لم يبالغ المفكرون الذين يرون فى تاريخ لبنان سردا «لحكايات تراجيدية لجماعات تهاوت زعاماتها فى لحظات غدر وتُركت لشأنها كأنها يتيمة غارقة فى الحزن والضياع وجنحت بها الأفكار إلى الخرافة». والحق أن التاريخ المعاصر للأمة العربية برمتها يبلور عبر أحداثه ووقائعه مضمون التراجيديا فى مفهومها الفلسفى بالمعنى الذى أشار إليه نيتشة فى كتابه «أصول التراجيديا».
فالتراجيديا فى بعدها الفلسفى هى ضرب من التناقض المطلق بين تطلعات الإنسان فى الوجود وبين محاولاته المستميتة لإشباعها فى الواقع. وأهم سمة من سمات التراجيديا تكمن فى سيكولوجية الواقع الإنسانى والمقصود بها سيكولوجية الفشل والإخفاق. والإنسان التراجيدى الحقيقى هو الذى يرى بوضوح هذا التناقض، وبدلاً من أن يسعى إلى إخفائه أو إنكاره أو الشكوى منه تراه يخرج منه بدروس مستفادة. فالواقع الإنسانى تحكمه منظومات من القيم وهذه القيم هى التى تشكل بنية معانى الألفاظ فى اللغة وهى التى ينظر الإنسان إلى العالم ويفهم أحداثه من خلالها، كما أنها مصدر أساسى من مصادر المشروعية التى تتأسس عليها القوانين الوضعية وتتخلق منها التأويلات المختلفة للنصوص بأنواعها. وإذا كان العالم العربى يعيش أزمة حادة فى علاقته الوطيدة بمنظومة القيم التقليدية التى يفهم بواسطتها الواقع فذلك لأن النموذج التقليدى قد أصابه التصدع تحت وطأة التقدم الهائل الذى حققته الحداثة وما أفرزته من قيم جديدة.
ولا غرو أن نجد الجماعات الإرهابية تستخدم التكنولوجيا الحديثة فى جرائمها باسم الجهاد فى سبيل قيم دينية تتناقض كلية مع سلوكها الإجرامى. وتلك هى مفارقة التقدم فى الجماعات المتخلفة. وها نحن ذا نشاهد فى عالمنا عودة قوية للأصولية الدينية فى أبشع صورها ليس فقط فى الجماعات الداعشية، وإنما أيضاً فى اليمين اليهودى التوراتى، عادت لكى تمارس الهمجية وتطيح بكل فضيلة إنسانية باسم ما تراه هى متفقا مع دينها. ولئن كان هناك فى العالم العربى من نسمعهم ينادون بالتنوير للحاق بآخر عربة فى قطار الحداثة فقد صدق الدكتور على حرب حينما علق عليهم بقوله: «إن أزمة التنوير عند التنويريين العرب مردها أنهم تعاملوا مع هذا الشعار بطريقة أصولية لاهوتية.. إنهم ليسوا مؤهلين لتنوير الناس لأنهم هم الذين يحتاجون إلى التنوير»، فهناك من يدافع عن العقل والمعقولات ويدعو إلى الإخاء، وإذا بداعية الإخاء هذا ينخرط بقوة فى إقصاء الآخر وإلغائه، وإذا بمشاريع التقدم والتنمية تؤول إلى مزيد من التخلف والصراع والانشقاق.
يعد المجتمع اللبنانى بتاريخه الطائفى تجسيداً حياً للتراجيديا. اللبنانيون أنفسهم يدركون تماماً أن آفة مجتمعهم تكمن فى تركيبته الطائفية التى تنخر بمؤسساته كلها من الداخل. وكم شهد تاريخ لبنان سلسلة لا نهاية لها من الصراعات الدموية بين طوائفه الدينية انعكست بوضوح على بنية التنظيم القانونى لسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية. ورغم خطابات زعماء الطوائف فيه بالإصلاح ومناداتهم المستمرة بإلغاء الطائفية نجدهم فى النهاية أول من يعملون على تأجيجها. ولا عجب فى ضوء هذا المنطق الطائفى أن يصير لبنان دولة بلا رئيس بسبب التطاحن بين طوائفه، حيث تسود بينها لغة التخوين والعداوة، بل قد تفوق هذه العداوة أحيانا عداوتها للمعتدى الأجنبى الذى يهدد الوطن ويدمر فيه الأخضر واليابس. وعندما نشاهد إسرائيل تشن حرباً مدمرة على لبنان دون تفرقة بين شيعى وغيره لا نسمع شيئا عمن يتولى الدفاع عن لبنان وحماية مواطنيه. وأكثر ما يدهش أيضاً أن أمين الحزب رغم كونه ذراع إيران وشوكتها القوية فى الشرق الأوسط ورغم الجرائم والاغتيالات التى نسبها اللبنانيون إلى حزبه وكان ضحاياها شخصيات لبنانية بارزة تنتمى إلى طوائف دينية مختلفة، فضلاً عن المجازر التى أوقعها بالسوريين فى سوريا، رغم كل هذا تحول حسن نصر الله إلى أسطورة مقدسة لدى الشعب اللبنانى. إذ رفض تصديق خبر وفاته وأنكر عليه الموت ولما تأكد الخبر رسميا أصيب الشعب اللبنانى كله عاشقوه وكارهوه بحالة من الصدمة والذهول، إذ كيف يموت سيد المقاومة؟ فخرجوا فى مسيرات يصيحون فيها «لبيك نصر الله لبيك»، وهكذا اكتملت التراجيديا.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية إسرائيل وحزب الله
إقرأ أيضاً:
وهبي: سنشدد العقوبات على حاملي الأسلحة في الشارع وإذا كان قاصرا نحمل ولي أمره المسؤولية
أكد وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، اليوم الاثنين، على خطورة ظاهرة حمل الأسلحة من طرف المواطنين في الشارع، مشيرا إلى أن الأحكام القضائية الحالية تتسم بالصرامة في هذا الصدد.
وأضاف الوزير، ضمن جوابه عن الأسئلة الشفوية، بمجلس النواب، أنه في المادة 303 مكرر، من مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، جرى توسيع مفهوم حمل السلاح، وستشدد هذه المادة العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم.
وأشار وهبي إلى أن الاعتداءات تتضمن قطع يد شرطي وتشويه وجوه الفتيات الصغار، ما يستدعي تشديد العقوبات، مؤكدا أن الوزارة ستعمل على معاقبة هؤلاء الأشخاص بكل حزم.
في المقابل، أثنى المسؤول الحكومي على توجه النيابة العامة والقضاء في هذا الموضوع، معتبرا أن حمل أي أداة يمكن أن تؤذي الناس في الشارع أمر غير مقبول.
وشددوهبي على أن الحل الوحيد لهذه الإشكالية هو الردع، مشيرا إلى أنه في « حال ارتكاب قاصر لهذه الجريمة، يمكن تحميل والده المسؤولية »، قائلا: « إذا كان قاصر نمشيو باه، علاش خليتي ولدك يهز موس… هذه المقاربة التشاركية ».
كلمات دلالية عبد اللطيف وهبي، حمل الأسلحة،