بسقوط الدّولة العثمانيّة عام 1922م انتهت دولة الخلافة، وبدأ تكوّن الدّولة الوطنيّة القطريّة، ومفهوم الدّولة بمعناها الإقليميّ الوطنيّ التّعاقديّ تبلور بشكل كبير في الغرب بعد عصر الأنوار، وتجاوزت ما كان يرى أندروفنسنت في كتابه نظريّات الدّولة إلى أنّه يُعتقد أنّ "السّلطة كان مصدرها الله، وفي نهاية المطاف كانت الكنيسة ورجال الدّين، والّتي تمثل الكيان الرّوحيّ أعلى من السّلطات المدنيّة"، "ولم تكن الكنيسة فقط أعلى أو أكثر أهميّة من السّلطة الدّينيّة، ولكن أيضا فقد التحمت معها الكنيسة والمسيحيّة متساوية في امتدادها مع المواطنة، كانت السّياسة فرعا من اللاّهوت، وكنتيجة لذلك تمتع رجال الدّين بامتيازات، كان البابا يُنظر إليه على أنّه يجسّد الحاكم الرّوحيّ والدّنيويّ للإقليم"، الأمر ذاته في العالم الإسلاميّ، هناك ربط بين الخلافة والإمامة وبين الجانب الإلهي، فالخليفة ظلّ الله في أرضه، كما أنّ الفقيه هو الموقع عن الله تعالى.

لهذا بدأت بعض المراجعات مبكرا، وأجرأها ما قدّمه عليّ عبد الرّازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والّذي صدر مبكرا عام 1925م، والّذي خلص فيه "بأنّ محمّدا - صلّى الله عليه وسلّم - ما كان إلا رسولا لدعوة دينيّة خالصة للدّين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وأنّه لم يكن للنّبىّ - صلّى الله عليه وسلّم - ملك ولا حكومة، وأنّه - صلّى الله عليه وسلّم - لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الّذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرّسل، وما كان ملكا، ولا مؤسّس دولة، ولا داعيا إلى ملك".

بيد أنّ طرح مثل هذه القضايا، ورغم بدايات تكوّن الدّولة الوطنيّة؛ لم يكن بتلك الإنشراحة في عالمنا الإسلاميّ والعربيّ، ولم توجد قراءات ناقدة بشكل كبير، خشية الرّهاب الدّينيّ، وتأثيره على الجانبين السّياسيّ والاجتماعيّ، ومع ذلك طرحت بعض القضايا المتعلّقة بالدّولة والحكامة حينها، وقد كان الاستعمار في النّصف الأول من القرن العشرين الميلاديّ وحد جميع الاتّجاهات، وتناغم الإسلاميون مع الاتّجاه اليساريّ والاشتراكيّ بشكل عام، لنجد كتابات إسلامية تحمل بعض مضامينها عناوين اشتراكيّة، ككتاب "التّكافل الاجتماعيّ في الإسلام لمحمّد أبو زهرة (ت 1974م)، و"اشتراكيّة الإسلام" لمصطفى السّباعيّ (ت 1964م)، و"العدالة الاجتماعيّة في الإسلام" لسيّد قطب (ت 1966م)، و"ومن هنا نبدأ" لخالد محمّد خالد (ت 1996م)، واعتبر عليّ شريعتيّ (ت 1977م) أنّ أبا ذر أول اشتراكيّ في الإسلام، فقد كانت هناك شيء من الانشراحة في التّعامل مع النّظريّة الاشتراكيّة، خصوصا في أجوائها الثّوريّة والاجتماعيّة وليس العقائديّة.

نظريّة الخلافة ظلّت عالقة في التّفكير الإسلاميّ الحركيّ، بيد أنّهم لاحقا أكثر انفتاحا على الأدوات العلمانيّة في الوسائل وليس الحاكميّة، والحاكميّة هي أسلمة الحكامة كما طرحها أبو الأعلى المودودي (ت 1979م) وسيّد قطب، ثمّ ظهر فريق آخر من التّيار السّلفيّ كفّر الدّولة المدنيّة لثلاثة أسباب كما عند محمّد عبد السّلام فرج في كتابه الجهاد الفريضة الغائبة: الأول: تعلو فيها أحكام الكفر أي تعطيل الشّريعة واستبدالها بالقوانين الغربيّة، والثّاني: ذهاب الأمان للمسلمين، إشارة إلى الاستبداد ضدّ الإسلاميين والتّضييق على أنشطتهم، والثّالث: المتاخمة أو المجاورة أي مع الكفار، وعلى هذا حكّام العصر كفار مرتدون وعقوبتهم أشدّ، ويستندون إلى نصوص ظاهريّة من القرآن مثلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وبعض الرّوايات كرواية: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة"، وتشكلت مؤخرا في أدبيات الحركات الجهاديّة كالقاعدة وداعش.

كما أنّ الحركات اليساريّة والقوميّة كانت الأرقى في تصوّر الدّولة المدنيّة في النّصف الأول من القرن العشرين، وكانت لها الرّؤية العصريّة في التّعليم والصّحة والزّراعة والرّعي، بيد أنّ الحركات اليساريّة في العالم العربيّ فشلت في التّطبيق العمليّ في الجملة، ويمكن القول بعد مائة سنة من سقوط الخلافة الإسلاميّة؛ لم توجد تجربة قطريّة وطنيّة متكاملة في الوطن العربيّ، كما لم توجد روح إحيائيّة تجعل الجميع سواء في نهضته الوطنيّة، وعدم التّدخل في شؤونه الدّاخليّة، لهذا نحن اليوم، ومع بدايات القرن الحادي والعشرين؛ لازال غالب أقطار العالم العربي في صراعات طائفيّة وأهليّة، كما يعاني من الجماعات المسلحة، ومن الفقر والبطالة والضّعف في جميع المستويات.

وفي نهايات النّصف الثّاني من القرن العشرين، وبداية الألفية الجديدة، وجدت العديد من القراءات النّقديّة، أكثر انشراحا واقترابا من دولة المواطنة والإنسان، ووجدت العديد من الأطروحات والنّظريّات الإحيائيّة والنّقديّة، ولكن لتحقيق هذا علينا أن نمايز بين الإحياء والتّدخل المصالحيّ، وبين اتّجاهات الحكامة في الماضي وبين الدّولة الوطنيّة المعاصرة، وبين الدّولة الوطنيّة الشّموليّة وبين الدّولة الوطنيّة التّعاقديّة.

وأمّا التّمايز بين الإحياء والتّدخل المصالحيّ؛ فالإحياء مرتبطة بالإنسان من جهة، وبالقوميّة من جهة ثانية، من حيث الأنسنة، أي يرتبط كمواطن بذاته بعيدا عن أيّ انتماءات هويّاتيّة، ومن حيث القوميّة فهي قديمة كظاهرة اجتماعيّة، حديثة كانتماءات إحيائيّة وليست تصارعيّة أو احترابيّة ، فالأمّة العربيّة وإن كانت ابتداء مكوّن إنسانيّ، إلّا أنّها قوميّة مستقلّة لها جوامعها الخاصّة، لهذا لابدّ أن يفكر جميع أقطارها بعقل الإحياء للكل، لا بعقل المصالح والمنافع الآنيّة، فإحياء جزء منها هو إحياء للكل.

وأمّا اتّجاهات الحكامة في الماضي وبين الدّولة الوطنيّة المعاصرة، فظرفيّة الماضي تختلف عن ظرفيّة الحاضر، فلها قيمها المطلقة، إلّا أنّ مصاديقها ظرفيّة، ومنها ما يتعلّق بمصاديق الحكامة والسّلطة كما يرى حسين الخشن أنّ "الحكم الصّادر عنه – صلّى الله عليه وآله وسلّم – بصفته قائدا للمجتمع، وما يسمّى بالحكم التّدبيري أو الولايتي أو السّلطاني فالأصل أن يكون ظرفيّا وليس دائميّا"، فعلى العقل المعرفيّ أن يشتغل بقيم الدّولة، وحقوق الإنسان فيها، ومدى تحقّق قيم العدالة والمساواة، بدل الإغراق في قضايا ماورائيّة، أو صراعات مفاهيميّة

وهذا ينطبق أيضا على الدّولة الوطنيّة الشّموليّة بينها وبين الدّولة الوطنيّة التّعاقديّة، فدولنا العربيّة والإسلاميّة عموما كانت ملكيّة أم جمهوريّة، عليها أن تؤمن اليوم بضرورة التّعاقد، لأجل تحجيم الاستبداد، ولأجل الشّراك في الموازنات الدّاخليّة، والاستفادة من التّدافع بشكل إيجابيّ، فيما يحققّ النّهضة الإحيائيّة في الدّولة القطريّة، مع ضرورة بعث الإحياء لجميع البشر، واحترام ما يرتضونه من تعاقد بينهم.

بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صل ى الله علیه فی الت ما کان

إقرأ أيضاً:

الجامعة العربية: لا تقدم ولا تنمية في العالم العربي دون استثمار طاقات الشباب وقدراتهم

أكد السفير أحمد رشيد خطابي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية رئيس قطاع الاتصال و الإعلام، أن الشباب يشكل الشريحة الرئيسية في النسيج الديموغرافي لمجتمعاتنا العربية والأكثر تفاعلا مع التحولات التواصلية العميقة في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي اكتسحت مختلف القطاعات المهنية والانتاجية والمعاملات الاقتصادية والمالية والتجارية والاستهلاكية والخدمات العامة والاجتماعية والإعلامية.، لذا فهو مطالب بالتعامل الجاد مع هذا التحول المذهل والمتسارع وخاصة على مستوى التكوين والتأهيل الرقمي لاستخدام تطبيقات الإعلام الجديد بشكل آمن ومسئول.

وقال السفير خطابي خلال كلمته في أعمال الجلسة الافتتاحية للنسخة الثالثة للملتقي العلمي الدولي للغة والإعلام، بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل والبحري، إن ما لا يقل عن 5 مليارات شخص يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي بما يعادل 64.6 من سكان العالم، ويتم يوميا إرسال ما لا يقل عن 100مليار رسالة عبر الواتس، و5.4 مليار شخص يستخدمون محرك غوغل، بما في ذلك بمنطقتنا العربية حيث إن 53 في المائة ممن يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي من الشباب.


وشدد على أهمية تعميم التربية الإعلامية في المنهاج التعليمي العربي بما يساعد على نشر الوعي في أوساط الشباب وتملك تفكير نقدي للتعامل الايجابي مع التأثيرات والمحتويات الإعلامية الضارة في الفضاء الرقمي من قبيل حماية البيانات الشخصية، واحترام  القيم الثقافية والمجتمعية، ومحاربة الإشاعات المضللة والأخبار الزائفة.
 
وأضاف أنه من الضروري الإسراع بالانتقال الرقمي وتوفير البيئة الداعمة لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي واستغلال الفرص التي يتيحها في قطاعات متعددة، وذلك في نطاق استراتيجيات تثمن الطاقات الخلاقة للشباب، بعيدا عن منطق التردد والتوجسات، لرفع التحديات القانونية والمهنية والاخلاقية التي تثيرها هذه التطبيقات وتمكن، وهذا أمر حيوي وأساسي، من التشجيع على الانخراط الناجع للشباب في وضع البرامج التنموية المحلية والوطنية وصناعة القرار.

وأشار إلى أنه لا تقدم ولا تنمية حقيقية للعالم العربي دون استثمار في طاقات وقدرات الشباب ولا تقدم ولا تنمية حقيقية دون سيادة تكنولوجية ورقمية وخاصة مع تزايد انتشار المخاطر السيبرانية. 

مقالات مشابهة

  • أستاذ عقيدة: الحاكمية فكرة موهومة تستهدف إسقاط الحكومات
  • رحمة رياض.. في قائمة أكثر النجمات العربيّات متابعةً على “يوتيوب”
  • مسؤول أممي: أزمة نقص المياه تتفاقم في العالم العربي
  • استراتيجية جديدة لتعزيز التربية الإعلامية في العالم العربي
  • الانقسامات داخل الأردن وبين العرب
  • انهيار عقيدة خامنئي.. سياسة 35 عاماً في العالم العربي
  • الجامعة العربية: لا تقدم ولا تنمية في العالم العربي دون استثمار طاقات الشباب وقدراتهم
  • سلطنةُ عُمان تشارك دول العالم الاحتفال بيوم البيئة العربي
  • أول دستور للتعايش.. الإفتاء: فكرة المواطنة مأخوذة من وثيقة المدينة المنورة