كتب- محمد سامي:


وقّع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء مذكرة تفاهم مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية؛ لتنفيذ مشروعات تعاون مشترك بين الجانبين في مجالات التوثيق الاستراتيجي والأرشفة والمعلوماتية والتراكم المعرفي، والمساهمة في بناء قدرات الأفراد في مجالات التحول الرقمي ونشر ثقافة التوثيق وآلياته.


جاء ذلك خلال الاحتفالية التي أقيمت بمناسبة يوم الوثيقة العربية بمقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والتي حضرها، أبو الحسين الهنداوي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، ممثلًا عن السفير أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، والدكتور فيصل بن عبد العزيز التميمي، رئيس الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف، والدكتورة رشدية ربيع، رئيس الإدارة المركزية لدار الوثائق القومية، ممثلة عن وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو.


كما شارك في الاحتفالية الدكتور محمد كمال، مدير معهد البحوث والدراسات العربية، ممثلًا عن الدكتور محمد ولد أعمر، المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ALESCO، والشيخ خالد بن أحمد بن سلطان القاسمي، رئيس دار الوثائق بإمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، والدكتور حمد بن محمد الضوياني، رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بسلطنة عمان، والدكتور عيسى قراقع، رئيس المكتبة الوطنية الفلسطينية، وبمشاركة المندوبين الدائمين للدول العربية لدى الجامعة ورؤساء الأرشيفات العربية.


وخلال الاحتفالية، ألقى الدكتور أسامة الجوهري، مساعد رئيس مجلس الوزراء، رئيس مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، كلمة أشار خلالها إلى أن التوثيق هو نقطة البدء لمواجهة ما تشهده الشعوب العربية من تهديدات لطمس الهوية وتغيير الحقائق على الأرض وفرض واقع جديد على مختلف الأصعدة، لافتًا إلى أهمية "الأرشيف الأخضر"؛ لضمان الاستدامة وضمان بيئة أرشيفية صحية في البناء والحفظ، من خلال المواد والأدوات المستخدمة.


وفي الوقت نفسه، أكد الدكتور أسامة الجوهري أهمية التعاون الجاري بين الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، من خلال مركز الوثائق الاستراتيجية في مشروع توثيق "مصر وجامعة الدول العربية على مدار 80 عامًا"، تحت مظلة المشروع القومي العربي "توثيق ذاكرة جامعة الدول العربية".


وأضاف رئيس مركز المعلومات: هذا المشروع يوثق تاريخ الدول العربية في علاقاتها بجامعة الدول العربية، الذي يعد تاريخا حافلا في مسار الأمة العربية بكل ما حمله من تحديات وأزمات ومواقف تشكل جزءًا من هوية وتاريخ الأمة العربية؛ حيث يهدف المشروع إلى التوثيق المرقمن لمسيرة العمل العربي المشترك منذ بلورة فكرة التأسيس في عام 1942.


وخلال فعاليات الاحتفالية، أشار المتحدثون إلى ضرورة إنشاء سجل عربي موحد ومؤمن، مع ضرورة استخدام أنظمة الوثائق الإلكترونية والطاقة النظيفة في بيئة الأرشفة، بالإضافة إلى أهمية استخدام أحدث التقنيات للتخلص الآمن من النفايات الإلكترونية، مؤكدين في الوقت ذاته أهمية الأرشيف المستدام في تعزيز المعرفة المستدامة، وتوثيق المتغيرات؛ لإنشاء سجل حافل للأحداث، ومحذرين من جهة ثانية من الممارسات الأرشيفية الضارة، بما يستلزم التصدي لمحاولات طمس تاريخ الأمة العربية.


المصدر: مصراوي

كلمات دلالية: حادث قطاري المنيا مهرجان الجونة السينمائي طوفان الأقصى سعر الدولار أسعار الذهب الطقس حسن نصر الله حكاية شعب الهجوم الإيراني الانتخابات الرئاسية الأمريكية الدوري الإنجليزي محور فيلادلفيا التصالح في مخالفات البناء سعر الفائدة فانتازي جامعة الدول العربية التحول الرقمي الدكتور أحمد فؤاد هنو لجامعة الدول العربیة مرکز المعلومات

إقرأ أيضاً:

أنقذوا دار الوثائق القوميَّة السُّودانيَّة قبل فوات الأوان

(1)

