المرأة بصفتها ساردة للقصص الشعبية والتاريخية
تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT
كانت المرأة ولا تزال حارسة للتراث والثقافة، سواء من خلال تعليم أطفالها اللغة الأم أو من خلال الحفاظ على العادات والتقاليد داخل المنزل والمجتمع، وفي عالم متعدد الثقافات وقفت المرأة رابطًا بين الماضي والحاضر من خلال أدوارها المتعددة كأم ومعلمة، وأسهمت بذلك في نقل التراث الثقافي والتاريخ للأجيال الجديدة، وعند الحديث عن المرأة بصفتها كاتبة وساردة وحاملة للكثير من القصص الشعبية والتاريخية لترويها وتكتبها، بقيت الهوية الثقافية حيّة في أذهان الأطفال والشباب؛ فكتابة القصص ليست مجرد نقل للمعلومات، بل هي نقل للهوية بكامل تفاصيلها، والكاتبة وحدها هي التي تعرف كيف تفعل ذلك.
أكملت الكاتبة الدكتورة وفاء الشامسية الجزء الثاني من كتاب «شخصيات تاريخية» -الذي أعدته دائرة المواطنة- بعد أن أنهت الكاتبة أزهار أحمد الجزء الأول منه، في صفحات حكت عن النوخذة ماجد المشهور وثريا البوسعيدية، وقصص تناولت سيرة طبيب وحنان ومارد المصباح، والبيت الأثري، وعامر في مرباط.
وفي حوار مع الشامسية بمناسبة يوم المرأة العُمانية، سألناها عن كيفية تمكّن المرأة العُمانية من حراسة التراث الثقافي من خلال الكتابة، وعن التحديات التي تواجهها في كتابة التراث وحفظ الهوية الثقافية.
ما التحدي الأكبر الذي واجهك خلال البحث والكتابة عن هذه الشخصيات؟
دائمًا ما تكون الكتابة عن الشخصيات التاريخية، وعن التاريخ بشكل عام، عملًا شاقًا ومجهدًا؛ فالكاتب لا يكتفي بالبحث عن المعلومات الصحيحة والدقيقة، بل يولي عناية خاصة بالمعالجة الدرامية التي من خلالها يصنع الأحداث ليعيد إحياء ذلك التاريخ، ويستحضر الشخصية التاريخية في قالب أدبي مقبول، بعيدًا عن المبالغة أو التزييف.
وعندما يتعلق الأمر بتقديم القصة أو الشخصية التاريخية للطفل، يصبح الجهد مضاعفًا؛ إذ يتطلب إصدار العمل الأدبي عناية خاصة وقدرًا كبيرًا من التبسيط والتسهيل دون الإخلال بالمحتوى، مع مراعاة توافقه مع معطيات الطفل المخاطَب وقدراته، كما يجب أن تُقدّم المعلومات في قالب جميل وطريف بعيدًا عن المباشرة والأساليب التقليدية.
وإضافة إلى ما أشرتُ إليه، هناك صعوبة أخرى تمثلت في قلة المعلومات الواردة عن الشخصيات النسائية في التاريخ العُماني، إذ لا يمكننا تجاهل أن المرأة في التاريخ كان يُشار إليها باعتبارها ابنة أو زوجة أو أمًا لإحدى الشخصيات التاريخية العُمانية، وبالتالي لا نجد معلومات خاصة عنها، ويبقى ما يرد من قصص على لسان المؤرخين والمدونين لتلك الحقبة قليلًا جدًا، بالكاد يكفي للاشتغال عليه في كتابة قصة ذات عمق وبُعد تربوي ومعرفي يُشبع فضول الطفل القارئ.
****************************************************************************************************************
كيف يمكن أن تسهم هذه الشخصيات في ترسيخ الهوية العُمانية وأن تكون هذه القصص أداة قوية لنقل القيم والتقاليد اليوم؟
إن تعريف الطفل بتاريخه جزء من تأصيل هويته العُمانية، وحمايته من أية أفكار هدّامة أو هشّة مستقبلًا، وتقدم الشخصيات التاريخية نماذج يُحتذى بها، كونها تعكس الكثير من القيم التي قامت عليها الحضارة العُمانية، مثل الشجاعة، والعدالة، والتضحية، والفكر السليم، والحكمة، وهذه القيم تساعد الطفل القارئ على فهم ما يعنيه أن يكون جزءًا من هذا المجتمع، كما أن تعريف الطفل بالشخصيات التاريخية العُمانية يساعده على معرفة الأحداث المهمة، وبالتالي يُطوّر لديه مفهوم البطولة، متجاوزًا بذلك ما يراه أو يشاهده من بطولات مزيفة تُقدم له عبر شاشات التلفاز أو اليوتيوب أو غيرها من برامج الأطفال.
والكاتب حينما يقدم الشخصية، فإنه يقدمها في قالب قصصي يقوم على الأحداث التي تشوبها الصراعات، وتستند إلى الأفكار والمشاعر، وبالتالي تظهر في سلوكيات الشخصيات الواردة في القصص، ومعالجة هذه الأحداث تتطلب إظهار ما تفكر فيه الشخصية، وما تشعر به، وبالتالي بيان ردّة الفعل مع إظهار المبررات والأسباب وربطها بالنتائج، وهذه العملية برمتها تضع الطفل القارئ أمام نماذج قيمية تسهم في تعزيز منظومته الأخلاقية والفكرية والمعرفية.
****************************************************************************************************************
كيف يمكن للمرأة العُمانية أن تكون حارسة للتراث الثقافي من خلال الكتابة؟
جميل هذا المصطلح، «حارسة للتراث الثقافي»، وهذا يجعلني أستحضر ما قام به الكتّاب والأدباء والفنانون على مرّ التاريخ، فلولاهم لضاعت حكايات وقصص وتاريخ ممتد في القدم، ومن وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن المرأة عندما تمارس الكتابة، فهي تؤدي طقسًا من التفرّد الذي يستكتب روحها الحاضرة في تلك اللحظة، ملتقطة بذلك مشهدًا مليئًا بالحركة والمشاعر والأفكار، لتجعله شاهدًا في زمن قادمٍ على أنها كانت هناك.
هذا الدور الذي نمارسه بحُبٍّ ما هو إلا تدوينٌ لحاضرٍ سيكون ملكًا للأجيال القادمة، وكما يُشار دائمًا بأن الكلمة إذا خرجت من الكاتب للجمهور أصبحت ملكهم، فإنّ الكاتبة العُمانية تعي جيدًا هذا الأمر، لذلك أصبحت لا تكتب لمجرد ترف الكتابة، وإنما تكتب لترصد هذا التراث المادي بكل تداعياته الاجتماعية والنفسية والأدبية، إنها قلم قوي حاضر بكل تجلياته في مختلف الميادين، وقد تجاوزت دائرة الذاتية لتؤكد تعاطيها العميق مع جميع القضايا والأفكار من حولها.
****************************************************************************************************************
برأيك، ما التحديات التي تواجه المرأة العُمانية في كتابة التراث وحفظ الهوية الثقافية؟
لم تعد هناك تحديات حقيقية تواجه المرأة بعدما كفلت لها سلطنة عُمان حقوقًا لا حصر لها، وجعلتها النهضة الحديثة جنبًا إلى جنب مع شقيقها الرجل، كما أن تخصيص الـ17 من أكتوبر هو شاهد على تميزها وتفوقها واستحقاقها للتكريم.
لكن يمكنني القول إن المرأة قد تفرض على نفسها قيودًا اجتماعية أو فكرية تمنعها من إبداء رأيها، خصوصًا مع محدودية الموارد والدعم المؤسسي، بالإضافة إلى القيود التي تُفرض على توجهات النشر، كما أن التغيرات الثقافية السريعة في المجتمع تؤدي بدورها إلى فقدان بعض جوانب الهوية الثقافية نتيجة هذا التسارع والتواتر الذي نحاول أن نلحق بركابه.
****************************************************************************************************************
هل تؤمنين بوجود فجوة بين الجيل الجديد والقديم فيما يتعلق بالتراث والتاريخ؟ وكيف نجعل الكتابة سدًا للفجوة؟
الفجوات موجودة حتى بين أبناء الجيل الواحد، فنحن نتعامل مع بشر، ولكل إنسان خصائصه وطبائعه التي قد تتفق أو تختلف مع الآخر، وبما أن النفس البشرية لا يمكن تأطيرها بإطار معين أو تسييرها وفق منهج علمي مقنن؛ فإن الاختلافات تحدث، والفجوات تتسرّب بين الأجيال.
نحن نقف ناظرين إلى الماضي، بينما يقف الجيل الحالي متطلعًا إلى المستقبل، وما بين الماضي والمستقبل هناك حاضر لا بد أن نصنعه معًا، وهذا الأمر يحتّم علينا استنزاف كل ما لدينا من طاقات، ومن بينها طاقة الكتابة، كي يتحقق التمازج وتتقارب وجهات النظر، والإنسان بطبعه يميل إلى الحجة والبرهان والدليل، وكذلك يميل إلى القصص والحكايات المليئة بالمشاعر والأحاسيس، لذلك أصبحت الكتابة جسرًا يستلُّ من الماضي ليؤثر في الحاضر، ويسمح باتخاذ قرارات تسهم في بناء المستقبل. وفي ظل التسارع التكنولوجي الذي نعيشه، أصبح لزامًا على الكتّاب شحذ أقلامهم لإعادة كتابة التاريخ بطريقة تسهل على الأجيال فهمه، والإعادة هنا لا تعني التزوير بطبيعة الحال، بل التفسير والتحليل والمعالجة باللغة التي تضمن سدّ الفجوات الناتجة عن عدم الفهم أو القدرة على التخيل واستيعاب الدروس والعبر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشخصیات التاریخیة الهویة الثقافیة الع مانیة من خلال
إقرأ أيضاً:
كيف تنتقل سوريا من الشرعية الثورية إلى الشرعية الشعبية؟
مضى على آخر تجربة حوارية وتفاوضية بين أطراف ممثلة للسوريين من أجل بناء نظام الدولة نحو ثلاثة أرباع قرن، ففي عام 1950 كُتب الدستور الثالث للدولة، وهو آخر دستور شرعي، وقد سبقه دستوران، دستور 1930 الذي كتب في ظل الانتداب الفرنسي، ودستور 1920 الذي كتب عبر المؤتمر السوري العام، كما أن هذه هي المرة الثانية أيضًا التي يقيم السوريون مؤتمرًا وطنيًا عامًا منذ أكثر من مائة عام، كان أول مؤتمر قد عقد في مايو/ أيار 1919، وكانت فكرة المؤتمر وقتها أن يكون مجلسًا تمثيليًا للأمة السورية، وأجريت انتخابات وفق النظام المعمول به في ظل الدولة العثمانية، وشمل 85 عضوًا ثم أضيف إليهم 35 من رؤساء العشائر والطوائف.
اعتبر المؤتمر نفسه مجلسًا نيابيًا وتأسيسيًا في آن معًا، فوضع الدستور عام 1920، وأعلن الاستقلال وقيام المملكة السورية، حدث ذلك في ظل ظروف صعبة للغاية، حيث كانت الدولة العثمانية تنهار، وتسعى الدول الاستعمارية إلى تقاسم المنطقة، كما هو اليوم السوريون أيضًا في ظروف صعبة، وإن كانت مختلفة، يبدؤون حوارًا جديدًا من أجل بناء النظام السياسي للدولة من جديد، بعد حقبة مظلمة انتهت بثورة استمرت لأكثر من 14 عامًا أطاحت بالحكم الدكتاتوري عسكريًا بعد أن دمر البلاد.
إعلانكلفت قيادة العمليات العسكرية القائد أحمد الشرع برئاسة الجمهورية في المرحلة الانتقالية، بناء على الشرعية الثورية، ولقي هذا الإجراء تقبلًا واسعًا بوصفه إجراء ضرورة تمليه ظروف الفراغ القانوني، ووجد السوريون أنفسهم مرة أخرى أمام لحظة شبيهة بتأسيس الدولة نفسها، لكنهم هذه المرة أمام تأسيس نظام الدولة، ولجعل مشاركتهم في تأسيس نظام الدولة ممكنة، أصدر الرئيس الشرع في 11 فبراير/ شباط 2025 قرارًا يقضي بـ "تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني"، مؤلفة من 7 أشخاص بينهم سيدتان، "مفوضة بوضع نظام داخلي لعملها"، وبـ "معايير" اختيارها لأعضاء المؤتمر، و"ينتهي عملها بصدور البيان الختامي للمؤتمر".
صيغة المؤتمريشكل قرار تشكيل اللجنة أساسًا لفهم منظور السلطة الراهنة لدور لجنة الحوار، إذا يخلو القرار من قيود تحدد هدف اللجنة وجدول أعمالها وإطارها الزمني ومدى إلزامية مخرجات الحوار الذي ستقوده، وحدود التفويض الممنوح للحوار الوطني في الموضوعات التي سيناقشها، ويتفق هذا الإطار المفتوح الجوانب للجنة وللحوار الوطني ذاته مع التوجهات التي يذهب إليها العديد من الباحثين حول دور الحوار الوطني في الانتقال السياسي وآلية عمله، وهذا يعني أن القرار كان مدروسًا واستند إلى مشاورات وخبرات بحثية.
ويجب ملاحظة أن المؤتمر هو "مؤتمر حوار وطني" وليس "مؤتمرًا وطنيًا"، والفارق بين الصيغتين يكمن في الأهداف والتكوين، ففي حين يهدف المؤتمر الوطني إلى التمثيل الفعلي للقوى السياسية والاجتماعية لإصدار قرارات ملزمة أو رسم سياسيات عامة للبلاد، يهدف مؤتمر الحوار الوطني إلى ترميم الشرعية للسلطات الجديدة القادمة بعد النزاعات، وبشكل خاص بعد الثورات.
وفي حين يأتي أعضاء المؤتمر الوطني في الغالب عبر انتخابات أو التوافقات بين القوى السياسية، فإنه في الحوار الوطني يكون بالتعيين، ولا توجد صيغ ثابتة ولا معايير دقيقة لاختيار المشاركين في الحوار، توجد تجارب عالمية لا يمتد عمرها إلى أكثر من ثلاثين عامًا يستأنس بها، لكن الأساس في الحوار هو تحقيق أوسع نطاق لمشاركة المجتمع في تحديد مستقبل البلاد، وهذا ما يجعل نتائجه ملزمة للسلطة فيما هو محل توافق وإجماع وطني على الأقل، لأن تجاوزه سيكون مكلفًا في تآكل الشرعية، والغرض من المؤتمر أساسًا هو تعزيز الشرعية وترميمها.
إعلان اختيار الأعضاءفي حالات انتصار الثورات وسقوط النظام يظهر ميل مفاجئ وكبير للمشاركة في الهياكل السياسية، وهذه الاندفاعة التي حدثت في سوريا أيضًا الآن تضع ضغوطًا إضافية على اللجنة التحضيرية، وتزيد من صعوبة وضع قواعد مناسبة ومرضية للاختيار، خصوصًا أن الاختيار هنا غير تمثيلي بالمعنى التقليدي للكلمة، ولا توجد قواعد ثابتة في هذا المجال.
هناك فقط تجارب عديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، ولكل منها طريقتها، لكن المبدأ أن تحقيق هدف الحوار يتطلب أوسع مشاركة ممكنة في الحوار، وكلما قل عدد المشاركين في الحوار ضعف تأثيره في ترميم شرعية السلطة الجديدة القادمة عبر الشرعية الثورية.
هناك اقتراحات عدة حول عدد الأعضاء المشاركين في المؤتمر الوطني، فهناك اقتراح اعتماد القاعدة في الانتخابات البرلمانية، حيث يكون هناك ممثل عن كل 100 ألف، ما يعني أن أعضاء المؤتمر يجب ألا يتجاوز عددهم الـ250 عضوًا، وإدارة حوار لمثل هذا العدد ممكن، لكنه باعتباره تعيينًا وليس الانتخاب فإنه سيضعف قيمة نتائج الحوار، وسيكون هناك دائمًا خطر الحديث عن تحكم السلطة القائمة في النتائج عبر التعيين.
كان هنالك اقتراح أيضًا بـ1200 عضو، ولكن هذا الرقم يواجه صعوبة حقيقية في إدارة الحوار والوصول إلى نتائج، إذ من الصعب تصور إدارة حوار يضم مئات الأشخاص، إلا لو استخدمت تقنيات تكنولوجية لتسهيل التعبير عن الرأي، أو أدير الحوار على شكل ورش عمل متزامنة.
موضوع عدد المشاركين في المؤتمر يمثل تحديًا آخر، إلا أنه ذو طابع تقني مقارنة بالتحدي الأهم وهو معايير اختيار الأعضاء، إذا سيكون هذا التحدي الرئيس للجنة، هل هو على أساس الدوائر الانتخابية التي تقوم على أساس جغرافي بطبيعة الحال، أم على أساس قوى المجتمع السوري المدنية وعلى رأسها النقابات والروابط المهنية والأحزاب والتيارات السياسية، أم مزيج بينهما؟
إعلانالتصريحات الرسمية المتكررة كانت تشير إلى التمثيل الفردي، أي العضو في المؤتمر بصفته ممثلًا عن نفسه، والواقع أن التمثيل الفردي يقلل من الطعن في شرعية المشاركين، لأنهم يشاركون بالنيابة عن أنفسهم، إلا أن هذا أيضًا يقلل من مدى تمثيل آراء المجتمع في الحوار، ومع ذلك يمكن تجاوز هذه العقبة من خلال اختيار يقوم على مبدأ "من" الجهة أو الشريحة وليس "عنها"؛ أي يأخذ بالاعتبار الانتماءات السياسية والمجتمع المدني والوجهاء المحليين والزعماء الدينيين والتكوينات العرقية والدينية، وشرائح المجتمع المختلفة، وقد أشار المتحدث باسم اللجنة التحضيرية إلى هذا الاعتبار.
وحيث إن اختيار اللجنة يقوم على أساس جغرافي كما في توحي تصريحات صحفية عدة للجنة، التي أشارت إلى أن الحوار سيعقد في مختلف الجغرافيا السورية، والواقع أن هذه خطوة مهمة، لأنها تعزز أهداف الحوار، إلا أنها لكي تكون كذلك يجب أن تكون معلنة للجمهور، كما أنها ستمثل آلية معقولة لاختيار العضوية لجلسات حوارية يشارك فيها كل السوريين.
ويتطلب نجاح الحوارات المحلية تحديد أهدافها مسبقًا على نحو واضح لدى اللجنة التحضيرية، والتي من المناسب في هذه الحالة أن تتمثل في الحصول على مقترحات وأفكار حول الموضوعات الرئيسية التي يجب أن يناقشها المؤتمر والتوجهات الرئيسية، والوصول إلى قائمة بالشخصيات الأكثر كفاءة وخبرة؛ تعبيرًا عن مصالح المجتمع وتطلعاته، فالحوارات وتحديد المصالح تحتاج شخصيات نوعية، وليس مجرد انتماء للمجتمع وتكويناته.
قد يكون تحديد أعضاء المؤتمر الجامع للسوريين في دمشق بـ 1200 ملائمًا حسب النتائج المتوقعة منه، لكنه بالتأكيد رقم كبير للوصول إلى نتائج تفصيلية أكثر وشاملة، لأنه من الصعب ضبط الحوار والوصول لنتائج، فكلما كبرت أعداد المشاركين ضعفت القدرة على ضبط الحوار والوصول إلى نتائج ملموسة، لهذا يبدو من الضروري تحديد هدف المشاركين في المؤتمر بهذا الحجم بألا يتجاوز مخرجات كثيرة، أهمها التوافق على بنود إعلان دستوري، وتشكيل هيئة تأسيسية، وهيئة تشريعية، وتشكيل هيئة التأسيسية يجب أن يكون منطقيًا يضمن حوارًا منتجًا ويعبر عن مصالح وتطلعات السوريين، ويمكن أن يكون 110 أعضاء، أي عضو واحد من كل عشرة أعضاء مؤتمر الحوار الوطني.
إعلانمهمة الهيئة التأسيسية هي تشكيل دستور جديد، إذ توضع خلاصة الحوارات المناطقية بين يديها، بحيث يمكنها التفاوض والتوصل إلى تفاهمات عملية بين أطراف المجتمع، ولكن يمكن للهيئة التأسيسية أن تكون هيئة تشريعية برلمانية مؤقتة على غرار المؤتمر السوري العام عندما أعلن الدستور، وتحول إلى برلمان في أبريل/ نيسان 1920، هذا ممكن بالطبع، وبالنظر إلى العدد الكبير لأعضاء المؤتمر فإن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة للوصول لتشكيل اللجنة، وبالتالي يفترض أن تُصمم الانتخابات بحيث تقود إلى تمثيل مكونات المجتمع والمناطق بشكل متوازن.
المحاصصة المنبوذةينظر عادة إلى المجتمعات العربية والشرق أوسطية من خلال مكوناتها العرقية والإثنية، بوصفها مجتمعات متصارعة في حروب أهلية لا تتوقف منذ مئات السنين، وعلى هذا الأساس معظم الحلول التي تقدم للمنطقة هي أنظمة سياسية قائمة على المحاصصات الدينية والعرقية، ومبدأ المحاصصات لم يتم العمل به في تاريخ سوريا منذ تأسيس الدولة؛ لأنه يقتل المواطنة ويشكل نظامًا معاقًا ذاتيًا، ويُنظر الآن في سوريا إلى الحالتين اللبنانية والعراقية بصفتهما درسًا يجب ألا نخوضه مرة أخرى، لهذا السبب هناك ميل سوري عام يتلاقى في رفض المحاصصة كأساس لنظام الدولة، عبر عنه الرئيس الشرع مرارًا وذكرته اللجنة التحضيرية في أول تصريحات رسمية لها، وهي بشكل عام تعكس القناعة السائدة لدى عموم السوريين.
لكن المجتمع السوري يضم عددًا من الأقليات الدينية ومن غير الممكن ألا يكون هناك حوار وطني دون وجود أفراد يمثلون وجهة نظر ومصالح مثل هذه المكونات، فكيف يمكن الجمع بين نفي المحاصصة وتمثيل تلك المكونات، لا يبدو أن هنالك حلًا مثاليًا في هذا الموضوع، لكن التمثيل الجغرافي الذي يضم بطبيعة الحال التكوينات المختلفة يمكن أن يكون بديلًا للمحاصصة القائمة على مقاعد محددة، ويجب أن نتذكر هنا عند الحديث عن المحاصصة أننا نتحدث أيضًا عن العملية التي تؤدي إلى تحقيقها، وهي تضم المفاوضة على المقاعد وعلى آلية العمل والاعتراض إلى غير ذلك، ومع إلغاء المحاصصة يصبح التمثيل في حدود الممكن والمعقول، وتتحرر اللجنة من العديد من الأعباء التي يمكن أن يفرضها نظام المحاصصة.
إعلانيقود موضوع المحاصصة والاختيار لأعضاء المؤتمر إلى سؤال أيضًا حول إمكانية وجود أطراف مستبعدة من المشاركة مما قد يضر بالأهداف التي يتوخاها المؤتمر، مثل تنظيم قوات سوريا الديمقراطية (SDF) الذي يقوده فعليًا حزب (PYD) الكردي التابع لحزب العمال الكردستاني ولن يشارك في مؤتمر الحوار الوطني، أولًا لأنه حزب سياسي، والتمثيل في المؤتمر فردي، وثانيًا لأنه يحمل السلاح ضد السلطة المركزية، بحسب تصريح المتحدث باسم اللجنة التحضيرية للمؤتمر.
ومع ذلك فإن عدم وجود هذا التنظيم، الذي حاول احتكار تمثيل الأكراد خلال العقد الأخير لا يعني عدم وجود المكون الكردي، ولا أعضاء من تلك التنظيمات في المؤتمر، فهؤلاء سيشاركون كغيرهم في المؤتمر بحسب تمثيل المناطق، كما أشارت اللجنة في مؤتمرها الصحفي الأول في 12 فبراير/ شباط الجاري، لكن الأهم والأصعب هو استبعاد مؤيدي النظام السابق مع الحفاظ على وجود العلويين في المؤتمر، فقد يكون في معيار إعلان معاداة الثورة خلال سني كفاحها الطويلة، ما يساعد على وضعه في معايير العضوية للحفاظ على تمثيل معقول لمكونات الساحل، كما يمكن فهم هذا من عدة تصريحات لأعضاء اللجنة التحضيرية.
تكوين جدول أعمالشكلت اللجنة بدون جدول أعمال، وبدون تحديد إطار للنتائج، كما أشرنا، ولكن هدف اللجنة هو إدارة حوار وطني في كل ما يتعلق بمستقبل سوريا، ومن الصعب الاعتماد على الحوارات ذاتها لتشكيل جدول أعمال، فهذا سيضيع الكثير من الوقت والجهد، لهذا تحتاج اللجنة التحضيرية وضع جدول رئيسي بالموضوعات وتدير الحوار حولها، ولكن يتعين عليها بالتالي على أن تبقى الموضوعات مرنة وقابلة للتطوير والتغيير مع إطلاق الحوار في مراحله المختلفة.
وفي هذا السياق تصنيف الموضوعات على درجات حسب حساسيتها ودرجة الاختلاف حولها، ما يمنح الفريق ضبطًا للحوار، وتوجيهه بحيث يسهل الوصول إلى نتائج، فالمسائل المتعلقة بالدين وعلاقته بالدولة والأحوال الشخصية وهيكلية السلطة مثلًا يتوقع أن تشكل نقاشًا محمومًا، وغالبًا لا يكون بالإمكان حسم مثل هذه الملفات سوى في الهيئة التأسيسية، التي عليها أن تعد التوافقات النهائية بخصوص مواد الدستور الدائم.
إعلانإدارة حوار وطني تأخذ وقتًا، ومن المحتمل أن تأخذ شهورًا، ومع ذلك كان بالإمكان تحديد جدول زمني واقعي لإنجاز المهمة، ولكن حتى يمكن اختصار الوقت فإن مثل هذا الحوار لا يدار بدون هياكل أساسية وفرعية، كما أنه يحتاج تشكيل فريق مساند من الخبراء يمكنهم تقديم المشورة التقنية وإعداد ما يلزم لإطلاق الحوار، وتسريع العملية الحوارية وتحقيقها على وجه مناسب.
تشكيل هياكل مساعدةوحسب الأسماء المعلنة في قرار تشيل اللجنة، فإن اللجنة مؤلفة من 7 أعضاء، وهم ينحدرون من 5 محافظات من أصل 14 محافظة سورية: دمشق، حلب، إدلب، حمص، دير الزور، والسؤال الذي يفرض نفسه هو كيف يمكن معرفة المرشحين المحتملين من المحافظات الأخرى لعضوية المؤتمر؟
هذا غير ممكن بدون وجود شخصيات خبيرة بكل محافظة، وهو أمر يقتضي وضعهم ضمن هيكلية إدارة الحوار، ولأنه لا يمكن لفرد امتلاك المعرفة الكافية بالمحافظة، فقد يكون من الضروري الوصول إلى الأشخاص المعنيين والواجب مشاركتهم في الحوار عبر تشكيل لجان فرعية للمناطق، فذلك ربما أفضل الطرق لتطبيق معايير اللجنة حول الأشخاص المرشحين.
الصعوبات المتعلقة بإدارة الحوار لا تتوقف هنا، فجمع النتائج وصياغتها يحتاجان لخبرات فنية، وقواعد محددة، وهذا تحديدًا يحتاج خبرات من نوع خاص، فالمسألة ليس مجرد تسجيل آلي للآراء بل هناك طابع تقني تصمم له سجلات توثيق خاصة لتفي بالغرض من جهة، ومن جهة أخرى اتباع منهجية للصيغ تجمع الآراء دون التفريط بالفروق والاختلافات بينها سيكون أمرًا أساسيًا لنجاح المؤتمر، ويقلل الكثير من الانتقادات المحتملة لمخرجات المؤتمر.
إدارة الحوار ذاتها تحتاج مهارات، ولها طرق وأساليب تسمح بتسهيل الوصول إلى توافقات مبكرة، وبالتالي يفترض أن يخضع مديرو الجلسات الحوارية أنفسهم إلى تدريبات خاصة من قبل خبراء متخصصين في إدارة التفاوض.
إعلانهذا أمر يمكن للأمم المتحدة أن توفره، وسبق أن قامت بتدريب العشرات من المعارضة السورية في عام 2013 وما بعده، فريق إدارة الحوار يقوم بمهام مختلفة عن فرق التنظيم والدعم التي يجب أن تشكل أيضًا. وجود مثل هذه الفرق يجب أن يكون من متطوعين بحيث توسع من شعور المجتمع بالمشاركة.
أخيرًايشعر الكثيرون بأن إقامة "مؤتمر حوار وطني" يدعو للإحباط؛ لأنهم يعتقدون بأن نتائج المؤتمر غير ملزمة، ما يعني إفراغ التشاركية التي أرادت السلطة تحقيقها بالمؤتمر من مضمونها، بمعنى آخر تكريس الاستفراد بالحكم.
وعلى الرغم من أن هذه المخاوف تبدو محقة من حيث المبدأ؛ إذ لا ضمانات في الالتزام بالنتائج، غير أن حاجة السلطة القادمة عبر الشرعية الثورية إلى تعزيز شرعيتها والانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الشعبية والتجذر في المجتمع السوري وتحقيق الانتقال السياسي ستكون الضامن الأهم لالتزامها بالتوافقات والقضايا المجمع عليها في مخرجات الحوار.
وبكل الأحول لا ينبغي توقع نتائج مثالية من هذا الحوار الوطني في عملية الانتقال السياسي، إنما ثمة ما يدعو للتفاؤل بأن الخطوة الأولى لمشاركة السوريين بتحديد مستقبل بلادهم قد بدأت للتوّ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline