جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-01@11:31:55 GMT

القطيع لم يلد بعد.. (من سنن الرعي)

تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT

القطيع لم يلد بعد.. (من سنن الرعي)

 

علي بن سالم كفيتان

تمرَّغ الثور في أكوام الطين وبيوت النمل يدكها دكًا بمطرقة رأسه الصلبة، ويشتتها بقرونه القوية في كل الأنحاء، بات وجهه خليطًا من ألوان الأرض، يثوي بصوته المبحوح بشكل هستيري لينبئ أنه ما زال الذكر المُسيطر صهيله المتتالي، وقد أصبح مدُّ لسانه وانبثاقُ الدخان من فمه مألوفًا لدى القطيع، رغم صولاته وجولاته على أكوام الطين وبقايا حشرات النمل الملتحفة من برد المطر بدفء التراب.

. لن تكون هناك مواليد جديدة لأنه بات مشغولًا بتفريق أكوام الطين ليخلد ذكراه عليها، ولا يعلم أن كل واحدة من تلك البيوت الواهنة عبارة عن بقايا شجرة معمرة أكلها الزمن وفتتها تلك الحشرات الصغيرة لتصنع منها بيتًا يقودها لسراديب العمق المظلم؛ حيث الدفء والمؤونة في أوقات المطر والريح.

من يُخبِر الثور العجوز أن سلالته باتت في خطر، وأن القطيع لن يلد هذا العام؟ إنها مُهمة عصية لا ينبري لها إلّا ثور آخر وهيهات هيهات أن تلد الأبقار مثله، لقد فَقَدَ السمع منذ زمن، وبات يعتمد على عينيه الجاحظتين لفهم كل ما يدور حوله، وبات خواره المُنهك منبهًا للعاملين في الحقول كل مساء بأن النهار قد أزف وحانت ساعة العودة للقرى، ينام الى جانب الموقد في حظيرته المرفّهة لينعم بالدخان الكثيف الذي يُبعد عنه الذباب المزعج في مثل هذه الأوقات من السنة، وعندما يصحو من سباته العميق تخبره البعوضة أن الأمور تسير على خير ما يرام وأن القطيع يدين له بالولاء التام، ما عدا العجول المتمردة التي وُلدت منذ أعوام ولم يتم إخراجها لترعى مع بقية القطيع.

بات حديث الثور هو حوار الساعة بين الرعاة في القرية، وكيف له الاستمرار مع كل هذا الخمول، الجميع في سبلة العصر أدلى بدلوه في الأمر؛ فحكيم القرية قال: إنه من سلالة عريقة ووجوده في القرية بات جزءًا من تراثها. واستطرد قائلًا: "كيف لنا أن نستغني عن صوته الجهوري وخطواته الواثقة"، وانهمك الجميع في ذكر محاسن هذه السلالة، وتفرد ذكورها بقيادة القطيع الى بر السلامة في مختلف الحقب والعصور، كل ذلك قادهم للإبقاء عليه والتصدي لثورة العجول المتحفزة لبلوغ المراعي الخضراء والفضاءات الواسعة والرحبة في الخارج.

هناك مثل يتداوله الرعاة باستمرار في البراري وهو "إذا حملت تلد: ثور أو عجل"، لكن يبدو أنهم هذه المرة باتوا على يقين من عدم قدوم مولود جديد على عكس فلسفتهم التي تقوم على الكثرة من أجل مواجهة الجوائح، وهي فلسفة تقود للإكثار تحت وطأة الخوف من الأوبئة التي تصيب القطعان، فتبيد معظمها وأضيف إليها هاجسًا يقوم على عدم الوثوق بالقائم، مهما كان جميلًا وحالمًا؛ ففي نظرهم هو زائل لا محالة، وستعود الحياة إلى بدائيتها مرة أخرى، فبدل السيارة والطائرة سيركب الإنسان الأنعام مرة أخرى، وسيسكن الكهوف وسيشرب من النبع، مستخدمًا قربته الجلدية التي رماها منذ نصف قرن، فقد باتوا يشمتون في المؤمنين بالحداثة والمنخرطين في أتون المدنية التي أعادت الإنسان لمربع الشمس والريح وقوة الماء.

دعونا نحلم بولادات جديدة بعيدًا عن أفكار الرعاة المتشائمين.. دعونا نطلق العجول المحبوسة منذ سنين إلى المراعي لتتقاسم الماء والكلأ مع قطعان أصحاب دكة العصر.. دعونا نحلم بموت رحيم لثور القرية العجوز.. دعونا نحلم بعودة الحياة إلى صفائها وبهائها وعدلها الفطري ... ستجدد الدماء وتتلاشى السلالات، وستنتخب الطبيعة أجيالًا قادرة على الصمود وابتكار الحلول، مثلما فعل الأجداد الذين قهروا صعوباتهم، وأصبحوا أبطالًا في عالم الأحفاد، ستكتشفون أنهم يتخطون كل الصعوبات ويجدون الحلول لكل التحديات.. اتركوا الحياة تجلدهم والأيام تصقل أفكارهم، سيذهبون للعدم، ويصنعون الكمال، فقط امنحوهم الفرصة، ولا تفكروا نيابة عنهم، ولا تحرسوا أحلامهم بترسانة محاذيركم التي تحمي مصالحكم وتئد طموحاتهم!

ساد صمت عميق كل الأرجاء وبات الرعاة على موعد مع حفل تأبين الذكر المسيطر الى الأبد لقد اتخذوا القرار بإزاحته من رأس الهرم بمخطط بسيط وفكر قديم، لم يكن المخططون الاستراتيجيون في القرية يضعون له حسابًا، فطويت الأسطورة، والأمهات ستلد مُجددًا، ولن تتوقف عجلة الزمن... سيحتفل الرعاة بانتصارهم، على الموقد مع معزوفة الخلود لرزيم الإبل وصوت راعي الغنم القادم من بعيد، يدعو قطيعه للاستمتاع بالرعي الوفير مجددًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الشجاعة التي انتظرت طويلا

اختصر المتحدث باسم حماس أسامة حمدان في منتدى الجزيرة بالدوحة الأمر على كل التخرّصات: "نحن منتصرون ونحكم ومن رغب أن يكون وكيلا للعدو سيعامل معاملة وكيل العدو". ثم ختم: "أمر الطوفان ونتائجه تحتاج فقط شوية شجاعة".

يمكننا كتابة مقالات كثيرة في وضوح العبارة عند قيادات حماس وقدرتها على التعبير عن مواقفها وخططها ولكن ليس هذا موضوع الاهتمام، هنا نرغب أن نقول: تلك الشجاعة التي انتظرت طويلا أمر عسير على قوم تربوا على أن العدو الصهيوني قدر إلهي سلط عليهم فصار احتماله جزءا من الإيمان بالقدر، وصار وجوده شرط وجود وبقاء للأنظمة التي أعانت على غزة ولا تزال تقاول لتحل وكيلا للعدو. الخيال يا أسامة.. الخيال الذي يرى النصر فيبني عليه كما فعل إخوتك؛ ينقص هؤلاء القوم. كيف يُصنع الخيال المنتصر؟ هذا مصنع لا وجود له خارج غزة.

بلا فلسفة بلا بطيخ

هذه ليست دروسا فلسفية للمقاتل إنما هي تذكير. بحسبة بسيطة لا تحتاج خبراء الاستراتيجيا خاصة أولئك الذين يظهرون في التلفزيونات لملء فراغات الأخبار؛ حرب الطوفان صفعت العدو صفعة أذهبت عقله فهو مذهول. هذا معطى وقع بين أيدي الأنظمة العربية وبالمجان، فلم تدفع فيه فلسا واحدا ولا جنديا صغيرا، قدمته لهم حماس من غزة وتكفلت بالثمن وحدها. ويفترض نظريا أن يستغلوا الضربة الذي أذهبت عقل العدو فيضغطون عليه ما يخدمهم في أقطارهم قبل أن يخدم حماس وجمهورها الماكث في العراء جائعا حافيا.

دعنا نتظاهر بتصديق دعواهم أن الكيان عدو لا يمكن أن يكون صديقا، وأن اتفاقيات السلام كانت ضرورة لتحييده وكف أذاه.. هذا الكيان الآن في وضع هشاشة كبير عسكريا وأخلاقيا، وهناك وعي عالمي بطبيعته العنصرية وقد فقد الكثير من الأنصار، وهذا ظرف مناسب للضغط عليه. ولا نتحدث عن حرب أو تحريك قوات، بل عن التصرف باتجاه المقاومة بما يوسع أثر انتصارها ويشد أزرها في محلها الغزاوي وفي جوارها القطري، أي أن لا تسلك الأنظمة مسلك من يحاول إنقاذ العدو.

إنه وقت مناسب لابتزاز العدو وابتزاز داعميه والتلدد في كل فعل يساعدهم على البقاء في وضع القوة والهيمنة على المنطقة وقدراتها البشرية والمادية، والنتيجة لصالح الأنظمة قبل أن تكون لصالح المقاومة التي قاومت بفقرها مستغنية عن الأنظمة. لنبسطها على طريقة عباس المخذول؛ اطلبوا ثمنا أعلى لهوانكم فقد قدمت لكم حماس وغزة وسيلة، وهنا أعني نظامي الجوار القريب قبل البعيد. لماذا هذه الذلة بلا ثمن؟ الأمر لا يحتاج فلسفة سياسية، إنه سوق مواقف ومكاسب والأرض مهيأة لطلب المزيد، اطلبوا فالعدو مكسور.

لن يطلبوا نصرا من أثر نصركم ولا حتى مكاسب محلية، لا يمكنهم تخيل العالم وليس فيه كيان غاصب يذلهم ويستهين بكرامتهم فيعاملهم معاملة العبيد الآبقين أمام المدفأة. إنهم لا يشعرون بالإهانة لأنهم يفتقدون إلى الكرامة، لا يشعرون بالذل عندما يرون شعوبهم جائعة ومفقرة ومقموعة. العكس تماما، إن ذلة شعوبهم تسعدهم، لذلك يستطيبون ما يفعله بهم عدوهم الذي لا يمس سلامة أجسادهم بل يحميهم من شعوبهم ويسمح لهم بمتع الحكم.

لا يمكن لخيالهم أن يذهب خارج هذا الموقع المريح لهم فيرون شعوبا حرة وقوية ومستقلة عن كل اضطهاد، ويرون أنفسهم حكاما محبوبين ومرحب بهم في الساحات دون حراسة، يحكمون بما يرضي شعوبهم فيسعَدون ويُسعِدون (هذه اسمها الديمقراطية، وقد طرقت أبوابهم فنفوها عنهم كما ينفى البعير الأجرب).

خيالهم رفض الديمقراطية ذات ربيع عربي وخيالهم يرفض نصر الطوفان؛ لأن جميع هذه الوقائع تنتهي بالحريات وامتلاك القوة السياسية في مواجهة العالم، خيالهم يذهب فقط في إعادة أسباب ذلتهم بنصرة العدو على المقاتل المنتصر المزعج.

إن خيالهم القاصر يملي عليهم: "كيف لهذا المقاتل أن يغير الخريطة؟ لا حق له في ذلك". لقد استقر الوضع لهم وهذا المقاتل جاء يعيد تفكيك الصورة ليعيد تركيبها على قواعد المنتصرين، إنهم يرفضون ذلك لأنهم عاجزون عن تخيل ما وراءه. هذا الخيال غائب، وهو غائب أيضا عند الشعوب التي نصرتكم من وراء الحواسيب.

لا تثقوا في حواسيبنا الجديدة

نحن الشعوب ضمائرنا مرتاحة بفضل أدعيتنا الكثيرة، بعضنا تقدم خطوة بالمساعدة المادية وهو جهد المقل المشكور، لكن خيالنا لم يذهب إلى أبعد من ذلك أفرادا جماعات سياسية. لقد تجلت لنا صورة سابقة كفيلة بنصرتكم لكننا تخلينا عنها، وهي صورة الشعوب المحكومة بالديمقراطية.

توجد خامة شعبية تنصفكم من عدوكم، وأنتم تتحسسونها في كل مكان وفي كل حدث لكنها خامة قاصرة عن الربط بين الحرية والديمقراطية والتحرير. لقد قامت دوما في الشارع مع القضية قضيتكم (قضيتهم)، ولكنها قامت أيضا وبغباء عجيب ضد حرياتها فناصرت كل فعل مضاد للحرية، ويمكن أن تقدم أمثلة عجيبة في تناقضها عن "مواطن" عربي يمجد الدكتاتورية في بلاده وهو يرى دكتاتور بلاده يراود العدو ليحكم، وفي ذات الوقت يخرج هذا الموطن في مظاهرة لنصرة غزة، ولو قلت له إن تحرير فلسطين يمر أولا بتحرير بلدك من القهر والظلم لا تهمك في عقلك.

هذا المواطن الذي لم يصر مواطنا لهشاشة وعيه بحريته لا يمكن الاعتماد عليه، لأنه مواطن بعقل قاصر، لأنه مواطن بلا خيال ولا يتعلم من كل هزائمه ومن كل انتصارات الفلسطيني.

هذه الحالة العامة من قصور الخيال السياسي هي حالة عربية عامة لم يعالجها قرن من الكتابة والتربية المدرسية على قول شوقي "وللحرية الحمراء باب"، لقد حفظناها جميعا كأنشودة مدرسية ولكنها لم تنتج عندنا روحا مقاومة. وحدها غزة صنعت خيال النصر فانتصرت.. إنه خيال يعوز العرب شعوبا وحكاما، والمعركة لا تزال طويلة.

مقالات مشابهة

  • برج الثور حظك اليوم السبت 1 مارس 2025 .. ركز على الراحة
  • محافظ الإسماعيلية يتفقد أعمال تطوير القرية الأوليمبية ويؤكد على الالتزام بتقديم الدعم الكامل للصرح الرياضي
  • الشجاعة التي انتظرت طويلا
  • السعدي لـRue20: القرار الملكي سيساهم في إعادة هيكلة وتأسيس القطيع الوطني من الأغنام والأبقار
  • محافظ الإسماعيلية يتابع تطوير القرية الأوليمبية ويؤكد دعمه الكامل للمشروع الرياضي
  • برج الثور| حظك اليوم الجمعة 28 فبراير 2025.. تحقيق الأهداف
  • رئيس الحكومة: القرار الملكي بعدم القيام بشعيرة ذبح أضحية العيد سيساهم في إعادة تشكيل القطيع الوطني
  • حظك اليوم برج الثور الخميس 27 فبراير.. «اهتم بحياتك الخاصة»
  • برج الثور.. حظك اليوم الخميس 27 فبراير 2025: فرص للتقدم
  • 5 أبراج تتقن فن التوفير في رمضان..برج الثور ملك الصفقات الذكية