توطئة
أعيد نشر هذا المقال وتعديل بعض فقرات لثلاثة أسباب: أوَّلها، علمت من مصادر مختلفة بأنَّ اللِّواء عادل عبد الرَّحمن درنكي، الأمين العامُّ لدار الوثائق القوميَّة، قد زار الدَّار في يومي الخميس والسَّبت الموافقين 27 و 28 مارس 2025، وأفاد بأنَّ مستودعات الوثائق بالدَّار لم تتعرَّض للحريق أو التَّدمير أو النَّهب؛ لكنَّ مبانيها الخارجيَّة تأثَّرت بالأعيرة النَّاريَّة العشوائيَّة الَّتي أصابتها، وبعض الكتب والأوراق المودعة بالصَّالات الملحقة مبعثرةً، كما تعرَّض مكتب العلاقات العامَّة وبعض المكتب الإداريَّة للتَّدمير والنَّهب. وثانيها، التَّذكير بأهمِّيَّة دار الوثائق القوميَّة الَّتي قاربت فكرة إنشائها المئويَّة الأولى (1916)، والوقوف على تاريخ هذه النشأة، وكيف تطوَّرت الدار على أيدي إداريِّين أكفاء إلى أن أصبح لها وضع مميَّز في المحيطين الإقليميَّ والدَّوليِّ. وثالثها، الدَّعوة إلى حمايتها في المرحلة الرَّاهنة والحرجة، خوفًا من أن تتعرَّض مقتنياتها للسَّرقة والنَّهب، كما حدث لمتحف السُّودان القوميِّ ومتحف بيت الخليفة. ثمَّ التَّفكير بصفة جادَّة في كيفيَّة رقمنة الوثائق، الَّتي تكتنزها مستودعاتها الوثائقية قبل فوات الأوان، وتطوير أدائها الوظيفي، كما أشار إلى ذلك من قبل، الدُّكتور فيصل عبد الرَّحمن علي طه، والأستاذ محجوب بابا.

(2)
الدار من مكتب محفوظات السودان إلى دار الوثائق القومية
تعدّ دار الوثائق القوميَّة السُّودانيَّة من أقدم دور الوثائق في الوطن العربيِّ وإفريقيا، وأعرقها إرثًا وثائقيًّا، وكفاءة مهنيَّة وتأتي من حيث الأقدميَّة في المرتبة الثالثة بعد الأرشيف الوطني التونسي ودار الوثائق المصريَّة، إذ يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1916 م، عندما شرعت إدارة الحكم الثُّنائيِّ (1898-1956) في جمع الأوراق الماليَّة والقضائيَّة وأرشفتها في مكتب صغير بمباني السِّكرتير الإداريِّ (وزارة الماليَّة لاحقًا)، وبعد أن توسِّع العمل الأرشيفيَّ بالمكتب الصَّغير أطلق عليه مكتب محفوظات السُّودان عام 1948. وبعد الاستقلال تشعَّبت مهامَّ مكتب المحفوظات، ونمت لتواكب إعادة هيكلة مؤسَّسات دولة السُّودان الحديثة، وتساير تصاعد الوعي المعرفيِّ عن أهمِّيَّة الوثيقة في دراسة جذور المشكلات السِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والثَّقافيَّة. وفي إطار هذا التَّوجُّه برزت شخصيَّة الدَّار الاعتباريَّة، وذلك بصدور قانون دار الوثائق المركزيَّة لسنة 1965، الَّذي بموجبه عدل اسم مكتب محفوظات السُّودان إلى دار الوثائق المركزيَّة، وحدَّد القانون مهامَّ الدَّار واختصاصاتها، والضَّوابط التَّنظيميَّة الَّتي تحكم حركة الوثائق فيها، وتوضِّح مصادر اقتنائها، وكيفيَّة الحصول عليها من المؤسَّسات الحكوميَّة والأكاديميَّة والأفراد. وفي عام 1982 عدلت موادَّ القانون، وبموجب ذلك التَّعديل أضحت الدَّار هيئةً ذات شخصيَّة اعتباريَّة، تعرف بدار الوثائق القوميَّة، وتدار بمجلس قوميّ، يرأسه الوزير الَّذي يسمِّيه رئيس الجمهوريَّة (أو رئيس الوزراء)، وجهاز تنفيذيّ يتصدَّره الأمين العامُّ ونائبه ومساعدوه في إدارة الوثائق الحكوميَّة، وإدارة المحفوظات، وإدارة البحوث، وإدارة الشُّؤون الفنِّيَّة (الصِّيانة والتَّرميم)، وإدارة العلاقات العامَّة والتَّدريب، وإدارة الشُّؤون الماليَّة والإداريَّة. وفي ضوء هذه التَّوطئة، يحاول هذا المقال أن يلقي إضاءات كاشفةً على الإنجازات الَّتي حقَّقتها دار الوثائق، والكفاءات الإداريَّة والأكاديميَّة الَّتي عملت فيها، وتحدِّيات الحاضر وآفاق المستقبل في ظلِّ الثَّورة التِّكنولوجيَّة والإبداعات الرَّقميَّة في مجال حفظ المعلومات وأرشفتها واسترجاعها، ونقلها من حيِّز المعلومات الصَّمَّاء إلى فضاء المعرفة الحيَّة.

(3)
إنجازات دار الوثائق القومية
في ظل الطفرة الإدارية والقانونية التي أشرنا إليها أعلاه، استطاعت دار الوثائق القومية أن تحقق العديد من الإنجازات الرائدة، التي يمكن إجمالها في النقاط الآتية:

أولاً: استطاعت الدار أن توسَّع أوعية اقتناء الوثائق والأرشيف، لتشمل وثائق المؤسسات الحكومية، ذات الصبغة العلمية والإثباتية، وأرشيف الصحافة، والمطبوعات التي تصدر محلياً، ووثائق بعض الأُسر السُّودانية والأفراد. وبمرور الزمن تمكنت الدار أن تجمع ثروة وثائقية طائلة، يُقدر كمُّها بثلاثين مليون قطعة وثائقية وأرشيفية، تقع في نحو مائتي مجموعة وثائقية وأرشيفية، تُغطى كل الحقب التاريخية في السُّودان باختلاف مناشطها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. ونذكر منها: مجموعة سلطنتي الفونج والفور، ومجموعة المهدية التي تقدر بثمانين ألف وثيقة، ومجموعة السكرتير الإداري، ومجموعة المؤسسات التشريعية ابتداءً بالمجلس الاستشاري لشمال السُّودان وانتهاءً بالمجلس الوطني، ومجموعة القصر الجمهوري، والغازيتة والصحافة السُّودانية، ومجموعة الماسونية، ومجموعة محمد عبد الرحيم، ومجموعة معاوية محمد نور، ومجموعة محمد إبراهيم أبوسليم، ومجموعة حاجة كاشف بدري.

ثانياً: استطاعت الدار أن تُعْلم ذوي الاهتمام بمقتنياتها الوثائقية والأرشيفية عبر العديد من المراشد والفهارس، وتجعل مادتها متاحة لكل الباحثين، وفق شروط أهلية معينة لا اعتبار فيها للون، أو العرق، أو المعتقد. وبفضل هذا التوجه غير المرهون بقيود الولاء السياسي جعلت الدار من نفسها كعبة يقصدها طلبة الدراسات السُّودانية والباحثين، الذين أثمرت جهودهم العلمية في سلسلة من الكتب والمقالات والأطروحات الأكاديمية، التي أسهمت في تطوير الدراسات السُّودانية، بعيداً عن الانطباعات الشخصية، وروايات الرحالة ومدونات قلم المخابرات الإنجليزي-المصري، التي تفتقر إلى الموضوعية والمنهجية القائمة على المعلومة الصحيحة الموثقة.

ثالثاً: بفضل هذه المواد الوثائقية والأرشيفية المودعة بمستودعاتها استطاعت الدار أن تُسهم في حل كثير من القضايا القومية، وذلك بتوفير المعلومة الصحيحة الموثقة، وبرفد اللجان والمؤتمرات بممثلين من كادرها المتخصص في القضايا المطروحة للنقاش. والدليل على ذلك الدور الذي قامت به في مؤتمر المائدة المستديرة، ولجنة دراسة الإدارة الأهلية، ولجنة إعادة تقسيم المديريات، ومفاوضات السلام المختلفة، النزاعات الحدودية.

