القطيع لم يلد بعد.. (من سنن الرعي)
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
علي بن سالم كفيتان
تمرَّغ الثور في أكوام الطين وبيوت النمل يدكها دكًا بمطرقة رأسه الصلبة، ويشتتها بقرونه القوية في كل الأنحاء، بات وجهه خليطًا من ألوان الأرض، يثوي بصوته المبحوح بشكل هستيري لينبئ أنه ما زال الذكر المُسيطر صهيله المتتالي، وقد أصبح مدُّ لسانه وانبثاقُ الدخان من فمه مألوفًا لدى القطيع، رغم صولاته وجولاته على أكوام الطين وبقايا حشرات النمل الملتحفة من برد المطر بدفء التراب.
من يُخبِر الثور العجوز أن سلالته باتت في خطر، وأن القطيع لن يلد هذا العام؟ إنها مُهمة عصية لا ينبري لها إلّا ثور آخر وهيهات هيهات أن تلد الأبقار مثله، لقد فَقَدَ السمع منذ زمن، وبات يعتمد على عينيه الجاحظتين لفهم كل ما يدور حوله، وبات خواره المُنهك منبهًا للعاملين في الحقول كل مساء بأن النهار قد أزف وحانت ساعة العودة للقرى، ينام الى جانب الموقد في حظيرته المرفّهة لينعم بالدخان الكثيف الذي يُبعد عنه الذباب المزعج في مثل هذه الأوقات من السنة، وعندما يصحو من سباته العميق تخبره البعوضة أن الأمور تسير على خير ما يرام وأن القطيع يدين له بالولاء التام، ما عدا العجول المتمردة التي وُلدت منذ أعوام ولم يتم إخراجها لترعى مع بقية القطيع.
بات حديث الثور هو حوار الساعة بين الرعاة في القرية، وكيف له الاستمرار مع كل هذا الخمول، الجميع في سبلة العصر أدلى بدلوه في الأمر؛ فحكيم القرية قال: إنه من سلالة عريقة ووجوده في القرية بات جزءًا من تراثها. واستطرد قائلًا: "كيف لنا أن نستغني عن صوته الجهوري وخطواته الواثقة"، وانهمك الجميع في ذكر محاسن هذه السلالة، وتفرد ذكورها بقيادة القطيع الى بر السلامة في مختلف الحقب والعصور، كل ذلك قادهم للإبقاء عليه والتصدي لثورة العجول المتحفزة لبلوغ المراعي الخضراء والفضاءات الواسعة والرحبة في الخارج.
هناك مثل يتداوله الرعاة باستمرار في البراري وهو "إذا حملت تلد: ثور أو عجل"، لكن يبدو أنهم هذه المرة باتوا على يقين من عدم قدوم مولود جديد على عكس فلسفتهم التي تقوم على الكثرة من أجل مواجهة الجوائح، وهي فلسفة تقود للإكثار تحت وطأة الخوف من الأوبئة التي تصيب القطعان، فتبيد معظمها وأضيف إليها هاجسًا يقوم على عدم الوثوق بالقائم، مهما كان جميلًا وحالمًا؛ ففي نظرهم هو زائل لا محالة، وستعود الحياة إلى بدائيتها مرة أخرى، فبدل السيارة والطائرة سيركب الإنسان الأنعام مرة أخرى، وسيسكن الكهوف وسيشرب من النبع، مستخدمًا قربته الجلدية التي رماها منذ نصف قرن، فقد باتوا يشمتون في المؤمنين بالحداثة والمنخرطين في أتون المدنية التي أعادت الإنسان لمربع الشمس والريح وقوة الماء.
دعونا نحلم بولادات جديدة بعيدًا عن أفكار الرعاة المتشائمين.. دعونا نطلق العجول المحبوسة منذ سنين إلى المراعي لتتقاسم الماء والكلأ مع قطعان أصحاب دكة العصر.. دعونا نحلم بموت رحيم لثور القرية العجوز.. دعونا نحلم بعودة الحياة إلى صفائها وبهائها وعدلها الفطري ... ستجدد الدماء وتتلاشى السلالات، وستنتخب الطبيعة أجيالًا قادرة على الصمود وابتكار الحلول، مثلما فعل الأجداد الذين قهروا صعوباتهم، وأصبحوا أبطالًا في عالم الأحفاد، ستكتشفون أنهم يتخطون كل الصعوبات ويجدون الحلول لكل التحديات.. اتركوا الحياة تجلدهم والأيام تصقل أفكارهم، سيذهبون للعدم، ويصنعون الكمال، فقط امنحوهم الفرصة، ولا تفكروا نيابة عنهم، ولا تحرسوا أحلامهم بترسانة محاذيركم التي تحمي مصالحكم وتئد طموحاتهم!
ساد صمت عميق كل الأرجاء وبات الرعاة على موعد مع حفل تأبين الذكر المسيطر الى الأبد لقد اتخذوا القرار بإزاحته من رأس الهرم بمخطط بسيط وفكر قديم، لم يكن المخططون الاستراتيجيون في القرية يضعون له حسابًا، فطويت الأسطورة، والأمهات ستلد مُجددًا، ولن تتوقف عجلة الزمن... سيحتفل الرعاة بانتصارهم، على الموقد مع معزوفة الخلود لرزيم الإبل وصوت راعي الغنم القادم من بعيد، يدعو قطيعه للاستمتاع بالرعي الوفير مجددًا.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العوامل التي قادت تونس إلى تراجع استثنائي
يسودُ شبه إجماع في تونس على أن البلاد تعيش وضعًا استثنائيًا بكل المقاييس، بسبب ما حصل يوم 25 يوليو/تموز 2021، حين وقع الانقلاب على النظام السياسي الذي تم التوافق عليه بعد نجاح الثورة وسقوط نظام زين العابدين بن علي عام 2011. وإذ تبدو أعراض هذا الوضع الاستثنائي متجلية في مختلف المجالات، فإن تداعياته السلبية على الدبلوماسية التونسية والسياسة الخارجية لا تخطِئها العين.
يدرك كل العارفين بالتاريخ المعاصر لتونس منذ الاستقلال بل وحتى قبله، ما تتسم به دبلوماسيتها من حيوية نشطة، وانفتاح إيجابي، وحركية دائمة، ليس فقط من أجل تقديم صورة أفضل عن نفسها، أو استجلاب مصالح ممكنة، وإنما أيضًا بما تلعبه من دور الوسيط لحل أزمات ونزاعات بين بلدان، أو بتقديم مبادرات وتصورات بأفق دولي عبر المنابر الأممية.
وتواصل هذا الزخم الدبلوماسي بشكل واضح وجلي في عهدَي الرئيس الحبيب بورقيبة، ثم زين العابدين بن علي، رغم الطبيعة الاستبدادية لنظام حكم الرجلين. بل راهن كلاهما على دبلوماسية نشطة، وانفتاح دبلوماسي واضح من أجل إعطاء صورة إيجابية عن تونس، وحرِصا على تقديم صورة لامعة عن حكميهما.
هذه السمة التونسية للتألق الدبلوماسي والانفتاح (بغض النظر عن الدوافع والخلفيات)، تعززت بشكل ملحوظ مع ثورتها في 2010 – 2011، عندما تحوّلت تونس إلى مهد للثورات العربية، مدشنة حقبة جديدة في التاريخ السياسي للمنطقة. وظلت تونس على مدى عقد من الزمن محط أنظار العالم بتجربتها السياسية، وانتقالها الديمقراطي، وديناميكية تحول لافتة ومثيرة للإعجاب والاهتمام.
إعلانوعرفت البلاد خلال عقد دبلوماسية نشطة غير مسبوقة، انفتاحًا على كل الفضاءات الإقليمية، والأفريقية، والآسيوية، والأوروبية، والأميركية، حيث تبنّت منظومة الحكم الجديدة القادمة بعد الثورة دبلوماسية تقوم على التنويع والتعزيز والتوسيع للنشاط الدبلوماسي، بما يحوّل تونس إلى قطب يستقطب المهتمين، تعاونًا وشراكة واستثمارًا.
وظلت تونس لعقود طويلة، بفضل دبلوماسيتها النشطة، يُحتفى بها وبصورتها المعتدلة المنفتحة، وينظر إليها دومًا كمثال يمكن الاستفادة منه في اجتراح تجارب عربية مماثلة.
بيد أنّه منذ 25 يوليو/ تموز 2021 وسيطرة الرئيس المطلقة على مفاصل الحكم، تبدو هذه الصورة التي اكتسبتها تونس على مدى عقود، في ظل تكريس سياسة الانفتاح، وتجنب الاصطفافات الإقليمية والدولية، وعدم التورّط في خطابات منحازة أو متحيّزة، تبدو هذه الصورة قد تبدّدت وتراجعت بشكل متسارع، وغير مسبوق.
