عربي21:
2024-12-22@20:28:48 GMT

المستبدّ وسياسة إهانة العمائم الموالية له

تاريخ النشر: 18th, October 2024 GMT

الأوطان المحكومة بالحديد والنّار لا تحتمل أهل العلم بعيدي الأفق، عميقي التَّأثير، الذين يدخلون قلوب النّاس دونما استئذان، القادرين على قول لا دونما خوف أو وجل، الحاملين ثقافة التآخي الحقيقي؛ فهؤلاء لا يروقون للمستبدّ في منهجهم وسلوكهم وتوجّهاتهم ولا حتى في صمتهم فهو يخشى صمتهم كما يخشى صوتهم.

إنَّ الوجه الحقيقيّ للاستبداد يعتمد قتلَ وحبسَ ونفيَ وتحييدَ كلّ من يمكن أن يعكّر صفو الطاغية وشعوره بالتفرّد، أو زلزلة عرشه بكلمة الحقّ، وهذا يقتضي إزالة كلّ من يمكن أن يشوّش بشكل مباشر أو غير مباشر على ذلك "وكلّه بما يُرضي الله طبعا".



لذلك يحرص المستبدّ على الدّوام على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشّريعة، وتزيين باطله بمصطلحات الفقه، وإكساء استبداده بآيات الكتاب الكريم وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم زورا وبهتانا، وتجميل طغيانه بفتاوى العمائم الرّخيصة التي باعت دينها بدنيا غيرها.

وإنّ من وسائل تأليه الطّاغية نفسه، وتقديسه لذاته، وإخضاعه للمحيطين به إخضاع العبيد لخالقهم العمائم الوظيفيّة النّاطقة باسم الدّين، والألسنة الدّينيّة التي تمارسُ الفاحشة الفكريّة، وقد بيّن عبد الرّحمن الكواكبي ذلك وهو يفصّل في طبائع الاستبداد إذ يقول:

"إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ".

وما فتئ المستبدُّ حريصا في أحواله كلّها على استخدام الدّين لتمرير ظلمه، فتبادر العمائم الموالية له إلى اعتقال الفقه والتّشريع الإسلاميّ ووضعه في زنزانةٍ وأخذ الأقوال منه كرها تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك فإنها تجعل التشريع خادما للطاغية، وكم لوت هذه العمائم ألسنتها بآيات الله تعالى تحريفا لتخدم المستبدّ وجرائمه في تسويغا وتشريعا!

فالعمامة التي وقفت أمام سيّد قطب تلقّنه الشّهادتين قبيلَ إعدامه وهو يقولُ لها: أنا أموت لأجل لا إله إلّا الله وأنتَ تأكل بها الفتات على موائد الظالمين؛ لا تختلف عن العمائم التي أفتت للمستبد أن "يضرب في المليان" ويستبيح الدّماء والأعراض باسم الإسلام؛ فكلّها تستحضرُ المصطلحات الشرعيّة والفقهيّة وتلوي ألسنتها بالكتاب لتقول هذا من عند الله وما هو من عند الله؛ وإنّما تفعل ذلك لإعانة الظالم وتسويغ أحكامه الجائرة.

ولئن كانت ردودُ الفعل هي آخر ما يهمّ المستبدَّ حينَ يعمدُ إلى إهانة رجاله، غير أنَّ ردود الفعل الباهتة والباردة وغير المكترثة تغري الطاغية بالسّيرِ قُدما في جريمته وتعطيه قوّة دافعة لمزيدٍ من التّصرفات التي لا تتوقّع العمائم الرّخيصة أن تصل الوقاحة بالمستبدّ الوصول إلى فعلها.

فالمستبدّ يتعامل مع رعيّته عموما ومع رجاله المقرّبين منه على وجه الخصوص، ومنهم أهل العمائم المباعة في مزاد النفاق، على أنّهم ثلّةٌ من الرّعاع أو قطيعٌ من الأغنامِ أو فريقٌ من الكلابِ يجب تعزيرهم وإهانتهم وإذلالهم بين الفينة والأخرى؛ بتوجيه الإهانة إليهم حتّى لا يستطيع أحدٌ منهم رفع رأسه، وحتّى لا يفكّرَ أحد من أرباب هذه العمائم أن تتشوّف نفسُه إلى أبعد من مسح حذاء الطّاغية؛ وهنا تكونُ الرّعيّة أمام اختبارها المصيريّ كما قال الكواكبي:

"المستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّا وطاعة، وكالكلاب تذلُّلا وتملُّقا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصّقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام.

نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها؛ هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمامٍ تستميتُ دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه".

غيرَ أنّ العمائم الموالية للنّظام عندما تقع عليها الإهانة لا تغضب لنفسها، فضلا عن الغضب لدينها الذي انسلخت منه انسلاخ بلعام بن باعوراء وأحفاده في الفكر والسّلوك والذين قال الله تعالى فيهم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".

بل تقابل إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطّاغية، وشكره على إهانتها وتطلب منه المزيد من حكمته السديدة، وكأنّ عبد الرّحمن الكواكبي يصوّر لنا هذه العمائم وهي تشكر الطاغية على مكرماته التي لا تخلو من إهانتهم إذ يقول:

"العوام هم قوّة المستبد وقوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدّونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التّوبيخ".

فماذا يريدُ المستبدّ لتحقيق ساديّته المتعاظمة وسيادته الخُلّبية أكثر من هذه العمائم المهينة؟!

x.com/muhammadkhm

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاستبداد الدين الاستبداد فتاوى سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

أيمن بهجت قمر: "الاوسكار" الجائزة الوحيدة التي تشغلني

أكد السيناريست أيمن بهجت قمر، أن الاطلاع على الثقافة والممارسة هما الأداتان الأساسيتان اللتان يجب أن يمتلكهما الكاتب والسيناريست لإنتاج عمل مميز من جميع الجوانب، مشيرا إلى أن الممارسة تمنح الكاتب خبرات أكبر تساعده في تقديم أعمال تليق بمستواه.

وفي حديثه خلال لقائه مع الإعلامية أسما إبراهيم في برنامج "حبر سري" الذي يُعرض على شاشة "القاهرة والناس"، أوضح "قمر" أنه كان يفكر في دراسة الكتابة والسيناريو، وأنه ليس لديه أي مشكلة في التدريب على أفكار جديدة في الكتابة، مشيرا إلى أنه يقرأ كثيرًا في السيناريو الأمريكي ويحرص على الاطلاع المستمر لتطوير مهاراته الكتابية.

أيمن بهجت قمر: محمد رمضان غير ناجح في السينما وتفوقه في الأغاني أكبر أيمن بهجت قمر: أنغام واجهة مصر.. وشيرين صوت الشارع والحارة

وأضاف: "الجائزة التي تشغل بالي هي الأوسكار.. المشاركة في الأوسكار هي ما يهمني"، مؤكدا أن فيلم "أهل الكهف" تعرض للظلم في تسويقه ومشاركته في المهرجانات، حيث حقق إيرادات ضعيفة، لكنه سيشارك وسيتم عرضه على منصات مختلفة.

وتابع: "مشاركتي في مسابقة الأوسكار هي أمر مهم للغاية، وأتساءل متى سنرى فيلمًا مصريًا ينافس في جوائز الأوسكار، كنت أتمنى أن تقوم الجهة المنتجة لفيلم "أهل الكهف" بالعمل على ذلك، لكن للأسف لم يحدث".

وأكمل: “لا أعلم إذا كان هناك أحد قد عمل على هذا الموضوع منذ البداية، كنا قد اتفقنا على أن الفيلم سيتم تنفيذه وفقًا لمواصفات مهرجان كان، لكن يبدو أن ذلك لم يحدث. اللجنة المسؤولة عن الاختيار لم تقم بدورها كما ينبغي، أرى أن الفيلم قد تعرض للظلم من الناحية الإنتاجية، حيث كان من المفترض أن يكون هناك ترتيب أفضل له منذ البداية”.

مقالات مشابهة

  • حزب الله يكشف عن المعادلة الوحيدة التي تحمي لبنان
  • سوريا.. «قسد» تعلن قتل 35 عنصراً من الفصائل السورية الموالية للجيش التركي
  • معاوية عوض الله: العقوبات التي تصدر تجاه قادة الجيش لن تزيدنا إلا قوة وصلابة
  • اليمن يُدين حادثة الدهس التي وقعت في ألمانيا
  • إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي أودت بحياة مئات الآلاف
  • ميلاد المسيح بين العمائم واللِّحى، أتكلم عن سورية
  • غيرترود بِيل.. الجاسوسة التي سلّمت العرب للإنجليز
  • تجديد الشراكة العراقية اليابانية بـ11 مليار دولار كقروض لمشاريع حيوية وسياسة التنمية
  • رابطةُ العالَم الإسلامي تُدين عملية الدهس التي وقعت في مدينة ماغديبورغ شرقي ألمانيا
  • أيمن بهجت قمر: "الاوسكار" الجائزة الوحيدة التي تشغلني