إرساء اللُغويات العربية الحديثة لطلاب اللغة الإنجليزية
تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT
أحمد السعدي **
اللغة العربية واحدةٌ من أغنى لغات العالم لغويًا وفكريًا من خلال مفرداتها الواسعة وقواعدها المعقدة وعمقها الثقافي، وقد أصبحت اللغة العربية محط اهتمام اللغويين النظريين في العصر الحديث، بعد أن كانت محط اهتمام المستشرقين في الماضي، وذلك لأنها أكبر اللغات السامية من حيث عدد المتحدثين، وكذلك لارتباطها بالدين الإسلامي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية.
وبما أن هناك العديد من الطلاب العرب الذين يدرسون اللغويات الإنجليزية كجزء من مقرراتهم الدراسية في برامج البكالوريوس في اللغة الانجليزية، فإننا نظن أنه يجب أن يتم تخصيص مقررات لدراسة اللغة العربية من خلال علوم اللغويات الحديثة. فاللغة العربية، كونها لغة القرآن الكريم، تحمل أهمية ثقافية وروحية، مما يجعل دراستها الأكاديمية ضرورية للحفاظ على الارتباط بالتراث العربي والإسلامي. يقول الإمام الشافعي في هذا الشأن: "اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد، صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى" (ابن تيمية، 1999 ص. 192). ورغم أننا نتفهم أن هؤلاء الطلاب يدرسون اللغة الإنجليزية، إلا أن هذا لا يمنع تضمين مقررات في اللغويات العربية في برامجهم الأكاديمية.
ويجب التنويه على وجود فرق كبير بين تعلم اللغة للاستخدام العملي ودراسة تراكيبها اللغوية. فتعلم اللغة يهدف بشكل أساسي إلى تطوير مهارات التواصل كالتحدث والقراءة والكتابة والاستماع، بينما تتضمن دراستها الغوص في هيكلها على المستوى النحوي والصرفي والاشتقاقي والصوتي والدلالي، وكذلك تاريخها وأهميتها الثقافية. ففي حين أنه يمكن للطلاب العرب تحقيق الطلاقة في اللغة الإنجليزية لأغراض عملية مثل التقدم الوظيفي أو السياحة أو التواصل الإجتماعي مع مختلف الثقافات، يجب ألا يكون ذلك على حساب هويتهم اللغوية الأم، وذلك لأن إتقان اللغويات العربية لا يتعلق فقط بالحفاظ على اللغة الأم،؛بل أيضًا باستكشاف تراكيبها المعقدة جدًا وعمقها الفكري وتطورها التاريخي.
والسبب الآخر هو أن دراسة اللغويات العربية أمر ضروري للحفاظ على التراث اللغوي للعالم العربي، الذي أسهم إسهامًا فاعلًا في التراث الفكري العالمي، وبدون فهم عميق للغويات العربية، قد يفقد الطلاب العرب الأهمية الأدبية والثقافية للغتهم. وعلى النقيض، فإن التركيز على دراسة اللغة الإنجليزية فقط على المستوى النظري قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في ارتباطهم بهويتهم اللغوية العربية. وبينما توفر الطلاقة في اللغة الإنجليزية مزايا عملية، فإن الحفاظ على التنوع اللغوي والثقافي لا يقل أهمية، إذ تؤكد اليونسكو على أهمية التنوع اللغوي وحماية اللغات الأم للحفاظ على الهوية الثقافية. في هذا السياق، تصبح دراسة اللغة العربية من خلال علوم اللغويات النظرية الحديثة ليست مجرد مسعى أكاديمي، وإنما مسؤولية لضمان بقاء التراث العربي وازدهاره.
وبالنسبة للعرب والمسلمين، تحمل دراسة اللغويات العربية أهمية فكرية ودينية عميقة، فالقرآن الكريم، معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نزل باللغة العربية الفصحى، وتمثل خصائصه اللغوية وجماله البياني جزأينِ أَسَاسِيَّيْنِ من طبيعته المعجزة. وبما أن الإعجاز القرآني يعتبر ركنًا أساسيًا في الإسلام، فإن دراسة اللغويات العربية تتيح فهما أعمق وأكثر ثراءً للقرآن. يقول ابن تيمية، وذلك لأن فهم القرآن بلغته الأصلية يتيح لنا كعرب ومسلمين فهما أعمق للأساليب البلاغية والأناقة اللغوية. وأيضا فإن الاهتمام باللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، ذلك أن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، و ما لا يتم الواجب به فهو واجب (1999، ص. 194). هذا وتمكن دراسة اللغويات العربية من خلال العلوم النظرية الحديثة الطلاب من تحليل اختيار الكلمات بدقة، واستكشاف بنية الآيات وتركيب الكلمات، والكشف عن السمات اللغوية التي ترفع من مكانة القرآن كأعظم ما أُنزل على بشر. وهذا الانخراط ليس فقط مغذيًا للروح ولكنه أيضًا يعزز تقدير الطلاب للغة العربية، وكذلك إدراك العالم الغربي والشرقي لتفردها وميزتها على اللغات الأخرى.
وإلى جانب أهميتها الدينية، فقد كانت اللغة العربية في السابق لغة الاكتشافات الفكرية في مجالات مثل العلوم والفلسفة والأدب والطب وغيرها. فمنذ العصر الذهبي للإسلام وحتى يومنا هذا، ساهم العلماء العرب في تشكيل الفكر والإرث العالميين. ومن خلال إتاحة الفرصة للطلاب لدراسة اللغويات العربية، يمكنهم إعادة الاتصال بهذا الإرث الفكري والمساهمة في العمل الأكاديمي المعاصر في كل المجالات، ذلك أن إهمال اللغويات العربية لصالح دراسة اللغات الأجنبية (فقط) قد يؤدي إلى ابتعاد الطلاب العرب عاطفيًا عن هذا التراث الفكري الغني. فاللغة الإنجليزية، رغم أهميتها للتواصل العالمي، تفتقر إلى الروابط الثقافية العميقة والأهمية التاريخية التي توفرها اللغة العربية للطلاب العرب. أيضًا، فإن الأمر لا يتعلق بالاختيار بين الإنجليزية والعربية؛ بل بتحديد الأغراض المختلفة التي تخدمها كل منهما، حيث يمكن أن يتعايش كلا المسعيين، مما يسمح للطلاب العرب بتحقيق التوازن بين هوياتهم المحلية والعالمية.
وحتى لا يُساء فهمنا، فنحن لسنا ضد أن يسعى الطلاب إلى تحقيق الطلاقة في اللغة الإنجليزية لأغراض عملية، لكننا مع تخصيص مقررات تساعدهم في دراسة اللغويات العربية وفهمها، ذلك أن هذا سيمكنهم من التركيز المزدوج على النجاح في العالم مع الحفاظ على ارتباط قوي بهويتهم اللغوية والثقافية الأصلية. من خلال القيام بذلك، يمكنهم المساهمة في الحفاظ على اللغة العربية كلغة حية ومتطورة والمشاركة بشكل هادف في التقاليد الفكرية والدينية الغنية للعالم العربي.
في الختام.. نظنُ أنه يجب أن يتم تخصيص مقررات للغويات العربية تطرح من خلال النظريات اللغوية الحديثة ويدرسها طلاب اللغة الإنجليزية. قد يبدو هذا الاقتراح غريبًا للبعض، لكنه ليس كذلك للمهتمين حقًا بفهم لغتنا الثرية والجميلة أيضًا، وقبل كل شيء لفهم القرآن العظيم بصورةٍ أفضل وأعمق. وللتدليل على ما نقول به في هذا المقال، يتناول البروفيسور برنارد كومري، من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، في بحثه المنشور في عام (1991) بعض الجوانب اللغوية المهمة في اللغة العربية ويكشف كذلك عن أهمية دراسة اللغويات العربية بالنسبة للنظريات اللغوية الحديثة. أي أن دراسة اللغة العربية من خلال علوم اللغويات الحديثة سيكون مفيدًا لتخصص اللغويات النظرية من ناحية تفنيد هذه النظريات وتطويرها.
******************
المراجع:
ابن تيمية، ت. د. (١٩٩٩). اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم (تحقيق: محمد حامد الفقي). بيروت، لبنان: محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية. (الصفحات ١٩٢-١٩٤).
Comrie, Bernard. 1991. On the importance of Arabic for general linguistic theory. Perspectives on Arabic linguistics 3: 3-30.
** طالب بقسم اللغة الإنجليزية والترجمة، جامعة السلطان قابوس
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ينظم احتفالية بمناسبة شهر رمضان
نظَّمت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ممثلةً في المركز الثقافي المصري لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، احتفالًا بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك، وذلك بمشاركة واسعة من الطلاب الوافدين الدارسين في مصر.
أقيم الاحتفال تحت رعاية الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ودعم الدكتور أيمن فريد، مساعد الوزير للتخطيط الإستراتيجي والتدريب والتأهيل لسوق العمل والقائم بأعمال رئيس قطاع الشؤون الثقافية والبعثات، وتحت إشراف الدكتور أحمد عبد الغني، رئيس الإدارة المركزية للوافدين.
يأتي هذا الحدث في إطار مبادرة "ادرس في مصر"، وجهود الإدارة المركزية لشؤون الطلاب الوافدين لتعزيز مشاركة الطلاب الوافدين في مختلف الأنشطة والفعاليات الطلابية، وتوفير بيئة تعليمية داعمة تجمع بين التعلم والابتكار والإبداع، إلى جانب إكسابهم خبرات مهنية وإنسانية تثري شخصياتهم وتعزز قيمة التجربة التعليمية والثقافية المتميزة في مصر.
شهد الاحتفال حضور طلاب من جورجيا، أرمينيا، فيتنام، كينيا، الصومال، تركيا، أوغندا، نيجيريا، وقيرغيزستان، إلى جانب معلميهم وإدارة المركز، وبمشاركة الدكتور أحمد عبد الغني، رئيس الإدارة المركزية لشؤون الوافدين، وعدد من الشخصيات الأكاديمية والثقافية.
وفي كلمته خلال الحفل، أوضح الدكتور أحمد عبد الغني أن هذه الفعالية تأتي ضمن سلسلة الأنشطة الثقافية التي ينظمها المركز لدعم اندماج الطلاب الوافدين في المجتمع المصري، وتعريفهم بأهم المناسبات الدينية والثقافية.
كما أشار إلى أهمية هذه الفعاليات في ترسيخ روح المودة والتآخي بين الطلاب من مختلف الجنسيات، الذين اجتمعوا للاحتفال بهذه المناسبة الدينية والثقافية المميزة، في تجربة تعليمية متكاملة تجمع بين التعلم الأكاديمي والتفاعل الثقافي والاجتماعي.
وأضاف أن الفعالية عكست التنوع الثقافي والتبادل الحضاري اللذين يميزان تجربة الدراسة في مصر، حيث قدَّم الطلاب الأطباق التقليدية من بلدانهم، ما أضفى على الأجواء طابعًا احتفاليًا يعكس ثراء العادات الرمضانية حول العالم. كما تخلل الحفل فقرات ثقافية وفنية متنوعة، تضمنت تلاوات قرآنية، وإنشادًا دينيًا، وعروضًا تعريفية حول عادات وتقاليد رمضان في مختلف الدول.
يُعد المركز الثقافي المصري لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها أحد أهم المؤسسات الداعمة لمبادرة "اُدرس في مصر"، حيث يقدم برامج تعليمية متكاملة وشهادات معتمدة من وزارة التعليم العالي. ومنذ تأسيسه عام 1964، ساهم في تعليم آلاف الطلاب من مختلف أنحاء العالم، تعزيزًا للتبادل الثقافي والتواصل الحضاري بين مصر والدول الشقيقة والصديقة.