حرب السودان تهدد مستقبل جيل من الأطفال
تاريخ النشر: 17th, October 2024 GMT
كانت أمينة تنظر بعينين حمراوين مات التعبير فيهما وهي تتحدث همسا في حزن مسترجعة ذكرى اليوم الذي قُتل فيه ابنها البالغ من العمر 17 عاما في مدينة سنجة بجنوب شرق السودان.
وكانت تحاول الفرار بأطفالها الخمسة حين اندلع إطلاق نار بالقرب من منزلها، لكن ابنها أحمد وقع في مرمى النيران.
وقالت أمينة (52 عاما) لمؤسسة تومسون رويترز وهي تضع يدها على قلبها جالسة في مخيم كايا للاجئين في الجانب الآخر من الحدود في مقاطعة مابان بولاية أعالي النيل بدولة جنوب السودان "أطلقوا النار على صدره.
وحمل شقيقه الأكبر جثة أحمد إلى حقل، ودفنته الأسرة معا في قبر ضحل ثم واصلت المسير في رحلة استغرقت ستة أيام إلى الحدود.
وأمينة وأحمد ولاجئون آخرون في مخيم كايا، ممن سيأتي ذكرهم في هذا التقرير، أسماء مستعارة لحماية هوياتهم.
وفي وقت ينصب فيه اهتمام العالم على الصراعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تتكشف أزمة طاحنة في السودان، يتحمل فيها الأطفال، وهم الفئات الأضعف في المجتمع، وطأة العنف.
وأفرزت الحرب في السودان أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم لأن نحو خمسة ملايين طفل اضطروا إلى النزوح منذ بدء القتال قبل 18 شهرا.
وحصد الموت أرواح آلاف الأطفال الآخرين مثل أحمد.
والناجون منهم ينتظرهم مستقبل يبدو قاتما.
ويتدفق عشرات اللاجئين السودانيين عبر الحدود إلى مخيمات في دولة جنوب السودان كل يوم حاملين في ذاكرتهم قصصا مؤلمة تكشف مدى قسوة تأثير الصراع على الأطفال.
وتنتشر المجاعة في أجزاء من السودان ويعاني الأطفال من سوء تغذية حاد. وملايين الأطفال محرومون من التعليم والرعاية الصحية، وكثيرون منهم يواجهون العنف الجنسي والاستغلال والتجنيد في صفوف جماعات مسلحة.
وتجد وكالات الإغاثة صعوبة في معالجة الأزمة الإنسانية في السودان بسبب نقص المساعدات الخارجية والعراقيل أمام توصيل المساعدات بسبب ضراوة القتال واستهداف موظفي الإغاثة وإمدادات المساعدات. وتحذر هذه الوكالات من أن العواقب قد تكون كارثية على أطفال السودان.
وقال محمد عبد اللطيف، المدير المؤقت لمنظمة إنقاذ الطفولة في السودان "حياة الأطفال في السودان دُمرت تماما وتغيرت إلى الأبد، بخسائر لا يمكن تصورها، ولحق بهم ألم جسدي وعاطفي، وانتهاكات واسعة النطاق لحقوقهم".
وأضاف أن الأطفال "جائعون وخائفون ويعيشون يوما بيوم مع آباء في كرب يشغلهم الكفاح من أجل تلبية احتياجاتهم. لم يضع جيل بعد، لكن بدون مساعدة، ربما يضيع فعلا".
من الحرب إلى المجاعةواندلع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في أبريل نيسان من العام الماضي، بسبب توترات حول انتقال إلى الحكم المدني بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019.
ورغم محاولات الوساطة، تفاقم الصراع على السلطة وانتشر القتال من العاصمة الخرطوم إلى مناطق مثل دارفور وولايات منها سنار والقضارف والجزيرة والنيل الأزرق.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل نحو 15 ألف شخص في منطقة دارفور وحدها. ونزح أكثر من ثمانية ملايين سوداني داخل البلاد، وأصبح أكثر من مليوني سوداني لاجئين في بلدان مجاورة، وخاصة تشاد ومصر ودولة جنوب السودان.
وتتهم جماعات لحقوق الإنسان، منها بعثة مفوضة من الأمم المتحدة، كلا الجانبين بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق منها الاغتصاب والتعذيب والاعتقال التعسفي. وقوات الدعم السريع متهمة بالتطهير العرقي في دارفور.
وأدت الحرب إلى أزمة غذاء كارثية. وأعلنت الأمم المتحدة المجاعة في ولاية شمال دارفور في أغسطس آب. وهذا يعني أن الناس يموتون بالفعل من الجوع والظروف المرتبطة به مثل سوء التغذية والأمراض.
ويواجه نحو 25 مليون شخص في السودان، أي أكثر من نصف السكان، الجوع الحاد، مع تعرض الأطفال لخطر الإصابة بسوء التغذية الحاد الشديد، وهو أكثر أشكال سوء التغذية تهديدا للحياة.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 730 ألف طفل سوداني قد يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد هذا العام، وفي جنوب السودان الذي استقبل أكثر من 810 آلاف شخص منذ اندلاع الحرب أصبحت الدلائل واضحة بالفعل.
ولطالما شاهد عمال الإغاثة في مركز استقبال اللاجئين في مقاطعة مابان بولاية أعالي النيل بدولة جنوب السودان أمهات وفدن حديثا يحملن أطفالا أضعفهم سوء التغذية بشدة.
وتأتي الحالات الخطيرة إلى مستشفى بونج وهو المرفق الصحي الوحيد في المنطقة، لكن الأطفال يظلون في حلقة الجوع المفرغة حتى بعد تلقيهم العلاج.
وفي جناح الأطفال المتواضع المضاء بأشعة الشمس في المستشفى المتداعي، كانت حواء تهدهد برفق حفيدتها منى البالغة من العمر 11 شهرا.
وقالت حواء (42 عاما) وهي ترفع الغطاء لتكشف عن طفلة بلا حراك تقريبا وأطرافها نحيلة جدا وعيناها شبه مغلقتين "لم يكن لدى والدتها ما يكفي من الطعام، ولذا ولدت الطفلة بهذا الشكل".
وأضافت "أتمنى أن تتحسن حالتها، لكن حين أعود بها إلى المخيم، ماذا سأعطيها؟ ليس لدينا ما نأكله".
وتقول أسر لاجئة كثيرة في مخيم كايا يعيشون في صفوف لا نهاية لها من خيام البلاستيك الأبيض، إن الحصص الغذائية الهزيلة التي يتلقونها لا تكفي إلا لوجبة واحدة لأطفالهم.
وقالت جميلة (60 عاما) التي فرت من سنار وقطعت رحلة استغرقت سبعة أيام إلى جنوب السودان في يناير كانون الثاني "قبل الحرب، كنا نزرع الذرة الرفيعة والبامية... كانت الحياة جيدة في السودان".
وتعيش جميلة الآن في كايا مع ابنها وابنتها وخمسة أحفاد، وما أقض مضجعها شيء أكثر من القلق على صحة أحفادها.
وأضافت "آمنون نحن هنا في جنوب السودان، لكن الحياة صعبة. لا يوجد ما يكفي من الطعام. الأطفال يبكون في الليل جوعا، وأصبحوا في هزال وضعف".
وما لم يُعالج سوء التغذية، فستكون له تداعيات طويلة الأمد على صحة الطفل ونموه.
ويؤدي سوء التغذية الحاد الشديد إلى تعطل أجهزة المناعة لدى الأطفال وقد يجعل من أعراض لا تمثل عادة خطرا على الحياة مثل الإسهال أن تنتهي بالموت. كما قد يؤدي إلى ضمور العضلات، وتشوش الرؤية، وتأخر النمو، وتلف الأعضاء.
وقال مسؤولون بارزون من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إن جميع اللاجئين في مابان يحصلون على مساعدات غذائية، لكن نقص التمويل في السنوات القليلة الماضية قلص الحصص الغذائية إلى النصف.
ويحصل اللاجئون حاليا على 250 جراما من الحبوب يوميا، فضلا عن مساعدات نقدية لشراء عناصر غذائية أخرى.
وأكدت ماري إيلين ماكجرورتي، مديرة برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في جنوب السودان، زيادة معدلات سوء التغذية في أنحاء مابان بين اللاجئين والمجتمعات المحلية.
وقالت ماكجرورتي "سوء التغذية أسبابه كثيرة، وترتفع معدلات سوء التغذية خلال موسم الأمطار بسبب انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه... ومن بين التأثيرات المتراكمة هذا العام زيادة أعداد اللاجئين الوافدين حديثا من السودان. ويعاني كثيرون من الأطفال الذين يعبرون الحدود من سوء التغذية بعد رحلات طويلة للوصول إلى بر الأمان".
وقالت ماكجرورتي إن برنامج الأغذية العالمي يدير برامج علاج ووقاية، مثل تقديم الوجبات المدرسية للأطفال من اللاجئين وفي التجمعات السكانية المضيفة.
"المستقبل المسروق"أوجدت الحرب في السودان واحدة من أسوأ أزمات التعليم في العالم. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 90 بالمئة من الأطفال في سن الدراسة والبالغ عددهم 19 مليون طفل في البلاد محرومون من التعليم الرسمي.
وتوصلت أبحاث أجرتها وكالات إغاثة في شهر مايو أيار الماضي إلى أن المدارس استهدفتها غارات جوية واحتلتها جماعات مسلحة واستخدمتها لتخزين الأسلحة.
ونحو ألفي مدرسة في السودان، أي أكثر من واحدة من كل 10 مدارس، تستخدم في إيواء آلاف الأسر النازحة.
وكان أمير (17 عاما) يجيد اللغة الإنكليزية ومولعا بالبرمجة ويدرس علوم الكمبيوتر في الخرطوم حتى أجبره الصراع على الفرار إلى جنوب السودان في يناير كانون الثاني.
وفترت همة أمير بعد إقامته في مخيم كايا التي حالت بينه وبين التعليم، فالمخيم بعيد، وفرص التعلم نادرة.
وقال "أشعر بالاكتئاب. قبل الحرب، كانت لدي أحلام وطموحات. أريد أن أدرس وأتعلم، لكن لا يوجد شيء هنا يناسب أشخاصا مثلي... نالت الحرب منا كثيرا. وسُرق مستقبلي".
وافترق مئات الأطفال أيضا عن عائلاتهم بسبب القتال ليصبحوا في مهب مخاطر الاستغلال والتجنيد في جماعات مسلحة والعنف الجنسي.
وتشير أحدث بيانات الأمم المتحدة إلى وقوع أكثر من 1700 انتهاك لحقوق الأطفال في السودان خلال عام 2023.
وشملت هذه الحالات أكثر من 1240 حالة قتل وتشويه لأطفال ومئات الحالات من تجنيد الأطفال والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي.
وتقول السلطات في جنوب السودان إنها تعمل مع منظمات إنسانية لدعم الأطفال اللاجئين، لكن البلاد، وهي واحدة من أفقر دول العالم، تعاني من ضغوط هائلة.
وقبل الحرب، كان جنوب السودان موطنا لنحو 275 ألف لاجئ، معظمهم من السودان جاءوا قبل أكثر من عقد بسبب صراعات سابقة.
وقال بيتر ألبرتو، مفوض مقاطعة مابان، إنه على علم بالتحديات المتعلقة بحماية الأطفال وطالب بتعزيز الدعم، وخاصة في مضمار منع استخدام الأطفال كجنود.
وقال ألبرتو لمؤسسة تومسون رويترز "ربما خطفت الجماعات المسلحة بعض الأطفال وجندتهم... يتعين التحقق من ذلك لمعرفة نطاق التجنيد ومن الذين يتم استخدامهم في خوض الحرب. في بعض الأحيان، يستخدمون الأطفال لجمع المعلومات الاستخباراتية".
وتدعو وكالات إغاثة إلى وقف إطلاق النار وتوفير الوصول الآمن إلى الفئات السكانية الأضعف ومزيد من التمويل من المانحين الدوليين. وناشدت الأمم المتحدة المانحين جمع 2.7 مليار دولار، لكن حجم التبرعات لم يبلغ إلا نصف المبلغ المطلوب.
وقال عبد اللطيف من منظمة إنقاذ الطفولة "الأطفال يتمتعون بقدرة خارقة على الصمود، ومع الدعم المناسب، يمكنهم البقاء والازدهار ليصبحوا يافعين أصحاء ومنتجين".
وأضاف "يتعين على العالم أن يتدخل الآن لتقديم المساعدة التي هم في أمس الحاجة إليها... وبدون هذا الدعم، يصبح مستقبلهم غامضا إلى حد كبير".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: فی جنوب السودان الأمم المتحدة سوء التغذیة فی السودان أکثر من
إقرأ أيضاً:
اليونيسف: غزة تحوّلت إلى مقبرة أطفال.. يواجهون الموت والجوع بلا رحمة (فيديو)
حذّر الناطق الرسمي باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، كاظم أبو خلف، من الكارثة الإنسانية التي يعيشها أطفال غزة، مشيرا إلى أن القطاع تحوّل إلى "مقبرة أطفال بشعة".
وأكد أبو خلف، في مقابلة مصورة مع "عربي21"، أن "أطفال غزة يواجهون الموت والجوع والمرض بلا رحمة وسط دمار واسع ونقص حاد في الغذاء والدواء، في ظل استمرار الحرب. آلاف الوجوه البريئة أُطفئت أحلامها قسرا، وسط صمت عالمي يثقل قلوب الأمهات الثكالى والأطفال الجرحى".
وقال إن "قطاع غزة شهد مقتل أكبر عدد من الأطفال خلال الحروب في التاريخ الحديث؛ فهناك 15,613 طفلا قُتلوا في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومتوسط القتلى اليومي يُقدّر بحوالي 27.9 طفلا".
وأضاف الناطق الرسمي باسم "اليونيسف": "لا يوجد نزاع أو حرب يسقط فيه هذا العدد الهائل من الضحايا بشكل يومي إلا في قطاع غزة. الأرقام صادمة وتتحدث عن نفسها، وتعطي صورة قاتمة جدا لما يجري في القطاع".
وأشار إلى أنه "منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لم يخرج من قطاع غزة لغرض العلاج الطبي سوى 2000 شخص فقط، منهم 690 طفلا فقط، وهو معدل بطيء جدا، ولو استمرت سرعة الخروج لغرض العلاج الطبي بهذا المعدل ربما نحتاج إلى سنين طويلة لعلاج المصابين".
وأوضح الناطق باسم "اليونيسف"، أن "الوضع النفسي للأطفال في قطاع غزة سيء بامتياز؛ فالأطفال لا يسمعون إلا صوت القصف والدمار والاجتياحات، حتى المصطلحات التي أصبحت تجري على ألسنتهم هي مصطلحات لا ينبغي أن تجري على لسان الأطفال، وجميع هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى دعم نفسي بدرجات كبيرة ومتفاوتة".
وإلى نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
كيف تقيم مجمل وضع الأطفال في غزة حاليا؟
الوضع في قطاع غزة بشكل عام كارثي بامتياز، ونحن نتجه نحو الهاوية إذا استمر الحال على ما هو عليه اليوم، واليوم يمر أكثر من 58 يوما على توقف دخول المساعدات، والتي توقفت في الثاني من آذار/ مارس الماضي، وهي أطول فترة لا تدخل فيها المساعدات إلى قطاع غزة.
الناس بحاجة كبرى إلى كل أنواع المساعدات؛ فلا يدخل غذاء ولا ماء ولا دواء ولا أي شيء يخطر على البال، وفي المقابل هناك استئناف للعمل الحربي منذ الثامن عشر من آذار/ مارس.
وفي التاسع من آذار/ مارس أيضا قُطعت الكهرباء عن محطة تحلية المياه المركزية الموجودة في دير البلح، ما أدى إلى خفض ما تنتجه هذه المحطة من مياه صالحة للاستخدام الآدمي بنسبة 85%، وهو ما أثّر على مليون من الناس منهم 400 ألف طفل، وإذا استمر الحال على ما هو عليه فنحن نتجه نحو نفق مظلم جدا على مرأى ومسمع من الناس، ومَن يدفع ثمن كل هذا بالدرجة الأولى هم الأطفال.
قطاع غزة تحوّل بكل أسف إلى "مقبرة أطفال بشعة"، والأطفال هناك يواجهون الموت والجوع والمرض بلا رحمة وسط دمار واسع ونقص حاد في الغذاء والدواء، في ظل استمرار الحرب. آلاف الوجوه البريئة أُطفئت أحلامها قسرا، وسط صمت عالمي يثقل قلوب الأمهات الثكالى والأطفال الجرحى.
ما آخر الإحصائيات التقريبية للأطفال القتلى والمصابين في غزة؟
نحن في اليونيسيف نحاول دائما أن نتحقق من المعلومات قبل أن نجعلها تصريحات رسمية، وفي أدنىالتقديرات نتحدث عن 15,613 (خمسة عشر ألفا وستمائة وثلاثة عشر) من الأطفال قُتلوا في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولو قُسِّم هذا الرقم على عدد أيام الحرب التي وصلت 18 شهرا تقريبا، فإن متوسط القتلى اليومي يُقدّر بحوالي 27.9 طفلا يسقط يوميا في قطاع غزة منذ أن بدأت الحرب.
أي نزاع في الدنيا يسقط فيه هذا العدد الهائل من الأطفال كل يوم؟، ولو أخذنا في الاعتبار الأرقام التي ترد في بعض التقارير حول عدد الضحايا من الأطفال وغيرهم ثم قسّمنا هذه الأرقام على عدد أيام الحرب فإن متوسط عدد القتلى والجرحى هو 299 شخصا يوميا بين قتيل وجريح منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
لا يوجد نزاع أو حرب يسقط فيه هذا العدد بشكل يومي إلا في قطاع غزة، فضلا عن ضياع العام الدراسي، والحاجة للإخلاءات الطبية، بالإضافة لأعداد المفقودين تحت الأنقاض، والأيتام، ومن فقدوا جميع ذويهم.. الأرقام صادمة وتتحدث عن نفسها، وتعطي صورة قاتمة جدا لما يجري في القطاع.
وماذا عن وضع الأطفال الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟
مسألة الأطفال الأسرى في السجون الإسرائيلية سواء كان الوضع في قطاع غزة أو في الضفة الغربية نتركها لجهات مختصة لتتبحر في هذه المسألة من جهة القانون الدولي، والتحويلات في حال تم الإفراج عنهم.
فأحيانا المعلومات تصل متأخرة، وأحيانا تصل مجتزأة، ونحاول التيقن من بعض الأرقام، ولكن ما نستطيع أن نؤكده وفق تعريفات اليونيسيف للأطفال بأن هناك من الأطفال مَن هو أسير لدى الجانب الإسرائيلي سواء من أطفال قطاع غزة أو من الضفة الغربية، وهذا ليس بجديد، وهو مدعاة لنؤكد على أهمية إطلاق سراح الأطفال، بل نتساءل لماذا يؤسر الطفل من الأساس، وهو ما يوضح جانبا آخر مما يجري من تعقيدات في المشهد الغزي أو المشهد الفلسطيني بشكل عام.
ما تداعيات العدوان الإسرائيلي على الحالة النفسية لأطفال غزة؟
الوضع النفسي للأطفال في قطاع غزة هو سيء بامتياز؛ فالأطفال لا يسمعون إلا صوت القصف والدمار والاجتياحات، حتىالمصطلحات التي أصبحت تجري على ألسنتهم هي مصطلحات لا ينبغي أن تجري على لسان الأطفال، فبدلا من تعلم الأبجدية والحساب والعلوم.. إلخ، تراهم يتحدثون عن أنواع الطائرات الحربية، وأنواع القصف، وهل هذا قصف جوي أم قصف مدفعي؟
بالمناسبة هناك 650 ألف طفل تقريبا في سن المدرسة في قطاع غزة، وإجمالي عدد الأطفال بحسب اليونيسيف 50% من سكان قطاع غزة، وجميعهم يحتاجون إلى دعم نفسي بدرجات متفاوتة، إلى هذا الحد المشهد الغزي مُعقّد بالنسبة للأطفال.
لو تحدثنا عن جهود اليونيسف الحالية في مواجهة الأزمة التي يعانيها أطفال غزة؟
منظمة اليونيسيف، وغيرها من المنظمات القائمة على عملية الاستجابة الإنسانية، سواء في المنظومة الأممية كمنظمة الصحة العالمية، أو برنامج الغذاء العالمي، أو الأونروا، وحتى المؤسسات الإنسانية غير المنتمية للمنظومة الأممية، الجميع يحاول جاهدا تقاسم الأدوار بحيث تقدم الخدمات بشكل أكثر فعالية.
في اليونيسيف لدينا ما نسميه «مساحات التعليم المؤقتة»، وهي عبارة عن خيام كبيرة تُقام في وسط تجمعات خيام النازحين، وندعو إليها الأطفال حتى يستعيدوا بعضا من ملامح الحياة الطبيعية للطفل. نود أن نعيد الطفل إلى المربع الذي يستيقظ فيه من النوم ليقول:"أنا ذاهب إلى المدرسة"، حتى لو كانت هذه المدرسة عبارة عن خيمة كبيرة، ولكن أحد التحديات الكبرى في هذا المجال أن تقع هذه الخيمة -التي نسميها مجازا مدرسة- في نطاق إخلاء جديد فنعود بانتكاسة في العملية التعليمية.
من التحديات أيضا عدم دخول الأدوات المدرسية، مثل الكراسات (القرطاسية) والأقلام وغيرها، وهي موجودة على الجانب الآخر من الحدود لكن لا يسمح لها بالدخول.
ومن المساعدات التي تقدمها اليونيسيف هي زيادة نسبة التطعيمات في قطاع غزة؛ فعدد أنواع التطعيمات الروتينية للأطفال 11 نوعا، وكانت متوفرة بنسبة 98% قبل الحرب، والآن انخفضت النسبة إلى ما دون 85%، وهذا ينذر بكارثة كبرى. لذا، سارعنا في القيام بثلاث جولات للتطعيم ضد شلل الأطفال دون سن العاشرة، وتمكنا من تطعيم 603 ألف من الأطفال المحتاجين لهذا النوع من التطعيم.
من جهة أخرى، تركزمنظمة الصحة العالمية على الإخلاءات الطبية؛ فحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية من 11 إلى 13 ألف شخص يحتاجون إلى إخلاء طبي، بينهم 4500 طفل (أربعة آلاف وخمسمائة).
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لم يخرج من قطاع غزة لغرض العلاج الطبي سوى 2000 شخص فقط، منهم 690 طفلا فقط، وهو معدل بطيء جدا، ولو استمرت سرعة الخروج لغرض العلاج الطبي بهذا المعدل ربما نحتاج إلى سنين طويلة لعلاج المصابين، وذلك فضلا عن الإصابة بالأمراض الأخرى كالإسهال، والنزلات التنفسية والمعوية، والحصبة والجدري، ولو نظرنا لوضع البنية التحتية والصرف الصحي، فالوضع سيء للغاية، فحدث ولا حرج.
هل تعرّضت فرق اليونيسف في غزة لانتهاكات مباشرة من قِبل إسرائيل؟
فرقنا بفضل الله حتى الآن لم تتعرض لحادث، ولكن هناك فرق كثيرة تعرضت لحوادث من قِبل الجانب الإسرائيلي.
إجمالي عدد العاملين في المجال الإنساني الذين سقطوا في قطاع غزة منذ بداية الحرب 408 شخصا، وكان النصيب الأكبر منهم من العاملين في الأمم المتحدة؛ فلم يسقط من العاملين في الأمم المتحدة منذ إنشائها في أي نزاع في العالم كما سقط في قطاع غزة.
قبل فترة قريبة قُصف مكتب تابع لمؤسسة تابعة للأمم المتحدة في قصف مدفعي إسرائيلي، نتج عنه إصابة 5 من الزملاء الأجانب، وقُتل أحدهم، والمصابون أصيبوا بجراح ستغير حياتهم؛ فمنهم مَن فقد يده، ومنهم مَن فقدقدمه.
منظمة الأونروا وحدها سقط منها ما لا يقل عن 300 من العاملين لديها، كما سقط في هذه الحرب عاملون من الصليب الأحمر، وصندوق التنمية الإنمائي التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية.
وحتى الآن في اليونيسيف -بفضل الله- لم نفقد أحدا، ولكن هذا أمر غير مضمون في غزة؛ فلا يوجد مكان آمن أو شخص آمن في هذا القطاع.
كيف تقيم دور المنظمات الدولية في مساعدة أطفال غزة وأبرز الصعوبات التي تواجه عملها؟
المنظمات الدولية في غزة تقتسم الأدوار؛ فنحن في اليونيسيف نركز بطبيعة تخصصنا على موضوع الأطفال، وتعليمهم، وصحتهم النفسية، أما منظمة الصحة العالمية فتركز على إخراجهم لغرض العلاج، أما الأونروا فتوزع التطعيمات.
نحن –على سبيل المثال- مثلا نستجلب التطعيمات ونقدمها للأونروا، وتقوم فرقها العاملة في العيادات، ومراكزها الصحية على تقديم التطعيمات للأطفال، أما برنامج الغذائي العالمي فيحاول الحصول على المكملات الغذائية من منظمة الصحة العالمية.
ونحن في اليونيسيف نحاول أن ندخل الأدوية والمستلزمات الطبية، ونحاول التركيز على الأطفال، لكن يجب أن نفرق بين ما يُعرف بأنه عملية استجابة إنسانية شاملة، وممنهجة، ومخطط لها وفق خطط معروفة ذات مغزى،وعملية استجابة إنسانية قائمة على إنقاذ الحياة فقط.
ما يجري الآن في قطاع غزة، ونتيجة لاستمرار إطلاق النار، تعتبر عملية استجابة إنسانية مُشوّشة تعتمد فقط على إنقاذ الحياة.
العملية الإنسانية الشاملة تكون وفق أصول وشروط، منها: وقف إطلاق النار، أو تخصيص مناطق آمنة، أو طرق آمنة لدخول الموارد والمساعدات، وحركة حرة للعاملين في المجال الإنساني، ودخول الوقود، وتوفير شبكة اتصالات.. كل هذه الأمور غير موجودة مطلقا في قطاع غزة، فلا يمكن لليونيسيف، أو غيرها من المؤسسات العاملة، الإدعاء بأنها تقوم بعملية استجابة إنسانية شاملة ذات مغزى، ومن هنا تحوّلنا إلى ما نسميه "عمليات إنقاذ حياة" في مجال الاستجابة الإنسانية.
برأيكم، مَن يمكنه التدخل لتوفير ما يكفي من الغذاء لأطفال غزة؟
الغذاء، والدواء، والوقود، والملابس، والأحذية، والتطعيمات، والمعدات الطبية، والحفاضات.. وكل ما يخطرببالك متوفر على الجانب الآخر من الحدود،ولكنه يتعفن في انتظار أن يُسمح له بالدخول؛ فالموارد موجودة ولكن ليست ذات فائدة إذا لم تدخل.
