رام الله- بالتزامن بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبل عام، تشير إفادات أسرى من الضفة مفرج عنهم، وتقارير مؤسسات حقوقية، إلى أوضاع هي الأسوأ على الإطلاق، غلب عليها التعذيب والتجويع والإهمال الطبي.

ووفق أسير أفرج عنه منذ أيام فإن حدة التعذيب لأسرى الضفة تراجعت قليلا الشهور الأخيرة، مقارنة مع ما كان عليه الوضع الشهور الأولى للحرب، لكنها تجددت منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، في الذكرى السنوية لبدء الحرب، وبشكل لا يقل قساوة عن بداياتها، مع استمرار التجويع والإهمال الطبي.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأمم المتحدة تنتقد سجن خصوم سياسيين في تونسlist 2 of 2مرصد حقوقي: 400 ألف فلسطيني يموتون جوعا وعطشا شمالي غزةend of list

ورغم قلة الحيلة فإن الأسرى لم يعدموا الوسيلة لمواجهة تلك الظروف ومحاولة التغلب عليها وحتى التعايش معها، وفق ما أوضحه اثنان منهم أفرج عنهما مؤخرا وتحدثا للجزيرة نت.

النطاح: تعرضنا لجولات ضرب شديدة تخللها إطلاق الرصاص يومي 1 و7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري (الجزيرة) حفلات التعذيب تعود

الأسير عمر النطاح، وهو من بلدة إذنا غربي الخليل، أفرج عنه هذا الأسبوع بعد قضائه عاما كاملا في الاعتقال، أمضى غالبيتها في سجن النقب الصحراوي جنوبي إسرائيل.

يقول المواطن إن الضرب والتعذيب بدأ الساعة الأولى للاعتقال واستمر حتى الإفراج عنه مع تفاوت في طبيعته ومدته، واصفا ظروف السنة الأخيرة بأنها الأسوأ من بين 11 سنة أمضاها متفرقة في السجون.

ووفق آخر "جولات التعذيب" يصفها النطاح بأنها كانت يومي 1 و7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري حيث انهالت وحدات القمع بالضرب الشديد على الأسرى في غرفهم "لدرجة إطلاق الرصاص المطاطي على أسرى مقيدين وإصابتهم".

أما عن أبرز أشكال التعذيب التي تعرض لها في مراكز التوقيف أيام الاعتقال الأولى، فيذكر "تعصيب العينين مع تقييد الأيدي إلى الخلف وتقييد القدمين، ثم ربط قيود اليدين والقدمين معا وإلقاء المعتقلين أرضا بحيث تكون بطونهم ووجوههم باتجاه الأرض، وإحاطتهم بالجنود ثم البدء بالضرب ركلا وبالهراوات واللكمات على الوجه وكل أنحاء الجسد بلا استثناء، على وقع ألفاظ نابية وماسة بالكرامة تتكرر في كل جولات التعذيب".

وعند الانتقال إلى سجن النقب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يذكر المواطن الفلسطيني المفرج عنه أن ضابطا -يعرفه باعتقالات سابقة- استقبله بإزالة عصبة العينين، وطلب منه أن يقرأ لافتة مثبتة على الحائط كتب عليها: أهلا وسهلا بكم في جهنم.

وكانت بداية جهنم -وفق النطاح- إجبار الأسرى واحدا تلوى الآخر على المشي إلى الوراء وهم مقيدون ومعصوبو الأعين باتجاه درج، ويتم إلقاؤهم إلى أسفله "ثم سلمونا لوحدة الكيتر القمعية وأدخلونا زنزانة وهناك بدأت رحلة تعذيبنا وكنا 53 أسيرا".

نتف اللحى

"كنا بين 5 و6 أسرى ملتحين، نتفوا لحلانا كاملة وهم يقولون: حماس داعش، مع ضرب على الوجه حتى أغمي عليّ، ولما استيقظت وجدت نفسي عريانا بالكامل، وأجبروني على الخضوع للتفتيش مع التصوير والضرب".

وتابع الأسير المحرر أن "كافة الأسرى أصيبوا بإصابات بالغة وبعضهم أغمي عليه عدة أسابيع وفقد الذاكرة، وآخرون تغيرت معالم وجوههم، دون أن يقدم لهم أي علاج، وأحدهم تعرض لضربة قوية على الأنف واستمروا في تعذيبه رغم النزيف".

ويقول النطاح إن الضرب مورس عدة مرات يوميا، مع استهداف واضح للركب والرأس والقفص الصدري والمناطق الحساسة، مستدركا أن العلاج الوحيد الذي كان يقدم لمن يتجرأ ويطلبه هو نصف حبة مسكن الأكامول لكافة الأمراض والأوجاع وتعطى مع وجبة من الضرب.

وكشف محدثنا عن إصابة نحو 80% من الأسرى بمرض "سكابيوس" الجلدي لانعدام المياه ومواد التنظيف، مشيرا إلى أن المياه -ولعدة شهور- كانت تتوفر ساعة واحدة في اليوم والليلة، وأن على الأسرى أن يتدبروا احتياجاتهم من شرب ووضوء واغتسال وقضاء الحاجة وغيرها.

وأما الطعام، فقال إن الأسرى "لم يشبعوا قط طوال العام الماضي، وما يحصل عليه 11 أسيرا طوال اليوم لا يشبع طفلا".

كيف يواجه الأسرى كل ما سبق؟

للتغلب على نقص الماء -يقول الأسير النطاح- كان يسمح لنا بحفظها في 3 قارورات سعة كل منها لتر ونصف اللتر لاستخدامها في الـ23 ساعة التي تنقطع فيها المياه، وفي حال أصبحت أربعا يعاقب الأسرى بالضرب والتعذيب.

أما للتغلب على الجوع، فيقول إن الصيام كان خيار غالبية الأسرى حيث يجمعون الوجبات الثلاث في وجبة واحدة تسد بعض جوعهم، موضحا أنه مع تحسين الطعام مؤخرا فإنه ما زال قليلا "وأغلبه 50 غراما من اللبنة، ملعقة مربى، 200 غرام من الخبز، كأس من الأرز غير الناضج يوميا".

وتحدث عن نقص في الأوزان لا تقل عن النصف لأغلب الأسرى، مشيرا إلى أن وزنه تراجع من 100 إلى 60 كيلوغراما.

من جهته، تحدث (هـ د) الذي أفرج عنه قبل أسابيع عن كيفية مواجهة الأسرى لظروف السجن، موضحا أنه رغم الضرب وصراخ الأسرى خلال التعذيب، كانت معنوياتهم عالية.

وأضاف "لا يمكن اتقاء الضرب، فمثلا عند اقتحام الغرف تنتظر كل غرفة دورها بفزع، حيث يجبر كل أسير على وضع يديه فوق رأسه ووجهه باتجاه الحائط، فلا يعرف من أين سيأتيه الضرب، وبعد انتهاء الضرب ومغادرة السجانين يجد الأسرى أنفسهم يضحكون ويرفهون عن أنفسهم بالأناشيد".

ولعل أهم سلاح لمواجهة ظروف الاعتقال -حسب الأسير المحرر- هو المعنويات العالية "فالأسرى يؤمنون بعدالة قضيتهم وأنهم أسرى حرية، فضلا عن وجود أمل بعقد صفقة تقود للإفراج عنهم جميعا" مؤكدا "كنا نحافظ على قراءة القرآن الكريم مما نحفظه، وأذكار الصباح والمساء، كنا نشعر بمعية الله كل لحظة".

