يـعرف دارسـو تاريخ الأديان والأنـثـروپـولوجيا الـديـنـيـة أن مساحـات التـداخـل بين الـديـنـي والاجـتـماعـي في المجتـمعـات والأديـان واسعـة بـما يكـفـي لملاحظـة كيـف تـدخـل الخبـرةُ الإنسانـيـة في تـكـوين التـجارب الـديـنـيـة في التـاريخ، وكيـف يـلـتـقي المطلـقُ الـديـنـي والنسـبـيُ البـشري في صـياغة أنظمـة الأحكـام الـديـنـيـة للنـاس والمجتـمـعات.

يَـتَـبَـرَر هـذا التـقـاطُـع بين الـديـنـي والاجتمـاعـي بـما لا حصـر له من الأسباب والعـوامـل، نكـتـفـي بالإشـارة السـريـعة إلى ثـلاثـة منـها:

أولُـهـا مكـانـةُ العـقـل والمصـلحـة في منـظـومـة المـوارد المتـاحـة لـدى أي اجـتـمـاع ديـنـي؛ إذ هُـمـا اللـذان يـقـع عليـهـما عـبءُ النـهـوض بالتـشريـع للجـمـاعـة الـديـنـيـة، في حـال وجـود فـراغ تـشـريـعي، انـطـلاقـًا من أُسُـس يـصـرح بـهـا الوحـي أو يَـحـمل على النظـر إليها بعيـن الاستحسان والقـبول من قـبَـل الجماعة المؤمنة بـه. معنى هذا أنه مع انقطاع الوحي وانقضاء النـبـوة، في أي ديـن، لا يبقى للجماعـة الاعـتـقاديـة إلا أحـد سبـيـليـن - أو هُـما مـعـا -: الرأي ومصـلـحة الجماعـة؛ لذلك عُـدَ الأخيـران -في الأديـان جميـعـها- في جملـة مصادر الأحكام الـديـنـيـة. إن المكـانـةَ تلك هـي ما يـفـسـر لـماذا نُـظـر إلى العلـمـاء، دائـمـا، بوصـفـهـم مؤتَـمَـنيـن على رسالات الأنبـيـاء؛ إذ هُـم، أكـثـر من غيـرهم، مَـن يـدركـون مـقاصـدها، وأكـثـر من يسـتـخرجـون مـن مبادئـهـا الثـابـتـة أحـكامَ الوقـت المـتـغـيـرة للإجـابـة عـن إعـضـالات واقـع منـهمـرة باستمـرار.

وثـانيـهـا أن النـص يـقـتـرن بالتـأويـل ويـعـتـازُه، حُـكـمـا، ويـتوقـف العـلـمُ بـه عليـه. لذلك كـان في كـل ديـن فـقـه بذلك الـديـن (= العـلـم بالمعنـى العام وليس عـلـم الفـقـه حصـرا)، وكـان يُـنـظَـر إليـه - وما يـزال - بـوصـفـه جـزءا من الـديـن. نعـم؛ إنـه عـلـم بشـري وليس مـن الوحـي، عنـد المؤمـنـيـن كـافـة، غـيـر أن أحـكـام الـديـن: في العبـادات والمـعـامـلات، لا تـكـتـمـل إلا بـه نظـرا إلى أن المنصوص عليه من الأحكام محدود، بينما الحوادث والواقعات لا متـناهية. هكذا يدخل الفـقـهُ البشري (النسـبي) في تشكيـل المنظـومة الاجتماعيـة الـديـنـيـة التي يُرسي المطلقُ الـديـنـيُ أساساتـها بالنـص التأسيسي وتعاليـم الأنبياء.

وثالثها أن التـقاطُع بين الـديـنـي والاجتماعي، المتعالي والإنساني حاصل بقـوة حقائـق الـديـن نفسـه؛ حيث الـديـنُ مجعـول لخدمة الإنسان لا العكـس. يتميـز الإنسان، في الأديان جميـعـها، بالنـقـص وبحـال الاحتيـاج إلى غيـره لقيام أمـره، بيـنما يتـسـم اللـه بالكـمـال المطلق وبالغـنى عـن غيـره بما في ذلك الإنسان. لذلك أتـت الأديـانُ - التـوحيـديـة على الأقـل - تـقـدم نفسـها مسـلكـا حياتـيـا وروحـيـا لخـدمـة مَـن يحتـاج إليـها: الإنسان، فـكان من عاديـات الأمـور أن يـقـع، لـهـذا السـبب، الكـثيـرُ مـن التـداخـل بين المتعالي والإنساني. آيُ ذلك ما احتـلـتـهُ فكرة المصلحة في الأديان والفكر الـديـنـي؛ فحيثما كانت أهداف الأديان جـلـبَ مصالح الناس ودفـعَ المضار، كان مستَـبـدَهـا استدخال مبدئـها في الفكـر الـديـنـي التـوحيـدي (مبدأ المصالح المرسَـلة في الفـقـه الإسلامي مـثـلاً).

في ضوء العـوامل السابقة، يسـهُـل إماطـةُ اللثـام عن ظواهـر عـدة، في تجارب الأديان، لا تُـفـهم لدى مَن ينظرون إلى الأديان من حيث هي نصـوص وتعاليم، حصـراً، لا من زاويـة صيـروراتها وتجـسُداتُـها الاجتماعيـة في التاريخ. أهم هذه الظواهر المشاركةُ الإنسانـيـة في بناء الوعي بالـديـن وفي هنـدسة الحياة الـديـنـيـة ومنظومـة أحكام الـديـن. معنى ذلك أن الانـحـكام الجماعي بالـديـن لم يكن، في تاريخ الأديان، انحـكامـا بـالمنصوص عليه في تعاليـم الـديـن، فحسب، بل كان - وفي المعظم منه - انحكاما بالمتـقـرر من آراء المفـسـرة والفـقهـاء واللاهوتـيـيـن في الـديـن؛ هذه التي لا تعود محض آراء، بل تصير أحكاما واجبة الاتباع على المؤمنين. هذا ما يفسر ظاهرة تعدُد المذاهب والمدارس الـديـنـيـة في الـديـن الواحد بتعـدُد رؤسائها أو أئـمـتـها وتَـبـايُـن مقـالاتهم؛ وهو ما يضـع - في الوقـت نفسـه - حـدودا متواضعـة لفكـرة الإجماع في كـل ديـن واجتماع ديـني لامتناعه - بل لاستـحالـتـه - ويفرض الحاجةَ إلى الاعتياض عنه، في تلك الأديان، بفكرة أقـل عسرا (ولكنها ليست أكثر إمكانا) هي: إجماعُ علماء الـديـن، أو أهـل الحل والعـقـد، كما سُـمُـوا في الفـكر الإسلامي.

في وسعنا أن نأخذ مثالـين سريـعيـن لبيان علاقات التـخلُـل والتـلـبُس التي تقوم بين الاجتماعي والـديـنـي: أولهما في التـشريع الـديـنـي والثاني في أنـثـروپـولوجيا المجتمعات الـديـنـيـة؛ فأما في التـشريع فـذلك يـتـمـثـل في أن الكـثيـر من الأحكـام الشـرعيـة في الأديان لم يكـن مَـأتـاهُ مـن نصوص الـديـن، بل من العُـرف الاجتماعي السائـد والمعـهـود في بـلـد والذي يمـتـد زمـنـا إلى ما قـبل قيـام الـديـن نفسه. ولعل في الفـقـه الإسلامي خـيـرَ مثـال لذلك الاستـدخال المباشـر للمألوف والمشهور من العوائد الاجتماعيـة في جملة موارد التـشريع الـديـنـي. وهذا ما يـفـسـر تعـدُدَ مـذاهـب الفـقـه واخـتلافـها في الأخذ بالمعهـود والمأثـور من العوائـد. وأما في الحياة الـديـنـيـة فيـنـبـهـنا الـدرس الأنـثـروپـولوجي للـدين أن الكـثـير مما عُـومل في الحياة الاجتماعيـة للمؤمنـيـن بوصفـه شـأنـا ديـنـيـا، إنـما هـو من المـقـدَس الاجتماعـي الموروث، المُـحـاط بالكـثـيـر من الحُـرم الجمـعـي والسابـق وجـودا للـديـن نفسـه، ولكنـه المـقـدس الذي خُـلـعَـت عليه أرديـةُ الـديـن فـشُـرعـن ثـم صار يُـدرَك بـوصـفـه شـأنـا ديـنـيـا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

فنان أمريكي يتّهم بلاده وإسرائيل بتنفيذ إبادة جماعية بغزة.. تعرّف عليه؟

وجّه مؤسس فرقة "بينك فلويد" الموسيقية، روجر ووترز، جُملة اتّهامات إلى الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، فيما دعاهم إلى: التوقف عن هذه الإبادة.

وفي حديثه لوكالة "نوفوستي" الروسية، أوضح ووترز: "كل شخص يمتلك قلبا وعقلا حول العالم يدرك يقينا أن الإبادة الجماعية التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل والولايات المتحدة أمر خاطئ، ولا يمكن تدمير شعب بأكلمه".



من روجر ووترز؟
الفنان البريطاني جورج روجر ووترز، ولد في كامبريدج عام 1943، ومنذ طفولته كان مولوعا بالموسيقى والرياضة وخاصة السباحة. غير أن شهرته اكتسبها بشكل أساسي خلال تأسيس فرقة الروك الكلاسيكية البريطانية "بينك فلويد"، رفقة سيد باريت، ونيك ماسون، وريتشارد رايت، خلال عام 1965.

إلى جانب الغناء برع ووترز أيضا في التلحين وتأليف الموسيقي والعزف على الغيتار. وتم إصدار الألبوم الأول للفرقة عام 1967، حمل اسم "الزمار على أبواب الفجر" (The Piper at the Gates of Dawn).

إثر ذلك، أصدر ووترز مع فرقته العديد من الألبومات التي حظيت بشعبية واسعة في مختلف أنحاء العالم، مثل "الجانب المظلم للقمر" (Dark Side of the Moon)، و"أتمنى لو كنت هنا" (Wish You Were Here)، و"تطفُّل" (Meddle).

غير أن الخلافات بدأت تظهر في الفرقة، في فترة الثمانينيات، بخصوص أن بقية أعضاء الفرقة لم يكونوا سعداء بتصدر روجر ووترز للمشهد؛ ومع حلول عام 1983، وبعد إصدار أغنية "The Final Cut"، انفصل ووترز عن المجموعة.

بعد انفصاله عن الفرقة، رفع ووترز دعوى قضائية ضد بقية أعضاء "بينك فلويد" لمنعهم من استخدام اسم الفرقة، غير أن الدعوى قد فشلت، واستمرت "بينك فلويد" بإصدار الأغاني من دون ووترز.


اهتمام واسع بالسياسة
خلال عام 1992 أصدر ووترز، ألبوما حمل اسم "مسلٍّ حدَّ الموت" (Amused to death)، حمل عدة رسائل سياسية واجتماعية، انتقد بها الحروب والقتل. 

وقبلها، كان ناشطا سياسيا كذلك، حيث انعكس ذلك على أعماله الفنية، فأصدر أغنية باسم: "طوبة أخرى في الجدار"، تتحدث عن حق الأطفال السود في التعليم بجنوب أفريقيا، وتناهض سياسة الفصل العنصري التي كانت سائدة هناك. حُظرت الأغنية عام 1980 من قبل حكومة جنوب أفريقيا.

أيضا، خلال عام 1990، أنتج فيلما موسيقيا حمل اسم "الجدار"، احتفى فيه بإنهاء الانقسام بين شرق ألمانيا وغربها بعد تدمير جدار برلين.

وبالعودة إلى طفولته يُفهم أن مواقفه المعادية للحرب بشدة، تأتي إثر قتل والده على الجبهة الإيطالية عام 1944، في بداية الحرب العالمية الثانية، عندما كان يبلغ من العمر عاما واحدا فقط.



موقفه من فلسطين
خلال عام 2011، كتب ووترز مقالا في صحيفة "الغارديان" عبَّر خلاله عن دعمه للفلسطينيين ورفضه سياسة الفصل العنصري التي تنتهجها دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وخلال المقال نفسه، أبرز أنه قد تم التعاقد معه لتقديم عروض موسيقية في تل أبيب، إلا أن فلسطينيين من حركة تدعو للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ"إسرائيل" تواصلوا معه وشرحوا له الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وطلبوا منه المجيء إلى فلسطين كي يعاين الأمر بنفسه.

إثر ذلك، شاهد ووترز بنفسه جدار الفصل العنصري، خلال زيارته إلى القدس المحتلة وبيت لحم تحت حماية الأمم المتحدة؛ وآنذاك قرّر الوقوف بجانب الفلسطينيين، وامتنع عن إقامة حفلات في دولة الاحتلال الإسرائيلي، لأن ذلك قد يعطي شرعية للحكومة الإسرائيلية.




وفي مقاله، تحدّث ووترز عن سكان غزة أيضا، بالقول: "مسجونون فعليا خلف جدار الحصار الإسرائيلي غير القانوني"، فيما وصف معاناة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية وانعدام الأمان.

"برأيي، يتوجب على جميع المنصفين في أنحاء العالم أن يدعموا القضية الفلسطينية، بسبب السيطرة المقيتة والقاسية التي تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين المحاصرين في غزة، والفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة (بما في ذلك القدس الشرقية)، إلى جانب حرمانها اللاجئين من حقوقهم في العودة إلى ديارهم" بحسب ووترز.

مواقف ووترز لم تمرّ مرور الكرام، حيث إنه قد ألصقت به تهمة "معاداة السامية"، وتعرّض أيضا إلى عدّة حملات ممنهجة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، غير أنه ظلّ متمسكا بموقفه.


وكان ووترز، قد أوضح أنّ: "الحملات ضده يقودها أشخاص يريدون تشويه صورته وإسكاته، لأنهم يختلفون معه في آرائه السياسية وقيمه الأخلاقية"، مضيفا خلال العرض الذي قدمه في ألمانيا عام 2023: "ليس إلا موقفا واضحا ضد الفاشية والظلم والتعصب، بأشكاله كافة".

آنذاك، اعتبر أن: "مواقفه السياسية لا تعني معاداة للسامية أو معاداة للشعب اليهودي على الإطلاق، كل ما هنالك أنه يقف بشدة ضد انتهاكات الحكومة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين"، فيما قارن قمع الحكومة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني بالأفعال التي اقترفها النازيون في ظل حكم أدولف هتلر.

مقالات مشابهة

  • قبل الحكم عليه بساعات.. كيف خطط سفاح التجمع لقتل ضحاياه
  • قيادي بـ«مستقبل وطن»: الإفراج عن 54 من أبناء سيناء يعزز الاستقرار الاجتماعي والتنموي
  • إعلام النواب: ضوابط البرامج الدينية خطوة ضرورية لتعزيز الوعي وتصحيح الخطاب الديني
  • حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته
  • هل جهازك قديم؟ واتساب يتوقف عن العمل عليه في 31 ديسمبر!
  • مظاهر تحريف الأديان
  • رئيس «الأعلى للإعلام» يناقش مع وزير الأوقاف تدريب صحفيي الملف الديني
  • فنان أمريكي يتّهم بلاده وإسرائيل بتنفيذ إبادة جماعية بغزة.. تعرّف عليه؟
  • مسن يقتل شاب تنمر عليه بدار السلام
  • العراق يجري أعمال تنقيب في تل أثري تجاوز عليه الجيش الأمريكي (صور)