رابعاً: قامت الدار بدور بارز في ترقية العمل الوثائقي والأرشيفي على الصعيدين الدولي والإقليمي، وذلك من خلال عضويتها الدائمة في المجلس الدولي للوثائق والأرشيف منذ عام 1966م، وبوصفها عضواً مؤسساً في الفرع الإقليمي العربي والفرع الإقليمي لدول شرق ووسط إفريقيا التابعين للمجلس الدولي للوثائق والأرشيف. وتثميناً لهذا الدور انتخب أمينها العام الأسبق (أبوسليم) رئيساً للفرع الإقليمي العربي لعدة دورات متعاقبة، كما سبق أن انتخب نائباً لرئيس المجلس الدولي للوثائق في إحدى دوراته، وشغل نائبه الأسبق الأستاذ محمد محجوب مالك منصب رئيس الفرع الإقليمي لدول شرق ووسط إفريقيا. وبهذه الكيفية أسست الدار لنفسها سمعة إقليمية وعالمية طيبة.

(4)
الكفاءات الإداريَّة: الماضي والحاضر
بدأ مكتب محفوظات السُّودان يأخذ شكله المؤسَّسيُّ عام 1954، عندما عيَّن الأستاذ ب. م. هولت (1918-2006) أوَّل أمين له، وفي مكتبه الصَّغير الَّذي كان يقبع في مباني السِّكرتير الإداريِّ (وزارة الماليَّة حاليًّا) وضع هولت اللَّبنات الأوَّليَّة لتحديد مسار الأرشيف السُّودانيِّ، وقام بمجهودات رائدة في ترتيب وتبويب وفهرسة الوثائق التَّاريخيَّة عامَّةً، ووثائق المهديَّة والمخابرات العسكريَّة بصفة خاصَّة. وبعد سودنة وظيفة أمين مكتب المحفوظات عام 1955 م عاد هولت إلى بريطانيا، حيث عمل عضوًا بهيئة تدريس مدرسة الدِّراسات الشَّرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن، وفيها نال درجة الدُّكتوراه في تاريخ الشَّرق الأوسط الحديث. وخلال مسيرته الأكاديميَّة الحافلة بالعطاء أعدَّ البروفسير هولت جملة من الأبحاث المفصليَّة في تاريخ السُّودان والشَّرق الأوسط، وأذيعها صيتًا كتابه الموسوم ب " الدَّولة المهديَّة في السُّودان "، الَّذي يعد واسطة عقد في الدِّراسات السُّودانيَّة، وأدبيَّات المهديَّة تحديدًا. وأخيرًا، توَّج هولت حياته المعاشيَّة بترجمة موثَّقة حواشيها لمخطوطات تاريخ الفونج (مخطوطة كاتب الشَّونة) وطرفا من التُّركيَّة السَّابقة. وإلى جانب اهتماماته البحثيَّة ظلَّ هولت متابعًا لسيرة دار الوثائق القوميَّة إلى أنَّ وافته المنيَّة في الثَّاني من نوفمبر 2006، بعد عمر قارب التِّسعين عامًا.
وعاون هولت في إدارة مكتب محفوظات السُّودان تلميذه النَّجيب محمَّد إبراهيم أبو سليم (1927- 2004)، الَّذي تخرَّج آنذاك من كلِّيَّة الخرطوم الجامعيَّة (جامعة الخرطوم لاحقًا). وبعد تقاعد هولت وسفره إلى بريطانيا عام 1955 م تولَّى الأستاذ أبو سليم إدارة مكتب المحفوظات، وفي ضوء تعديل قانون مكتب المحفوظات عام 1965 م رقِّي إلى منصب مدير دار الوثائق المركزيَّة، وفي السَّنة الَّتي احتفلت فيها دار الوثائق باليوبيل الذَّهبيِّ للمهديَّة (1881-1981) رفع أبو سليم إلى منصب أمين عامّ دار الوثائق القوميَّة، وظلَّ في ذات المنصب بمسمَّياته المختلفة لمدَّة أربعة عقود متتالية (1955- 1995)، قدَّم خلالها خدمة جليلة للوثائق وتاريخ السُّودان بشقَّيه القديم والحديث. وبفضل جهوده في جمع الوثائق السُّودانيَّة من مظانِّها المختلفة كوَّن أبو سليم لنفسه اسمًا لامعًا في أدبيَّات التُّراث السُّودانيِّ، استندت قاعدته إلى وثائق الفونج والفور في الأرض، وامتدَّ عطاؤه إلى بعض مفردات التُّركيَّة، وتجلَّت إسهاماته في دراسات المهديَّة الَّتي أضحى أبو سليم حجَّةً في تراثها ووثائقها دون منازع. وعبَّر حركة الزَّمان وتفتَّق قريحة أبو سليم الأكاديميَّة، تبلور هذا الجهد الخلَّاق في أكثر من ستِّين مؤلَّفًا، جميعها، كما يرى البروفيسور قاسم عثمان نور، " تعتمد على دار الوثائق ومخزونها في الوثائق السُّودانيَّة، . . . والمصادر الأوَّليَّة الَّتي تمثِّل الوثائق نسبةً عاليةً منها ". وعندما تقاعد أبو سليم عن العمل الدِّيوانيِّ عام 1995 م، كانت دار الوثائق القوميَّة تقتني نحو ثلاثين مليون قطعة وثائقيَّة وأرشيفيَّة، تشمل كافَّة المجموعات الَّتي أشرنا إليها أعلاه. ولكن إلى أنَّ تقاعد أبو سليم لم يكن لدار الوثائق القوميَّة مبنى خاصّ بها، فكان مشروع المبنى المقترح في مرحلة البناء والتَّشييد.
وبعد أن تقاعد الدكتور محمد إبراهيم أبوسليم عن العمل الإداري خلفه على أمانة دار الوثائق القومية الدكتور علي صالح كرار، الذي تخرج من كلية الآداب بجامعة الخرطوم عام 1973م، ونال درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة بيرغن النرويجية عام 1985م، وحضر العديد من الدورات التدريبية في مجال الوثائق والأرشيف. وبموجب هذا الإجراء الإداري عُين أبوسليم مستشاراً لمباني دار الوثائق الجديدة آنذاك، والتي وُضع حجر أساسها في التاسع عشر من ديسمبر 2002م. ولكن في السابع من فبراير 2004م، أي بعد أقل من عام ونصف من تاريخ وضع حجر الأساس، انتقل الدكتور أبوسليم إلى الدار الآخرة قبل أن يحضر افتتاح مباني دار الوثائق الجديدة، الحُلم الذي ظل يراوده لسنوات طوال.
وفي يوليو 2007م صدر قرار جمهوري بنقل الدكتور علي صالح كرار إلى جامعة النيلين، وتعيين الدكتور كبشور كوكو قمبيل أميناً عاماً لدار الوثائق القومية. أكمل كبشور تعليمه الجامعي بمعهد المعلمين العالي (كلية التربية جامعة الخرطوم لاحقاً) عام 1976م، ثم ابتُعِثَ إلى فرنسا، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم النفس التربوي. وفور عودته من فرنسا، انضم إلى عضوية هيئة التدريس بكلية التربية جامعة الخرطوم. وبعد انتفاضة أبريل 1985م، أسهم مع آخرين في تأسيس اتحاد عام جبال النوبة، كما شغل عدداً من المناصب الوزارية في عهد حكومة الإنقاذ (1989-2019م)، ونذكر منها، وزير دولة بوزارة التخطيط الاجتماعي (1993-1994م)، ووزير الاتصالات والسياحة (1994- 1995م)، ووزير التربية والتعليم (1995-1999م). وبعد تعيينه أميناً عاماً لدار الوثائق القومية عام 2007م، تمَّ اختياره رئيساً لمجلس الشورى القومي للمؤتمر الوطني (2014-2019م). وواضح من هذه السيرة الذاتية أنَّ دار الوثائق القومية كانت تقع خارج دائرة اهتمام الدكتور كبشور كوكو ومجال خبراته المتراكمة؛ لكن يبدو أن تعيينه قد ارتكز إلى بعض الموازنات السياسية داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك. وتجدد هذا المسلك عندما صدر قرار جمهوري آخر بتعيين المهندس ضياء الدين محمد عبد القادر، خلفاً للدكتور كبشور في 5 يناير 2019م، علماً بأن خبرة المهندس ضياء المهنية لا تتجاوز العمل في إدارة مشروع سد مروي، وشركة سيدكو للاستثمار التابعة آنذاك للاتحاد الإسلامي، وشركة "طارف للخدمات"، وشركة دايموند التابعة للخدمة الوطنية.
وبعد ثورة ديسمبر 2018، عينت الحكومة الانتقالية الدكتورة فاطمة إبراهيم أميناً عاماً بالإنابة، وتعد فاطمة من الكوادر المهنية والأكاديمية التي عملت في دار الوثائق فترة طويلة. وبعد انتهاء تكليف الدكتورة فاطمة، عينت الدكتورة عفاف محمد الحسن، أميناً عاماً لدار الوثائق، بحكم أنها عضو هيئة تدريس بقسم علوم المعلومات والمكتبات بجامعة الخرطوم. والآن الأمين العام لدار الوثائق هو اللواء عادل الأمين درنكي.
وتؤكد التعيينات خارج الإطار المهني، أنَّ الجهات المسؤولة عن الدار (رئاسة مجلس الوزراء) لم تكن مهتمة بالدور الوظيفي لدار الوثائق القومية في حفظ المخطوطات التراثية والأرشيف القومي، وصيانتها، وتطوير وسائل حفظها واسترجاعها، وجعلها متاحةً للقارئين والباحثين؛ فضلاً عن مرجعيتها المعلوماتية للدولة ومؤسساتها الحكومية. ولذلك وصف الأستاذ محجوب بابا مثل هذه التعيينات السياسية والترضيات الشخصية بأنها من "أفجع الموبقات"، مشيراً في ذلك إلى تعيين بعض ضباط الجيش والشرطة في إدارة دار الوثائق القومية، محتجاً بأن مؤهلاتهم العسكرية لا علاقة لها بالمهام الوظيفية للدار. وفي الاتجاه ذاته، كتبت البروفسير فدوى عبد الرحمن علي طه في صفحتها على الفيسبوك قائلةً: "عانت الدار ما عانت بعد إحالة دكتور علي صالح كرار للمعاش، وتسييس المنصب دون مراعاة للخبرة. راعوا أن دار الوثائق القومية من أهم مؤسسات الدولة، إن لم تكن أهمها، ولنتذكر مؤسس الدار محمد ابراهيم أبوسليم، ونأتي بأمناء مؤهلين"، وأصحاب خبرة ودراية في إدارة الوثائق والأرشيف الحكومي.

(5)
دار الوثائق القومية وآفاق المستقبل
في التَّاسع عشر من ديسمبر عام 2006 م تمَّ ترحيل الدُّفعة الأولى من وثائق الدَّار إلى مقرِّها الجديد بشارع السَّيِّد عبد الرَّحمن، فاختيار هذا اليوم كان اختيارًا موفَّقًا؛ لأنَّ فيه تثمين لتاريخ إعلان استقلال السُّودان من داخل البرلمان عام 1955 م، ووجود الدَّار مصادفة بشارع السَّيِّد عبد الرَّحمن المهدي فيه تقدير لصاحب السَّرايا الَّتي آوت دار الوثائق القوميَّة أكثر من ثلاثة عقود من الزَّمان، على الرَّغم من ضعف تأهيلها التِّقنيِّ وتصميمها العمرانيِّ وتشغل مستودعات الدَّار الحاليَّة مبنى حديث التَّصميم العمرانيِّ والفنِّيِّ، يتكوَّن من ثلاثة طوابق رئيسة، ذات إعداد فنِّيّ وتقنيَّ عال، مزوَّدةً بكلِّ احتياطات الأمان الخاصَّة بحفظ المعلومات والوثائق. وتسع هذه المستودعات نحو 120 مليون قطعة وثائقيَّة وأرشيفيَّة، معزَّزةً بمركز تدريب وثائقيّ حديث، وقاعة اطِّلاع إلكترونيَّة للباحثين والقارئين. وفي ظلِّ هذه النَّقلة النَّوعيَّة، نطرح حزمة من الأسئلة الَّتي تصبُّ في مسار ثورة الحرِّيَّة والتَّغيير: ما المطلوب من دار الوثائق القوميَّة في هذا الظَّرف الرَّاهن؟ وما المتوقَّع أن تنجزه الدَّار في مقرِّها الجديد الَّذي بلغت كلفته الماليَّة أربعة ملايين دولار أمريكا ونصف المليون؟ وهل الدَّار مؤهَّلةً بشريًّا لمواكبة متطلَّبات العصر وتطلُّعات وشباب ثورة ديسمبر 2018؟ ليس لديَّ إجابات قاطعة لهذه الأسئلة المحوريَّة؛ لكنَّ المؤشِّرات المذكورة أدناه ربَّما تساعد في وضع رؤية استراتيجيَّة؛ للنُّهوض بدار الوثائق القوميَّة مهنيًّا وظيفيًّا؛ حتَّى تكون قادرةً على تحويل المعلومة الصَّامتة إلى معرفة ناطقة بالحياة في أطروحات الباحثين والدَّارسين.
أوَّلاً: يجب دراسة الوضع الرَّاهن في دار الوثائق القوميَّة، وتحليل نقاط ضعفه وقوَّته، موازنة مع دور الوثائق الأخرى على المستويين الإقليميِّ والعالميِّ. ثمَّ بعد ذلك النَّظر بعمق في المهدِّدات والمعوِّقات الَّتي يقف حجر عثرة أمام تطوُّر الدَّار، وكيفيَّة تجاوزها، وأخيرًا، استثمار الفرص المتاحة للتَّطوير والنُّهوض بأدائها الوظيفيِّ.
ثانيًا: يجب أن تنظر إدارة الدَّار الحاليَّة بعين فاحصة في أهمِّيَّة تقنيَّة المعلومات باعتبارها مسألة ضروريَّة لأيِّ مجتمع ينشد التَّطوُّر، والتَّقدُّم، والتَّواصل الإيجابيُّ مع الآخر في إطار ثورة التَّقانة الَّتي يشهدها العالم اليوم؛ لأنَّ استثمارها الإيجابيَّ يفضي إلى تطوير أوعية التَّخزين وكشَّافات الاسترجاع إلى أوعية وكشَّافات ممغنطة، لحفظ المعلومات وسهولة استرجاعها. فلا شك في أنَّ العاملين بدار الوثائق أكثر معرفة وإلمامًا بهذه القضايا، لكن- في كثير من الأحيان- تقف ندرة العنصر البشريِّ المؤهَّل والمتخصِّص، ووفرة الوسائط الفنِّيَّة، وعدم كفاية الميزانيَّات المصدِّقة عائقًا أمام تطلُّعاتهم المنشودة في مجال إدارة الوثائق والأرشيف.
ثالثاً: يقتضي تحقيق الفقرة أعلاه توفر العنصر البشري المؤهل، والقادر على الابتكار والإبداع على مستوى التخطيط العام والتشبيك الداخلي والخارجي، وعلى مستوى التنفيذ المهني داخل مستودعات الدار وقاعاتها. ولذلك تحتاج الدار لعناية خاصة من رئاسة مجلس الوزراء، وجهودٍ مكثفة من العاملين بين ظهرانيها لتثقيف قدراتها الفنية في سائر مناحي العمل الوثائقي والأرشيفي، وذلك بتأهيل كوادرها المهنية والفنية محلياً وخارجياً؛ للاستئناس بتجارب الشعوب الأخرى التي قطعت شوطاً مقدراً في مجال العمل الأرشيفي وتقنيَّة المعلومات.

رابعًا: يجب ألَّا يكون دور الدَّار قاصرًا على جمع الوثائق والمخطوطات وحفظها وصيانتها وجعلها متاحةً للباحثين والمطالعين، بل تكون الدَّار رائدةً في القيام بالدِّراسات والبحوث في كلِّ المجالات المتعلِّقة بتطوير أدوات العمل الببليوغرافيِّ الوطنيِّ، ومنها تقنين نظام التَّكشيف الإلكترونيَّ، وأدوات الضَّبط الاستنادي الوطنيَّ لأسماء الأفراد، والهيئات، والأماكن الجغرافيَّة، والعناوين المقنَّنة، وإنشاء مرصد للإعلام من المفكِّرين والعلماء والمبدعين السُّودانيِّين وبذلك ترقي بدورها التَّدريبيِّ، والتَّعليميَّ في مجال إدارة الوثائق الأرشيفيَّة وتحقيق المخطوطات.
خامسًا: يقتضي واقع الحال أن يكون لدار الوثائق القوميَّة موقع إلكترونيّ مميَّز، يعرض مقتنياتها الوثائقيَّة والأرشيفيَّة، وطبيعة الخدمات الَّتي تقدِّمها لجمهور القارئين والباحثين داخل السُّودان وخارجه. لأنَّ التَّواصل الإلكترونيَّ يربط الدَّار داخليًّا بالمؤسَّسات الأكاديميَّة والحكوميَّة ذات الصِّلة، وييسِّر تواصلها بالقارئين والباحثين، ويعزِّز علاقاتها بدور الوثائق الأخرى، وذلك بهدف تبادل المقتنيات الأرشيفيَّة والوثائقيَّة، وتيسير التَّعاون بين الباحثين، وإتاحة الفرص المتجدِّدة للتَّدريب.
سادسًا: لا يكفي التَّأهيل المهنيُّ والفنِّيُّ وحده، لأنَّ الموظَّف أو العامل في أيَّة بقعة من بقاع الأرض يحتاج إلى تحفيز مادِّيّ ومعنويّ. ويتجلَّى التَّحفيز المادِّيُّ في عدالة الأجر (الرَّاتب) الَّذي يكفي حاجيَّات الأجير الضَّروريَّة، ويسدَّ جزءًا من متطلَّباته الكماليَّة حسب تدرجه في السِّلم الوظيفيِّ؛ ويعني التَّحفيز المعنويُّ عدالة الهيكل الوظيفيِّ والتَّرقيات والعلاوات الدَّوريَّة الَّتي تحدِّد وفق كفاءة العامل، وجودة عطائه المهنيِّ والفنِّيِّ. وتوفير هذين العاملين يسهم في تحقيق الاستقرار والأمن الوظيفيِّ، وتراكم الخبرات المهنيَّة والفنِّيَّة، وتجويد العطاء وفق منظومة تدافع وظيفيّ شريف ومبدع. لكنَّ غياب مثل هذه المحفِّزات المادِّيَّة والمعنويَّة في العقود الماضية قد جعل دار الوثائق القوميَّة محطَّة عبور لكثير من الكوادر المؤهَّلة الَّتي هجرتها إلى بعض مؤسَّسات العمل الأرشيفيِّ والوثائقيِّ داخل السُّودان وخارجه، بغية تحقيق عطاء مادِّيّ أوفر، وتقدير مهنيّ أجل.

(6)
خاتمة وتوصيات
تحتاج دار الوثائق القوميَّة في هذه الظُّروف الرَّاهنة والحرجة إلى حماية أمنيَّة لمستودعاتها الوثائقيَّة، خوفًا من السَّرقة والنَّهب؛ ثمَّ بعد ذلك ينظر في التَّوصية الَّتي طرح الدُّكتور فيصل عبد الرَّحمن علي طه من قبل: "استقدام لجنة خبراء يلتمس في تشكيلها مساعدة منظَّمة الأمم المتَّحدة للتَّربية والثَّقافة والعلم والمنظَّمة العربيَّة للتَّربية والثَّقافة والعلوم، تكلَّف اللَّجنة بتقييم الوضع الرَّاهن لدار الوثائق وتقديم توصيات بشأن إصلاحها". بناءً على توصيات هذه اللَّجنة تشرع الجهات المعنيَّة في اتِّخاذ الخطوات اللَّازمة قبل فوات الأوان.

 

ahmedabushouk62@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • طالب بإجراءات لمنع تهريب المخدرات..عون: نسعى لاستعادة ثقة الدول العربية في لبنان
  • فوز باحثة مصرية بجائزة اتحاد الجامعات العربية لأفضل رسالة ماجستير في الاقتصاد الأخضر
  • أنقذوا دار الوثائق القوميَّة السُّودانيَّة قبل فوات الأوان
  • الظروف الصعبة للشعب الفلسطيني .سايحي يتباحث مع نائب رئيس الجامعة العربية
  • بعد وفاته.. 5 معلومات عن الدكتور طه عبد العليم رئيس هيئة الاستعلامات الأسبق
  • وفاة الدكتور طه عبد العليم الرئيس الأسبق للهيئة العامة للاستعلامات
  • هل تشمل المغرب؟ ترامب يعلن زيارة عدد من الدول العربية الشهر المقبل
  • إدارة ترامب تراجع منح جامعة هارفارد بسبب تهم معاداة السامية
  • رئيس مجمع القديسين في الفاتيكان يوقع الملف النهائي لتطويب البطريرك الدويهي
  • انقسام الدول العربية في عيد الفطر