والسؤال هنا: مَن الذي يجب أن يدفع باتجاه دخول المساعدات حتى نستلمها نحن في المؤسسات الإنسانية، ومن ثم نقدمها لمَن يحتاجها، الجواب هو المجتمعالدولي، الذي على ما يبدو لا يزال يُصر على ألا يحرك ساكنا فيما يجري في غزة، ويكتفي بتصريحات إدانة تخرج من هنا وهناك على استحياء، بدلا من فرض الأمور فرضا، وزيادة الضغط على أطراف النزاع من أجل تحقيق وقف نهائي لإطلاق النار، أو على الأقل هدنة، وإلا فأضعف الإيمان توفير مناطق آمنة للمدنيين، وطرق آمنة وحركة سهلة للعاملين في المجال الإنساني.
كيف تُفسّر تقاعس المجتمع الدولي عن إدخال المساعدات إلى غزة؟
لا يوجد مَن يستطيع أن يُفسّر هذا التقاعس، وهذا الشلل الذي أصاب المجتمع الدولي تجاه يجري لنا، وكنا نراقب -وما زلنا- تبني الإعلام الغربي منذ اللحظة الأولى وبشكل عجيب للرواية الإسرائيلية، وانحيازه لها، ثم بدأ بعد ذلك شيئا فشيئا يتجه إلى حد ما نحو الحياد، بالرغم من كون الحياد الآن لم يعد يكفي؛ فالأصل أن تسلط الضوء بكل مهنية واستقلالية على أساس المشكلة، وعلى الاحتياج وما هو المطلوب.
رافق ذلك عجز عربي رسمي غريب، وربما غير مُستغرب، ومعه استكانة شعبية عربية هي الأغرب، لأن عادة الشعوب العربية أنها نابضة بالتعاطف لما يحصل في قطاع غزة؛ فما يحصل في القطاع يجلب التعاطف الإنساني من كل العالم، ومن المؤسف أننا نرى نشاط شعبي أجنبي في بلدان أوروبية، ولا نراها في بلدان عربية، وإن كانت فهي على استحياء وليست بالمستوى المطلوب.
في النهاية: القرار بيد القوى الوازنة، والفاعلة في المجتمع الدولي، التي بإمكانها فرض الأمور، وبالمناسبة ونحن بهذا الصدد نذكر الضغط الذي مارسه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عندما قال قبل استلام منصبه في كانون الثاني/ يناير الماضي: "أود أن أرى وقفا لإطلاق النار"، وقد تحقق وقف إطلاق النار حينها بالفعل.
فإذا كانت الأمور تتحقق بهذه السهولة فما الذي يمنع دفع الأمور دفعا لتحقيق ذلك، وإلى أن يحدث ذلك لا يوجد أمام في المؤسسات الإنسانية إلا الاستمرار في تقديم ما تستطيع تقديمه من استجابة إنسانية حتى تتهيأ الظروف لوقف إطلاق النار، أو وقف تام لهذه الحرب.
كيف تنظرون لمستقبل أطفال غزة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب؟
عندما تنتهي الحرب سيعكف الكثير من الناس على الاهتمام بالأطفال؛ لأنهم هم المستقبل، وهذا يحتاج إلى وقت طويل، وإلى موارد، ونعوّل كثيرا على "الروح" السائدة في قطاع غزة؛ فهو شعب يود أن يحيا، ولا يرى ذلك خيارا، لكنهم بحاجة إلى وقت، وبخاصة فيما يتعلق بمسألة الدعمالنفسي، والعمل على ترميم نفسية الأطفال؛ فقد رأوا في هذه الحرب -التي لم يبدأوها ولايستطيعوا إيقافها- ما لا يجب أن يراه أي طفل؛ فكل ما لا يجب أن يراه الأطفال رآه أطفال قطاع غزة.