الازدواجية الثقافية فى الوعى العربى المعاصر
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
النموذج المصري: تشكل الحالة المدنية
-1-
يبدو المشهد الثقافى مربكًا بعض الشيء: الحضور المتشابك للثقافتين يسمح بالحديث عن وجهين متقابلين للمجتمع؛ تراثى سلفى وحداثى مدنى. وفيما يشكو التيار الأصولى من انغماس المجتمع فى الحداثة المادية وانفلات الدولة من حكم الشريعة، يشكو التيار المدنى من نكوص المجتمع إلى السلفية بعد التحول الحداثى «الجزئي» الذى تراكم عبر قرنين، وعن تراجع الدولة عن دورها التجديدى المفترض بفعل الضغوط الأصولية.
تعرف جميع المجتمعات درجة من درجات الازدواجية الثقافية، بما فى ذلك المجتمعات الغربية المعاصرة، التى انتقلت إلى الحداثة بعد مخاض صدامى طويل بين تقاليد العصور الوسطى «المسيحية»، ومفاهيم التنوير التى روجت للعلمانية والعلم. لكن الصدام فى الغرب انتهى بنتيجة حاسمة لصالح الحداثة، التى صارت تتحول إلى ثقافة شعبية دارجة، على حساب الثقافة التراثية التى لم تتلاش تمامًا، بل تراجعت إلى خلفية الوعى، وكفت عن إثارة التوتر الاجتماعى.
ومن هذه الزاوية بالذات يظهر الجانب الإشكالى للازدواجية فى السياق العربى الإسلامى الراهن، حيث لم تتراجع الثقافة التراثية إلى خلفية الوعى، ولم تتحول الحداثة إلى ثقافة شعبية سائدة، ولم يكف الصدام بين الثقافتين عن إفراز التوتر.
أتكلم عن الحداثة بالمعنيين: الواسع الذى يشير عمومًا إلى واقعة التحول فى بنية النظام الاجتماعى (الاقتصادي/ السياسي/ الثقافي) بفعل قانون التغير الضرورى، والمعنى الضيق الذى يشير خصوصًا إلى «العلمانية» بوصفها تحولًا جذريًا فى بنية «النظام الديني» الموروث، والمهيمن إجمالًا على الثقافة. وأتكلم عن «السلفية» أيضًا بالمعنيين: الواسع الذى يشرح حالة الخضوع الذهنى لسلطة الماضى والنفور من فكرة التطور. والمعنى الضيق الذى يشير، فى السياق الإسلامى، إلى مذهب كلامى فقهى محدد، ينتمى إلى نسق التدين النقلى القائم على حرفية النصوص (وفقًا لفهم فريق بعينه من عصر التدوين)، وينفر من تشغيل العقل داخل دائرة الدين.
-2-
انطلقت الحالة الحداثية فى مصر من نقطة سياسية، هى ظهور الدولة الجديدة التى أنشأها محمد على فى بداية القرن التاسع عشر، والتى تطورت بفعل الاحتكاك السياسى والثقافى مع الغرب إلى «دولة مدنية» تقوم على فكرة «المواطنة» وفكرة «القانون» كان هذا التطور يمثل انقلابًا على النظام التراثى «الديني» السائد منذ قرون، وقد كشف عن هشاشته وقابليته للاختراق من نقطة ضعفه الأولى وهى شقة السياسى.
فى البداية فرضت الحاجات التنظيمية للدولة عملية التجديد، التى بدأها محمد على بتشكيل جيش نظامى من الجنود المصريين لمواجهة النفوذ العثمانى ومطامع المماليك. لاحقًا وبوعى مقصود، استهدفت الدولة نقل النموذج الغربى فى التنظيم العسكرى، والشكل الدستورى، والإدارة السياسية، وفى آليات الرى وتطوير الزراعة والتجارة، ونشر التعليم المدنى والفنون والصحافة، وإنشاء الجامعة وتوسيع البعوث الدراسية، وتم تحقيق نقلة معمارية وديموغرافية واسعة. وفى هذا السياق تبلورت الأرستوقراطية المصرية كطبقة اجتماعية ذات توجه حداثى، وظهرت بوادر مبكرة لنواة الطبقة الوسطى المشربة حداثيًا، والتى ستبلغ ذروتها فى منتصف القرن العشرين.
بوجه عام، كانت الدولة هى المحرك الأول للتحول الحداثى فى مصر. وظلت تلعب الدور الرئيسى فى هذا الاتجاه بعد ظهور المحرك الثانى، وهو «تيار النهضة المصرية»، الذى تبلور كحركة فكرية واعية بذاتها تحمل عبء التنظير والترويج للحداثة، عبر الدخول فى معارك ثقافية مع رموز «النظام التراثي» الذى بدأ يستشعر الخطر ويبدى ردود فعل دفاعية.
عند أوائل القرن العشرين بدا حجم التحول واضحًا، وصار بالإمكان الحديث عن وجه حداثى مدنى للمجتمع، على حساب الوجه التراثى التقليدى، الذى تزحزح خطوتين إلى الوراء. فى هذا السياق يمكن الإشارة إلى حزمة واسعة من التحولات الاقتصادية، والإدارية، والتعليمية، وإلى مردوداتها الثقافية فى الفكر والموسيقى والمسرح والسينما والعمارة، وعلى المستوى الاجتماعى المباشر بما فى ذلك المظهر الشخصى، وطريقة ارتداء الملابس، وأساليب التخاطب، والاختلاط بين الرجل والمرأة، التى خلعت حجاب الرأس، وصارت تخرج إلى العمل. وهى تحولات لافتة بالنظر إلى سرعة انتشارها على نطاق واسع، بين جميع الطبقات، وبدون استخدام آليات ضغط إدارية أو قانونية. الأمر الذى يلفت بدوره- إلى «السلاسة النسبية» التى أظهرها المجتمع- فى هذه المرحلة- وهو يستجيب للمثير الحداثى.
-3-
لكن التحول الحداثى الأهم يظل متمثلًا فى تبلور نموذج «الدولة المدنية» ذاتها، بإطارها القانونى، وطابعها الوطنى. ينطوى هذا التحول على تناقض جوهرى مع النظام التراثى من ناحيتين:
1- تثبيت سلطة «القانون»، أى التشريع الوضعى الذى يتجدد وفقًا لتطور الواقع، مقابل سلطة «الفقه» النظرى المتجمد منذ عصر التدوين.
2- ترسيخ فكرة «المواطنة»، كأساس واضح للحقوق والالتزامات القانونية، مقابل المعنى الغائم « للأممية الدينية» التى يطرحها الفقه.
يختزل القانون والمواطنة خصائص الدولة المدنية الحديثة التى تقوم على التعددية والمساواة والحريات الفردية. يضفى القانون حمايته على هذه الخصائص بوصفه السلطة الآمرة الوحيدة داخل المجتمع. ويعنى ذلك أن القانون- خلافًا للفقه التراثى الذى ينفى وجود الآخر الدينى أو يقلص من حقوقه- يقر بوجود الطرفين الدينى وغير الدينى، وبحقوقهما المتساوية فى إطار المواطنة، ويكفل حماية الفرد والأقلية من تغول الأغلبية.
استيعاب القانون لهذه الخصائص يعنى تحويلها إلى جزء من «النظام العام»، أى من منظومة القيم العليا الأولى بالحماية، حتى عند التعارض مع القيم العرفية ذات الأصل التراثى، وهذا من جوهر الدولة المدنية الحديثة. (نشأت هذه الدولة- تاريخيًا- من رحم الصدام مع النظام التراثى الدينى بالذات. وهى؛ لذلك، وبالدرجة الأولى، مقابل موضوعى للحكومة الدينية من حيث هى حكومة شمولية حصرية بالضرورة).
لكن هذا الاستيعاب القانونى، على ضرورته «للدولة المدنية» لا يكفى لاكتمال «المجتمع المدني» بل يلزم استيعاب قيم التعددية والحريات داخل «الثقافة»، أى تحولها إلى جزء من الوعى العام، والا سيظل التوتر قائمًا بسبب التعارض بينها وبين القيم التراثية، التى ستطلب بدورها حماية القانون، ما يعنى تزاحم لائحتين متناقضتين من القيم داخل دائرة «النظام العام»، أو تزاحم «نظامين عامين» داخل دائرة القانون.
هذا التوتر القانونى، يلخص جانبًا من المأزق الراهن للدولة المدنية فى مصر والمنطقة العربية، وهو يتفاقم فى ظل تصاعد الضغوط الأصولية، التى صارت تسحب من رصيد الحداثة المدنية داخل الوعى العام. متى وصل هذا الرصيد إلى حده الأقصى؟ وما حجمه حينذاك مقارنة بالرصيد التراثى الأصلي؟
-4-
عندما بدأت الحالة المدنية تتشكل فى مصر فى قلب القرن التاسع عشر، كانت الحداثة العلمانية، التى استقرت فى الغرب، تتجاوز مجالها الجغرافى، وتطرح نفسها كثقافة كونية ذات جاذبية طاغية. وعند منتصف القرن العشرين كانت هذه الثقافة قد وصلت إلى لحظة المد الأعلى، ونجحت بالفعل فى اختراف جميع الأنساق الثقافية الكبرى حول العالم، بما فى ذلك الأنساق الدينية المغلقة. وفى هذه الفترة ذاتها وصلت الحالة المدنية فى مصر إلى أعلى معدلاتها على مستوى الدولة والمجتمع:
بانتهاء العقد الرابع، كانت الدولة قد استكملت إطارها الشكلى كملكية حديثة ينظمها دستور ليبرالى (1923)، وقانون جنائى ومدنى (1937، 1948) مناظر للتشريعات الفرنسية. واستقر البناء المؤسسى مع ظهور النظام القضائى فى صيغته التنظيمية الحديثة، وتطور الجيش بملامحه المصرية الخالصة. عمليًا، كان استقرار الدولة يكرس الفكرة العلمانية، وجرى الترويج لها نظريًا عبر مفكرين تنويريين من بينهم «أزهريون» كعلى عبدالرزاق الذى أصدر كتابه البديع «الإسلام وأصول الحكم» (1925). ومع انتشار التعليم والصحافة، وتضخم الجهاز البيروقراطى، ظهرت ملامح طبقة وسطى مدينية ذات مظهر غربى معتدل، وصار خروج المرأة إلى العمل واختلاطها بالرجال بدون غطاء الرأس سلوكًا مقبولًا فى الوعى العام.
فى غضون هذه الفترة وصلت فكرة «الوطنية المصرية» إلى أوج تألقها، وظهر الأقباط المسيحيون فى المشهد الثقافى السياسى كجزء طبيعى من بنية المجتمع، الذى صار يشار إليه باسم الوطن، وظهر شعار «الدين لله والوطن للجميع». وفى التنظير للهوية الوطنية تم استدعاء العمق التاريخى لمصر الفرعونية، وامتداداتها الثقافية المتوسطة، من اليونانية القديمة إلى الأوربية المعاصرة كما فصَّل طه حسين فى كتابه التأسيسى «مستقبل الثقافة فى مصر».
عند مطلع الخمسينيات ودخول الحقبة الناصرية، سيتغير الإيقاع السياسى والاجتماعى بدرجة حادة، لكنه ظل يمضى باتجاه الحالة المدنية: سياسيًا، لم يخفف التوجه الشمولى من حمولة العلمانية، بل أسهم فى تثبيتها بفعل الحضور الطاغى للدولة، ولم يخفف التوجه القومى العربى من حمولة الوطنية المصرية. واجتماعيًا ساعدت التحولات «الاشتراكية» الزراعية والتطوير الصناعى النسبى، على توسيع قاعدة الطبقة الوسطى التى حافظت على ملامحها المدنية المعتدلة، وتطلعها للاندماج فى الثقافة العالمية.
بعد انتهاء العهد الناصرى، سيبدأ إيقاع الحالة المدنية فى التباطؤ ثم التراجع تدريجيًا لصالح ثقافة التراث الدينية. فى تفسير هذا التراجع وتقدير حجمه يلزم الوقوف على حزمة من المتغيرات السياسية والثقافية التى تضافرت منذ السبعينيات لتعزيز التوجه الأصولى على المستوى الداخلى والإقليمى والعالمى.
يتبع
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الحالة المدنية المدنیة ا فى مصر
إقرأ أيضاً:
عاجل - قبل مناقشة القانون في مجلس النواب.. خبير برلماني: القائمة النسبية تهدد بعدم دستورية النظام الانتخابي والجمع بين نظام القائمة والفردي الأفضل للبلاد
يعتزم مجلس النواب خلال الأيام القليلة المقبلة مناقشة قانون الانتخابات، والذي سيتم العمل به خلال الانتخابات المقبلة من المقرر إجراءها قبل نهاية العام الحالي، وفقًا لنصوص الدستور التي تقضي بإجراء الانتخابات قبل 60 يومًا من انتهاء مدة البرلمان بغرفتيه " نواب وشيوخ" الحالية، وهو ما يعني الدعوة إلى انتخابات "الشيوخ" في أغسطس المقبل، يلي ذلك إجراء انتخابات النواب، في نوفمبر، قبل نهاية فترة المجلس الحالي، في يناير 2026.
وتدور تعديلات القانون حول 3 أراء رئيسية كان قد رفعها الحوار الوطني إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، الأول الإبقاء على النظام الانتخابي الحالي للانتخابات البرلمانية بغرفتيها مجلس النواب ومجلس الشيوخ والذي يتضمن تقسيم الجمهورية إلى 4 دوائر ويكون النظام الانتخابي "50% للقوائم المغلقة المطلقة و50% للنظام الفردي".
والثاني أن تكون الانتخابات بنظام القائمة النسبية بنسبة 100% في 15 دائرة انتخابية بعدد مقاعد لكل دائرة (40) مقعدًا انتخابيًا.
والثالث تطبيق نظام انتخابي مختلط يجمع بين "نظام القوائم المغلقة المطلقة ونظام القوائم النسبية والنظام الفردي لتكون النسب 25% لنظام القوائم المغلقة المطلقة، و25% لنظام القائمة النسبية،50% للنظام الفردي" شرط أن تستوفي نسبة المرأة من القائمتين المطلقة والنسبية، أو بنسبة 40% للنظام الفردي، 30% لنظام القائمة المغلقة المطلقة، 30% لنظام القائمة النسبية شرط أن تستوفي نسبة المرأة من القائمتين.
عبد الناصر قنديل:خبير النظم البرلمانية والتشريعية توقع أن تتجه تعديلات القانون داخل مجلس النواب إلى الجمع بين النظامين الفردي والقائمة المغلقة المطلقة "٥٠٪ فردى و٥٠٪ قائمة مطلقة مغلقة" وهو الوضع الذي اقيمت على أساسه انتخابات 2020، باعتبار أن هذا النظام هو الأنسب دستوريًا وسياسيًا.
وقال قنديل لـ "الفجر": إن أي محاولة للتدحل في شكل النظام الانتخابي الحالي ربما تؤدي إلى عوار دستوري يطيح بهذا المجلس، مضيفا أنه من الصعب التدخل في تغيير طبيعة النظام لعدة أسباب، أولها عدم توفر الوقت لتوعية الناخبين بالأنظمة البديلة، ثانيا لايوجد وقت لدراسة مدى كفائة هذا النظام ودستوريته لصعوبة تطبيقه في ظل اختلاف التوزيع السكاني في مصر، ومن ثم قد يهدد بعدم دستورية النظام الانتخابي.
، فالاوقع في اللحظة الحالية أستمرار النظام الانتخابي بشكله القائم مع توافر شرطين، الأول أن يقام حوار بين القوى السياسية لضمان أن تكون القائة الوطنية معبرة عن أكبر عدد من القوى السياسية الحقيقية والوطنية في المشهد المصري، مما يضمن أكبر تمثيل للأحزاب والقوى السياسية حسب أوزانها النسبية.
أما الشرط الثاني، الإعلان عن دعوة الحوار الوطني للجنة من المتخصصين والخبراء تكون مهمتها خلال مدة زمنية محددة وضع أسس لنظام أكثر كفائة لإدارة العملية الانتخابية وتوفير نظام عادل لتقسيم الدوائر يعبر عن الواقع الجغرافي والفئوي للمجتمع المصري والتزام الدولة بتطبيق هذا النظام لمدة 3 دورات انتخابية كحد أدنى يجري بعدها دراسة وتقييم هذا النظام إما لتطويره أو الحفاظ عليه كنظام مرجعي ثابت غير قابل للتعديل لشكل الانتخابات في مصر وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية بأنها أجرت عدد من العمليات الانتخابية حتى توصلت إلى اقرار هذا النظام سنة 1882 ون وقتها حتى الآن النظام ثابت ومستقر دون ادخال تعديل.