أذكر فى تسجيل مصور للفريق أركان حرب سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية فى حرب أكتوبر 1973، كان يتحدث فيه عن نقطتى ضعف بارزتين فى الجيش الإسرائيلي، الأولى أن الجندى الإسرائيلى ليس لديه نفس طويل بمعنى أنه لم يقو على مواصلة الحرب لفترة طويلة، أما النقطة الثانية فكانت أن حجم أى خسائر فى عديد وعتاد الجيش الإسرائيلى تؤثر بقوة على مسار الحرب، وبناء على هذه القراءة نستطيع أن نعرف لماذا تمارس إسرائيل التعتيم الإعلامى فى الداخل الإسرائيلى أو فى الأخبار الخارجة من إسرائيل إلى العالم منذ اندلاع عملية «طوفان الأقصى»، ومرورا بحربها فى جنوب لبنان إلى الآن، فمما لا شك فيه أن هناك تسريبات حول أرقام كبيرة للخسائر فى صفوف الجيش الإسرائيلى والتى ستصبح مفزعة لو أعلن عنها فى ظل موقف نتنياهو المتعنت و رغبته فى التصعيد واستمرار الحرب مهما كانت الكلفة، فبحسب تلك التسريبات تم تضيق الخناق على الإعلام، واستبعاد المعارضين عنوة، والحشد لخطاب إعلامى موجه عبر عناوين رنانة من عينة أن إسرائيل تواجه «خطرا وجوديا»، ولا مكان للديمقراطية المزعومة التى لطالما تشدق بها قادة إسرائيل، فالكذب الرسمى فى أسرائيل يتفوق على أى شيء آخر.
هناك رواية واحدة كاتبها واحد يرددها كل المحليين الإسرائيليين، فى القنوات الفضائية، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل مارس نتنياهو و رجاله قمعا حتى على المواطنين الإسرائيليين العاديين الذين يفكرون فى قول رأيهم على مواقع التواصل الاجتماعى ففرضت الرقابة حتى على من يرفعون بهواتفهم مقاطع على شبكة الإنترنت، يصحبها أحيانًا تعليق أو تعبير صوتى عن أى خسائر تقع داخل إسرائيل.
سياسة إخفاء الحقائق حول الخسائر البشرية وقت الحرب ليست جديدة على إسرائيل، فسبق وفعلتها فى حرب الاستنزاف بين مصر و إسرائيل، ففى حى كان عشرات القتلى يسقطون فى الجيش الإسرائيلى كان إعلامهم يخفى و ينكر، وها هو يفعلها الآن فى المواجهة مع حماس و حزب الله، صحيح أن التعتيم الإعلامى شديد هذه المرة مقارنة بالحرب على غزة عام 2021 أوعلى حزب الله عام 2006، لكن فى العموم تعتبر إسرائيل ملف الخسائر البشرية سر حربى بهدف تقليل الانتقادات الداخلية، سواء تجاه الجيش أو الحكومة التى تدير الحرب، خاصة مع استمرارها فى العمليات العسكرية رغم الأصوات الداخلية والخارجية التى تحذر من هذا، وتدعو إلى عدم توسيع رقعة المعركة.
أتصور أن لدى قادة إسرائيل عقدتين إحداهما تاريخية متمثلة فى الشعور المستحيل بالاستقرار لدى القادمين من الشتات والعقدة الثانية حديثة نسبيا وهى أنهم كلما روجوا لشيء جاءت الأقدار لتنسفه، فقبل حرب أكتوبر روجوا لصورة «الجيش الذى لا يقهر» وما كان فى حرب أكتوبر 1973 من إذلال وفضيحة لهذا الجيش كفيل بمحو هذه المقولة, ومرت عشرات السنين وحاولت إسرائيل محو هذا العار حتى جاء القدر وفى شهر أكتوبر أيضا ولكن بعد خمسين عاما جاءت حماس لتلحق بنفس الجيش «الذى لا يقهر» فضيحة ثانية، وهنا كان العالم ينظر إلى أن جماعة مسلحة وجهت ضربة قاصمة لجيش إسرائيل الذى يباهى بالتسليح و التكنولوجيا المتقدمة، لذلك تريد إسرائيل بحجب المعلومات عن خسائر جيشها أن تحافظ على ما تبقى من صورته المزعومة ولو فى نظر حلفائها وداعميها
وفقا لما ذكره الفريق سعد الدين الشازلى فلو تسرب مثلا لجنود إسرائيليين خبر مقتل زملائهم فى وحدة أو كتيبة مجاورة فهذا وحده كفيل بنشر الهلع فى نفوسهم و فى المجتمع الإسرائيلي، الذى يعانى الآن من نزوح المستوطنين من الأماكن الواقعة فى مرمى الصواريخ القادمة من غزة أو جنوب لبنان، ما سيشكل ضغطًا متزايدًا على حكومة نتنياهو
أخيرا.. دائما تتأكد مقولة «فى الحروب الكل خاسر» وحاولت هنا ولو على سبيل رفع الروح المعنوية لمن يقاتل دفاعا عن وطنه وأرضه المحتلة دحض فكرة الانتصار الكاسح التى يروج لها نتنياهو ويواف جالانت واليمين المتطرف داخل إسرائيل، فإسرائيل من الداخل تنزف لكن إعلامها «سكتم بكتم».
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: يا خبر د حسام فاروق رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية حرب اكتوبر
إقرأ أيضاً:
كيف ستنهزم إسرائيل بفعل الجغرافيا؟
جغرافية إسرائيل وصغر حجمها سلاح ذو حدين، فبالرغم من أنها تمتلك قواعد عسكرية وصواريخ جاهزة للانطلاق في أي لحظة، فإن المواطن الإسرائيلي، حينما تنطلق صفارات الإنذار، ليس لديه سوى من 12 إلى 15 ثانية للاختباء في ملجأ. فإسرائيل بلد تفتقد العمق الإستراتيجي؛ فالصواريخ على بابها.
فالجغرافيا عامل مهيمن في الأمن القومي لإسرائيل، حيث يقيم معظم سكانها والبنى التحتية الحيوية داخل الشريط الضيق من السهل الساحلي، وهذا هو الجزء الأكثر أهمية، الذي أصبح في الحرب الأخيرة يتعرض لتهديد دائم بصواريخ وطائرات مسيرة. وهذا ما شلّ الحياة وألحق أضرارًا بالغة بالمنشآت والاقتصاد الإسرائيلي.
حاولت إسرائيل أن تتكيف مع موقعها بإستراتيجيات الدفاع الجوي، مثل القبة الحديدية ومقلاع داود والحرب الإلكترونية، لكن الطرف الآخر وضع تل أبيب، وحيفا، وعسقلان، وغيرها تحت القصف المستمر.
وهذا ما جعل الشرق الأوسط مع طول أمد الحرب الأخيرة بؤرة ساخنة في منطقة بها تقاطعات معقدة، قد تقود إلى مشكلات طويلة الأمد، أبرزها قلق إسرائيلي مستديم حول مستقبل أمنها في ظل افتقادها العمق الجغرافي الذي لن يصمد أمام التطور السريع للطائرات المسيرة، والصواريخ فائقة السرعة.
تعتمد إسرائيل على التفوق النوعي عسكريًا، وهذا التفوق كفل لها ضمان وجود الدولة إلى الآن، في ظل إستراتيجية قامت على إحباط التهديدات وتأجيلها؛ لخلق فترة طويلة من الهدوء بالتزامن مع الجهود العسكرية والسياسية الاستباقية. لكن ما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 كسر هذه الإستراتيجية.
والآن، تسعى إسرائيل لمحو قوة حماس العسكرية، وتدمير غزة بصورة غير مسبوقة حتى لا تقوم قائمة للمقاومة مرة أخرى في المدى القريب، بل ستحتاج حماس لعقود للعودة إلى ذات القوة. لذا فإن طول أمد الحرب في غزة هدفه واضح، خلق فترة طويلة من الهدوء.
فواضعو الإستراتيجيات في إسرائيل باتوا على قناعة بأن حماس فكرة، والأفكار لا تموت، ومع تصاعد شعبيتها في الضفة الغربية، فإن إسرائيل تحت تهديد الديمغرافيا الفلسطينية على حدودها وداخلها، مما يجعل الجغرافيا الإسرائيلية مهددة، وعليه، عكست شراسة الحرب الأخيرة هذا التهديد.
