استجابة ثلاثية: بدائل تقليل الخسائر التعليمية في صراعات الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
بدأ العام الدراسي الجديد في معظم دول العالم في موعده الطبيعي، واستعاد المعنيون بالعملية التعليمية، كلٌ في بلده، نشاطهم للحديث عن جودة نظام التعليم وسُبل تحسين أداء الطلاب وحل مشكلات المناهج والمُعلمين والبنية التحتية وغيرها. بيد أن مشهد استعداد الأطفال لبدء يوم دراسي طبيعي لم يكن حاضراً في عدد من دول الشرق الأوسط التي دمرت فيها الصراعات المسلحة، البنية التحتية التعليمية، وأجبرت الأطفال على النزوح قسراً مع عائلاتهم هرباً من الموت، وعمَّقت الفجوة التعليمية، الكبيرة بالفعل بعد جائحة كورونا، وذلك في دول مثل: السودان واليمن وفلسطين، بما يؤثر في فرص النمو بهذه الدول.
ظروف صعبة:
عند الحديث عن استئناف الدراسة في مناطق الصراعات، فإن سلامة الأطفال سواء داخل المدارس أم في رحلتهم إليها تمثل الهاجس الأبرز لأولياء الأمور، فيقومون بالمفاضلة بين حصول أبنائهم على فرصة استكمال الدراسة وتكلفة هذه الفرصة، وغالباً ما يجدون أن احتمالية تعرض الأطفال للخطر تكون أكبر من جدوى الذهاب إلى المدرسة في ظل تدني جودة الخدمة التعليمية المقدمة هناك؛ الأمر الذي يُقلل من فرص التحاق الأطفال بالدراسة أو الحصول على الحد الأدنى من التعليم، في ظل الوضع المتردي الذي خلفته الصراعات المسلحة، والمتمثل في الآتي:
1- بنية تحتية مدمرة وظروف غير مهيأة للدراسة: وفقاً لتقرير “الاعتداءات على التعليم 2024” الصادر عن “التحالف الدولي لحماية التعليم من الهجمات” في يونيو 2024، فإن نحو 6 آلاف اعتداء قد وقعت على قطاع التعليم خلال عامي 2022 و2023، بزيادة 20% عن العامين السابقين عليهما، وارتفع هذا العدد بشكل ملحوظ وفقاً للبيانات المنشورة حول المدارس في السودان واليمن وفلسطين. ففي السودان على سبيل المثال، يبلغ عدد المدارس 22 ألفاً، توقفت منها 14 ألف مدرسة بسبب الحرب، وتحولت 6 آلاف مدرسة إلى مراكز لإيواء النازحين؛ مما أسهم في زيادة أعداد الطلاب المحرومين من الدراسة من 7 ملايين قبل اندلاع الصراع الحالي إلى 17 مليوناً من أصل 19 مليون طفل في سن الدراسة.
وفيما يتعلق باليمن، يشير تقرير “منظمة رعاية الأطفال” في مارس 2024 إلى أن عدد المدارس التي خرجت من الخدمة بسبب هجمات الحوثيين بلغ 2426 مدرسة بنسبة 15% من إجمالي عدد المدارس البالغ 16034 مدرسة، إلا أن رئيس الوزراء اليمني، الدكتور أحمد عوض بن مبارك، رفع العدد إلى 2860 مدرسة مدمرة جزئياً أو كلياً مع بداية العام الدراسي الحالي؛ في إشارة إلى استمرار الهجوم على المؤسسات التعليمية بالرغم من الهدنة بين الأطراف المتحاربة في اليمن.
ولم يختلف الأمر كثيراً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تسببت الهجمات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023 في تدمير 93% من إجمالي مدارس قطاع غزة البالغ عددها 593 مدرسة، وتسببت القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين والخوف من العنف في إغلاق نحو 20% من مدارس الضفة الغربية.
وقبل التصعيد الحالي بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، بلغ عدد المدارس التي أُغلقت في جنوب لبنان 70 مدرسة، منها ثماني مدارس للاجئين السوريين. فيما أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، في 25 سبتمبر الماضي، أن الهجمات الأخيرة تسببت في تحويل 300 مدرسة إلى مراكز إيواء للنازحين، ومن الممكن أن يؤثر هذا التصعيد في تعليم نحو 100 ألف طفل.
2- جهود محدودة التأثير: على الرغم من الوضع المتردي في دول الصراعات بالمنطقة، هناك محاولات عديدة لإنقاذ العام الدراسي في بعض المناطق الآمنة، ولكن يمكن تقييم تأثير هذه المحاولات على أنه ضعيف نظراً لقلة أعداد الأطفال الذين يتلقون خدمة تعليمية مقارنةً بالأعداد الكلية. ففي السودان، تم استئناف الدراسة بشكل جزئي في 6 ولايات فقط من بين 18 ولاية، وبدأت 600 مدرسة في ولاية البحر الأحمر شمال شرق السودان في تقديم الخدمة لنحو 140 ألف طالب فقط، ثم تبعتها ولايتا نهر النيل وسنار، وسط شكوك بعدم استكمال هذه المبادرة في ظل تصاعد الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وفي اليمن، يسيطر الحوثيون على مناطق تضم أكثر من 50% من إجمالي الأطفال في سن الدراسة، ولكنهم لا يقدمون خدمة تعليمية حقيقية؛ إذ أصبح الأطفال مسجلين في كشوف المدارس فقط دون حضور فعلي، ويتلقى من يواظب على الحضور تعليماً ضعيفاً نظير مبالغ مالية تحت مسمى رسوم تسجيل فرضتها الجماعة الحوثية بسبب ضعف مواردها المالية وعدم قدرتها على طباعة كتب دراسية أو دفع رواتب 176 ألف معلم منذ 2016، وفقاً لتقرير “واقع التعليم في اليمن 2023” الصادر عن “الائتلاف اليمني للتعليم للجميع”. وبينما تسعى منظمة “اليونيسيف”، بالتعاون مع الحكومة اليمنية الشرعية والمُعترف بها دولياً، إلى تقديم التعليم لما يزيد على 500 ألف طفل، ودفع الحوافز لأكثر من 35 ألف معلم، من خلال تنفيذ مشروع “استعادة التعليم والتعلم” (REAL) الذي يهدف إلى إعادة تأهيل ألف مدرسة، إلا أن نجاح هذا المشروع يظل رهناً باستمرار التهدئة بين أطراف الصراع في اليمن وعدم توسيع نطاق الحرب بالإقليم.
وفي الأراضي الفلسطينية، يظل كل الأطفال في قطاع غزة محرومين من الخدمة التعليمية بشكل كامل، إلا في بعض الحالات التي يمكن وصفها بأنها محدودة التأثير مثل توفير “اليونيسيف” 39 مساحة تعليمية مؤقتة في القطاع تخدم 12,400 طالب، ومحاولة متطوعين تعليم الصغار أسس الكتابة والقراءة، شأنهم في ذلك شأن بعض المتطوعين في مراكز إيواء النازحين في السودان، وهي محاولات لا يمكنها ضمان أي شكل من أشكال التعليم الجيد الذي تسعى دول العالم إلى تحقيقه بحلول 2030. وفي الضفة الغربية، وبالرغم من بدء العام الدراسي؛ فإن مهددات استمراره بشكل طبيعي ما تزال قائمة، ما ينذر باعتماد وزارة التعليم الفلسطينية على التعليم عن بُعد، الذي لم يُفد الطلاب خلال العام الماضي.
تداعيات سلبية:
في ظل استمرار الصراعات المسلحة في عدد من دول المنطقة بما يفاقم الأوضاع الإنسانية ويحرم الأطفال من حقهم في التعليم، فإن هناك جملة من التداعيات السلبية على الأفراد والمجتمعات المحلية وربما دول الجوار أيضاً، يمكن تحديد أبرزها فيما يلي:
1- التأثير السلبي في الطلاب والمُعلمين: بالنسبة للطلاب، تتزايد معدلات الفاقد التعليمي نتيجة انقطاعهم عن الدراسة لفترات طويلة وقلة الدافعية للتعلم مستقبلاً، ويمتد التأثير السلبي عليهم ليتضمن التأثير الكبير في الصحة النفسية والعقلية والاجتماعية للأطفال بما في ذلك الشعور بالإحباط والعزلة، بالإضافة إلى إمكانية انقطاع الطلاب عن الدراسة بشكل دائم. أما المُعلمون، فقد أوضحت التقارير المنشورة أن نسبة كبيرة منهم وجدوا أنفسهم مجبرين على ترك مهنة التدريس؛ إما لتوقف الدراسة جبرياً كما هو الحال في غزة ومعظم ولايات السودان، أو لعدم حصولهم على أجورهم كما هو الحال في مدارس المحافظات اليمنية التي يسيطر عليها الحوثيون.
2- فتح المجال لاستغلال الأطفال وتجنيدهم: تُسهل الصراعات مهمة المليشيات والجماعات المسلحة في استقطاب وتجنيد الأطفال واستغلالهم بأشكال مختلفة، كما هو الحال في معسكرات الحوثيين باليمن الذين استغلوا الحرب على قطاع غزة لتجنيد عدد أكبر من الأطفال.
3- تضرر المجتمعات المحلية: تُقلل الأمية وفقر التعلم في المجتمعات التي تعاني من الصراعات المسلحة، من فرصها في النمو الاقتصادي مستقبلاً؛ إذ يؤدي التعليم المدرسي دوراً في زيادة الدخل بنسبة 9% تقريباً مقابل كل عام إضافي من هذا التعليم. ويمتد هذا التأثير ليشمل درجة تماسك المجتمعات ودرجة الثقة في المؤسسات الوطنية؛ الأمر الذي سيفرض على هذه المجتمعات مستقبلاً حشد موارد مضاعفة وبذل جهود أكبر وعقد شراكات أوسع للعودة إلى المسار الصحيح فيما يتعلق بإعادة الطلاب إلى مدارسهم بعد تأهيلها.
4- تأثير ممتد لدول الجوار: يتمثل التأثير الأبرز في دول الجوار في زيادة موجات النزوح والهجرة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتعليمي، بما يمثل ضغطاً على الخدمات التعليمية والصحية في المجتمعات المضيفة، فضلاً عن احتمالية وجود ظواهر اجتماعية سلبية مثل التطرف والعنف في بعض هذه المجتمعات.
بدائل متاحة:
في ضوء قراءة المشهد الراهن في مناطق الصراعات في بعض دول الشرق الأوسط، وتحديد أبرز تداعياته السلبية على الأفراد والمجتمعات المحلية، يمكن تقديم بعض البدائل والمقترحات التالية لتخفيف وطأة الخسائر التعليمية في هذه الدول كما يلي:
1- بدائل سياسية: يمكن أن تشتمل على التزام الأطراف المتنازعة بالاتفاقيات الدولية مثل البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن اشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة، والذي يحظر تجنيد الأطفال دون سن 18 عاماً، وإعلان المدارس الآمنة، الذي يهدف إلى حماية المؤسسات التعليمية من الهجمات.
2- بدائل إغاثية: تشمل تقديم دعم فوري وعاجل للأطفال في المناطق المتضررة، على أن يتمثل هذا الدعم فيما يلي:
أ- تقديم المنظمات الدولية مثل: “اليونيسيف” وصندوق “التعليم لا ينتظر”، الدعم المالي والتعليمي للأطفال في مناطق النزاع، على غرار ما قام به صندوق “التعليم لا ينتظر” في غزة خلال العام الماضي.
ب- إطلاق برامج تعليمية غير رسمية مكثفة في المخيمات والمناطق الآمنة لتوفير التعليم للأطفال النازحين، لضمان تعليمهم القراءة والكتابة وتحسين المهارات الحياتية.
ج- توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الأطفال على التعامل مع الصدمات الناتجة عن النزاع.
3- بدائل تنموية: هي بدائل تتعلق باستراتيجيات طويلة المدى تهدف إلى تحسين النظام التعليمي بشكل كلي في فترة ما بعد انتهاء الصراعات، ويمكن أن تتضمن ما يلي:
أ- إعادة بناء المدارس المتضررة وتوفير بيئات تعليمية آمنة؛ الأمر الذي يتطلب تمويلاً كبيراً من المجتمع الدولي والدول المانحة.
ب- التركيز على إعادة المُعلمين المؤهلين إلى المدارس، وتدريب المُعلمين الجدد وتأهيلهم لتقديم تعليم جيد في بيئات ما بعد النزاعات.
ج- مراجعة وتحديث المناهج الدراسية لتكون أكثر شمولاً وملاءمة لاحتياجات الأطفال في مناطق الصراع، مع التركيز على تعزيز القيم الإنسانية والتسامح.
ترتيباً على ما سبق، يمكن تأكيد أن أزمة التعليم في دول الصراعات بالشرق الأوسط تمثل أحد أبرز التحديات الإنسانية التي تواجه المجتمع الدولي ودول المنطقة، وتتطلب معالجتها استجابة شاملة ذات ثلاثة أبعاد: سياسية، وإغاثية، وتنموية؛ من أجل توفير بيئات تعليمية آمنة ومستدامة تضمن حق الأطفال في دول الصراعات في التعليم، وتعزز فرص المجتمعات المحلية في التماسك وتحقيق مستقبل أفضل، وتقلل المخاطر التي يفرضها الوضع الراهن.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
قراءة في مخاطبات ترمب تجاه الشرق الأوسط والسودان
في نحو 30 دقيقة أنهى الرئيس الامريكي خطابه الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في 2025 وترك الناس حيارى، لا لكونه يتمثل بقول أبي الطيب المتنبئ الذي قال لشانئيه – حسبما يروي الرواة – من الذين عابوا عليه صعوبة ما يقول لغةً: “علينا ان نقول وعليكم أن تتأولوا” ثم في مرة قال له آخر: ” لماذا لا تقول ما يفهم؟” فكان رد أبي الطيب عليه: “ولماذا لا تفهم ما يقال؟” فقد كان خطاب ترامب في يناير عاماً في تناوله للقضايا الخارجية و لكنه قاسياً على سابقه في الرئاسة بايدن، فقد سلقه سلقاً حامض الطعم و لا ريب، لم يُعمل فيه غربالاً ولا نقداً ولا تمحيصاً لذلك كان صادماً مثلما توقعت الصحافة الأمريكية قبل إلقائه بأيام
وكان مفاجئاً حقاً أنه تحدث عن الشرق الأوسط عكس ما حدث في خطاب رئاسته الأولى 2017 إذ لم يذكر الشرق الأوسط وهذا يتسق مع طبيعة الخطاب الذي يوجه لهواجس الأمة الأمريكية الداخلية في الغالب إلا أنه لم يقل ما يفهم حتى ظن الناس – وإن بعض الظن إثم – أنه انكفأ على الداخل و نسى “ربعه” في الخارج مطلقاً.
صحيح أن خطاب تتويجه في فترته الرئاسية الأولى كان “دُرابا” كمانقول في الدارجة و أتى خطابه الذي بين أيدينا أكثر غلظة يرمي بتهديدات على قومه بالداخل ولكنه لكل من استمع متأملا كأنه يقول للخارج “إياك أعني فاسمعي ياجارة”.
أمر ثانٍ في خطاب ترمب الذي يضع الاستراتيجيات العامة ويترك للتنفيذيين وضعها موضع التطبيق، هو أن ترامب في خطابه هذا بدا حانقاً جد الحنق على غير مناصريه، إذ أنه تحدث عن “أنا” أكثر من خمس مرات بصورة مباشرة وجاءت قمة “الأنا” حين قال إن محاولة اغتياله وإصابته في أذنه فقط ومن ثم نجاته، كانت رسالة سماوية لهدف إلهي طبعاً وهو إنقاذ أمريكا والامريكيين:
“لقد حاول أولئك الذين يرغبون في إيقاف قضيتنا سلب حريتي بل وحتى سلب حياتي قبل بضعة أشهر فقط. في حقل جميل في بنسلفانيا، اخترقت رصاصة قاتل أذني، لكنني شعرت حينها وأعتقد، بل وأكثر من ذلك الآن، أن حياتي أنقذت لسبب ما. لقد أنقذني الله لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.”
أما في خطابه الأول ذلك فكان حديثه دوما عن “نحن” وهو في هذا ليس بدعا إذ أن كثيراً من القيادات المتشددة في التاريخ الحديث والقديم تبدأ مراحلها الأولى بخطاب يتحدث عن “نحن” و ” الأمة” في مقابل “هم” و “الأغراب” وتنتهي بدكتاتورية غليظة قد يسميها أهل السياسة الأوليغاركية أو الأوليغارشية Oligarchy تتحدث عن “أنا” ضد “هم والأغراب” أو بنظام أشد بطشاً و أكثر تضييقا، غير أن النظام الذي تقوم عليه الحكومة والارث الراسخ في مقاومة التجبر والحكومة – النظام في أمريكا، لا يسمحان بذلك على المدى الطويل.
لكن الأمر البين أن فوز ترامب كان معركة شخصية فاز فيها على خصوم حقيقيين – أم متخيلين – لكنه فاز ، وبعد أن تأكد أنه صاحب تفويض كامل قال للأمريكيين إن كل قصور و تلكوء الحكومات السابقة لإدارته سيتبدل الآن . قال في خطابه هذا :
“كل هذا سوف يتغير بدءًا من اليوم، وسوف يتغير بسرعة كبيرة”.
وهي رسالة قوية للداخل ولكنها دونما شك رسالة تجعل فرائص الخارج تنتفض و ترتجف، ذلك أنه ترك الباب موارباً وعمل عكس المثل السائر عندنا “كتلوك ولا جوك جوك”. فقد جعل “جوك جوك” هي العصاة الغالبة والمهماز الذي سيحرك به الخارج عامة لايستثني من ذلك جاراً ولا بعيداً ولا صديقاً ولا عدواً ولا قريبا ولابعيدا ولا حليفا ولا خصيماً.
وجعل المخاطب الأول لكل حديث هو الداخل الأمريكي وان السبيل الاقوي والمعني لتحقيق هذه الأهداف من صحة وأمن وطمأنينة ونمو اقتصادي وعظمة قومية لأمريكا، هو الخارج، هو أوروبا “وتقاعسها عن المساهمة الفاعلة في الدفاع عن نفسها خلال ممارستها الإمساك والتقتير في الصرف على الناتو، هو الصين لتغولها على الاقتصاد “حيث تنتج رخصاً في العمالة وتبيع غلاءا في أمريكا دون ضرائب مستحقة، وهي كذلك دول الجوار التي ترمي بلاده كما قال “بالمجرمين والإرهابيين ورعاع الناس” وتنعم هي بالراحة وأمريكا تتأذى بالرزايا.
ترامب والجيش الامريكي والقوة الغليظة
لكن ترمب كان واضحا وضوحاً عجيباً حين تحدث عن القوات المسلحة الأمريكية إذ قال في ذلك “ستكون قواتنا المسلحة حرة في التركيز على مهمتها الوحيدة، وهي هزيمة أعداء أميركا. وكما حدث في عام 2017، سوف نبني مرة أخرى أقوى جيش شهده العالم على الإطلاق. وسوف نقيس نجاحنا ليس فقط بالمعارك التي نفوز بها، بل وأيضاً بالحروب التي ننهيها، وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا نخوضها أبداً ثم قال إن “أهم إرث يريد أن يتذكره التاريخ عنه أنه رجل سلام”.
ترامب الذي يقوم كل إرثه و فعله السياسي – الظاهر على الاقل- على نظرة رجل الأعمال الذي يريد “عقد صفقات”- قسم سياسته، فعلا لا قولا ، نحو الشرق الاوسط بصورة واضحة الي ميدانين: أولاً:
إيقاف الحروب الدائرة وتحقيق أمن حلفائه المقربين وتقويتهم شريطة أن لا يكون ذلك بتدخل عسكري من جند بلاده وقد ذكر أنه يسعى لايقاف الحروب قبل حدوثها وفي هذا فهو لن يسمح حتى للأمم المتحدة والمنظمات الدولية أن تعارض ما يريد ناهيك عن الصين و روسيا والغرب عموما – ذلك يستقى من تركيزه في خطاباته بأن أمريكا قبل الناس طراً. وقد ينظر المرء لقراراته الساعية لإعادة قرار الانسحاب من منظومات الأمم المتحدة اليونسكو والصحة العالمية والبيئة وتشديد الخناق على الجنائية الدولية حين مست قيادات إسرائيل في هذا الإطار، و حتى مجلس الامن ما فتئ يقرع له العصى.
الشرق الاوسط
ويذكر الناس كم تطاولت الحرب على غزة و كم تكاثرت المفاوضات والجولات المكوكية لاكثر من عام ما ترك فيها الرئيس بايدن و رأس دبلوماسيته بلنكين بابا إلا وطرقاه دونما مردود إلا مواعيد عرقوب . ولكن حالما تأكد فوز دونالد ترمب وقبيل تنصيبه بأيام قليلة اتصل برئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو، فاذا الصفقة تسير الهوينا نحو التوقيع. لذلك ومع تركيز خطابه التنصيبي على الأمور الداخلية فقط ، إلا أن الحدث العالمي الوحيد الذي ذكره ترمب ونسب الفضل في تحقيقه لنفسه كان هو الاختراق الذي حدث في الشرق الاوسط حيث قال:
“قبل أن أتولى الرئاسة رسميا، تفاوض فريقي على اتفاق لوقف إطلاق النار في الشرق الأوسط، وهو ما لم يكن ليحدث لولا جهودنا. وأعتقد أن معظم الحاضرين هنا يدركون ذلك. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، بدأ الرهائن في العودة إلى أسرهم. إنهم يعودون، والمشهد جميل. وسيعودون أكثر فأكثر. لقد بدأوا في العودة يوم الأحد.”
وتأتي فاعلية الرجل من أنه اعتمد علي الفعل بعد القول مباشرة والتطبيق وأمثلة ذلك مبذولة متاحة في الشرق الأوسط وفي أوروبا و في آسيا وفي أمريكا اللاتينية ولا ينسى الناس قوله إنه سيجعل بعض الدول تدفع أموالا مهولة لقاء حماية بلاده لها وقد دفعوا دفعاُ كُبارا، وقال إنه سيحول عاصمة إسرائيل لمكان آخر غير تل أبيب وقد فعل، وقال إنه سيجعل الاتفاق مع إيران ممكنا وقد فعل، وقال إن الصين ستنتبه لما يقول وقد فعلت بالفعل لا بالقول وقال إنه سيرفع إسم السودان من قائمة الإرهاب وقد فعل، مهما اختلف الناس مع كيف فعل وكيف مارس ضغوطا رهيبة على من كان يتولى الأمر في السودان حينها، حين اشترت الدولارات ال 335 مليون من السوق الموازي ونحن على ذلك من الشاهدين على بعض خفاياها!!!
ترمب وعقد الصفقات
ثانياً: المكسب المادي والصفقات التجارية التي تعود على الأمريكيين عموما وعلي صحبه من رجال الأعمال خصوصا بالفائدة وفي ذلك هو لا يخفي شيئاً بل و يفاخر به و يكفي أن نستشهد بخطابه الأول خارج البيت الأبيض منذ تنصيبه حيث قال في مؤتمر دافوس الاقتصادي في يناير هذا وفيه بدأت نفس معالم الخطاب الأول وروح سياسته الخارجية سواء في أوكرانيا أو سوريا أو الشرق الأوسط تتبدى بصورة جلية لا لبس فيها ولا مواربة فاسمع إليه و هو يخاطب أكبر تجمع إقتصادي فكري لرسم ملامح سياسات المستقبل الاقتصادي وهو يقول:
“كما ورد في الصحف اليوم أن المملكة العربية السعودية ستستثمر ما لا يقل عن 600 مليار دولار في أمريكا. لكنني سأطلب من ولي العهد، وهو رجل رائع، أن يكمل المبلغ إلى حوالي تريليون دولار. أعتقد أنهم سيفعلون ذلك لأننا كنا جيدين جدًا معهم.”
ثم مضي ليوسع الدائرة ليتناول أخطر كتلة اقتصادية تتحكم بصورة غير مباشرة في الحراك الاقتصادي العالمي وهي منظمة الدول العربية المصدرة للنفط في الشرق الاوسط (أوابك) ومن ورائها كل المنتجين حين قال:
“وسأطلب أيضًا من المملكة العربية السعودية وأوبك خفض تكلفة النفط. عليك أن تخفضها، وهو ما أدهشني بصراحة أنهم لم يفعلوا ذلك قبل الانتخابات. لم يُظهروا لنا الكثير من الحب من خلال عدم قيامهم بذلك. لقد فوجئت قليلاً بذلك.”
ويدخل في هذه المنظمة (الأوابك OAPEC) كل من المملكة العربية السعودية، ودولة الكويت، وليبيا، الجزائر، وقطر، والإمارات والبحرين وسوريا والعراق ومصر ودول الأوبك (OPEC) وهي الأوسع إذ فيها كثير من دول الشرق الأوسط ودول من امريكا اللاتينية وبعض من اكبر الدول الأفريقية وهي : الجزائر، وأنغولا، وغينيا الاستوائية، والجابون، وإيران، والعراق، والكويت، وليبيا، ونيجيريا، وجمهورية الكونغو، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وفنزويلا والإكوادور وإندونيسيا وقطر،
فإن كان لدي ترمب ما يسميه أهل الإعلام و السياسة الغربيون leverage أي تاثير رافع إن صحت الترجمة – على هؤلاء، فقد حيزت له مفاتح تحقيق ما يريد من سياساته التي بدأت معالمها تظهر على نحو جلي في خطاباته اللاحقة وفي خطابات واتصالات وزير خارجيته روبيو والذي بدأ مهاتفات مكثفة في أول أسبوع له، ما ترك وزير خارجية من المذكورين آنفا عدا الأفارقة منهم إلا اتصل به.
السودان في ادارة ترمب
وعطفاً علي سياسات ترمب في الشرق الأوسط ونحن فيه جيران، فقد كفى الناس مؤونة التفكير كيف تكون سياسات ترمب تجاه السودان، باحث أمريكي ملم بشؤون السودان إلماماً يحسده عليه كثير من الأكاديميين في السودان، وهو كاميرون هدسون – أي كانت نواياه وأهدافه من هذا الإلمام.
كتب هدسون الأسبوع الماضي في مجلة بوليتك مقالا نلخصه في نقاط ونختم به هذا الموضوع:
حاجج هدسون بأن لا أحد يستطيع أن يصنع السلام في السودان إلا ترامب وذلك أنه – أي ترمب – ضم الخرطوم إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وأزال إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وأن ترمب – بفضل نفوذه على القوى الإقليمية – يمكنه إنهاء الحرب في السودان.
كاميرون هدسون الذي يعرف نفسه بأنه زميل في برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية قال إن أفريقيا لا تحتل مكاناً عاليا في سلم خطابات السياسات الخارجية للرؤساء الأمريكيين وخاصة ترمب ولكن في تحول نادر من القدر، يبرز السودان الآن كدولة حيث الحاجة إلى مشاركة الولايات المتحدة عالية وحيث يمكن أن يكون نفوذ واشنطن في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب العنصر المفقود الحاسم لإنهاء الحرب الأهلية الحالية في السودان.
على عكس معظم البلدان في أفريقيا، فإن لترامب علاقة وتاريخ مع السودان. في عام 2019، اندلعت الثورة الشعبية التي أدت إلى الإطاحة بعمر البشير وأسفرت عن فترة حكم مدنية واعدة، وإن كانت قصيرة. في ذلك الوقت، كان الدعم الأميركي للقوى المؤيدة للديمقراطية متواضعا، وذلك بسبب شبكة معقدة من العقوبات والقيود القديمة التي قيدت الدعم الأميركي. وكان من بين هذه العقبات استمرار تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب ــ وهو التمييز السيئ السمعة الذي رزأت به البلاد منذ الأيام التي استضافت فيها أسامة بن لادن في منتصف التسعينيات.
بدأت إدارة ترامب العملية المعقدة والمستهلكة للوقت لإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في محاولة لوضع البلاد على مسار نحو تخفيف الديون والتعافي الاقتصادي؛ وأصبحت إزالتها رسمية في ديسمبر 2020. وشمل الجهد الحصول على ضوء أخضر من مجتمع الاستخبارات، والتفاوض على اتفاقية تعويض بقيمة 335 مليون دولار لضحايا الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة، والحصول على دعم الكونجرس. كما وعدت بتطبيع العلاقات بين واشنطن والخرطوم بأول تبادل للسفراء منذ 25 عاما.
ثم، في خطوة لم تكن مفاجئة في الماضي، قام وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو بزيارة إلى الخرطوم في اللحظة الأخيرة ليقترح أن صنع السلام مع إسرائيل، من خلال التوقيع على الاتفاقيات الإبراهيمة التي أُعلن عنها مؤخرًا، سيكون ضروريًا أيضًا للمساعدة في تأمين إزالة السودان من قائمة الإرهاب. في تلك اللحظة، رفض القادة العسكريون والمدنيون في السودان، حيث جادل الجانبان بأن الطبيعة الانتقالية لحكومتهما وعدم وجود برلمان قائم لا يمنح أيًا من الجانبين التفويض بالانخراط في التزامات معاهدة جديدة.
في النهاية، لم يكن لدى السودان أي نفوذ للمقاومة واضطر إلى الرضوخ إذا كان لديه أي أمل في التخلص من العقوبات الأمريكية المتبقية.
بعد موافقة السودان على شروط وزارة العدل الأمريكية لإزالتها من قائمة الإرهاب، أعلن ترامب منتصرا، في أكتوبر 2020، تطبيع السودان للعلاقات مع إسرائيل كواحدة من ثلاث دول عربية فقط وافقت على اتفاقيات إبراهيم.
والآن مع عودة ترامب إلى منصبه، فإنه يرث ملف السودان مختلفًا بشكل كبير عن الملف الذي سلمه إلى بايدن قبل أربع سنوات. من ذلك انه ومع بداية عام 2025، يحتاج أكثر من 30 مليون شخص في السودان إلى مساعدات إنسانية، بينما نزح أكثر من 12 مليون شخص من ديارهم منذ بدء الحرب الحالية في أبريل 2023.
قد لا تلقى الحجة الأخلاقية للاستجابة للمعاناة الجماعية في السودان أذناً صاغية لدى إدارة تكرس كل جهدها لتعزيز سياسة خارجية “أمريكية أولاً”، لكن واشنطن لديها مصالح استراتيجية ونفوذ غير مستغل في السودان يتجاوز بكثير الخسائر البشرية للصراع والتي تجعل ترامب في وضع فريد من نوعه للتقدم بحلول لإنهاء الحرب.
لقد ربطت إدارة ترامب نفسها عن غير قصد بمصير السودان عندما أعلن بومبيو عن رحلته التاريخية الأولى من تل أبيب إلى الخرطوم في عام 2020، بهدف وحيد هو تعزيز السلام مع إسرائيل. واليوم، يبدو أن فريق ترامب يستأنف من حيث توقف، ويوضح خططه لإحياء وتوسيع اتفاق التطبيع التاريخي؛ على سبيل المثال، أعلن مستشار الأمن القومي مايك والتز الشهر الماضي، “إن مصالحنا الأساسية هي داعش وإسرائيل وحلفاء الخليج العربي”.
ولكن ما هو واضح تمامًا هو أن الإدارة لا تستطيع إحياء اتفاقيات إبراهيم في الوقت نفسه مع ملاحظة انهيار وتفكك أحد المعنيين الخمسة بها وهو السودان.
ويقول هدسون إن الصراع في السودان أكثر من مجرد “حرب بين جنرالين متنافسين يتقاتلان على البلاد” كما يقول الغربيون ممن اشعلوا النار و تواروا بعيدا – هذه من عندي –
يؤكد هدسون و هو ضابط سابق في المخابرات الأمريكية إن الصراع في السودان تحركه معركة أعمق بين حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي الساعين إلى تعزيز السلطة والهيبة والثروة والنفوذ عبر البحر الأحمر والقرن الأفريقي. “إن تكلفة هذه المنافسة يتحملها شعب السودان”.
ولأجل حلفائه القريبين من السودان من المشاطئين له والمجاورين والأبعدين جغرافيا من السودان ولكنهم الأقرب لأمريكا عاطفيا ودينيا واستراتيجيا وعقديا، فقد يسعي ترمب حثيثا لحلحلة الأزمة الدائرة الآن في السودان وسيظهر ذلك حين يسمي مبعوثه الخاص الي السودان فإن كان هذا المبعوث نصيحا قويا ولم يكن “فافنوس وما هو الغليظ البوص” ميالا لحليف أمريكا الأعظم في المنطقة، كان ذلك علامة فارقة لقرب كف أيدي الداعمين للتمرد وإنهاء التمرد تماما و تحقيق السلام الذي يرجى أن يكون مستداماً.
و إن غداً لناظره قريب
المحقق – محمد عثمان آدم
إنضم لقناة النيلين على واتساب