المستبدّ وسياسة إهانة العمائم الموالية له
تاريخ النشر: 18th, October 2024 GMT
الأوطان المحكومة بالحديد والنّار لا تحتمل أهل العلم بعيدي الأفق، عميقي التَّأثير، الذين يدخلون قلوب النّاس دونما استئذان، القادرين على قول لا دونما خوف أو وجل، الحاملين ثقافة التآخي الحقيقي؛ فهؤلاء لا يروقون للمستبدّ في منهجهم وسلوكهم وتوجّهاتهم ولا حتى في صمتهم فهو يخشى صمتهم كما يخشى صوتهم.
إنَّ الوجه الحقيقيّ للاستبداد يعتمد قتلَ وحبسَ ونفيَ وتحييدَ كلّ من يمكن أن يعكّر صفو الطاغية وشعوره بالتفرّد، أو زلزلة عرشه بكلمة الحقّ، وهذا يقتضي إزالة كلّ من يمكن أن يشوّش بشكل مباشر أو غير مباشر على ذلك "وكلّه بما يُرضي الله طبعا".
لذلك يحرص المستبدّ على الدّوام على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشّريعة، وتزيين باطله بمصطلحات الفقه، وإكساء استبداده بآيات الكتاب الكريم وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم زورا وبهتانا، وتجميل طغيانه بفتاوى العمائم الرّخيصة التي باعت دينها بدنيا غيرها.
وإنّ من وسائل تأليه الطّاغية نفسه، وتقديسه لذاته، وإخضاعه للمحيطين به إخضاع العبيد لخالقهم العمائم الوظيفيّة النّاطقة باسم الدّين، والألسنة الدّينيّة التي تمارسُ الفاحشة الفكريّة، وقد بيّن عبد الرّحمن الكواكبي ذلك وهو يفصّل في طبائع الاستبداد إذ يقول:
"إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ".
وما فتئ المستبدُّ حريصا في أحواله كلّها على استخدام الدّين لتمرير ظلمه، فتبادر العمائم الموالية له إلى اعتقال الفقه والتّشريع الإسلاميّ ووضعه في زنزانةٍ وأخذ الأقوال منه كرها تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك فإنها تجعل التشريع خادما للطاغية، وكم لوت هذه العمائم ألسنتها بآيات الله تعالى تحريفا لتخدم المستبدّ وجرائمه في تسويغا وتشريعا!
فالعمامة التي وقفت أمام سيّد قطب تلقّنه الشّهادتين قبيلَ إعدامه وهو يقولُ لها: أنا أموت لأجل لا إله إلّا الله وأنتَ تأكل بها الفتات على موائد الظالمين؛ لا تختلف عن العمائم التي أفتت للمستبد أن "يضرب في المليان" ويستبيح الدّماء والأعراض باسم الإسلام؛ فكلّها تستحضرُ المصطلحات الشرعيّة والفقهيّة وتلوي ألسنتها بالكتاب لتقول هذا من عند الله وما هو من عند الله؛ وإنّما تفعل ذلك لإعانة الظالم وتسويغ أحكامه الجائرة.
ولئن كانت ردودُ الفعل هي آخر ما يهمّ المستبدَّ حينَ يعمدُ إلى إهانة رجاله، غير أنَّ ردود الفعل الباهتة والباردة وغير المكترثة تغري الطاغية بالسّيرِ قُدما في جريمته وتعطيه قوّة دافعة لمزيدٍ من التّصرفات التي لا تتوقّع العمائم الرّخيصة أن تصل الوقاحة بالمستبدّ الوصول إلى فعلها.
فالمستبدّ يتعامل مع رعيّته عموما ومع رجاله المقرّبين منه على وجه الخصوص، ومنهم أهل العمائم المباعة في مزاد النفاق، على أنّهم ثلّةٌ من الرّعاع أو قطيعٌ من الأغنامِ أو فريقٌ من الكلابِ يجب تعزيرهم وإهانتهم وإذلالهم بين الفينة والأخرى؛ بتوجيه الإهانة إليهم حتّى لا يستطيع أحدٌ منهم رفع رأسه، وحتّى لا يفكّرَ أحد من أرباب هذه العمائم أن تتشوّف نفسُه إلى أبعد من مسح حذاء الطّاغية؛ وهنا تكونُ الرّعيّة أمام اختبارها المصيريّ كما قال الكواكبي:
"المستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّا وطاعة، وكالكلاب تذلُّلا وتملُّقا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصّقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام.
نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها؛ هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمامٍ تستميتُ دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه".
غيرَ أنّ العمائم الموالية للنّظام عندما تقع عليها الإهانة لا تغضب لنفسها، فضلا عن الغضب لدينها الذي انسلخت منه انسلاخ بلعام بن باعوراء وأحفاده في الفكر والسّلوك والذين قال الله تعالى فيهم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".
بل تقابل إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطّاغية، وشكره على إهانتها وتطلب منه المزيد من حكمته السديدة، وكأنّ عبد الرّحمن الكواكبي يصوّر لنا هذه العمائم وهي تشكر الطاغية على مكرماته التي لا تخلو من إهانتهم إذ يقول:
"العوام هم قوّة المستبد وقوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدّونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التّوبيخ".
فماذا يريدُ المستبدّ لتحقيق ساديّته المتعاظمة وسيادته الخُلّبية أكثر من هذه العمائم المهينة؟!
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاستبداد الدين الاستبداد فتاوى سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
نظرة على معاهدة نهر السند التي قد تشعل حربا بين الهند وباكستان
ألقت صحيفة "ذا نيوز إنترناشونال" الباكستانية نظرة قانونية على معاهدة تقاسم مياه نهر السند المبرمة بين باكستان والهند، التي أعلنت نيودلهي تعليق العمل بها في أعقاب هجوم شنه مسلحون يوم الثلاثاء في الشطر الهندي من كشمير، وأودى بحياة 26 شخصا.
وكانت الهند قد اتهمت على الفور باكستان بالوقوف وراء الهجوم الذي استهدف سياحا هنودا في أثناء زيارتهم أحد المعالم الطبيعية في بلدة بهلغام السياحية الواقعة في جبال الهيمالايا، وهو اتهام نفته إسلام آباد وطالبت بتحقيق محايد.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 26 أسئلة تشرح آثار وتداعيات تعليق الهند معاهدة تقاسم المياه مع باكستانlist 2 of 2اشتباكات محدودة بين باكستان والهند لليلة الرابعةend of listوفي مقال نشرته الصحيفة، قال الكاتب حافظ إحسان أحمد خوخار -وهو محام ممارس في المحكمة العليا في باكستان- إن هذه ليست المرة الأولى التي تهدد فيها الهند بتعطيل معاهدة مياه السند أو التخلي عنها من جانب واحد.
وأضاف أنه من الضروري دراسة التطورات الأخيرة المتعلقة بمعاهدة مياه السند وتعليق العمل باتفاقية شيملا الموقعة بين البلدين في 1972. وبرر البحث في تلك التطورات بسبب ما تضمره الهند من عداء مستمر تجاه باكستان، يتسم بانتهاكات متكررة للالتزامات الثنائية والدولية.
ويعتقد الكاتب أن المعاهدة والاتفاقية أساسيتان للعلاقة القانونية والجيوسياسية بين البلدين، مضيفا أنه بموجب القانون الدولي، فإن موقف باكستان مبدئي وقائم على أسس سليمة ويمكن الدفاع عنه.
إعلانوتعد معاهدة مياه نهر السند، التي وقعتها الهند وباكستان عام 1960 مع البنك الدولي كضامن لها، ملزمة للطرفين.
وتتقاسم الدولتان، وفق المعاهدة، 6 أنهار، حيث خصصت السيطرة على الأنهار الشرقية (رافي وباس وسوتليج) للهند، بينما منحت حقوقا على الأنهار الغربية (السند والجيلوم وتشيناب)، مع مراعاة بعض القيود.
اتفاقية ملزمةوأفاد المحامي الباكستاني -في مقاله- بأن الأهم من ذلك أن المادة (12) من المعاهدة تنص صراحة على أنه "لا يجوز إنهاؤها إلا باتفاق الحكومتين"، مما يجعل أي محاولة للانسحاب منها من جانب واحد باطلة قانونيا وغير مقبولة دوليا. واعتبر أن أي إجراء تقوم به الهند يوحي بانسحابها من المعاهدة يعد انتهاكا مباشرا لبنودها الصريحة ومبادئ القانون الدولي.
وأشار إلى أن المسؤولين الهنود أدلوا بتصريحات استفزازية في ما يتعلق بتحويل تدفق المياه المخصصة قانونا لباكستان، وهو ما اعتبرته إسلام آباد عملا عدائيا يرقى إلى إعلان حرب، حسب تعبير المحامي خوخار.
وأكد أن باكستان لديها عديد من السبل المتاحة بموجب القانون الدولي للطعن في سلوك الهند، مثل آليات تسوية المنازعات المضمنة في المعاهدة، واللجوء إلى محكمة العدل الدولية، ومحافل التحكيم الدولية الأخرى.
وشدد على ضرورة أن تتبنى باكستان إستراتيجية قانونية استباقية للدفاع عن حقوقها المائية، بما في ذلك الاحتكام إلى ما ورد في الملحقين (و) و(ز) المتعلقين بتسوية المنازعات في المعاهدة. وأردف قائلا إن لباكستان أسبابا تبرر لجوءها أيضا إلى الأمم المتحدة ودعوة البنك الدولي لضمان الالتزام بأحكام المعاهدة.
ومضى إلى القول إن الهند أساءت استخدام اتفاقية شيملا لعقود من الزمن للحيلولة دون أن تحظى قضية كشمير بالاهتمام الدولي، وأن تظل في إطار طابعها الثنائي بين البلدين.
ومن وجهة نظر المحامي، فإن باكستان تقف على أرضية قانونية صلبة فيما يتعلق بمعاهدة مياه السند.
إعلان