شمال سوريا.. أبعاد رسائل إنذار روسية
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
قبل أسبوعين، وبينما كان حزب الله يتلقى الضربات الكبيرة في جنوب لبنان راجت معلومات بين أوساط المدنيين في شمال غرب سوريا تفيد بأن الفصائل المسلحة هناك بصدد إطلاق معركة لتوسيع رقعة سيطرتها، وبهدف "اغتنام فرصة الضعف" الذي تعيشه الجماعة اللبنانية، وهي المساندة لقوات النظام السوري في عدة جبهات على الأرض.
ورغم أن تلك المعلومات بقيت في نطاق غير رسمي كان لرواجها تداعيات على الأرض، ووصلت في آخر محطاتها إلى حد اتجاه الجانب الروسي لتنفيذ أكثر من 25 غارة جوية في يوم واحد (الاثنين)، في سلوك أشبه "بالرسائل"، حسبما يقول خبراء ومراقبون لموقع "الحرة".
الغارات لا تزال مستمرة حتى الآن، وهي الأعنف والأشد بعد فترة هدوء استمرت 3 أشهر، وكان قد سبقها اتجاه النظام السوري لاستقدام تعزيزات عسكرية إلى الجبهات التي تفصله مع فصائل المعارضة في شمال سوريا، مما دفع آلاف المدنيين للنزوح خارج مناطقهم الواقعة على خطوط التماس.
ويقول مدير فريق "منسقو الاستجابة" في شمال سوريا، محمد حلاج، لموقع "الحرة" إنهم وثقوا منذ بداية الأول من أكتوبر وحتى السابع من هذا الشهر نزوح 7 آلاف و200 شخص من القرى والبلدات المحاذية لخطوط التماس.
ويضيف أن أسباب النزوح ارتبطت أولا بالمعلومات التي انتشرت عن بوادر حصول عمليات عسكرية في المنطقة بشمال غربي البلاد. وبعدما بدأت الطائرات الروسية شن غاراتها غير المسبوقة منذ 3 أشهر الاثنين ازدادت الحالة على نحو أكبر.
وتسيطر فصائل من المعارضة المسلحة منذ سنوات على مناطق ليست بالكبيرة في شمال غربي البلاد، وتتصدرها "هيئة تحرير الشام" المصنفة على قوائم الإرهاب.
وفي حين أن "تحرير الشام" لم تعلن بشكل رسمي عن نواياها بشأن إطلاق عمل عسكري كانت الأوساط المرتبطة بها تلمح إلى قرب تنفيذ ذلك، وبالشراكة مع فصائل أخرى تنضوي جميعا فيما يعرف بـ"غرفة عمليات الفتح المبين".
ودفع ما سبق النظام السوري لاستقدام قوات إلى نقاطه المنتشرة في شمال غرب سوريا، وتزامن مع ذلك اتجاه وسائل إعلامه إلى الحديث عن "رسائل تحذير من مغبة الإقدام على أي تهور"، على حد تعبير صحيفة "الوطن".
وذكرت الصحيفة في عددها الصادر الاثنين أن "الضربات الجوية الروسية تصب في إطار التحذيرات"، وخصوصا أن "تحرير الشام تعمد إلى حشد مسلحيها على جبهات القتال بهدف شن عدوان واسع".
"فصل جديد من الخوف"ودائما ما يدفع المدنيون في شمال غرب سوريا ثمن العمليات العسكرية والقصف الروسي المرافق لها، ومنذ سنوات فقد الآلاف منهم أرواحهم ووصل الحال بآخرين للعيش في مخيمات تقع على طول الحدود السورية مع تركيا.
ويشرح الصحفي السوري المقيم في إدلب، عز الدين زكور لموقع "الحرة" الواقع الراهن في الشمال الغربي للبلاد ويقول إن "الأجواء التي تخيم على المنطقة وخاصة في إدلب باتت لا تخرج عن إطار الترقب والحذر".
ويقول إن "التصعيد العسكري من قبل الطائرات الروسية تسبب بقلق كبير للأهالي"، وحتى أن الحالة ذاتها انعكست على صعيد الفصائل العسكرية، من منطلق أن الغارات هي الأشد بعد فترة هدوء استمرت ثلاثة أشهر.
الغارات الروسية التي بلغت يوم الاثنين 25 استهدفت مواقع عدة في ريف محافظات إدلب وحلب واللاذقية.
وبحسب زكور طالت "بنك أهداف قديم"، الأمر الذي يشير بأن ما حصل "كان بمثابة رسائل سياسية أكثر منها عسكرية".
طوال سنوات الحرب الماضية في سوريا أصبحت محافظة إدلب في الشمال الغربي للبلاد الملاذ الأخير للسوريين الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه، وبحسب إحصائيات لمنظمات إنسانية يقيم فيها أكثر من 4 ملايين مدني.
وتخضع المحافظة لاتفاقيات تركية- روسية، تدخل إيران بجزء منها أيضا ضمن تفاهمات "أستانة".
ولا يعرف ما إذا كانت الفصائل العسكرية المعارضة تنوي إطلاق عمل عسكري باتجاه مواقع سيطرة النظام السوري أم لا، ومع ذلك يرى الصحفي السوري أن أي هجمات جديدة على المنطقة وقد تطال الأحياء المدنية ستكون "كارثة مضاعفة".
وتعاني مناطق شمال غرب سوريا من "كارثة مركبّة" بالفعل، كما يشرح الناشط الإنساني، محمد حلاج، مشيرا بمعرض حديثه إلى "انخفاض حجم التمويل المخصص للنازحين وأزمة السكن الحاصلة".
ويقول إنهم يتخوفون من أي عملية عسكرية قد تسفر عن نزوح أكثر من 200 ألف مدني من المناطق القريبة من خطوط التماس ومن مدينة إدلب أيضا المكتظة بالسكان.
"المنطقة لم تعد تحتمل"وعلى مدى الأيام الماضية كان الآلاف من السوريين الفارين من لبنان قد وصلوا إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة، بجزئيها: ريف حلب ومحافظة إدلب.
ومن شأن أي عملية عسكرية أو حالة تصعيد جديدة أن تهدد أرواح كثر وتسفر عن أزمة إنسانية غير مسبوقة، نظرا للاكتظاظ الحاصل في السكان هناك.
ويضيف الناشط الإنساني حلاج: "هناك خطورة كبيرة على المنطقة من حيث عدد السكان. لم تعد تحتمل".
ويشير إلى أن عامل الخطورة يدعم محركاته على نحو كبير "أزمة ضعف التمويل وانخفاض الدعم"، وقرب دخولنا بفصل الشتاء، فضلا عن أزمة الحصول على منزل والتضخم والغلاء في الأسعار.
المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في شمال سوريا لا يوجد لها أي منفس تجاري وإنساني سوى مع الجانب التركي.
ورغم أن تلك المناطق ترتبط بعدة معابر حدودية وداخلية ليس من السهل على المدنيين الفرار إلى أي منطقة أخرى، في حالة اندلاع أي عملية عسكرية جديدة.
ويرى الباحث في مركز "حرمون للدراسات المعاصرة"، نوار شعبان أن الغارات التي بدأت روسيا بتنفيذها هي نوع من "عرض العضلات، ولكي تقول إنها تملك السماء ولديها القدرة على تنفيذ ضربات واسعة في جغرافيا مترامية الأطراف وبوقت قليل جدا".
وفي المقابل يعتبرها في حديثه لموقع "الحرة" كـ"رسالة بأن لدى موسكو قوة جوية مؤذية ولا تزال حاضرة في المشهد السوري".
من ناحية أخرى يستبعد شعبان يستبعد أن تكون التعزيزات العسكرية التي استقدمتها قوات النظام السوري إلى المنطقة "هجومية"، ويوضح أنها دفاعية وتذهب أسباب وصولها بعدة اتجاهات.
وقد تكون بغرض تعزيز الجبهات بعد الترويج الحاصل من جانب فصائل المعارضة بشأن الهجوم المرتقب، ويمكن أن تكون جزءا من "محاولة ضبط خطوط التماس بعدما كانت تمسكها أذرع تتبع لحزب الله".
"رسائل إنذار"يوضح شعبان أن الأهداف التي طالتها الغارات الروسية يوم الاثنين كانت "عشوائية"، مما يدعم فرضية أنها عبارة عن "رسائل إنذار".
وفي حين لا يستبعد أن تكون موسكو تبحث عن جبهة "لكي ترد اعتبارها بعدما انكسرت في عدة جبهات في الساحة الأوكرانية" يشير إلى أن "تاريخ روسيا في سوريا يؤكد أنها تحرق الأرض بكل ما فيها ولو بوجود المدنيين في حال تعرضت للاستفزاز".
ومن جانبه يقول المحلل السياسي المقيم في موسكو، محمود الفندي إن الهجمات الروسية الجديدة على مناطق شمال غرب سوريا "بمثابة ثمار لما روجت له جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) في الأيام الماضية"، في إشارة منه لحالة الترويج بشأن وجود عمل عسكري.
ويعتبر في حديثه لموقع "الحرة" أن الهجمات قد تكون مرتبطة أيضا بما تحدث عنه المسؤولون الروس مؤخرا، إذ ادعوا أن الفصائل في شمال غرب سوريا تتواصل مع المخابرات الأوكرانية لتنفيذ هجمات ضد القوات الروسية في سوريا.
"لا تغيير للسيطرة"منذ عام 2020 لم تتغير حدود السيطرة بين أطراف النفوذ الفاعلة في سوريا. ويشمل ذلك فصائل المعارضة في شمال سوريا و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي من البلاد.
وفيما يتعلق بإدلب دائما ما تتجه الأنظار، عند بحث ملفها، إلى الاتفاقيات والتفاهمات التي أبرمتها تركيا مع روسيا، وكان أشهرها في 2020 عندما التقى الرئيسين، فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان.
وما تشهده مناطق شمال غرب سوريا الآن من حالة "عدم يقين" يأتي في ظل غموض يشوب مسار العلاقة بين تركيا وروسيا من جهة وتركيا والنظام السوري من جهة أخرى.
ورغم أن كل من أنقرة ودمشق كانتا اتخذتا مؤخرا خطوات للأمام على صعيد فتح أبواب الحوار لم تصلا إلى نتيجة حتى الآن، في ظل إصرار النظام السوري على شرط انسحاب القوات التركية من سوريا.
وطالما أكد المسؤولون الأتراك وبينهم وزير الخارجية، حقان فيدان أن "فترة الهدوء المستمرة من 6 - 7 سنوات أتاحت للنظام السوري الفرصة لحل بعض مشكلاته السياسية وحل مشكلات البنية التحتية والاقتصاد".
وأضاف في يوليو الماضي: "والآن علينا تحويل هذه الحالة المؤقتة إلى حالة أكثر ديمومة"، مركزاً على ضرورة حل مسألة "الإرهاب" وقضية اللاجئين.
ويعطي ما سبق مؤشرا على عدم وجود أي نية لدى تركيا لتغيير حدود السيطرة على الأرض.
ويعتقد الباحث السياسي والأمني التركي، عمر أوزكيزيلجيك أن "المعارضة السورية وهيئة تحرير الشام لا تملكان القدرة على شن هجوم والنجاح بدون دعم جوي تركي مباشر".
و "لا يزال سلاح الجو الروسي العامل الرئيسي الذي يغير قواعد اللعبة في المنطقة"، بحسب قوله لموقع "الحرة".
النشاط الجوي الروسي الأخير وتعزيزات نظام الأسد وإيران على الخطوط الأمامية محاولة للإشارة إلى أن أولوياتهم ليست محاربة إسرائيل، بل المعارضة السورية، بحسب أوزكيزيلجيك.
ويوضح أن "هذه التطورات تهدف إلى ردع المعارضة السورية عن شن هجوم".
ومع ذلك، فإن العملية التي تقودها تركيا ضد "وحدات حماية الشعب" (العماد العسكري لقسد) قد تكون احتمالا، وتعتمد هذه العملية على التفاهم التركي- الروسي أو التركي- الأميركي.
بوجهة نظر الباحث الأمني التركي "فقد ولت الأيام في سوريا حيث يمكن للجهات المسلحة غير الحكومية تغيير السيطرة الإقليمية".
لكنه يؤكد في المقابل أن ما سبق "لا يعني أن هذه الجهات المحلية لا يمكنها الاستفزاز والتصعيد لجر الجهات الفاعلة الحكومية للمواجهة".
ومن جانبه يقول الباحث شعبان إن "الجميع في سوريا يسير على خيط رفيع جدا.. وقد تتغير كل الحسابات بلحظة واحدة في حال اختل أي شيء".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: فی شمال غرب سوریا النظام السوری فی شمال سوریا تحریر الشام فی سوریا أکثر من
إقرأ أيضاً:
رايةٌ في الرمال.. مستقبل تنظيم الدولة في سوريا الجديدة
أعلنت القيادة المركزية الأميركية (سانتكوم) بتاريخ 21/12/2024، مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المدعو "أبو يوسف" في محافظة دير الزور شرق سوريا، قبل أن تُعدل الخبر الذي نشر على حساب القيادة على منصة x (توتير سابقاً) وتدعي أن المستهدف أحد قادة التنظيم ويدعى محمود "أبو يوسف" واثنين من مرافقيه.
يأتي هذا الإعلان بعد يومين من تاريخ تنفيذ هذه الضربة، مما يدلل على أن الخطأ لم يكن من استعجال في إيراد المعلومة، بل يعكس تخبطا في الإستراتيجية المتبعة في قتال التنظيم، ورغم الإعلانات المتكررة من التحالف الدولي ضد الإرهاب عن تقدم في تحييد قادة وعناصر التنظيم إلا أن وتيرة حركة التنظيم في سوريا لم تتغير إلا بعد سقوط النظام السوري السابق، ولذلك مسببات نحاول تفنيدها في هذه المقالة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2شتم نتنياهو وأعاد ترامب نشر كلامه.. من هو الاقتصادي جيفري ساكس؟list 2 of 2بعد سقوط الدولة المتوحشة .. أعين فرنسا مسمّرة على مسيحيي سورياend of list واقع التنظيم في سورياينتشر التنظيم في سوريا في منطقتين منفصلتين، الأولى في الجزيرة السورية (شمال شرقي سوريا)، وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي، حيث يتحرك التنظيم في البادية الجنوبية لمحافظة الحسكة، والتي تتصل هي الأخرى بالجهة الشمالية الشرقية من مدينة البوكمال الحدودية وتحديداً عن بلدة الباغوز آخر معاقل التنظيم الحضرية، هذه المنطقة تتصل جغرافياً ببادية الحضر في محافظة نينوى العراقية، ورغم وجود الكتل الإسمنتية الفاصلة بين البلدين إلا أن التنظيم لا يزال يتنقل عبر الحدود، هذا ما أكده لنا أحد سكان ريف محافظة الحسكة.
إعلانأما المِنطقة الثانية المعروفة باسم البادية الشامية، وتقع في محيط مدينة تدمر شرق محافظة حمص، وتتصف بأنها واسعة وتنتهي بأطراف معظم المحافظات السورية وتتصل أيضاً ببادية الأنبار العراقية التي تُعد معقلا أساسيا للتنظيم، استفاد التنظيم سابقاً من تقاسم النفوذ على طول الشريط الحدودي بين القوات الأميركية الموجودة في قاعدة التنف العسكرية والمليشيات الإيرانية التي كانت مسيطرة على مدينة البوكمال، وإضافة إلى خبرته الطويلة -نسبياً- في قتال الصحراء والتكيف معها، تمكن التنظيم من إبقاء حركته بين البلدين في هذه المنطقة.
تعدد الأطراف التي تقاتل التنظيم وحالة العداء أو الندية بينها خلق حالة مرتبكة ظهرت جلياً في الفترة الأخيرة (خلال عامي 2024-2023)، وساهم هذا الأمر في جعل المعلومات عن أعداد التنظيم وتحركاته غير دقيقة ومتفاوتة تفاوتا كبيرا، فحتى هذا الوقت لا يوجد رقم دقيق لأعداد عناصر التنظيم في سوريا، إلا أن بعض المصادر الميدانية رجحت أن تعداد عناصر تنظيم الدولة النشطين في سوريا يتراوح بين 900-1100 عنصر، الجزء الأكبر منهم في البادية الشامية بينما ينتشر الجزء الأقل في الجزيرة السورية (شمال شرق سوريا).
لماذا خفت وتيرة هجمات التنظيم في سورياخلال السنوات الأخيرة، بعد خسارة التنظيم آخر معاقله الحضرية، نفذت مجموعات التنظيم مئات العمليات العسكرية والأمنية في سوريا، معظمها كان على شكل هجمات سريعة تستهدف نقاط تمركز المليشيات الإيرانية وعناصر جيش النظام السوري السابق، إضافة إلى هجمات متتالية على صهاريج (خزانات) نقل النفط التي تحمل شحناتها من حقول الجزيرة السورية إلى مصفاتي حمص وبانياس.
وسجل عام 2024 أكثر عدد لهجمات التنظيم في سوريا، وارتفاع هذه الوتيرة تدريجياً يعود إلى الاعتيادية التي تطورت لدى قادة التنظيم في فهم تحركات المليشيات الإيرانية وطبيعة انتشارها وتمركزها، ويعزز هذا السبب أيضاً عدم وجود خطط هجومية من هذه المليشيات وجيش النظام السابق الذي اكتفى بوضعية الدفاع والتصدي وتحركات وقائية فقط، بينما التنظيم كان المبادر في أغلب المراحل نظرا لخبرته العالية في قتال الصحراء ضمن إستراتيجية حرب العصابات السريعة التي تعجز أمامها العقلية التقليدية للجيوش النظامية أو شبه النظامية، وتُعد هذه نقطة ضعف المليشيات الإيرانية، فرغم أن الطابع المؤسس لهذه المليشيات ذو حركية فاعلة إلا أن ارتباطها بجيش النظام السابق والتنسيق مع الطيران الروسي أضعف لديها المرونة المطلوبة لمجابهة التنظيم.
إعلانومنذ إعلان سقوط النظام السوري المخلوع، خفت هجمات التنظيم باستثناء الاعتيادية منها في منطقة الجزيرة السورية، وهجومين في البادية الشامية أحدهما استهدف حقل شاعر للغاز وأدى إلى مقتل مدير الحقل، هذا الاختفاء -النسبي- ليس بالضرورة أن يكون دائما، فعلى الأرجح مؤقت ويعود لأسباب عديدة، أهمها:
انتهاء وجود نقاط التمركز والإسناد التي كانت تشغلها المليشيات الإيرانية وعناصر جيش النظام السابق في البادية الشامية، فكان معظم هذه المليشيات أهدافا في متناول التنظيم، يُضاف إليها حركة الأرتال العسكرية بين محافظتي دير الزور والعاصمة دمشق مروراً بمدينة تدمر. تقدم مجموعات من جيش سوريا الحرة المدعوم من قاعدة التنف العسكرية إلى نقاط متقدمة في البادية الشامية، خاصة في شرق مدينة تدمر ومحطة نقل النفط T2 في بادية محافظة دير الزور. انتشار مجموعات عسكرية تتبع إدارة العمليات العسكرية والتي انتظمت حالياً في فرقة عسكرية (البادية) تتبع وزارة الدفاع في سوريا، كان لها الدور الأبرز في سد الفراغ في المنطقة وسيطرتها على مواقع إستراتيجية في البادية خاصة على الطريق الوحيد الذي يربط محافظتي دير الزور ودمشق.من المؤكد أن سقوط النظام السوري السابق ووصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق لم يكن خبراً ساراً للتنظيم على الإطلاق، عبّر عن ذلك التنظيم بإصدار مرئي نشرته منصات مقربة من التنظيم بتاريخ 24/1/2025، هدد فيه الإدارة السورية الجديدة في حال طبقت قوانين وميثاق الأمم المتحدة في السلم والحرب، ويُعد هذا الإصدار هو الأول من نوعه بعد انقطاع طويل ويُعبر عن التخوفات من وصول القيادة الجديدة لدمشق ويعطي مبررات مسبقة لتصرفاته اللاحقة.
القيادات الجديدة في دمشق خاصة في وزارة الدفاع والأمن العام التابع لوزارة الداخلية وجهاز الاستخبارات معظمها من القيادات السابقة لهيئة تحرير الشام، والتي خبرت جيداً تنظيم الدولة من خلال سنوات من المعارك ضده في المنطقة الشرقية ودرعا ووسط سوريا وآخرها في إدلب، وتمكنت هذه القيادات من الإيقاع بخلايا التنظيم وحلقاته القيادية ومفارزه الأمنية، وتمتلك القيادة الجديدة مجموعات عسكرية متقدمة من ناحية التأهيل العسكري والأمني تمكنها من مجابهة التنظيم، ويبدو أن النهج الذي تتبعه القيادة الجديدة لن يكون متساهلا مع التنظيم، ويظهر ذلك في إقرار تشكيل أو فرقة في وزارة الدفاع وإسناد مهمة البادية لها وهو مؤشر لتوجهاتها في منع التنظيم من تحقيق أي تقدم له، ويمكن اختصار الإستراتيجية في أنها ستكون مواجهة وفق سياقاتها التالية:
إعلان الاستعداد العسكري الميداني والدخول في مواجهة مفتوحة ضد مجموعات التنظيم في البادية الشامية، مستفيدين من مزايا مجموعات فرقة البادية الذين في غالبهم يمتلكون مقومات قتال الصحراء ومحاكاة الطريقة التي يقاتل بها تنظيم الدولة. جهاز الاستخبارات سيكون له الدور الفاعل في متابعة التنظيم أمنياً، سابقاً تمكن جهاز الأمن العام التابع لحكومة الإنقاذ من اصطياد عشرات القادة وعناصر التنظيم. منع التنظيم من الحصول على مستلزماته العسكرية واللوجستية بتشديد التموضع لفرقة البادية على الطرقات الرئيسية وسط الصحراء، وينتظر أيضاً وضع خطة لضبط الحدود بين سوريا والعراق. السطوة المطلقة على مواقع انتشار التنظيم من وزارة الدفاع السورية ستكون مهمة لصالح القيادة من أجل سحب ذرائع وجود التحالف الدولي ضد الإرهاب في سوريا، لذلك ستركز دمشق في خططها في المستقبل القريب لدحر التنظيم. دور التحالف الدوليفي منطقة البادية الشامية اقتصر دور التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ ضربات جوية محدودة على مواقع التنظيم، دون أن تكون هناك أيُ عمليات برية متقدمة، إلا في حالات تمشيط في محيط منطقة 55 الملاصقة لقاعدة التنف العسكرية، وقد يكون مغزى هذه الإستراتيجية أمران، الأول: إبقاء انشغال التنظيم في مهاجمة المليشيات الإيرانية التي كانت تنتشر نقاطها بالعشرات في البادية، والثاني: عدم خلق مواجهة مفتوحة تضطر إليها القوات الأميركية لتغيير تموضعها القتالي في قاعدة التنف العسكرية التي ستكرن وقتها -حتماً- هدفاً للتنظيم، بينما في منطقة الجزيرة السورية فشاركت القوات الأميركية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعشرات الحملات الأمنية وعمليات التوغل في البوادي (جنوب الحسكة).
(الفرنسية)
لكن فاعلية هذه العمليات لم تكن بالمستوى الحرفي، نظرا لشح المعلومات أو الاعتماد على قوات الآسايش في جمع المعلومات التي في غالبها تكون غير دقيقة وكيدية ضد بعض مكونات المنطقة، ففشل بذلك عدد من عمليات الإنزال الجوي التي نفذها التحالف الدولي في ريف محافظة دير الزور، ورغم تكرار الإعلان من قيادة التحالف عن إنجازات كبيرة تحققت في قتال التنظيم في المنطقة إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى خلاف ذلك، ويبقى المحدد الأساسي في تبيان دور التحالف الدولي ميدانياً هو في تمكن التنظيم من إعادة السيطرة على المناطق الحضرية (بلدات ومدن) وهذا لم يحدث، بينما مسارات الحضور الأمني والظهور المتكرر لمجموعات التنظيم وخطره بقي حاضراً ويُشكل هاجساً قوياً للسكان المحليين.
إعلانالتصريحات الأميركية المتعلقة بالانسحاب من سوريا، والتزامها بضمان إنهاء تنظيم الدولة في المنطقة يقعان على طرفي نقيض نظرياً، وهذا ما يجعل التفاهم بين واشنطن ودمشق على خطط الحماية محتملة، يعترض هذا الاحتمال عدم وجود تعاون قائم بين الطرفين وتركيز واشنطن على مشاركة قسد في حربها ضد التنظيم، وهذا مغاير للمثال العراقي حيث دربت ودعمت واشنطن الجيش العراقي وفق برامج مشتركة لقتال التنظيم.
مستقبل تنظيم الدولة في سورياالعتبة التي لم يستطع تنظيم الدولة التغلب عليها خاصة في سوريا هي الخطاب العام المتراجع، وتوقف مفردات هذا الخطاب عند مستوى غير جاذب على أقل تقدير في الأوساط المتماهية معه، وتزداد صعوبة هذا المشهد بالنسبة للتنظيم في تأمين حواضن آمنة له وجذب منتسبين جدد إليه، وأصبح اعتماد التنظيم على العناصر السابقة لديه وحالات تجنيد فردية غير مجدية أو فاعلة، يضاف إلى ذلك ضعف شديد ويكاد يكون معدوما كلياً في استقدام العناصر الأجنبية (من غير السوريين) التي يعد وجودها عاملاً أساسياً في بلورة خطاب التنظيم ودعم قطاعاته القتالية والتنظيمية.
ويُشكل الانتصار الذي حققته إدارة العمليات العسكرية بمعركة ردع العدوان التي قادتها هيئة تحرير الشام ووصولهم لدمشق ضربة قاسية للتنظيم لن يتمكن في الغالب من صياغة خطاب ملائم يبرر فيه فشله وانتصار (عدوه) في تحقيق النصر، وهذا يجعل الباب مفتوحاً لانشقاقات محتملة داخل صفوف التنظيم حالياً وانفضاض المروجين له لصالح المنتصر في دمشق، وأمام هذا المشهد قد يذهب التنظيم نحو استعداء مفضوح ضد القيادة السورية الجديدة وهذا الذي عبر عنه في الإصدار المرئي الأخير، والاعتماد على السياق الأمني لإثبات الحضور والوجود، دون أن يغير ذلك في المعادلة الأمنية والعسكرية للمنطقة.
السردية التي بنى عليها التنظيم خطابه العام عانت من تصدعات كبيرة، وجعلت مجمل تحركاته في حالة تراجع، انعكس ذلك جليا على عملية التجنيد أو بقاء الفاعلية قائمة في صفوفه، ويعاني التنظيم من تأمين الموارد المالية واللوجستية، وكل هذه الظروف تدفع باتجاه إضعاف النقطة التي يتفوق بها وهي حرب الصحراء، خاصة من وجود مقاتلين يتبعون لوزارة الدفاع السورية خبروا جيداً هذه المنطقة واعتادوا على أساليب القتال التي ينتهجها التنظيم، أي بات التنظيم يواجه طرفاً يحاربه بذات الأدوات التي يتفوق بها ذاته.
إعلانيدرك التنظيم أنه لا مجال -مطلقاً- لأي مهادنة مع القيادة السورية الجديدة، وأن المستقبل في البادية الشامية لن يكون جيداً له، خاصة مع ورود أنباء عن تمركز مستقبلي للجيش التركي في قواعد عسكرية في المنطقة (مطار تدمر العسكري، مطار T4) وهذا يؤمن تغطية جوية ومسوحات استخبارية للبادية التي تمكن وزارة الدفاع في سوريا من إحراز تقدم واسع في تأمين البادية وانهاء أو إبعاد على أقل تقدير مخاطر التنظيم.
من جهة أخرى فإن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مساعي حكومته لانسحاب قواته من سوريا قد يدفع بعض الجهات إلى تسهيل حركة التنظيم في المنطقة وخاصة في الجزيرة السورية من أجل إجبار القوات الأميركية على إعادة التفكير في خطط الانسحاب إما بإلغائها أو تأجيلها، وحتماً التنظيم سيستجيب لأي تسهيلات يراها دون قراءة نتائج هذا التحرك.
على المدى القريب والمتوسط وبحسب القراءة الميدانية لوقائع التنظيم فإن التأثير الأمني المحدود سيبقى حاضراً أما التوسع أو التأثير المباشر في المعادلات الأمنية والعسكرية، فمن غير المتوقع أن تتمكن قيادات التنظيم من التأثير بها، ولعل البقاء بهذا المستوى تعتبره اللجنة المفوضة في التنظيم إنجازاً جيداً ومقبولاً تحاول الحفاظ عليه بغية انتظار تغيُر في الظروف تسمح له بإعادة السيطرة والانتشار من جديد.