ومع تراجع تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وما عرفه هذا المسار من انتكاسة، بعد أن كان محط اهتمام وإعجاب خارجي لسنوات، ووقوع البلاد تحت سلطة الحكم الفردي بقيادة قيس سعيد، وما صاحبه من خطابات متوترة، تجاه الداخل والخارج على حد السواء، تبدد الاهتمام بتونس، ولم يعد ما يثير الإعجاب أو الاهتمام فيها، لا سيما بعد اعتبر الكثير أن ما حصل على المستوى السياسي من ردة سياسية، يمثل عودة تونس لنادي الدكتاتوريات العربية.
وتعمّق هذا التراجع بما يصدر من خطابات رسمية من رأس السلطة في تونس، ينطوي على الكثير من التحريض والتخوين للقوى السياسية، والاتهامات لها بالعمالة والتآمر مع الخارج، إلى جانب الاتهامات المتكررة والمتصاعدة لقوى خارجية بالتآمر على البلاد والتدخل في شؤونها، ما خلق حالة من عدم الثقة، وصعوبات حقيقية لدى الدول والجهات الخارجية في التعامل مع الحكم في تونس.
إعلانفمثلًا بسبب الخطاب والسياسات الرسمية تجاه قضية المهاجرين غير النظاميين الأفارقة، والتي سقطت بوعي وبدون وعي في الكراهية والتحريض وحتى العنصرية، ضد المهاجرين الأفارقة، وصلت العلاقات التونسية الأفريقية إلى مستوى متدنٍ وغير مسبوق، بعد أن كانت لتونس علاقات متميزة واستثنائية مع كل بلدان القارة الأفريقية.
ووصل الفشل الدبلوماسي بسبب هذا الملف إلى حد صدور مواقف دولية وأممية تدين وتستنكر الخطاب الرسمي التونسي تجاه الأفارقة، وتعتبر انزلاق الدبلوماسية التونسية إلى خطابات العنصرية والتحريض على الكراهية، ليس فقط مقلقًا، وإنما هو انحراف خطير عن قيم التسامح والتعايش والانفتاح التي كانت تتبناها تونس في سياستها الخارجية ودبلوماسيتها المنفتحة والهادئة والمتوازنة.
ووصل تدهور الدبلوماسية التونسية إلى المسّ بالعلاقات المتينة والمتميزة، التي تربط تونس بمحيطها المغاربي، حيث تم تسجيل توتر غير مسبوق ومتمادٍ مع الجارة الشرقية ليبيا، أغلقت بمقتضاه الحدود البرية عديد المرات. وأُطلقت تصريحات غير محسوبة من أعلى مستوى رسمي تعمّق وتربك العلاقات، وتهز الثقة المتبادلة بين البلدين.
وشهدت العلاقات التونسية مع المغرب في عهد قيس سعيد مستوًى خطيرًا وغير مسبوق من التوتر والقطيعة، وصل حد سحب السفراء، مع تراشق إعلامي متعمدٍ، عمّق توتر العلاقات. وكان لانزياح الموقف التونسي من النزاع حول الصحراء، من الحياد البناء، والدور الإيجابي في تحفيز التعاون المغاربي، إلى موقف اختار فيه قيس سعيد استقبال زعيم البوليساريو في مطار قرطاج الدولي، ثم في القصر، إلى جانب استقبال تونس وفودًا صحراوية من البوليساريو في موقف لم تعهده تونس منذ استقلالها، عوامل أساسية في تدهور العلاقة مع الرباط.
بينما كانت تونس تحتفظ بعلاقات متميزة جدًا مع المغرب، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حيث يحمل أهم شارع في العاصمة التونسية اسم الملك المغربي الراحل محمد الخامس. كما كانت العلاقات بين الحبيب بورقيبة والملك المغربي الراحل الحسن الثاني متميزة. ولا ينسى التونسيون التصريحات التاريخية التي عبر عنها الملك الحسن الثاني بعد الأحداث الأمنية في مدينة "قفصة" التونسية في 1980، عندما قال الحسن الثاني إن المملكة جاهزة للتدخل عسكريًا للحماية والدفاع عن تونس.
إعلانوحتى على المستوى العربي، لا نكاد نلحظ حضورًا معتبرًا للدبلوماسية التونسية، فالرئيس التونسي يغيب تقريبًا عن جل القمم الإقليمية والدولية، حتى بدت تونس ذات حضور باهت في هذه المناسبات الإقليمية والدولية، سواء الأفريقية منها أو العربية أو الأممية.
ويمثل هذا التراجع في أداء الدبلوماسية إلى ما يشبه الغياب، ليس ،فقط، ضررًا حقيقيًا لصورة تونس التقليدية ومكانتها المعتبرة في المحافل الدولية والإقليمية وإنما أيضًا، هو تفويت لمصالح وفرص معتبرة، كثيرًا ما حققتها تونس من خلال دبلوماسيتها النشطة والفاعلة.
كما يتناقض هذا الانكفاء الدبلوماسي، مع السمت التقليدي للبلاد التونسية، المعروف بالاعتدال، موقعًا جغرافيًا، وتجربة سياسية، وحضورًا ثقافيًا، وإرثًا حضاريًا. إذ يُنظر لهذا المزاج العام المعتدل الذي تتسم به تونس، باعتباره رصيدًا مهمًا في تعزيز مكانتها، وتثمين دورها، وتأهّلها للعب أدوار دبلوماسية متقدمة.
ويبدو أن هذا الضمور الدبلوماسي حد الانكفاء والغياب للسياسة الخارجية التونسية، راجع إلى حد كبير إلى عاملين أساسيين.
العامل الأول هو المركزية المفرطة لطبيعة منظومة الحكم الحالية التي كرسها الرئيس قيس سعيد، واختزل فيها، الحكم وإدارته في شخص الرئيس. وإذ كرّس الرئيس هذا النظام الفردي المطلق، بدا في نفس الوقت زاهدًا وغير متحمس للعب أي دور دبلوماسي نشط وحيوي، وغير مُتبنٍّ سياسة خارجية منفتحة.
ويتجلى هذا الموقف الدبلوماسي المنكفئ، واضحًا، في ندرة الجولات والزيارات الخارجية لرئيس الجمهورية، وأيضًا قلة زائريه من القادة العرب والأفارقة والدوليين.
وقد حرمت منظومة الحكم الفردية تونس من الاستفادة من إرثها الدبلوماسي الثري، من تفعيل دبلوماسية حيوية متعددة الواجهات، ومتنوعة المجالات. إذ يبدي الرئيس تحفظًا واضحًا ينتهي بإقالة كل من يظهر اجتهادات وتميزًا خارج المنظور الذي يريده كمهندس وحيد وأوحد لكل سياسات الدولة الداخلية والخارجية.
إعلانوتبدو البلاد اليوم تسير على غير رؤية في سياستها الخارجية، وهو ما يفسر التراجع الكبير في الدبلوماسية التونسية، وعدم قدرتها على تعهد القديم من العلاقات التقليدية، التي تردّت برودًا وتوترًا في الكثير منها، بينما لم يحدث أي اختراق في توسيع أو تعزيز في حجم ومستوى العلاقات الخارجية لتونس.
أما العامل الثاني وراء هذا الانكفاء الدبلوماسي، فيعود للموقف الخارجي الذي يبدو إلى اليوم وبعد حوالي أربع سنوات على الحكم المطلق لقيس سعيد، غير قادر على بلورة فلسفة للتعامل مع منظومة الحكم الجديدة التي كرّسها قيس سعيد.
ويعود ذلك إلى غياب ملامح واضحة لهذه المنظومة، التي تتسم فضلًا عن تكريسها للحكم الفردي، بأنها تصدر عن خطاب شعبوي مُتمادٍ، يكثّف الشعارات الشعبوية في بُعديها الوطني والخارجي، بينما تغيب السياسات والمخططات والبرامج الواضحة في إدارة الحكم.
من يدرك أهمية وحيوية صورة تونس الخارجية، والتي كانت تمثل دومًا أحد معالم هويتها وقوتها وتألقها، فسيقف عند أهمية الحاجة لاجتراح دبلوماسية نشطة وفاعلة، وتثوير الإرث الحضاري والثقافي للبلاد، بما يعكس أهميتها الإستراتيجية، ويستعيد الصورة الإيجابية عنها، والتي تجعل تونس من البلدان الجاذبة، وفي قطب الاهتمام الإقليمي والدولي، استثمارًا وسياحة وتعاونًا وشراكة.
ولا يبدو نظام الحكم الراهن في تونس، قادرًا على إدراك أو فعل ذلك. وهذا يهدد بتفويت فرص كثيرة، وضياع مصالح متوقعة، وتبديد رصيد دبلوماسي حيوي تراكم عبر عقود وحقق مكاسب معتبرة باتت اليوم مهددة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline