم القيامة صنفان: أهل إجرام وتدسية أو أهل فلاح وتزكية، فلا زكاة ولا فلاح إلا بفضل الرحيم الرحيم قال الله تعالى: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
وتابع: إن العروة الوثقى والوسيلة العظمى، توحيدُ محبةٍ وخضوع، وصلاةُ قنوتٍ وخشوع، ولسانٌ رطبٌ من ذكر الله، ومحبةٌ واتباعٌ وتعزيرٌ وتوقيرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مبيناً أن القلب إذا امتلأ بشيء ضاق عن غيره، والمزاحمة مدافعة، والغلبة للكثرة، والقلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله أرقّها وأصفاها، وإنما يكون ذلك بما يُصبُّ فيها قال الله تعالى: «قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ».
ولفت إلى أن القلب لم يكن أن يتّسع للشيء وضده، فمن ترك المأمور شُغل بالمحظور، ومن أنقض ظهره بالأوزار، ضعُف عن الأذكار، ومن أضنى نفسه في الإبداع، زهُد في الاتباع، ومن علت همته، سلمت من الآفات مهجته، مستشهداً بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهِيَ رَاغِمَةٌ، ومَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، ولَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».
وبين أن مِن عاجلِ البُشرى لمن أقبل بقلبه إلى ربه، أن تُقبلُ قلوب العباد إليه، وتتوافق على حبه، مورداً قول بعض السلف في ذلك: «ما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم».
وختم الخطبة مذكراً، أن القلب ملكُ الجوارح وسلطانه، فبصلاحه يصلُحون، وفسادهم بفساده، فهنيئاً لمن تعاهد قلبه، وأرضى ربه، مبيناً أن القلب هو مقصود الأعمال، ومعقود الآمال، وإذا استحلى اللسان ذِكر الله وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حبُّ الإيمان في القلب، ويصير الخروج من الإيمان أكره إلى القلوب من الإلقاء في النار، وأمرّ عليها من الصبر، وما صفى القلب ولا حلى الذكر ولا صلُحت الجوارح ولا رُفعت الأعمال بمثل الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: إمام وخطيب المسجد النبوي المسجد النبوي خطبة الجمعة
إقرأ أيضاً:
الغياب.. لحظات إنسانية قابلة للتأمل !
مرّ ذلك العيد بجانبنا مختلفًا عن أعيادنا الماضية؛ دفاتر الحضور والغياب أثبتت بأن الأحياء هم وحدهم من يتألمون ويتجرعون مرارة الفقد والفراق، ففي لحظة التذكّر بمن كان جانبنا في المرة الماضية، تتعمق في نفوسنا معاناة جديدة لا يشعر بها جميع من حولنا، إلا من لامسهم ذلك الغياب قبلنا.
في هذا العيد، كم بلغ شعور الألم بنا وبغيرنا ممن فقدوا عزيزًا عليهم، بقيت أماكن جلوسهم خالية لا يعوّضها أحد من الحضور، بينما النسيان، حتى هذه اللحظة، لم يبدأ مفعوله السحري في تطييب جراح الفقد.
في كل عيد، كنا نخرج من المصلى لنتجه مباشرة نحو منازل متقاربة في البنيان، تمامًا مثلما تتقارب أرواحنا مع أرحامنا وأقاربنا. نستمتع كثيرًا عندما نترجّل سيرًا على الأقدام بين بيوت الحارة وشوارعها وسواقيها وبساتينها التي لا تحدها سوى أسوار المحبة. أحيانًا، عندما كان الصيف حاضرًا في أعيادنا الماضية، كان لا بد لنا من ركوب السيارة التي تنطلق بنا إلى أماكن أبعد مما نصلها ونحن نسير على أقدامنا. نتنقّل في العيد رغبةً منّا، وتقليدًا تراثيًا قديمًا، نقدّم فيه أجلّ عبارات السلام والاطمئنان على الأهل والأحبة والأصحاب، وخاصةً ممن بلغ الكبر بهم مبلغه.
في هذا العيد، كان الوضع مختلفًا تمامًا عن ماضٍ قديم؛ هذه المرة كانت الوجهة الأولى منذ خروجنا من مصلى العيد نحو «المقابر»، حيث أصبح لدينا شخص عزيز يتوسد الثرى. وكان لا بد لنا من زيارته من جهة، وتذكير لنا بالآخرة والمآل الذي ينتظرنا، وأيضًا هذه الزيارة ترقيق للقلوب القاسية التي غرتها مباهج الحياة وزخرفها. وربما مشهد القبور المتراصة مع بعضها البعض يكون رادعًا لنا ولغيرنا عن المعاصي، وطريقًا نحو الزهد في الدنيا الفانية، وتهوينًا لما قد يلقاه المرء منا من مصائب الحياة وفواجعها التي لا تنتهي.
جمعٌ من الناس أتى إلى ساحة المقبرة، كلٌ يقف بجانب قبر عزيز عليه. فالساحة الممتدة تظهر أسماء كثيرة وتواريخ قديمة وحديثة على شواهد القبور، هدفها تذكير الناس بمن رحلوا واحدًا بعد آخر. في القرب من قبر ميّتنا، هناك قبر جديد لا تزال معالمه واضحة، يذكّر بأن القدر لم يُمهل صاحبه فرصة العيش معنا في هذا العيد. في مثل هذه المواقف، يستحضر في ذهني أن كل هؤلاء الموتى الذين تتحلل أجسادهم في قبورهم ينتظرون الدعاء لهم بالعفو والمغفرة.
رغم أن الكم كبير من الناس في المكان، إلا أن الصمت كان يتسيّد الموقف. أشخاص جالسون بصمت، وآخرون يقفون يتأملون ويستذكرون كيف أصبح حال من كان بالأمس يذكّرهم بأن الموت حق وقدر محتوم، ويأمل أن يكون معهم في فرحة هذا العيد.
أمام ذلك القبر الذي يأوي من نحب، لا شيء يُجدي غير الدعاء والتضرع إلى الله بالرحمة لميّتنا وأموات المسلمين. كم هو مؤلم أن ينتزع القدر منك شيئًا غاليًا، رغم أنك مؤمن تمامًا بأنه واقع لا محالة على كل إنسان، لكن لم تتخيله يأتي بهذه السرعة. تحاول أن تكفكف الدمع خوفًا من أن يعلو صوتك فتقع في المحظور، لذا عليك أن تلتزم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم» - وأشار إلى لسانه -، ولما مات ابنه إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
رغم أن البكاء لا يُجدي ولا يُرجِع من رحل، لكن الله تعالى يسمع أعمق صرخات قلوبنا التي يعتصرها الألم، ويجزي كل صابر على قدر صبره، ولذا يبشّر الله تعالى كل صابر محتسب الأجر والثواب بقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
انقضى الوقت وعدنا إلى منازلنا التي كانت عامرة بالناس في العيد، عندما كان ذلك العزيز يتجلى في وسط مجلسها. انفضّ الناس من حولنا، ولم يأتِ أحد كعادة كل عيد قد مضى، عندما كنا نحاول أن نتهرب من المجلس الذي يعج بالناس، ونتذمر كثيرًا عندما كان أحد المهنئين يمكث طويلًا في حديث ممتد يشعرنا بالملل. في هذا العيد، بقيت الأبواب مفتوحة، لكن عتباتها عانت فقدان خُطى المهنئين أو القادمين للتهنئة، كما كانت في الأعياد الماضية.
ويبقى الدعاء هو ما يوصلنا بمن نحب من الآباء والأمهات والإخوان وعامة الناس، فاللهم اغفر لتلك الأرواح التي لا تُعوّض، وأنفسنا النقية التي فارقتنا، وتركت لنا في القلب حنينًا لا يفارقنا أبدًا.
اللهم ارحم تلك الوجوه الطيبة التي فارقت الدنيا وانتقلت إلى جوارك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وتجاوز عنهم، واجعل قبورهم روضة من رياض الجنة يا رب العالمين.
اللهم واجمعنا وإياهم برفقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في علّيّين.