لجريدة عمان:
2025-03-09@22:20:36 GMT

مدن اللامكان

تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT

في مقال سابق، طرحتُ تساؤلًا عن تشابه الأنماط الحضرية في تخطيط المدن، ولماذا باتت كل المدن متشابهة في تصميمها وتخطيطها، فلا تختلف المدينة الأمريكية عن الآسيوية وعن العربية، فكل أنماط المعمار باتت متشابهة، وهي كما أطلق عليها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه اسم «لا مكان» أو مدن اللامكان، حين انتُزعت الروح من الأمكنة فباتت المدن باهتةً تحمل طابعًا معماريًا واحدًا تم استنساخه من مدينة واحدة.

المتأمّل لحال المدن في كثير من دول العالم يجدها نسخًا متكررة من نسخة أصلية واحدة، تتشابه كلها في نمطها المعماري الحديث، وتمتاز ببناياتها الشاهقة المتطاولة للسماء وتصميمها الزجاجي العاكس، وتكدّس محلاتها التجارية ذات الطابع الغربي على جنبات الشوارع المحيطة بالمدينة، مع محاولة إضفاء لمسات بسيطة على طابع المدينة العام.

كثير من المدن التي أتحدّث عنها فقدت هويتها التي كانت في يومٍ ما تميُّزها عن غيرها من مدن العالم المختلفة، والتحقت بقطار مدن اللامكان التي لا تنتمي إلى ثقافة معينة أو إلى إرث قديم أو إلى هوية استطاعت المحافظة عليها خلال فترة تاريخها الطويل. وربما يُبرر ذلك بعوامل عدة، أبرزها التوسّع العمراني الأفقي وزيادة أعداد السكان، وتحوُّل المدن من مدن صديقة للإنسان والبيئة إلى مدن صناعية وتجارية واقتصادية، فبات لزامًا عليها تغيير نمطها وهويتها ليتواكب مع الهوية الجديدة للمدينة التي لم تعد العمارة والإسكان خيارًا إستراتيجيًا بقدر ما هو التخطيط لاستيعاب أكبر قدر ممكن من السكان في مساحات ضيقة من الأرض. ولا يوجد خيار أنسب لتطبيق معادلة العمارة والإسكان من انتهاج المدن الرأسية كنموذج للعمران والبناء واستقطاب النماذج الجاهزة في البناء والتعمير التي أثبتت جدواها في بعض الدول، وإن كانت خصوصيتها تختلف عن خصوصيات بعض المدن الأخرى.

في مدننا العربية تحديدًا، لم يعد هناك ما كان يسمى بالعمارة الإسلامية أو العمارة العربية، بل إن كثيرًا من الدول، خصوصًا التي بُنيت حديثًا أو توسعت بفعل الطفرات الاقتصادية والتجارية والإسكانية، باتت تحاكي أنماطًا عمرانية غربية صرفة في البناء والتشييد والعمارة، وكأن ذلك النهج الغربي بات هو المفضل والسائد في أنظمة التشييد والعمارة، متفوقًا على أنماط العمارة الإسلامية التي لا تزال شاهدة على إرثها الخالد في القاهرة ودمشق والكوفة والقيروان وبغداد، حتى في إسبانيا التي لا يزال كثير من مدنها شاهدة على عمارة إسلامية تقف شامخة في وجه العمارة القوطية المنتشرة في أنحاء دول أوروبا. إن تغافُل أو تجاهل المعماريين والمصممين الحداثيين أثّر بشكل كبير في تغييب هذا النمط من العمارة الإسلامية، فنادرًا ما تجد مدنًا عربية اليوم تصطبغ بصبغة إسلامية، بل إن معظمها بات يحاكي الأنماط الأوروبية في التصميم والبناء، وقد يكون عزوف المصممين العرب عن الانخراط في تصميم خرائط مدنهم الكبرى وترك ذلك إلى الآخر غير العربي هو ما قاد إلى تلك النتيجة الحتمية من تغييب لتراث المدينة العربية وإرثها وثقافتها، وبالتالي تغييب لنمط العمارة الإسلامية.

لا ترتبط العمارة بالتشييد والبناء، بل تتعداها إلى آفاق أوسع في الثقافة والإرث الحضاري، وقبل ذلك كله هي تعكس الإنسان الساكن في المكان ومدى ملامسة العمارة لاحتياجاته اليومية والتعبير عنه في كل زاوية وركن من أركان المدينة؛ فالمكان لا يعبّر عن السكنى فقط، بل يتعداه إلى ملاءمته لحياة الإنسان. لذلك ظهرت اليوم مصطلحات مثل أنسنة المدن واستدامة العمران، اللتين تدعوان إلى العودة إلى تحجيم عشوائيات العمارة والعودة بالمدن لتكون صديقة وملائمة للإنسان والبيئة.

خلال الأسبوع الفائت، زرتُ قرية عمانية صغيرة كانت في الماضي تشتهر بأفلاجها المتدفقة وحصونها الدفاعية وواحاتها الغنّاء، ولقد خُيّل لي من إرثها السابق أنني سوف أمشي بين جنبات التاريخ وقلاعه، وأغترف من نبع أفلاجها وأقطف من ثمار مزروعاتها وكرومها، غير أن ما أحبطني وقتل اللهفة في قلبي هو أنني رأيت تلك القرية عبارة عن علب صندوقية متناثرة لا يعكس تخطيطها الحضري أي نسق معماري حديث أو قديم، بل هي بيوت مبعثرة وشوارع أسفلتية مقطعة، تمنيت أنني لم أزرها لأحتفظ بذكراها الجميلة في مخيلتي.

ما قصدته في مثالي السابق هو أن عبثية التخطيط والعمران تنتج عنها مشاكل طويلة وكبيرة تبدأ من الأرض وتنتهي بالإنسان ويمتد أثرها لسنين طوال بحيث يصعب علاج أي منها. لذا، فإن علاج أسقام العمارة يبدأ من اجتماع المختصين من علماء الاجتماع والسلوك والمخططين وعلماء البيئة والمناخ والأطباء، وممن يعنيهم أمر الإنسان والبيئة على طاولة واحدة لمناقشة التصوّرات الأولى لبناء نماذج معمارية لمدن إسلامية عربية عمانية تراعي الإنسان قبل مراعاتها لأي شيء آخر، بحيث لا تكون مدننا وقرانا العمانية مثالًا على مدن اللامكان المبعثرة حول العالم أجمع.

عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العمارة الإسلامیة

إقرأ أيضاً:

نائب: المكاتب الاقتصادية للأحزاب الشيعية دمار البلد

آخر تحديث: 8 مارس 2025 - 11:07 ص بغداد/ شبكة أخبار العراق- كشف النائب هادي السلامي، السبت، عن إلقاء القبض على ما وصفه بـ “زعيم اكبر الاقتصاديات” في العراق أثناء وجوده بوزارة الاعمار والإسكان.وقال السلامي في حديث صحفي، إنه “تم إلقاء القبض على زعيم أكبر الاقتصاديات في العراق أثناء وجوده بوزارة الاعمار والاسكان “هيئة تنظيم المدن”.وعبارة المكاتب او اللجان الاقتصادية ظهرت بعد العام 2003 في العراق، وهذه التسمية مرتبطة بالأحزاب في مناطق وسط وجنوب البلاد، ويعمل المسؤولون الحكوميون التابعون لتلك الأحزاب على تأمين الحصص المالية لكياناتهم السياسية من العقود والصفقات التي تبرمها الوزارات ودوائر الدولة ومؤسساتها من خلال تلك المكاتب واللجان.وبات هذا المصطلح سيء الصيت بمجرد إطلاقه يتبادر الى اذهان العراقيين الفساد المالي والاداري المستشري في مفاصل الدولة.كما ارفق السلامي وثيقة تظهر إجراء تغييرات في مناصب إدارية داخل الوزارة، من بينها انهاء تكليف “حامد عبد حمد” من مهام هيئة تنفيذ المدن الجديدة، وتكليفه بمهام معاون مدير عام شركة حمورابي العامة.كما اظهرت الوثيقة، تكليف الخبيرة نهلة كامل علوان معاون مديرية التخطيط العمراني، بمهام مدير هيئة تنفيذ المدن الجديدة.وكتب السلامي تعليقاً مع الوثيقة المنشورة يحمل تساؤلات : ماهو سبب التغيير؟.وفي 12 من شهر شباط فبراير الماضي، استضافت لجنة الاستثمار والتنمية رئيس هيئة تنفيذ المدن الجديدة في وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة .وأكدت اللجنة على أهمية ضمان الشفافية في الإجراءات، ومعالجة التحديات التي تواجه تنفيذ مشاريع المدن الجديدة، مشددين على ضرورة الإسراع في تنفيذ الخطط الحكومية المتعلقة بالبنى التحتية والإسكان.

مقالات مشابهة

  • حل إشكاليات رقمية في مدن المستقبل
  • حسين سجواني عن علاقته بترامب: صديق وتناولنا العشاء معًا كثيرًا.. فيديو
  • فرنسا.. عشرات الآلاف يشاركون في مظاهرات يوم المرأة العالمي
  • مستشار حكومي: المدن السكنية الجديدة ستنجز خلال السنتين المقبلتين
  • انتهاء فرص هطول الأمطار في أغلب المدن العراقية
  • انتهاء فرص هطول الأمطار في أغلب المدن العراقية - عاجل
  • نائب: المكاتب الاقتصادية للأحزاب الشيعية دمار البلد
  • معتصم النهار: ولدت في الدوادمي وأحب المملكة كثيرًا .. فيديو
  • مسجد لينة القديم.. تصميم فريد يعكس عراقة العمارة الإسلامية
  • تمديد حظر التجوال في مدينة طرطوس السورية