كل ما سبق يعتمد على إستراتيجية الأمن القومي المبنية على مفهوم "الجدار الحديدي" لزئيف جابوتنسكي. فإسرائيل ترى أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا بعد أن يستنتج أعداؤها أن جهودهم غير فعالة، وأن معاناتهم ستزداد. فمن وجهة نظر إسرائيل، يجب أن يكون أعداؤها مقتنعين بأنهم سيحققون أكثر بكثير من خلال الحوار، مقارنة بما سيحققونه بالعنف، وعليه يجب عليهم قبول ما ستطرحه إسرائيل عليهم.
لذا فإن مواجهة إسرائيل لا بدّ أن تعتمد على ضغط معرفي مستمر حول وجودها، واعتباره شاذًا، وهذا ما ترد عليه بسياسات تكرس يهودية الدولة، وهي تعلم أن هذا مستحيل. في الوقت الذي يبدو فيه قلق إسرائيل من صغر حجمها مستمرًا، فقد كانت تواجه سابقًا جيوشًا تقليدية، لكن الجماعات المسلحة غير الحكومية التي تواجهها حاليًا تجعل إسرائيل تحت ضغط الحوادث المتكررة.
هذا ما يؤدي إلى استنزافها بصورة مستمرة، ويبقى التساؤل: هل وفّر العنف المفرط والمتجاوز لكل ما هو متخيل الأمن للمواطن الإسرائيلي؟
في حقيقة الأمر، بات عمق إسرائيل مهددًا، مما يدفع المواطن الذي يدرك أن إسرائيل دولة وظيفية إلى الهرب، أو الهجرة خارج إسرائيل. بات هذا واقعًا مع الحرب الأخيرة، خاصة من مزدوجي الجنسية، حيث لم تعد إسرائيل بيئة آمنة للاستثمارات، ولأول مرة يتم تجميد استثمارات كانت مقررة في حيفا، وتل أبيب، والمنطقة الساحلية.
تكمن أهمية إسرائيل في كونها تمنع انفراد قوة بشرق المتوسط، والبحر الأحمر، وهو مصدر أهم طرق التجارة الدولية والطاقة والعديد من المواد الأولية. فهي أشبه ببوليصة تأمين توفر متطلبات الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، ومقدرات العالم، وتضع المنطقة العربية تحت الضغط المستمر بلا سلام دائم، وتستنزف في شراء السلاح الغربي، وتدخل في حروب مستمرة.
وعلينا أن ندرك أن إيران تعتبر أن أمنها يبدأ من شرق المتوسط، وهذا ما دفع الفرس قديمًا إلى احتلال شرق المتوسط في إطار الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية. كما أن انفراد تركيا بشرق المتوسط سيشكل قوة كبرى منافسة، وكذلك الحال مع دول جنوب المتوسط. لذا فإن وظيفة إسرائيل هي الحد من نمو قوة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية في شرق المتوسط أو في دائرته.
لكن على الجانب الآخر، فإن وجود روسيا في سوريا، وتغلغل الصين في المنطقة عبر قاعدة عسكرية في جيبوتي، وشراكات اقتصادية، يضعان الغرب في ضائقة إستراتيجية. وهي أزمة لم يُعثر لها على حل إلى الآن، بل إن الحرب الأخيرة جعلت الجغرافيا في مأزق، حيث لم يعد هناك مجال للحلول الجيوسياسية.
فتوسع إسرائيل جغرافيًا لم يعد ممكنًا كما كان سابقًا، في ظل وهن أوروبا واستنزافها في حرب روسيا وأوكرانيا. فضلًا عن أن الدعم الأميركي لن يستمر طويلًا في ظل المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة؛ نتيجة تكاليف دعم إسرائيل، ومشاكل الاقتصاد الأميركي.
يبقى السؤال: هل تفقد إسرائيل وظيفتها كحاملة طائرات، أو كـ "فتوّة" يمثل أميركا في المنطقة؟ هذا كله يتوقف على الوعي العربي بأن إسرائيل لديها مشكلة جيوسياسية كبيرة، وأنها إستراتيجيًا باتت مهددة.
ولعلّ هذا ما شكل رؤية غربية مفادها أن إسرائيل ستنتصر في الحرب، لكنها ستُهزم إستراتيجيًا على المدى البعيد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية