شدنا فيلم "الأستاذ"، كما شدنا أكثر الفنان المميز صالح البكري، حيث بقيت ملامحه تسكننا، بل وسيطول ذلك، لما في التمثيل من تعبير صادق حقيقي جعل هذا الفنان مبدعا عالميا من طراز خاص يصعب تكراره.

سيكون لنظرية التلقي مكان هام هنا؛ ذلك أن المشاهد الفلسطيني المتأثر بالفيلم، إنما يشاهد فيلما غير منقطع عن حاله، فهو مشدود لكل من الفيلم والواقع الذي يحياه، ما يجعله أكثر اندماجا عاطفيا مع الفيلم مقللا من الاهتمام بثغرات الفيلم ونواقصه.

أما المشاهد الخارجي، فهو بالرغم من تعاطفه مع مضمون الفيلم، وما يعانيه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، فسيجد نفسه يشاهد فيلما مشوقا.

أما في حالة التذوق والنقد الفني، فإنه يمكن مثلا أن نجد الفلسطيني منتقدا جوانب واقعية بالفيلم، في حين سينتقد غير الفلسطيني بنية الفيلم.

وبشكل عام، لا ننكر أن الفيلم شدنا جميعا جمهورا وككتاب، بما اشتمل عليه من عناصر إبداعية سينمائيا، وتعبيرا مميزا عن التوترات المرتبطة بشخصيات الفيلم.

قصة الفيلم تقريبا هي قصة الأستاذ باسم، الذي عانى من بطش الاحتلال، فقد اعتقل، كما اعتقل ابنه الطفل إثر مظاهرة شجعه والده على الاشتراك بها، ما جعله يتعرض للاعتقال، ولما كان يعاني من حساسية ما في الصدر، فقد أدى تعذيب السجان للمعتقلين من خلال التبريد شتاء إلى موته كونه لم يحتمل، ما جعل زوجة المعلم تهجر البيت محملة زوجها المسؤولية، فيعيش تحت تأثير الشعور بالذنب.

يكون للأستاذ باسم صلة مع مناضلين يضطروا إلى اللجوء إليه، لإخفاء جندي الاحتلال الذي أسرته المقاومة في بيته لفترة من الزمن. يكون هذا الجندي من أصول أمريكية.

في محيط الأستاذ باسم، تحيا عائلة طالبه آدم، الذي يستشهد أخوه الشاب يعقوب، حيث يقتله مستوطن بدم بارد، لأنه هرع وآخرون لكف أيادي المستوطنين عن الاستمرار بحرق شجر الزيتون. يتعرض بيت آدم للهدم، فيستضيف الأستاذ باسم طالبه في بيته، حيث يرى فيه ابنه الذي قضى في المعتقل الإسرائيلي. لذلك ينجح الفيلم في جعل بيت الأستاذ مأوى للجندي الأسير المخفي، ومأوى لآدم الذي يكون قد فقدت أسرته بيتها، قبل فقد ابنها يعقوب في فترة قريبة.

في فضاء العائلتين، تتواجد المتضامنة الإنسانية ليزا، لدعم أسر القرويين، ومنهم هذه الأسرة، والتي ينشأ بينها وبين الأستاذ حوارا حول هذه الظروف، حيث تكشف عن لآم تعرضت لها في بلادها، حين توفيت أختها إثر حادث سير، فرّ الجاني بعده، كما تنشأ علاقة عاطفية بينهما. حين تكتشف مسدسا في مكتبة الأستاذ، تتعرف على جوانب أخرى من شخصيته، التي قد تكون مختلفة عما فيه من مسالمة وهدوء، حيث كان وراء الهدوء أحداث عاصفة منها تعرضه للاعتقال ورحيل ابنه الفتى في المعتقل، وهجرة زوجته له، حيث ما إن تلومه حتى تتفهم كل هذه المنطلقات.

اختارت المخرجة، وهي نفسها كاتبة النص، قرية بورين جنوب نابلس، لتكون مسرحا لفيلمها، حيث توفقت في ذلك كونها جعلت المكان واقعيا جدا.

استخدمت المخرجة الأسلوب البوليسي المشوق، في تتبع جهاز المخابرات الشاباك للجندي الأسير. ولولا اكتشاف آدم بالصدفة وجود الأسير في بيت الأستاذ حين قام من النوم ليلا لشرب الماء، لاكتشفت المخابرات مكان الجندي الأسير، فقد أسرع آدم إلى إخراج الجندي الأسير من بيت الأستاذ، وإعادته إليه ليلا بعد رحيل جنود الاحتلال. وينشأ هنا جدل حول رغبة آدم من الثأر لأخيه الشهيد من خلال تصفية الجندي الأسير. ينجح المعلم في تخفيف اندفاع آدم. تتم صفقة تبادل الأسرى، يتم الإفراج عن 1200 أسير فلسطيني.

يعود آدم إلى ذات الانفعال حيث تبرئ محكمة الاحتلال ساحة المستوطن، فيبحث آدم عن مسدس الأستاذ، فلا يجده فيحمل سكينا ويستطيع التسلل الى المستوطنة القريبة، والدخول الى بيت المستوطن القاتل، حيث يطلب آدم من زوجته وطفله ترك غرفة المعيشة، فيشهر عليه السكين، فيباغته المستوطن بسلاحه الناري، وتكون رصاصة مسدس الأستاذ أسرع من رصاص المستوطن، وفي ظل قدوم قوات الاحتلال، يطلب الأستاذ من آدم من ترك المكان، بل يرجوه بالهرب، حتى لا يتكرر الخطأ الأول، وقصده مقتل ابنه في المعتقل، كأنه اختار الاعتقال بدلا من آدم في محاولة تصالحية تخفف من الشعور بالذنب عنده.

لقد كان لمشهد آدم وهو تحت المطر، بعد تبرئة المستوطن من قتل أخيه، حين ذهب الى مكان استشهاده في الأرض، أثر تطهريّ خفّ من الانفعال العاطفي، ما جعله يفكر بالانتقام.

في نهاية الفيلم، نظرتان، الأولى للمعلم-الأستاذ المعتقل وهو ينظر الى نور النافذة محملا بأمل التحرر، أما الثانية فهي للطالب آدم، الذي يكون واقفا ليلا يتأمل شيئا ما، يتعلق بأسر جندي آخر من أجل عقد صفقة أسرى يفرج من خلالها عن معتقلين، ومنهم الأستاذ باسم، لما له من حق عليه في إنقاذه ودخول المعتقل بدلا منه. تلك دائرة نجحت المخرجة بها مختتمة الفيلم بهذا الإبداع.

للفيلم أكثر ما عليه، بما فيه من سينما، وما فيه من هدف نبيل، وبالرغم أن المخرجة ليست على صلة واقعية تماما بالتفاصيل الدقيقة، إلا أنها استطاعت شدنا نحو الفيلم الطويل نسبيا.

ولعل أهم نقاط القوة في الفيلم هو عنصر التمثيل، الذي أتقنه الممثلون صالح البكري في دور الأستاذ، ومحمد عبد الرحمن في دور آدم، وإيموجين بوتس في دور "ليزا" المتطوعة البريطانية في المدرسة، وكل من نبيل الراعي، وربى بلال، ومحمود البكري، وبول هيرزبيرج، واندريا ايرفين، وستانلي تاونزيند.

كانت مشاهد اقتحام الجيش ومكاتب الشاباك واقعية، كما نجح الفيلم في إظهار حالة والدي الجندي الأسير الأمريكيين، فلربما دفعت حالة الأسر الى لوم الأم لزوجها لتركه يذهب الى إسرائيل، كما يظهر أنه ترك أمريكا لا اقتناعا بالمكان الذاهب اليه، بل هروبا من واقعه هناك في أمريكا، لذلك فقد كان للوم دلالات متنوعة حول الهجرة اليهودية الى إسرائيل، منها أنه تتم تحت ضغوطات غير معلنة.

لفت نظرنا في حوار الأستاذ مع والد الجندي الإسرائيلي الأسير، الأمريكي الجنسية، حين طمأن الأستاذ والد الجندي الأسير على حياة ابنه، وحين سأله كيف عرف بذلك، قال له لأن ابنك لدى الاحتلال يساوي 1000 فتى مثل ابني!

لقد تم إدراج الفيلم في القائمة الطويلة لجوائز الأفلام البريطانية المستقلة لعام 2023 في 3 فئات: أفضل مخرج لأول مرة، وأفضل كاتب سيناريو لأول مرة وأفضل منتج، وفي ديسمبر الماضي حصل على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي.

عُرض فيلم "الأستاذ" لأول مرة في مهرجان تورنتو السينمائي، وبعدها في العديد من المهرجانات والفعاليات، وهو الفيلم الروائي الأول للمخرجة والمنتجة "فرح نابلسي"، التي قدمت عام 2020 الفيلم القصير "الهدية" وترشح للأوسكار، وفاز بجائزة البافتا.

Ytahseen2001@yahoo.com

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجندی الأسیر الأستاذ باسم

إقرأ أيضاً:

فتح: على المجتمع الدولي التحرك لوقف جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ناشد أمين سر حركة "فتح" الفلسطينية في هولندا زيد تيم، المجتمع الدولي بضرورة التحرك بشكل سريع لوقف الممارسات الوحشية وجرائم الحرب من قبل الاحتلال الإسرائيلي، واتخاذ إجراءات لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للتهجير والتجويع.
وقال أمين حركة "فتح" في مداخلة مع قناة "القاهرة" الإخبارية اليوم الثلاثاء، "إن الاحتلال الإسرائيلي يصرح دائما بأن ما يحدث هو تغيير لشرق أوسط جديد ليحاول إثبات فكرة الدفاع عن النفس، ولكنه في الواقع يقوم بتفريغ منطقة شمال قطاع غزة وارتكاب جرائم حرب تتعارض مع كل القوانين الدولية من ضرب خيام المواطنين النازحين في غزة والشمال وقطع الماء والكهرباء، ومحاولة فصل المناطق عن بعضها".
وأضاف أنه وفقا للتقارير الدولية، فإن الاحتلال يعرض أكثر من 400 ألف فلسطيني إلى الجوع أو الموت، كما أن ما تقوم به إسرائيل لتنفيذ "خطة الجنرالات" في التهجير والتجويع في الشمال يحدث أمام مرأى ومسمع العالم، فممارسات جيش الاحتلال في الشمال لفصله عن الجنوب وجعله منطقة عسكرية لتفريغ تلك المنطقة وحصر كل المواطنين الجنوب كلها ممارسات تندرج تحت بند الإجرام.
وأشار إلى أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من التهجير القسري والتجويع واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، يتعارض مع القوانين الدولية، مؤكدا أن إسرائيل تستبيح الشرعية الدولية ولا تمتثل للقانون الدولي والمواثيق الدولية والقانون الدولي الإنساني.
 

مقالات مشابهة

  • الدفاع المدني الفلسطيني: طائرات الاحتلال تقصف منزلًا في شارع الصناعة جنوب غرب غزة
  • “نادي الأسير الفلسطيني”: إسرائيل تستخدم مرض “سكايبوس” أداة لتعذيب الأسرى
  • شعبان الدلو.. الشاب الفلسطيني الذي شاهده العالم يموت حرقاً
  • نادي الأسير يحمّل الاحتلال المسؤولية عن مصير المعتقل معزّز عبيات
  • أُعيد اعتقاله.. نادي الأسير يحمّل الاحتلال المسؤولية عن مصير المعتقل معزّز عبيات
  • تفاصيل جديدة تكشف عن ظروف استشهاد الأسير محمد موسى في سجون الاحتلال
  • “الأسير الفلسطيني”: الاحتلال الإسرائيلي يستخدم مرض الجرب أداة لتعذيب المعتقلين
  • حمدان: خطة الجنرالات ستتحطّم أمام صخرة ثبات وإرادة وصمود أبناء الشعب الفلسطيني
  • فتح: على المجتمع الدولي التحرك لوقف جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني