صانعــات محتـــوى.. رسالة وطنية وهوية ثابتة في العصر الرقمي
تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT
أكدت صانعات محتوى عمانيات على دورهن في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي والحفاظ على الهوية الوطنية والقيم المجتمعية عبر منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة مفتوحة للتعبير عن الأفكار والآراء، مستخدمات مهاراتهن الابداعية في إيصال رسائل وطنية وتعزيز الهوية عبر مقاطع الفيديوهات والصور والتعبير الكتابي والصوتي ليمثلن صوتا جديدا وقدوة مؤثرة تعكس الهوية العمانية والتنوع الغني للمجتمع العماني وثقافته الحضارية للأجيال الجديدة ورفع الوعي بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والوطنية، والسعي إلى بناء مجتمع رقمي مثقف.
وحول دور المرأة العمانية في صناعة المحتوى الرقمي قالت جليلة بنت عبدالله المعمرية: للمرأة العُمانية دور كبير في صناعة المحتوى الرقمي والحفاظ على الهوية والقيم، فهي موجودة بحضور لافت في المنصات الرقمية بمختلف أنواعها؛ للتعبير عن أفكارها وآرائها وتقديم رؤيتها فيما يتعلق بالقضايا المجتمعية. والمحتوى الذي تُقدّمه المرأة العُمانية يُعزز مفاهيم التضامن المجتمعي والمحافظة على القيم الإيجابية خصوصًا مع الطفرة التقنية والتي أدّت -نوعًا ما- إلى خلق فجوة بين الأجيال. وعليه، يسهم المحتوى في التقريب وتبسيط المعلومات والأفكار للأجيال المختلفة، والذي يعكس الوعي العميق بأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية وسط التغيّرات السريعة في العصر الرقمي، والسعي لبناء مجتمع رقمي مثقف وقادر على استغلال الفرص المتاحة بطريقة إيجابية.
وأكدت المعمرية أن للحضور النسائي أثرا إيجابيا خصوصا لتوثيقٍ أدق وأعمق فيما يتعلق بالمواضيع الثقافية النسائية على وجه التحديد؛ فهي تُسهِم بشكل كبير في توثيق وحفظ التراث العُماني عبر الإنترنت، مثل إحياء الحِرف التقليدية، والأزياء، ونقلها للأجيال القادمة، كما تضيف المرأة العُمانية -من خلال كتابة المحتوى الرقمي- في التسويق لعُمان ونشر صورة ذهنية إيجابية للعالم الخارجي.
محتوى توعوي
وعن مساهمة المرأة العمانية في تعزيز القيم والمبادئ عبر المحتوى الرقمي، أوضحت جليلة: أثبتت المرأة العُمانية نفسها كصوت مؤثّر في النقاشات الرقمية، حيث تقوم بدور كبير في التوعية الرقمية، من خلال تقديم محتوى تعليمي تثقيفي في مختلف التخصصات، والذي يسهم في تحسين المعرفة الرقمية للمجتمع. وتُعدّ هذه المبادرات أداة فعّالة لتعزيز الوعي المجتمعي والقدرة على مواكبة التغيرات العالمية مع الحفاظ على القيم الأصيلة، وهو ما أكّد عليه جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في خطاباته بمناسبات مختلفة، حول أهمية الحفاظ على الهوية والقيم العُمانية، وتربية النشء التربية الصحيحة، وعدم الانسياق خلف محتويات التواصل الاجتماعي الدخيلة.
كما تُشجّع المرأة العمانية على الأعمال الخيرية والمبادرات المجتمعية من خلال المحتوى الرقمي، كدعم المشاريع المحلية، وتنظيم حملات توعية، وتشجيع التطوع في الأنشطة المحلية، مما يعزز ثقافة العطاء والمسؤولية الاجتماعية في المجتمع.
وذكرت المعمرية العوامل التي ساهمت في نجاح المرأة بالمشهد الرقمي، بقولها: مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى الإنترنت، وكثرة البرامج المهنية والتعليمية والتقنية، سهّل ذلك وجود المرأة العُمانية في المنصات ونجاحها في إيصال صوتها وتفاعلها مع الآخرين، ما أدّى كذلك إلى تزايد ريادة الأعمال الرقمية، كما أن الوعي بأهمية التسويق الشخصي من ناحية مهنية وتجارية في تزايد خصوصا للأعمال الحرة. وأعتقد كذلك أن وجود نماذج نسائية ذات محتوى هادف سهّل على بقية النساء الطريق أن يخضن التجربة ويقدمن محتوى يتناسب مع اهتماماتهن.
وأوضحت عن الرسالة التي تطمح إلى تحقيقها: "كجليلة، فإني اعتَدتُ صِناعة المُحتوى ببساطة لأنني عندما أقرأُ معلومة، فتُعجبني! أُشارِكها عادةً للأصدقاء المُتابعين في المنصات المختلفة، وأُضيف عليها أفكاري وآرائي وشيئًا من تجاربي ومما اطّلعت عليه، وتتحوّل بذلك إلى محتوى كتابي وبصري. وأطمح دائمًا إلى أن أصنَعُ محتوى متجذّر من اهتماماتي دون المُبالغة أو الدخول في مجالات لا أفقه فيها شيئًا، وتتمثّل اهتماماتي في الهوية العُمانية، والثقافات والحضارات، والفن الإسلامي والعمارة، بالإضافة إلى الاتصال التسويقي وتفرّعاته. وأرى أنه مهما تشابَكت الأفكار فإنها تلتقي في النهاية وتصبّ في مسار واحد، لذا أسعى دائمًا لأن يكون لمحتواي هدف مرتبط بي ويمثل أفكاري دون تصنّع أو مثالية، وأحب دائمًا أن تكون للمتابعين إضافة في محتواي؛ نتشارك المعلومات والأفكار. ورسالتي ببساطة تتمثل في محاولة بناء جسر بين الأجيال، كما أحرص دائمًا على أن يكون محتواي مُبسّطًا مؤنسًا غير معقد ويصل لكل الفئات العُمرية، مع أهمية أن يكون بصريا، ويواكب الاتجاهات البصرية الحديثة للمنصات، وطبعًا بما لا يُخالف الهوية العُمانية الأصيلة التي نُحب".
تجارب تستحق التحفيز
أما أميرة الغافرية فعبّرت عن رأيها قائلة: للمرأة العمانية إسهامات واضحة وملموسة فيما يتعلق بصناعة المحتوى الرقمي بكافة أنواعه، تميزت وحصدت الجوائز في مختلف المحافل بفضل اجتهادها وسعيها لإضافة بصمة في المجال، كما أن الثراء الفكري والإرث والثقافة العمانية عوامل مكّنتها من صناعة محتوى فريد ومختلف، وقدرتها على الإشارة وتضمين ذلك في محتواها سواء بشكل مباشر أو ضمني ساهمت في الترويج لسلطنة عمان ودعم بعض الحملات والمبادرات والبرامج المحلية والخارجية، وكذلك تصدير الثقافة العمانية بكل ما تحمله من ثراء للخارج، كما مثّل المحتوى الذي قدمته منبرًا وصوتًا للشارع يُحاكي قضاياه وتحدياته، سُلط الضوء عليها عبر مواد مرئية ومسموعة ومكتوبة، ووصلت للجمهور للتوعية وللمسؤولين لاتخاذ ما يلزم.
وأضافت: المرأة العمانية أثبتت نجاحها في صناعة المحتوى الهادف فهناك تجارب واعدة وجديرة بالتشجيع وتستحق الدعم لتحفيز المزيد من صانعات المحتوى للانخراط في المجال والاستمرار فيه، ولدينا نماذج مُشرّفة في مجال صناعة المحتوى البصري، والمسموع، والمكتوب.
وتتطلّع الغافرية لأن يُسهم المحتوى الهادف في الإرث الثقافي لسلطنة عمان، وأن يترك أثرا نبيلا وتأثيرا لدى الجمهور والمهتمين، وأن يحظى صنّاع المحتوى بالاهتمام والتشجيع ويُقدم لهم الدعم اللازم لتصدير المحتوى الأصيل والرصين.
مصدر إلهام
من جانبها قالت شهد بنت منصور الصقرية: لطالما أدّت المرأة العمانية أدوارا شتّى في مختلف المجالات على مر الأوقات والآن تجد لها دورا حيويا في صناعة المحتوى الرقمي؛ فهي قادرة على المزج بين الحداثة والمحافظة على هويتها، حيث نعيش في زمن سريع التغير، ولكن المرأة العمانية تجد طرقًا مبتكرة لربط ماضيها بحاضرها.
وترى الصقرية أن المحتوى الرقمي يعد وسيلة فاعلة للتعبير عن القيم ومشاركة اليوميات التي قد تصل إلى شريحة واسعة من المجتمع داخل وخارج سلطنة عمان، كما أن المرأة العمانية تعكس هذه الروح "الشغوفة والمحافظة" في آن؛ فهي قادرة على إحداث تأثير واضح مع البقاء وفية لجذورها.
وأضافت الصقرية: "المرأة العمانية كانت دائما جزءا لا بديل عنه في المجتمع، سواء في الحياة الواقعية والآن بطبيعة الحال في الحياة الرقمية. من خلال المحتوى الذي أقدمه في مجالي، أحاول أن أُظهر اهتماماتي المتعددة "كعاملة حرّة، وأُم" وأن يعكس محتواي القيم التي نؤمن بها كأفراد ومجتمع عُماني. ولا شك أن أغلب النساء العمانيات اللاتي يستخدمن المنصات لدعم المبادرات المجتمعية وتعزيز القيم الأسرية، أرى أن هذا الدور أصبح أكثر قوة في العالم الرقمي، وأحب كوني مساهمة في توعية الناس بالوسائل المتاحة، ليس فقط بالمواضيع المهمة، بل أيضًا في كيفية العيش بتوازن بين ما يفرضه العالم اليوم وما تربّينا عليه".
وأوضحت شهد أن النجاح في العالم الرقمي يبدأ من الإيمان بالفكرة والعمل عليها والمرونة والقدرة على التعلم المستمر أيضًا من العوامل المهمة؛ فالمرأة العمانية تعرف كيف تتكيف مع التقنيات الحديثة وتستخدمها لإيصال رسائلها، كما أن الدعم المجتمعي والعائلي الذي نحصل عليه يعطينا الثقة للتقدم، هذا بالإضافة إلى الفرص المتاحة أمامنا في هذا العصر، سواء من ناحية الوصول إلى جمهور أوسع أو القدرة على إحداث تغيير حقيقي.
وذكرت: "أتمنى أن يكون المحتوى الذي أقدمه مصدر إلهام للنساء والشباب على حد سواء، حيث يمكنهم أن يروا من خلاله كيف يمكننا الحفاظ على هويتنا والانفتاح على العالم على حدٍ سواء -لا إفراط ولا تفريط- وأن أكون جزءا من حركة تسهم في تمكين المرأة العمانية وتعزيز الثقة بالنفس، سواء في المجال الرقمي أو في الحياة اليومية. هدفي هو أن أترك بصمة تركز على أهمية القيم العائلية، وفي الوقت نفسه، فتح الأبواب أمام الإبداع والابتكار".
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صناعة المحتوى الرقمی الحفاظ على الهویة المرأة الع مانیة فی صناعة المحتوى المرأة العمانیة المحتوى الذی من خلال أن یکون دائم ا کما أن
إقرأ أيضاً:
بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة
تهيمن قناتان متوازيتان للصور على استهلاكنا البصري اليومي. في إحداهما، صور ولقطات حقيقية للعالم كما نعرفه، ففيها سياسة ورياضة وأخبار وترفيه. وفي الثانية، فوضى الذكاء الاصطناعي [أو ما يعرف بـ AI slop]، بمحتوى متواضع الجودة ليس فيه من الإسهام البشري إلا الحد الأدنى. بعض ما فيه تافه الشأن عديم المعنى، لا يعدو صورا كرتونية لمشاهير، ومناظر طبيعية خيالية، وحيوانات ذات سمات بشرية. وبعضه الآخر عرض خادش للحياء...ففيه تجد حبيبات افتراضيات لا يمكن أن تتفاعل معهن تفاعلا حقيقيا. ونطاق هذا المحتوى وحجمه مذهلان، فهو يتسرب إلى كل شيء، من صفحات التواصل الاجتماعي إلى الرسائل المتداولة على واتساب. فلا تكون النتيجة محض تشويش على الواقع، وإنما هي تشويه له.
وفي فوضى الذكاء الاصطناعي شيء جديد هو الخيال السياسي اليميني. فعلى موقع يوتيوب مقاطع فيديو كاملة ذات سيناريوهات مختلقة ينتصر فيها مسؤولو ترامب على القوى الليبرالية. وقد استغل حساب البيت الأبيض على منصة إكس صيحة إنشاء صور بأسلوب استوديو جيبلي، ونشر صورة لامرأة من الدومينيكان تبكي أثناء تعرضها للاعتقال على يد إدارة الهجرة والجمارك (ICE). والواقع أن السخرية السياسية باستعمال الذكاء الاصطناعي قد انتشرت على مستوى العالم.
فهناك مقاطع فيديو صينية من إنتاج الذكاء الاصطناعي تسخر من العمال الأمريكيين البدناء وهم يقفون في خطوط التجميع بعد إعلان التعريفات الجمركية، وقد أثارت هذه المقاطع سؤالا موجها للمتحدثة باسم البيت الأبيض الأسبوع الماضي وردا منها. فقد قالت المتحدثة: إن هذه مقاطع أنتجها من «لا يرون إمكانات العامل الأمريكي». ولإثبات مدى انتشار فوضى الذكاء الاصطناعي، كان علي أن أتأكد ثلاث مرات من أنه حتى هذا الرد نفسه لم يكن في حد ذاته محتوى ذكاء اصطناعي منفذا على عجل مختلقا خدعة أخرى لأعداء ترامب.
وليس الدافع إلى تسييس الذكاء الاصطناعي بالأمر الجديد، فهو ببساطة امتداد للبروباجندا المعهودة. ولكن الجديد هو مدى ديمقراطيته وانتشاره، وأنه لا يحتوي أشخاصا حقيقيين ويخلو من قيود الحياة الواقعية المادية، فيوفر بذلك ما لا حصر له من السيناريوهات الخيالية.
وانتشار محتوى الذكاء الاصطناعي عبر قنوات الدردشة الضخمة عظيمة الحضور، من قبيل واتساب، يعني غياب أي ردود أو تعليقات تشكك في صحته. فكل ما تتلقاه ينعم بسلطة من ثقتك في الشخص الذي أرسله إليك. لذلك أخوض صراعا دائما مع قريبة لي كبيرة السن، مطلعة على عالم الإنترنت، تتلقى سيلا من محتوى الذكاء الاصطناعي على واتساب بشأن حرب السودان وتصدقه. تبدو الصور ومقاطع الفيديو حقيقية بالنسبة لها، وترد إليها موجهة من أشخاص تثق فيهم. ويصعب على المرء حتى أن يستوعب قدرة التكنولوجيا على إنتاج محتوى يبدو حقيقيا إلى هذه الدرجة.
وبإضافة هذه القدرة إلى توافق المحتوى مع رغبات قريبتي السياسية، ستجد نفسك متعلقا به إلى حد بعيد، حتى لو اعتراك بعض من الشك فيه. فوسط الكم الهائل من القطط [في بعض الفيديوهات المختلقة]، يجري استعمال الذكاء الاصطناعي في خلق سيناريوهات سياسية، وتحسينها والوصول بها إلى درجة الكمال عبر تقديمها بلغة بصرية تؤجج الرغبة في الانتصار أو تعتمد على الشعور بالحنين.
يشير البروفيسور رولاند ماير، الباحث في الإعلام والثقافة البصرية، إلى «موجة حديثة من الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي لعائلات بيضاء شقراء، تطرحها حسابات إلكترونية فاشية جديدة بوصفها نماذج لمستقبل مشرق». وهو لا يعزو ذلك إلى اللحظة السياسية الراهنة فحسب، وإنما إلى أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي محافظ بطبيعته، بل ويقوم على حنين إلى الماضي». فالذكاء الاصطناعي التوليدي يقوم على بيانات مسبقة أثبتت الأبحاث أنها بيانات متحيزة بطبيعتها ضد التنوع العرقي، والأدوار الجندرية والميول الجنسية التقدمية، فتأتي منتجات الذكاء الصناعي بتركيز كبير على هذه المعايير.
يمكن أن نرى الأمر نفسه في محتوى «الزوجة التقليدية» [“trad wife”]، الذي لا يقدم ربات البيوت الجميلات الخاضعات فحسب، وإنما يقدم عالما رجعيا كاملا لينغمس فيه الرجال. وتغص جداول موقع إكس بنوع من المواد الإباحية غير الجنسية، حيث تلمع على الشاشة صور الذكاء الاصطناعي لنساء يوصفن بالحسن والخصوبة والخضوع. ويجري طرح سيادة البيض والاستبداد وتقديس التراتبيات الهرمية في العرق والجندر بوصفها سلة متكاملة من الحنين إلى ماض موهوم. فبات الذكاء الاصطناعي يوصف بالفعل بأنه جمالية الفاشية الجديدة.
لكن الأمر لا يكون دائما على هذا القدر من التماسك. ففي معظم الأحيان، لا تعدو فوضى الذكاء الاصطناعي محتوى فيه بعض المبالغة أو الإثارة بما يغري على التفاعل، ويوفر لمبدعيه فرصة ربح المال من المشاركات والتعليقات وما إلى ذلك. وقد تبين للصحفي ماكس ريد أن فوضى الذكاء الاصطناعي على فيسبوك ـ وهي الفوضى الكبرى على الإطلاق ـ ليست «محض محتوى غير مرغوب فيه» من وجهة نظر فيسبوك، وإنما هي «ما تريده الشركة بالضبط: فهي محتوى شديد الجاذبية». والمحتوى بالنسبة لعمالقة التواصل الاجتماعي هو المحتوى، فكلما كان أرخص، وقلت فيه الحاجة إلى جهد بشري، فذلك أفضل. وتكون النتيجة أن يتحول الإنترنت إلى إنترنت الروبوتات التي تدغدغ مشاعر المستخدمين البشريين وتؤجج فيهم أي أحاسيس أو عواطف تبقيهم منشغلين.
ولكن بغض النظر عن نوايا مبتكريه، يؤدي هذا السيل من محتوى الذكاء الاصطناعي إلى فقدان الإحساس بالواقعية وإرهاق الحواس البصرية. والتأثير العام لدوام التعرض لصور الذكاء الاصطناعي، ما كان منها تافها أو مهدئا أو أيديولوجيا، هو أن كل شيء يبدأ في اتخاذ مسار مختلف. ففي العالم الواقعي، يقف الساسة الأمريكيون خارج أقفاص سجن الترحيل. وتنصب الأكمنة لطلاب الجامعات الأمريكية في الشوارع ليجري إبعادهم. ويحترق أهل غزة أحياء. وتمضي هذه الصور والفيديوهات مع سيل لانهائي من الصور والفيديوهات الأخرى التي تنتهك القوانين المادية والأخلاقية. فتكون النتيجة ارتباكا عميقا. ولا يعود بوسعك أن تصدق عينيك، ولكن ما الذي يمكن أن تصدقه إن لم تصدق عينيك؟ فكل شيء يبدو حقيقيا للغاية وغير واقعي بالمرة، في آن واحد.
أضف إلى هذا ما نعرفه من التبسيط الضروري والإيجاز المستفز في (اقتصاد الانتباه)، وإذا بك في سيرك ضخم من التجاوزات. فحتى عندما يكون المحتوى شديد الجدية، يجري تقديمه بوصفه ترفيها، أو فاصلا، أشبه بنسخة مرئية من موسيقى المصاعد. فهل أفزعك هجوم دونالد ترامب وجيه دي فانس على زيلينسكي؟ حسنا، إليك رسم مصمم بالذكاء الاصطناعي لفانس في هيئة رضيع عملاق. تشعر بالتوتر والإرهاق؟ فها هو بلسم للعين في كوخ فيه نار موقدة والثلج يتساقط في الخارج. ولسبب ما، قرر فيسبوك أنني بحاجة إلى رؤية تيار مستمر من الشقق الصغيرة اللطيفة مع تنويعات من التعليقات التوضيحية مفادها أن «هذا هو كل ما أحتاج إليه».
وتؤدي التحورات السريعة للخوارزميات إلى إمداد المستخدمين بمزيد مما حصدته لهم معتبرة أنه مثير لاهتمامهم. والنتيجة هي أنه يستحيل ترشيد ذلك الاستهلاك حتى لأكثر المستخدمين اتزانا. لأنك تزداد انغماسا في عوالم ذاتية بدلا من الواقع الموضوعي. فتكون النتيجة انفصالا شديد الغرابة. ويضعف الشعور بالقلق والحاجة إلى العمل الذي ينبغي أن يوحي به عالمنا الممزق، وذلك بسبب طريقة عرض المعلومات. وإذن فها هي طريقة جديدة لكي نسير نياما نحو الكارثة وهي طريقة لا تقوم على نقص المعرفة، وإنما تنشأ بسبب الشلل الناجم عن تمرير كل شيء من خلال هذا النظام المشوه، فهو محض جزء آخر من العرض البصري المبالغ فيه.