آثار إصابة أحد الأسرى بمرض "سكابيوس" رغم مضي أسابيع على تحرره (الجزيرة) مواجهة الجوع

أما عن مواجهة الإهمال الطبي وانتشار مرض الجدري، وكان محدثنا أحدهم، فقال إن الأسرى حاولوا اتخاذ إجراءات وقائية منها تجنب ملامسة المصاب قدر الإمكان، وتقسيم وقت استخدام صنابير المياه والمراحيض بين الأسرى المصابين وغير المصابين، استعمال ما يتوفر من محارم كعوازل عند استخدام أدوات مشتركة، وأن يتولى الأسرى المصابون توزيع الطعام على بعضهم البعض.

وأشار إلى أن المرض الجلدي وانتشار الدمامل بلغ منه حدا لم يتمكن معه من القدرة على الحركة، لدرجة أن أحد رفاقه كان يساعده في الحركة ويناوله الطعام.

أما عن مواجهة الجوع، فيقول إنه وكثيرين كانوا يصومون أغلب الأيام، ويجمعون الوجبات الثلاث في وجبة واحدة غير مشبعة هي ذاتها الإفطار والسحور.

ويضيف أنه -أحيانا- كان يجمع طعام 5 أيام لكي يحصل على وجبة واحدة مشبعة، فكان يخلط كل أصناف الطعام معا بالخبز المتوفر ويضيف لها الماء ثم يتناول عصارتها، ويعيد الكرة أكثر من مرة، وهكذا تكون المعدة امتلأت ماء ثم يتناول ما تبقى من طعام، لكنه صدم ذات مرة بفساد الطعام.

أما عن تقدير الأسرى للوقت وخاصة أوقات الأذان، فقال إنه كان وفق الاجتهاد الذي كان يخطئ في أغلب الأحيان.

وبقي أن نشير إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت من الضفة الغربية -بما فيها القدس- نحو 11 ألفا و300 فلسطيني منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى اليوم، وفق بيان مشترك لهيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطينيين، في وقت لا تتوفر فيه معطيات عن أسرى غزة والمقدر بالآلاف.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات حريات أکتوبر تشرین الأول أفرج عنه أما عن إلى أن

إقرأ أيضاً:

كيف ولماذا طرح الفلسطينيون حل الدولة الواحدة؟ قراءة في كتاب

الكتاب: حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين
المؤلف: محمد الحلاج
تحرير وتقديم: جابر سليمان
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية


مع تراجع فرص تحقيق حل الدولتين في العقدين الأخيرين برزت الكثير من المبادرات، والمؤتمرات والدراسات، داخل فلسطين وخارجها، تناقش موضوع حل الدولة الواحدة الديمقراطية، سيما مع تقويض إسرائيل لأي احتمالية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة بتوسيع المستوطنات بشكل كبير، وفرضها نظام فصل عنصري على الفلسطينيين.

غير أن الكتاب موضوع العرض هنا لا يناقش حل الدولة الديمقراطية في السياقات الحالية، إنما استنادا إلى أفكار ورؤى سياسية من ثمانينيات القرن الماضي، سجلها الباحث والأكاديمي وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، محمد الحلاج، في العام 1982 في حوارات مع نخبة من المفكرين والسياسيين الفلسطينيين، لكنه لم ينشرها، حتى وجدها ابنه إبراهيم الحلاج في أرشيفه الشخصي بعد وفاته في العام 2017، فأرسلها لمؤسسة الدراسات الفلسطينية التي قامت مؤخرا بجمعها وتحريرها وإصدارها في هذا الكتاب. يقول الباحث الفلسطيني جابر سليمان في مقدمة الكتاب أن مقاربات الشخصيات الوطنية للدولة الديمقراطية "قد تبدو، من منظور راهن، منفصلة عن الواقع ومفرطة في التفاؤل، لكنها تعبر عن مستوى الفكر السياسي الفلسطيني في مرحلة صعود منظمة التحرير الفلسطينية وتبوئها مكانة متميزة بين حركات التحرر الوطني العالمية، خصوصا بعد قبولها عضوا مراقبا في الأمم المتحدة عام 1974، وفي أعقاب صدور قرار الأمم المتحدة الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية عام 1975". ويرى سليمان أن الأهم من ذلك أن هذه الآراء عكست مضمونا تقدميا لمشروع الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي يميز بشكل صريح بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوجيا عنصرية.

ما يحدث اليوم في غزة هو "انكشاف لجوهر المشروع الصهيوني أمام قطاعات أوسع من الرأي العام العربي والعالمي". المشروع الذي "ينكر مجرد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وينزع عنهم إنسانيتهم"، ويلتزم به مجتمع استيطاني عنصري.تركز الحوارات على مسائل أساسية مثل ماهية الحل الاستراتيجي الأمثل للقضية الفلسطينية، وإمكانية التوفيق بين مبدأ الدولة الديمقراطية وعروبة فلسطين، وما إذا كان هناك تناقض بين هذه الدولة وبنود الميثاق الوطني الفلسطيني، وعدم تجاوب القوى الديمقراطية اليهودية والعالمية مع فكرة الدولة الديمقراطية، وضرورة المرور بمرحلة حل الدولتين قبل الوصول إلى حل الدولة الديمقراطية.

طبيعة الدولة وعروبة فلسطين

عن بدايات ظهور فكرة حل الدولة الواحدة يقول محمد أبو ميزر، مسؤول العلاقات الخارجية في حركة "فتح" آنذاك، أن الحركة هي أول من طرح هذه الفكرة في العام 1968، حين بدأت تواجه الثورة على مستوى اليسار العالمي تساؤلات حول البرنامج السياسي لها، وماذا سيكون مصير اليهود، في الوقت الذي لم يكن لدى الثورة، حتى تلك الفترة، برنامجا واضحا.

ويضيف إنه بعد لقائه بعدد من مفكري اليسار الفرنسي في باريس مثل مكسيم رودنسون، وجاك بيرك، وبمساعدة من بعض رموز الثورة الجزائرية، تمت صياغة برنامج على شكل بيان، وصار يعرف ببرنامج الدولة الديمقراطية. بينما يؤكد بلال الحسن (1939 ـ 2024)، السياسي والصحافي، أن أول من طرح الفكرة كان الدكتور عبد الوهاب الكيالي في نشرة "فتح" التي كان يصدرها من لندن. لكن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين هي من قدمت إلى المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة في العام 1969 ورقة عمل بهذا الخصوص، إلا أن أعضاء المجلس رفضوا إدراج هذا الموضوع في قرارات المجلس وتوصياته، حيث انتهى الأمر بإحالته إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لدراسته بصورة أعمق، مع أنه ظل يطرح بشكل أو بآخر في الأدبيات الفلسطينية وأدبيات المجلس الوطني.

يشير سليمان إلى وجود شبه توافق في الإجابات حول نفي أي تناقض بين نصوص الميثاق الوطني وحل الدولة الديمقراطية. ويشرح الباحث داود تلحمي كيف أن الميثاق "يعرّف الشخصية الفلسطينية، ولا يتناول الجنسية، ولا يحدد من له حق العيش في فلسطين.. وكل طروحات المقاومة ترى حق اليهود الموجودين في البلد جميعهم إذا أرادوا أن يكونوا مواطنين متساوين في الدولة الديمقراطية".

أما أحمد نجم، عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية فيقول إن "الميثاق ينص على تحرير فلسطين، وليس هناك في حركات التحرير ما يقول إن التحرير يعني طرد السكان من البلد، فتحرير ألمانيا، على سبيل المثال، من النازية لم يشترط طرد النازيين منها، بل تحريرها من سلطاتهم.. تهجير الناس لم يكن أبدا جزءا من فكر الحركة الوطنية العربية أو الفلسطينية، ولم تمارسه سوى الحركة الصهيونية". إلى ذلك يرى إبراهيم أبو لغد (1929-2001)، الباحث وعضو المجلس الوطني، أن "الميثاق، في الوضع الطبيعي، يجب أن يتم تعديله، لأنه يمثل مفاهيم وقيم ومبادىْ تلائم أواسط الستينيات، وليس فقط لجعله مناسبا للدولة الديمقراطية..".

بينما يقول يوسف صايغ (1916-2004) مفكر وباحث اقتصادي، إنه غير مقتنع بجدية التناقض بين الميثاق والدولة الديمقراطية، لسببين؛ الأول أن هناك مبالغة في دلالات النصوص، والثاني أنه يمكن تعديله إذا جاء وقت الحديث الجدي عن الدولة الديمقراطية وتوحيد فلسطين. وعن التوفيق بين فكرة الدولة الديمقراطية وعروبة فلسطين يقول المفكر منير شفيق إن "فلسطين تاريخيا بلد عربي وجزء من الوطن العربي، وقد انتزعت منه صفته العربية بالقوة بعد تأسيس الدولة الصهيونية. لذلك أمامنا ثلاثة خيارات، إما أن نقبل عملية الاغتصاب، وإما أن ندعو إلى قذف اليهود في البحر والعودة إلى ما كنا عليه، وإما أن نلجأ إلى الحل الديمقراطي، ونحن اخترنا الحل الديمقراطي، فكيف يلغي ذلك ارتباط فلسطين التاريخي والإقليمي، وكيف ينفي عنها هويتها العربية؟".

حول طبيعة الدولة الديمقراطية يقول شفيق أن شعار هذه الدولة أثار الكثير من الخلافات بين الفصائل الفلسطينية بشأن مضمونها الاجتماعي، فاليساريين نادوا بدولة ديمقراطية شعبية على أساس نظام اشتراكي، ونادى البعض بالعلمانية، بينما اعترض آخرون على علمانية الدولة. ويعبّر إلياس شوفاني (1933-2018)، الباحث والمؤرخ وعضو المجلس الثوري في حركة فتح، عن تطلعه إلى مجتمع اشتراكي، ولا يرى أهمية للتمايز الديني، إنما يعتبر أن ليهود فلسطين خصوصية، كأقلية لغوية دينية. ويقول إن "الخصوصيات لا يمكن إغفالها تماما، ولكن لا يجب تكريسها على حساب القاسم المشترك. فنحن لا نريد توازنا طائفيا، ولا نريد إقامة مجتمع معزول في المنطقة على أساس أن لفلسطين وضعا خاصا كلبنان". أما كميل منصور، باحث وأكاديمي، فيرى أن مشاركة العرب واليهود في القرار السياسي، وهو الأمر الذي يتطلب التخلص من الأيديولوجيا الصهيونية، "لا يعني عدم الاعتراف برابطة دينية روحية لكل يهود العالم في فلسطين، لكن يجب ألا يترجم ذلك إلى أطماع سياسية أو حق في الهجرة الجماعية".

الحل المرحلي

لكن لماذا لم تتحول فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة إلى برنامج سياسي؟ يقول الباحث فيصل حوراني (1939-2022)، إنه "حتى اليوم (وقت إجراء الحوار) لم يقدم أي طرف برنامجا للدولة الديمقراطية، وظل الوضع في مستوى الشعار. لا نعرف كيف سنصل إلى الدولة الديمقراطية، ولا نعرف شكلها، ولا القوى التي يفترض أن تناضل من أجلها. كل هذا يدل على أن الذين طرحوه في البداية فعلوا ذلك لأسباب إعلامية لأنه يعطي وجها مقبولا للعمل الفلسطيني، واليسار قبله على مضض ليواجه به برنامجا أكثر اعتدالا، وهو برنامج السلطة الوطنية". أما أبو ميزر فيفسر خفوت الحديث عن الدولة الديمقراطية بظهور برنامج، النقاط العشر-برنامج السلطة الوطنية، الذي جاء كتعبير عن "مرحلة تراجعية" نتيجة لحرب أكتوبر ومواقف الرئيس المصري أنور السادات.

ويرى منير شفيق أن سبب إهمال شعار الدولة الديمقراطية هو "التحول إلى الحل المرحلي، الذي جاء استجابة للعلاقات الدولية المتنامية لمنظمة التحرير مع المعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز، إلى جانب محاولة مخاطبة الدول الغربية، التي لا تتجاوز في مساندتها الشعب الفلسطيني فكرة إعطائه حق تقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة في جزء من فلسطين تتعايش مع دولة يهودية في الجزء الآخر". أما صخر حبش (1939-2009) أمين سر المجلس الثوري لحركة "فتح" فيقول:" لم نتابع مسألة تفعيل شعار الدولة الديمقراطية وتوضيحه لأنه طرح في مرحلة انحسار النضال الفلسطيني، التي كانت فيها الأولوية للدفاع عن النفس" في مرحلة انتقال قواعد الثورة من الأردن إلى لبنان.

إن الكيانات الاستيطانية تلجأ إلى الدرجة القصوى من العنف عندما تستشعر خطرا وجوديا، وهذا ما يفعله نتنياهو في حرب الإبادة التي يشنها على غزة. لذلك فإن عملية "طوفان الأقصى" ربما تكون "قد فتحت الطريق أمام مسار تفكيك هذا النظام الاستيطاني..يشرح جميل هلال، باحث وقيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، تصور الجبهة لكيفية الانتقال من الحل المرحلي إلى الحل الاستراتيجي (الدولة الديمقراطية) بأنه بعد قيام الدولة الفلسطينية سيتحول الصراع إلى تصفية الصهيونية، فكريا ومؤسساتيا، بإلغاء كل أشكال التمييز ضد غير اليهود داخل إسرائيل. وعندها يطرح شعار الدولة الديمقراطية الواحدة التي تلغى فيها كل أشكال التمييز الديني والقومي. أما أبو لغد، ورغم أنه يرى أن الدولة الديمقراطية هي الحل الوحيد فإنه يقول: إذا أنشئت الدولة الفلسطينية المستقلة عن طريق التحرر الوطني، فهي محطة على الطريق (للحل الاستراتيجي)، أما إذا أنشئت في أوضاع اتفاق دولي نحن طرف فيه، فهي دولة مشروطة بشروط تمنعها من ذلك، وستكون نهاية الطريق، وستعني التخلي عن الهدف الاستراتيجي. وهذا لا يمنع قيام دولة ديمقراطية علمانية متطورة في جزء من فلسطين". ويرى عبد الجواد صالح، قيادي في منظمة التحرير، أن صعوبة التوصل إلى حل الدولة الديمقراطية هو الذي أدى إلى بروز فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة. وبقيام هذه الأخيرة سيمكن وضع حد للطموحات الإسرائيلية التوسعية، وهذا سيؤدي إلى الاقتراب أكثر من الحل الديمقراطي.

من النهر إلى البحر

يلفت جابر سليمان إلى ثلاث مجموعات تتبنى حل الدولة الواحدة، وهي ناشطة حاليا، الأولى "حملة الدولة الديمقراطية الواحدة"، أطلقها ناشطون وأكاديميون فلسطينيون ويهود في أوائل العام 2018 في مدينة حيفا. وتسعى إلى التعاون والتنسيق بين الأفراد والجماعات، داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وتعتبر أن حل الدولتين قد دفنته إسرائيل بسياساتها الكولونيالية في الأراضي التي كان يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة. والثانية "مبادرة الدولة الواحدة"، التي أطلقت في العام 2023 من قبل فلسطينيين مدعومين من حلفاء عرب ويهود، لطرح مشروع سياسي بديل لا يعترف بشرعية الدولة اليهودية من خلال حل الدولتين، ويقدم ما تعتبره النقيض الجوهري للمشروع الصهيوني، وهو الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر.

ويلفت سليمان إلى أن "المبادرة" نظمت خلال الحرب الأخيرة على غزة مؤتمرا في بروكسل تحدث فيه المؤرخ إيلان بابيه، الذي أكد في مشاركته أن الفكرة الصهيونية، ومن خلال تجسيدها في دولة إسرائيل، تمر في المراحل المبكرة لزوالها وانهيارها. أما المجموعة الثالثة "مبادرة دولة فلسطين الديمقراطية التقدمية على كامل التراب الوطني"، فأطلقتها مجموعة من الشخصيات وكوادر الحركة الوطنية الفلسطينية في العام 2008، وهي تدعو إلى تفكيك بنية الكيان الصهيوني الاستعمارية الإحلالية، وإلغاء وظيفتها الإمبريالية المتمثلة بالهيمنة على المحيط الإقليمي والقومي. وللمبادرة أمانة عامة على المستوى العالمي من شخصيات عربية وأجنبية، لخلق رأي عام عربي وعالمي داعم لهذه الرؤية.

ويقول في مقدمة الكتاب: إن العديد من التحولات الجوهرية حصلت في المشهد الجيوسياسي للقضية الفلسطينية منذ العام 1982 وحتى يومنا هذا. وما يحدث اليوم في غزة هو "انكشاف لجوهر المشروع الصهيوني أمام قطاعات أوسع من الرأي العام العربي والعالمي". المشروع الذي "ينكر مجرد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وينزع عنهم إنسانيتهم"، ويلتزم به مجتمع استيطاني عنصري.

ويضيف: إن الكيانات الاستيطانية تلجأ إلى الدرجة القصوى من العنف عندما تستشعر خطرا وجوديا، وهذا ما يفعله نتنياهو في حرب الإبادة التي يشنها على غزة. لذلك فإن عملية "طوفان الأقصى" ربما تكون "قد فتحت الطريق أمام مسار تفكيك هذا النظام الاستيطاني.. من دون المبالغة في قرب تفكيك هذا النظام.. فهو يتطلب تغييرا ملموسا في موازين القوى الدولية والإقليمية، وينطوي على عملية تاريخية معقدة ومتعددة الأبعاد ومؤلمة..". وينظر سليمان إلى شعار "فلسطين حرة من النهر إلى البحر" الذي يتردد في أنحاء مختلفة من العالم اليوم باعتباره المعادل الموضوعي لشعار" الدولة الديمقراطية الواحدة".

مقالات مشابهة

  • نادي الأسير: تأخير إطلاق الأسرى إرهاب منظم ومحاولات لقتل فرحة الحرية
  • زوجة الأسير نائل البرغوثي تتحدث لـعربي21 عن فرحها بقرار الإفراج عنه
  • عبارات حفرها الأسرى الفلسطينيون على جدران السجون الإسرائيلية قبل الإفراج عنهم
  • جيش الاحتلال يعلن تسلم الأسير الإسرائيلي هشام السيد من الصليب الأحمر
  • لهذا السبب.. القسام تسلم الأسير الإسرائيلي هشام السيد بدون مراسم؟
  • صحفي يمني يروي تفاصيل ثمان سنوات من التعذيب في سجن الحوثيين
  • مصدر مقرب من رئيس الحكومة ينفي وصف أخنوش تصريحات بركة في أولاد فرج  بـ"الضرب تحت الحزام"
  • الفتح يتغلب على العروبة بهدف نظيف.. فيديو
  • صنعاء.. مليشيا الحوثي تقتل طفلاً تحت التعذيب بعد رفضه التجنيد في صفوفها
  • كيف ولماذا طرح الفلسطينيون حل الدولة الواحدة؟ قراءة في كتاب