بقلم عمر العمر
استرداد الجيش وكتائبه مساحات من تحت أقدام الجنجويد يرجّح في بعض ملامحه العسكرية تكتيك الصبر على الحماسة. لكن انكسار الدعم السريع لايعني هزيمته فهو لايزال أوسع انتشارا . خطاب حميدتي يؤشّر في أحد أبرز أبعاده إلى ولوج محنتنا نفق (الحرب القذرة) في المعنى الحرفي -لا المجازي كما كنا نردد- للعبارة.
*****
في الفكر السياسي تنشب الحرب بين فرقاء غير متجانسين بغيةإعادة ترسيم المشهد السياسي من أجل بلوغ غايات محددة.بعد مضي أكثر من العام لايزال الجدل مفتوحا عمّا إذا كان طرفا هذه الحرب الكارثية فرقاءً أم حلفاء؟ كما هو الجدل لايزال مثار حول دوافع المتقاتلين وغاياتهم. فقط ثمة اتفاق غير موقع بينهما على إعلاء مصالح كل منهما مع الإهمال المتعمّد لحقوق الشعب و مصيره! فالشعب وحده يسدد فاتورة حرب باهظة الكلفة من دمه ،شبابه، مؤسساته ، حاضره و مستقبله .التدمير الممنهج والعشوائي حطّم الدولة،جرّد الشعب من مقومات الوجود دع عنك الصمود.كأنّما هي منافسة غير شريفة للفوز ببطولة مأساوية على نسق التراجيديا الإغريقية؛ البرهان وحميدتي أو الجيش الجنجويد.
*****
التباين في شأن الإسناد والتدخل الخارجييْن لا يبرئ القطبين من مسؤولية اشعالها.فلا ولوج لطرف في حرب عارٍ من الرغبة والارادة الذاتية.الخلاف عمّن أشعل فتيل الحرب لا يبرئ أحدهما.فكلاهما كان في حالة تأهب والضربة الاستباقية ليس غير تكتيك عسكري للامساك بزمام المبادرة على نحو مباغت.كما أن الاستقواء بالخارج هو محاولة لفرض التفوق في موازين القوى.هناك فرق بين الاستقواء و الارتهان للخارج .في الحالة الاولى يكون الخارج لاعباً مساعدا في الثانية يكون لاعباً اساسياً.
*****
بتقدم الجيش على حساب الجنجويد ينأى الطرفان - مؤقتاً على الأقل -عن الإصغاء لنداءات التفاوض وتبادل التنازلات.الرهان أصبح الضغط على الطرف الآخر حد التركيع .لذلك سيتطاول حتما كابوس الحرب وعذابات السودانيين. مع التوغل في متاهات الفوضى يتخلى الطرفان عمّا تبقى لديهما من عقل . في الطريق إلى القبض على مفاصل السلطة يتم اسقاط حُجج المنطق عمدا .التاريخ يعدنا بلسان مبين في كل اللغات عن استبداد سافر جموح حال إمساك أيٍ من الطرفين على مفاتيح سلطة الدولة المضاعة.تلك مرحلة استعراض الزهو بالنصر، مرحلة زجر الخصوم حد التوحش.عندئذٍ يدرك أشباه الساسة الهواة مجهضو فرص الثورة البازخة معنى عواقب التفريط في استثمار الفرصة التاريخية.فالأطباء يعلمون جيدا معاناة الاجهاض المبكر وتداعياته.أؤلئك الهواة هم أول ضحايا الاستبداد الجديد.
*****
كما لا وقت للندم فلاسبيل للمساومة.المستبدون الجدد طرحوا على قارعة الطريق المشرّب بالدم إلى السلطة كل أفكار المساومة ،المشاركة والتنازل .هم الآن مدججون بكل عتاد الثأر ، الانتقام والحرص عل الإنفراد بغنائم السلطة و مصادر الثروة .هذا زمن إملاء الشروط وفرض الاستسلام أو مواجهة العقوبات دون محاكمة او مماحكة .هذا موسم تعزيز النفوذ وتكريس الهيبة وجني الثمار. منطق المنتصرين عبر التاريخ دوماً :(انما العاجز من لايستبد).فالاستبداد هو واجهة متقدمة للطغيان حيث انكار المشورة واستنكار النقد وموازاة الظلم بالعدالة والقمع بالحرية.حتى ندرك مستقبلنا فلنقرأ توصيف الكواكبي (الاستبداد أصل انحطاط الشعوب وتخلفها).
*****
كِبْرُحميدتي تجاوز نَطْحَ قادة الجيش إذ أدار ظهره في خطابه الأخير عن التفاوض ،السلام ،الشراكة السياسية والديمقراطية.بما أن النار لامست العظم فتلك الشعارات البرّاقة لم تعد تلائم طبيعة المرحلة.الأولوية لاستنفار المقاتلين وتوفير العتاد والزخيرة.العزف على النعرة الإثنية نغمة محببة في نشيد الاستنفار. حميدتي يعرف- ربما أكثر من غيره -الحرب كرٌ و فرٌ .هو على استعداد للقتال حتى الرجل الأخير بمنطق (لنا الصدر أو القبر).لافرق حتى في محاججة البعض بأن أولويته للإمبراطورية المالية على حساب المصداقية السياسية . فالثابت في كل الفرضيات هو استطالة كابوس الحرب وعذابات المدنيين. اذاكانت ثمة دول تولد من لهب الحروب فثمة دول تندثر تحت ركامها.
*****
حال انتصار فريق على آخر يرتفع منسوب الطغيان على نحو يغمر مؤسسات الدولة إذ تتجمع مقاليد السلطة في يد فرد أو أيادي زمرة. ساعتئذٍ تسقط مقولة مونتيسكيو(السلطة توقف السلطة).هم ونحن نعرف جميعا (السلطة المطلقة مفسدة مطلقة).بالطبع سيتم مأسسة الدولة لكن المؤسسات المستولدة تعمل جميعا من أجل تكريس توحش المستبدين الجدد(القدامى). قادة الجيش لم يستوعبو دروس التاريخ .فهم يقاتلون الميليشيا بميليشيا من الطراز ذاته. من المؤسف كذلك انجاز ذلك الطغيان تحت عباءة الدين.دعاة الدولة و إعلامها يكرسون كل الآيات والأحاديث بغية الذهاب إلى أقصى الغايات.لا أحد منهم يريد استذكار الحديث الشريف(كل ابن آدم خطاء).فهو حديث يمكن به محاججة اهل السلطة لصالح الخصوم!هم بذلك يضعون الدين في تصادم مع مكارم الأخلاق.
*****
من الصعب إن لم يكن مستحيلا دفع طرفي الحرب إلى طاولة التفاوض مالم تتولد لديهما قناعة بالسلام.تلك قناعة يعزز فرصها اقتراب أحدهما من تحقيق نصر حاسم ، أو تغيُّر الموازين العسكرية. للقوى السياسية يدٌ في هذا التغيير إن افلحت في تجميع فسيفسائها المتشظية حول برنامج الحد الأدنى على نحو يجعل لها دورا فاعلاً داخل المشهد السياسي.فهي ليست مطالبة فقط باسكات المدافع بل بتكريس كل ما من شأنه تجنيب الأجيال الحائرة ويلات الحرب، النزوح واللجوء .من المهم بناء كتلة سياسية صلبة متجانسة على برنامج وطني تنهض بموجبه على التأثير في موازين القوى.الأهم من ذلك تصميمه على نحو جاذبٍ جماهيريا ومقنعٍ بإعادة البناء الوطني.في غياب مثل هذه الكتلة والبرنامج ينفتح الأفق أمام الطغيان لا محالة.لكن غيابهما لا ينفي اصطدام الطغاة بالشارع -المستبد الأكبر- والجماهير الخلاقة.
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على نحو
إقرأ أيضاً:
وليدٌ وإن طال المخاض
بقلم عمر العمر
كما الفيل تتمدد حربنا المُدمِّرة عبر المكان والزمان فتتضخم معها أسوأ كارثة إنسانية على سطح المعمورة . تحت دخانها يتصاعد إيقاع المُهجرين إذ بلغت أعدادهم نحو ثُلث السكان.المحنة آخذة في الاتساع على نحو يهدد بتحويل (سلة غذاء العالم) إلى أفدح بقعة للجوع يعرفها العالم إبان الأربعين سنة الأخيرة. طوال نحو ثمانية عشر شهرا تتعرض المدن والقرى لعمليات الاجتياح والنهب ، للقتل والإهانة و الاغتصاب دونما يلوح وسط العتمة خيط نهاية وشيكة ولو قاتما . على النقيض ترتفع أصوات المدافع بينما تخفت الإدعاءات بالنصر .هذا هو الوجه الرمادي من المحنة الوطنية.أما الأسود فيعكسه عجزنا الماحق ازاء تأطير مفهوم واسع لهذه الحرب الكارثة حتى بدا استيعابنا لكل سيناريوهاتها وأهوالها آشبه بمظهر أطفال أمام فيل .كلٌ يرى منه الأقربَ إليه! فنحن في حال تشرزمٍ فاضح في الرؤى والمواقف منذ اشتعال شرارة الحرب وحتى الفيتو الروسي! هذه الحرب ليست من أجل العدالة والديمقراطية كما يزعم الجنجويد كما هي ليست من من أجل الكرامة والوحدة الوطنية كما يحاجج أنصار استمرارها.
*****
الساسة كذلك كأطفال أمام فيل بحجم الوطن. السياسة لديهم سفسطة هراء خارج المنطق ،التاريخ ،الجغرافيا والواقع. هم طبول جوفاء لايصدر عنها قراءات موضوعية، ممارسة النقد الذاتي، الاعتراف بالخطأ والاعتذار للشعب.ما منهم من يتسلح بالحد الأدنى من عدة الكاريزما .غالبية النشطاء الجائلين في المعترك العام تغلب عليهم غريزة القطيع ، يدافعون أو يهاجمون بثوابت المواقف الصمدية المسبقة. تحت كل هذا الركام تندثر قنوات الحوار مثلما تضيع مصائر ملايين الهائمين في الفضاء محرومين من الشروط الدنيا للحياة المعاصرة.وسط الضجيج المتخذ لغة سياسية تحترق فرص كسب العيش أمام ملايين الشباب دع عنك بناء حيوات أسرية.الألاف من من أفراد الأُسر يتساءلون في لوعة من الوجع عمّا إذ كان ستتاح لهم فرص إعادة جمع الشمل قبل الممات.هذه همومٌ لا ترد على خاطر مقاولي السياسة وزبانية الحرب.فهم ماقرأوا مانديلا(الأمن هو أمن الناس ليس أمن الحكومات)
*****
بعض المحاججة على منابر السياسة لا تخرج عن اللجاجة.فإعادة انتاج التجارب الخاطئة لا يصبغ عليها صوابية.فالدفاع عن استيلاد نظام الإنقاذ الجنجويد استنادا إلى إرث سوداني قديم أو عُرف دولي يقفز فوق حواجز عقلانية.إذ استعانة الجيش بفرق من قبائل تضررت مصالحها من قبل جماعات رفعت السلاح في وجه الدولة كانت صفقات محدودة الزمكانية . الصادق المهدي لم يفلح في بسط مظلة الدولة على فرق عرب التماس في مواجهة حركة غرنغ. الدولة القابضة على قوام أمنها الوطني لا تركن إلى الاستعانة بميليشيات . الضباط الوطنيون يرفضون بناء أجسام عسكرية خارج ظل الجيش. الدول ذات المصالح عابرة الحدود تسمح ببناء ميليشيات بدوافع متعددة ليس بينها البتة استخدامها ضد شعوبها .في الغالب تستعين بها بغية إنجاز مهام قذرة وراء الحدود حماية لجنودها وهربا من المساءلات.فالميلشيات وليدة جراحات قيصرية حكومية،ليست نتاج مخاض مجتمعي
*****
الجنجويد صناعة إنقاذية صرفة هندستها الدولة ثم أصبغت عليها مشروعية دستورية بدوافع غلبت عليها حماية النظام وتحقيق غايات ليست وطنية.المفارقة المحزنة صمت الجنرالات ازاء التوغل في التعدي على هيبة الجيش. عمليات تسمين الميليشيا تمت تحت رعاية كل الضباط ، بل بمشاركة بعضهم و على حساب الجيش. النظام فتح مسارب الاستعانة بشتات حزام وسط الغرب الإفريقي . الغاية العليا لذلك حماية النظام ليس الوطن أو المواطن.المفارقة المحزنة حدوث تلك الممارسات بينما ظل الجيش جيشاً للنظام أكثر مما هو جيشٌ للدولة. حتى مع استفحال حرب الفجار لايزال السؤال مطر حا عمّا إذا ما هو جيشٌ قومي للوطن أم تنظيمٌ عسكري للحزب.؟ مما يعيد طرح التساؤل بقاءُ الجيش والجنجويد جناحين عسكريين للإنقاذ حتى وقت إنفجار حرب السعار.
*****
على الضفة المقابلة لا يشفع لاداء القوى السياسية الهزيل خروجُها منهكةً من تحت قبضة النظام القمعي.صحيحٌ أنها حققت بعضاً من إجازٍ إبان فترة مبكرة من المرحلة الانتقالية .لكن تركيبتها المسكونة بالهزال السياسي ساهم في قعودها على نحو لم تستوعب معه مكامن التربص بها .أكثر من ذلك غلب حسن النوايا حد السذاجة السياسية على أداء ومواقف طاقم افتقد حاسة الانفعال مع ما يسمى باللحظة التاريخية لثورة مجيدة. قعود حمدوك وطاقمه أفرغ الزخم الجماهيري من مضمونه الثوري حد الهبوط إلى درك الإحباط . مع انتشار الحرب فقدت الحركة المدنية ماتبقى من قواها فظلت تمارس السياسة فقط من على المنصات . هكذا انقطع الحبل السري بين القيادة والجماهير المبعثرة في ملاذات اللجوء على صعيدالداخل والخارج.
*****
لا أحد ينكر تدني الامكانات المادية للقوى السياسية .لكن ذلك لا يبرر ضعف مخيالها السياسي ووهن مساهماتها على صعيد العمل الجماهيري .فحتى في ظروف البعثرة الشعبية ثمة متسعٌ للتواجد الفعال وسط النازحين واللاجئين. هناك فرصٌ لبناء شبكة - مفوضية-للإغاثة ولو رمزية على نطاق معسكرٍ لتفقد حال النازحين إن لم يبلغ الجهد تحسين ظروفه . من المتاح بناء (مفوضية للتعليم ) تساهم في تأمين استقرار طلاب النازحين في عدد من الدول .فهناك طلاب يحتاجون إلى عون من أجل استكمال امتحاناتهم.بعض الدول لم تكن تمانع بل ربما رحبت بمثل ذلك النشاط. عددٌمن أندية الجالية انجزت تلك المهام ومثلها. هذه المفوضيات ربما تتيح فرص تمارين لكوادر دولة مرتجاة.
*****
البؤس الناجم بفعل الإنسدادالماثل في الأفق السوداني لا يتطلب بالضرورة معجزة لتحقق اختراقاً. ففي زمن المآسي يحقق بعض الناس أشياء مذهلة. الإنسان السوداني أثبت رغم تواضعه قدرات ليست عادية على الابداع ، النجاة والتغيير. فعبر تاريخه الطويل تدرّب على مخاضات وطنية ثم استئناف الحياة دوما من جديد.هكذا فعل من أجل الخلاص من الاستعمار التركي.كذلك فعل تجاه الحكم الاستعماري الثاني الثنائي.هكذا أنجز عند إطاحة أول نظام عسكري ثم عقب انتفاضتة على جعفر نميري ثم مع مناة -الانقاذ -الثالثة . طلق طبعي أم قيصري فلابد من الجنين .الأصل في الجراحة القيصرية إختزال معاناة المخاض .كيفما تنتهي هذه الكارثة فلا ملجأ إلا إلي الشعب بغية تثبيت سلطة قابضة .ربما يتعلّم السودانيون من هذه المحنة كيفية عدم التفريط في مصيرهم عبر النوايا الساذجة والثقة المفرطة في من لايستحق.
aloomar@gmail.com