لجريدة عمان:
2024-11-22@05:40:32 GMT

كثرة اليابسة.. وفرة المعنى وقلة اللّفظ

تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT

كما الصوفـي يجد المعنى فـينقطع لسانه ويدرك عجز اللفظ عن احتواء وفـير المعنى الذي حل به، يجول عبد الله حبيب فـي المعاني الشريفة (فـي منزلتها فـي الوجود البشري)، يشير إليها ولا يخوض فـيها تفصيلا وفـيضان لغْو، يقف على المعاني الجليلة بشذرات وتأملات، وإشارات تتعسر أبعادها ومقاصدها على قارئ الشكل، قاصد اللفظ، وتنفتح مغاليقها لمن تحمل من الوجود اختبارا وتجريبا، وساح فـي عوالمه عيْنا وذهنا، وجال بين دفات الكتب يعاين غثها وسمينها، وشاهد من الفنون المرئية ما حصل له به إدراك ووعيٌ، وفتح عقول الفلاسفة يتشرب منها رحيقا يوافق مساره الذهني.

كتاب «كثيرةٌ جدا هذه اليابسة» الذي أصدره عبد الله حبيب مؤخرا، هو نصوصٌ وشذراتٌ وتأملاتٌ خطها كاتبها نتاج تجارب كتابة وحياة وتفاعل مع كون من حوْله، تفتح على الموت وعلى حيوات أزْهرت وذبلت، ولم يضع بعْد قلمه على حقيقة الوجود. هي نصوصٌ عصيةٌ على التجنيس، أبيةٌ على التصنيف، أرادها صاحبها نفْث مصدور، خارج نطاق التعليب، يلامس فـيها مواضيع لا يمكن أيضا ضبْطها ولا حدها، هي نفحات الصوفـي المؤمن بالمعنى الآبق عن الأوعية والأشكال، المعنى فـي إدراكه إحساسا ووعيا لا لفظا وبيانا، ولذلك فإنه ينفث المعاني العظيمة فـي «شذرات» فـي إشارات كأسْلافه الكبار الذين استعاضوا عن العبارة بالإشارة، واستبدلوا ضيق العبارة بوسيع الأفق، فنقرأ وعيا بالوجود، بكل أثْقاله ومعانيه التي يحملها معه، الحب والموت، بديلا عن الحياة والموت، فالحب هو الحياة، هو الركن المكين الذي تأسست عليه شذراتٌ ونصوصٌ وتأملات، وهو أصْلٌ جدير بالتأمل، حقيق بشذرة تفتح الذهن على عميق المعاني، الحب بؤرةٌ جالبةٌ جاذبةٌ وهو باق بقاء الإنسان، «سيبقى الحب دوما أكثر الحالات كثافة، تماما مثل الموت»، يقترن الحب بالموت، بالحياة، بالوجود الإنساني، يعبر عنه عبد الله حبيب فـي مناسبات عدد، إشارة أو مجادلة، أو لسع واخز، أو مفاضلة بين الفلاسفة فـي عمق إدراكهم لأبعاد الحب وأثره فـي الوجود البشري.

نصوصٌ حرة تبْدي رؤية وتفاعلا مع كتب، مع فلاسفة، مع سينمائيين، مع كتاب، مع وجود بشري من منظور فنان عايشها وعاشها وتفاعل معها إيجابا وسلْبا، مع حالات الفنان الإنسان، المخفـية والمعلنة، الفنان الذي يأكله الاكتئاب بفعل دقة إدراكه وحسن وعيه، فـيأكله هذا «الوحش البغيض»، ويوجد له حدا ويقدر على تعريفه فـيستدعي مقولة سوزان سونتاغ «الاكتئاب حزن بدون سحر»، ويعقب صاحب الكتاب على ذلك قائلا: «الاكتئاب حزن من غير شفافـية، غمٌ ليس كالهم، أمٌ من دون حنان، حليب فاسد، وسحابة اختناق»، الفنان، الأديب، هو المرشح لحالات الاكتئاب، بالرغم من أنه الأقدر على تحويل الهم والحزن إلى أعمال فنية خالدة. يطرق عبد الله حبيب مواضيع تخص العمق البشري، دون تعليل أو تحليل، دون كسْر للرؤوس والأدمغة، فـي وجيز من القول، وكأنه غير معني بالبيان والإقناع، وإنما هو معني بالقول، بأنْ يصْدر المعنى، بأن يبث رأيه ورؤيته من عناصر هذه الحياة. يستدعي عبد الله حبيب أصواتا وأصداء عددا يجول فـيها وبها، يسْحبها من وفْرة ما ورقت وما صورت وما أخْرجت وما قالت إلى مخْتصر من التعبير، موجز من اللفظ، يستدعي «شياطينه» فـي الكتابة وفـي السينما، فـي الفكر وفـي الإبداع، فـي الصورة وفـي الكلمة، وقد أجْمل تجاربها وامتص عصارتها واختصر وافر منتجها فـي عبارة أو عبارات، فـي إشارة أو شذرات، فـي تأمل أو فـي نص دال، مكثف، عميق، نافذ: شكسبير، تشارلي تشابلن، روبير بريسون، كافكا، هتشكك، لينين، نيتشة، باترك زوسكند صاحب رواية العطر، كارل ماركس، ماياكوفسكي، دوستويفسكي، ناظم حكمت، جورج باتاي، وغيرهم كثر ممن مثل الأرضية المرجعية التي كونت النسيج القرائي والمعرفـي للكاتب. يعسر على الناقد أن يتتبع كاتبا بهذا الثراء والتنوع، وهو يسيح به من المرئي المشاهد إلى الكتبي المقروء، ومن ثقافة العرب إلى ثقافة الغرب، ومن القديم إلى الحديث، ومن الشعر إلى النثر، ومن الفلسفة والفكر والتاريخ والحضارة إلى الرواية والشعر والسينما، صعبٌ أن يجد الناقد القارئ لهذا الكتاب يابسة لا تميد به، ولا تهتز. وفْرةٌ من الرؤى، من الانطباعات، من الاعتقادات، من التجارب فـي الحياة والفن والثقافة والأدب، تعرض فـي معرض حسن، فـي لغة شعرية، وعبارات خفـيفة على السمع والتلقي، ثقيلة على المعنى وعلى التأويل، ولذلك فقد صدق عبدالله حبيب فـي نقده للنقاد، وأنهم ميالون إلى التشريح والتفكيك والفهم والإفهام دون الإحساس والمشاركة فـي ألم النص. صحيحٌ أن أغلب النقد شكلي، تعليمي، تصنيفـي، تبويبي، لا يصمت يوم ينبغي أن يصمت، يعبر عبد الله حبيب على غير نهجه فـي هذه الشذرات عن هذا المأزق النقدي بوضوح وجلاء قائلا: «لكن مشكلة النقد -ومشكلتي على حد سواء- هي أن لغتي ودموعي، وهواجس موتي لا تجعله قادرا على فهم عذابي بالضرورة. العكس هو الصحيح تماما: عذابي أكبر من مقاربة النقد بالضرورة».

فعلا لا يمكن للناقد سوى أن يقرأ فـي أحايين عديدة ويصمت، فلا كلام على الكلام يقال أمام بيت المعري: «جسدي خرقةٌ تخاط إلى الأرض/ فـيا خائط العوالم خطْني»، هذه الكثافة الشعرية تقتضي مشاركة فـي المنطلق والمقام والعذاب دون شرح أو تشريح. كما الصوفـي -دوما- تكون اللغة بؤرة الناظر ومركز اهتمام الإشارة، اللغة الوعاء أو اللغة الجوهر، اللغة التي شبهها بـ«بوصلة تبحث عن حمامة» فـي رحلة تقصيها عن الجديد، ومن هنا تكون الكتابة فعلا حارقا يستعيد عبد الله حبيب الحديث عنها فـي أكثر من موقع، واصلا إياها بالعجز أمام الهيولى، ولكنها فعلٌ تعبيري لا يخوضه إلا من أدرك عمق الوجود وخرج من دائرة الإنسان الحيوان الذي يحيا ليأكل ويموت، الكتابة هي وعي بالعالم، هي «خللٌ كبير يبعث على الخجل ورعشة هائلة فـي يوم الحشر، وعطب كبير أمام حطب مدافئ الشتاء»، ولكنها قدرٌ واحتراقٌ. يرعبك هذا الكتاب الحامل لأجناس متجانسة، لأشكال فـي القول لا نعرف الفوارق بينها، هي نتفٌ أحيانا تغلب عليها الإشارة، هي نصوصٌ أحيانا أخرى، تعرض لفـيلم ونقده (فـيلم «ريش» على سبيل المثال، وما جوبه به من آراء الفننين والنقاد، والكارثة التي نتجت عنه)، أو لقضية تشغل المثقفـين وتثير جدلا، مثل التمايز بين الشعر والرواية والقول بموت الشعر واندحاره، يقول فـيها الكاتب رأيه، وينتصر للشعر مبينا أنه قائم على معادلة خاصة تبقيه نابضا حيا مدى بقاء نبض الإنسان، وأن «الشعر سينتهي فقط حين تكف الأرض عن التوجع والألم والبحث عن كلمات لا توجد فـي الذاكرة والمعاجم»، أو لما ساد حياة الإنسان من مظاهر حادثة وجب القول فـيها (السلفـي). نصوصٌ تدعوك إلى التفكر وإعمال الروية، وتأخذك إليها وكأنك تقول القسم الأوفر منها، وإن اختلفت مع الكاتب رؤية ورأيا، غير أن أسلوبه الشعري يدفعك إلى تحقيق القراءة التي يريدها صاحب الكتاب: الاشتراك فـي الألم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عبد الله حبیب

إقرأ أيضاً:

جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فرنسا لأجل فلسطين

عندما كانت إسرائيل تغزو بيروت عام 1982، تابعت المجموعات الثورية الفلسطينية والعربية نهجها في ملاحقة العدو خارج حدود المواجهة، ناقلة المعركة إلى قلب أوروبا. من بين تلك العمليات، اغتيل "رجل موساد ودبلوماسي" أميركي في باريس، ووُجّهت أصابع الاتهام إلى اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، الذي يقبع في السجون الفرنسية منذ 4 عقود بتهمة قيادة الفصائل الثورية اللبنانية المدافعة عن فلسطين، وبذلك يكون أقدم سجين سياسي في أوروبا.

كانت العملية امتدادا لمرحلة "وراء العدو في كل مكان" التي اختصرتها روايات الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (عكا 1936، بيروت 1972) وجسّدتها المجموعات الثورية بقيادة المناضل وديع حداد (صفد 1927، ألمانيا الشرقية 1978)، فحوّلت العالم إلى ميدان مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، واستقطبت مقاتلين عربا، ورفاقا من اليابان وأوروبا وأميركا اللاتينية، واضعة فلسطين على خريطة النضال الأممي.

"مناضل ولست مجرما"

وعادت قضية المناضل الأممي جورج عبد الله إلى الواجهة مجددا مثلما كانت عام 2013، مع توالي الأخبار عن قرب الإفراج عنه بعد قرار محكمة فرنسية بذلك. إلا أن الادعاء الفرنسي، أعلن قبل أيام عزمه استئناف القرار. وفي حال أفرج عنه، يكون عبد الله قد أمضى أكثر من 20 عاما في السجون الفرنسية بعد انتهاء محكوميته، وسط رفض السلطات القضائية المتكرر إخلاء سبيله.

وأمام القضاة، وقف الرجل ذو اللحية الكثّة والنظرة الواثقة مطالبا بحريته للمرة الـ11، قائلا بثبات: "أنا مناضل ولست مجرما"، مؤكدا أن اختياره هذا الطريق كان "ردا على انتهاك حقوق الإنسان في فلسطين"، وبأن ما فعله: مقاومة.

فهو المولود في الثاني من أبريل/نيسان 1951 في قرية القبيات شمال لبنان لعائلة مسيحية مارونية، وقد شهد في مطلع شبابه "نكسة" 1967، حيث ساهمت "هزيمة حزيران" في تشكيل وعي جيل بأكمله تجاه قضايا التحرر والمقاومة.

عبد الله اشتهر بعبارة "أنا مناضل ولست مجرما" وأكمل عقوبة السجن المؤبد عام 1999 (غيتي)

وفي سن مبكرة، انضم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، واختار طريق النضال والمقاومة. وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن (1970)، أصبحت بيروت معقلا للثوار والمقاومين، فكانت نقطة تحول حاسمة في مسار حياته، حيث كانت العاصمة اللبنانية مركزا يعجّ بالحركات الثورية، مما كان له الأثر الكبير في تشكيل قناعاته السياسية.

انضم عبد الله لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الراحل جورج حبش، بعد إصابته في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978 (عملية الليطاني). ومع أفراد من عائلته ورفاقه، أسس الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وبين عامي 1981 و1982، نفذت المجموعة هجمات في أوروبا، أسفرت بعضها عن سقوط قتلى في فرنسا، في إطار دعم القضية الفلسطينية والكفاح ضد الاحتلال.

موت المعلم وولادة المقاتل

وبدأ جورج حياته المهنية معلما في مدرسة بمنطقة أكروم بعكار، وفي مقالة وردت بموقع يتبع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، تروي بدايات جورج وتكشف عن ارتباطه المبكر بالفدائيين الفلسطينيين، يقول كاتبها إن "ابن القبيات" كان يعرّف نفسه بأنه "كادح وليس من البَكَوات"، مستنكرا الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.

وتستعرض المقالة المراحل الأولى لجورج عبد الله ضمن الثورة الفلسطينية، مبينة تأثره بحياة "المخيمات" في لبنان، وكيف كان يجول أزقة مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، مستخدما دراجته النارية، ليوزع مجلة "الآداب" على المهتمين.

وبعد إنهائه الدورات التثقيفية، انضم عبد الله إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رسميا، ثم انتقل من الشمال إلى منطقة "الجبل" في "مهمة جهادية"، وكان من المفترض أن يعود بعد شهر إلى الشمال، لكنه اختار البقاء، معلنا بذلك نهاية مرحلة "جورج المعلم" وولادة "جورج المقاتل". ومن ثم، أصبح جزءا من الجناح العسكري للجبهة الشعبية، لتصبح الأراضي اللبنانية كلها ساحة قتاله.

جورج عبد الله أمام المحكمة الفرنسية عام 1986 (غيتي)

وخدم عبد الله في الجنوب، والبقاع، والجبل، وبيروت -بحسب المقالة- لكن بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي قبيل اجتياح بيروت عام 1982، انفصل عبد الله عن الجبهة، رافضا التهدئة مع العدو، واتخذ مسارا خاصا به، متأثرا بوديع حداد، وخصوصا بمقولته الشهيرة "وراء العدو في كل مكان"، وانقطعت أخباره إلى حين سماع خبر اعتقاله في فرنسا.

جوازات سفر واعتقال

يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 1984، دخل جورج عبد لله مركزا للشرطة في ليون الفرنسية، طالبا الحماية من ملاحقة الموساد الإسرائيلي له. حينها كان يحمل جواز سفر جزائري، بعد أن استخدم جوازات سفر أخرى من مالطا والمغرب واليمن للعبور إلى يوغوسلافيا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وقبرص.

لكن الأجهزة الأمنية الفرنسية سرعان ما أدركت أن الرجل الذي يجيد اللغة الفرنسية ليس سائحا وإنما هو عبد القادر السعدي، وهو الاسم الحركي لجورج عبد الله.

وعثر في إحدى شققه في باريس على أسلحة بينها بنادق رشاشة وأجهزة إرسال واستقبال.

وافقت محكمة فرنسية الأسبوع الماضي على طلب الإفراج عن جورج عبد الله (غيتي)

وفي حوار مع صحيفة "لاديباش" الفرنسية، تحدث إيف بوني، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي، عن تفاصيل اعتقال جورج إبراهيم عبد الله عام 1984، قائلا: "لم نكن نعلم هويته"، وخلال التحقيق "زعم انتماءه إلى جهاز أمن منظمة التحرير الفلسطينية ووجّه تهديدات للمحققين".

وأضاف بوني أنه لجأ إلى الإسرائيليين للحصول على المساعدة، مما قاد إلى اكتشاف هوية قائد الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وهي مجموعة ماركسية مدافعة عن فلسطين. ومع ذلك، أكد بوني أن الأدلة ضد عبد الله لم تكن قوية، إذ اقتصرت تهم بتزوير الوثائق وحيازة أسلحة ومواد متفجرة.

كان جورج على صلة بسوريا آنذاك، بحسب التحقيق، كذلك على تواصل مع حركات وشخصيات صُنّفت "إرهابية"، مثل تنظيم "العمل المباشر" في فرنسا، و"الألوية الحمراء" في إيطاليا، إضافة إلى علاقته بكارلوس الفنزويلي وفصيل الجيش الأحمر في ألمانيا.

مقاتل عربي لا يندم

في عام 1986، أصدرت محكمة ليون حكما بالسجن لمدة 4 سنوات على جورج عبد الله بتهم "التآمر الإجرامي وحيازة أسلحة ومواد متفجرة". وفي العام التالي، مثل أمام محكمة الجنايات الخاصة في باريس، إذ وُجهت إليه تهم بالتواطؤ في اغتيال الأميركي تشارلز راي "ورجل الموساد" ياكوف بارسيمينتوف في 1982، بالإضافة إلى محاولة اغتيال ثالثة في 1984.

وبينما تمسك عبد الله بنفي التهم، قال إنه "مجرد مقاتل عربي"، أصدر القضاء حكما بالسجن المؤبد رغم أن النائب العام كان قد طالب بعقوبة أقل، تصل إلى 10 سنوات.

عبد الله اتهم بقيادة "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" المناصرة لفلسطين (الفرنسية)

في مذكراته، أشار المحامي جورج كيجمان إلى أن عبد الله "أهان الجميع" في المحكمة، ووصفهم بـ"الخنازير والإمبرياليين القذرين"، مما استدعى طرده من القاعة. ورأى محاميه السابق جاك فيرجيس في الحكم "إعلان حرب"، مما دفع إلى تشكيل لجنة دعم فورية تطالب بالإفراج عنه فورا.

ومنذ عام 1999، عندما أصبح مؤهلا لإطلاق سراحه، وتم رفض جميع طلبات عبد الله للإفراج عنه، باستثناء طلب واحد، كان مشروطا بترحيله، وهو ما لم ينفذه وزير الفرنسي الداخلية آنذاك، مانويل فالس.

في عام 2022، قال محاميه جان لويس شالانسيه في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية: "إنه في حالة فكرية جيدة. لا يزال متمسكا بمواقفه، ويواصل القراءة بشكل مكثف، ويبقى مطلعا على الأحداث في الشرق الأوسط".

ويرى محامو ومؤيدو جورج عبد الله أن استمرار احتجازه هو نتيجة لتأثيرات سياسية ودولية خارجية. في عام 2013، صادقت المحكمة الفرنسية على إطلاق سراحه بشروط، كان من بينها ترحيله إلى لبنان. لكن، رغم هذا القرار، "تدخلت سفارتا الولايات المتحدة وإسرائيل في مجريات القضية"، مما أثّر بشكل كبير على سير المحاكمة وأدى إلى تراجع السلطات الفرنسية عن قرارها. هذه التدخلات، وفقا لمحاميه، تُعتبر جزءا من حملة سياسية منسقة تهدف إلى إبقاء عبد الله في السجون الفرنسية.

أنصار جورج عبد الله يتظاهرون خارج سجن لانيميزان الفرنسي  (الفرنسية) خيانة فرنسية

ردت الفصائل الثورية اللبنانية على اعتقال جورج عبد الله بخطف مدير المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس، جيل سيدني بيرول، مطالبة بصفقة تبادل، وتم التوصل إلى اتفاق لتحرير بيرول وعبد الله، إلا أن فرنسا أخلفت وعدها وأبقته في السجن.

يروي إيف بوني، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي لصحيفة "لا ديباش" تلك اللحظة، قائلا: "كنت خارج البلاد حين طلبت باريس مني العودة بسرعة للتفاوض على تبادل الأسرى. في ذلك الوقت، كان عبد الله متهما بمخالفات بسيطة، ولم يكن هناك ما يثبت تورطه في أي جريمة كبيرة. فوافقت على الصفقة دون أي اعتراض من وزارة الداخلية".

جورج عبد الله أمضى 15 عاما من حياته في ميادين المقاومة و40 عاما في السجون الفرنسية دفاعا عن فلسطين (رويترز)

يضيف بوني، "ما لبثت الأمور أن تغيرت فجأة. ففي الوقت الذي تم فيه تحرير بيرول، أخبروني أنهم اكتشفوا في أحد مخابئ الفصائل الثورية اللبنانية السلاح الذي استخدم في قتل تشارلز راي وياكوف بارسيمينتوف. هذا الاكتشاف غيّر مسار القضية تماما، وتجاهلت العدالة الاتفاق الذي أبرمته. قالوا لي ببساطة: حكمه قد صدر".

ويختتم بوني حديثه: "شعرت بخيبة أمل شديدة. لقد قدمت وعدا إلى الذين بذلوا جهودا في هذه القضية، ولكن السلطات السياسية تركتني أواجه الموقف وحدي".

غزة لن ترفع راية الاستسلام

"لن تحمل غزة أبدا راية الاستسلام… ولن تتمكن الصهيونية أو أي قوة إجرامية أخرى من كسر إرادة المقاومة فيها"، بهذه الكلمات عبر المعتقل جورج عبد الله في رسالته التضامنية مع الشعب الفلسطيني، الذي يواجه حرب إبادة في غزة والضفة الغربية. البيان أُلقي خلال مظاهرة نظمت في مرسيليا الفرنسية بتاريخ 25 فبراير/شباط الماضي، حيث عبّر المحتجون عن دعمهم لصمود الفلسطينيين في وجه الاحتلال.

وأشار عبد الله في رسالته إلى أنه "لا ينبغي أن ننسى أبدا أن جذور النضال الفلسطيني انبثقت من أعماق مخيمات اللاجئين في غزة، والضفة الغربية، والأردن، ولبنان.. هذه المقاومة تحمل وعد التحرر وتصون إرث الفدائيين".

يرى أنصاره في العالم أنه رمز حي للنضال والمقاومة، فهو الذي اعتبرته الكاتبة الفرنسية آني إرنو، الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2022، "ضحية قضاء الدولة الذي يلحق العار بفرنسا". كما يعتقد إيف بوني أن الاستمرار باعتقاله يعد "انتقاما سياسيا"، وأنه قد يكون له الحق في اعتبار ما فعلته الفصائل الثورية اللبنانية "مقاومة"، لأنها جاءت في أعقاب مجزرة صبرا وشتيلا، داعيا إلى إنصافه.

جورج لا يزال في سجون فرنسا رغم مرور 20 عاما على انتهاء مدة محكوميته (وسائل التواصل)

خلال 73 عاما من حياته، أمضى جورج عبد الله 15 عاما في ميادين المقاومة و40 عاما في السجون، ثابتا على قناعاته. وفي زنزانته، يعلّق صورة مكتوب عليها "اقترب اللقاء يا فلسطين"، متمسكا بالقضية التي كانت وستظل بوصلة نضاله دون اعتذار أو ندم، بل ويرى أن إطلاق سراحه "أمام الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون والأميركيون" في غزة، "مجرد تفصيل".

تجسد قضية جورج عبد الله الذي حمل رقم (N° 2388/A221) في سجن لانيميزان رمزا لظلم فرنسا ضد مناضل تعتقله منذ 40 عاما، وقد يبقى حتى وفاته ما لم يطلق سراحه في ديسمبر/كانون الأول المقبل كما أمرت المحكمة، رغم استحقاقه الحرية منذ عام 1999.

مقالات مشابهة

  • جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فرنسا لأجل فلسطين
  • الموسيقي تامر كروان: كثرة المشاهدة تضع الموسيقي في تجديد مستمر
  • لا تيأسوا من روح الله
  • تكريم الفنان الإماراتي حبيب غلوم بمهرجان الكويت المسرحي ديسمبر المقبل
  • 28 حلقة للتسويق.. والندوات ساعدت في تحقيق وفرة محصول القطن بالشرقية
  • من الذي يعذب يوم القيامة الروح أم النفس.. الإفتاء تجيب
  • بو حبيب بحث العلاقات الثنائية مع سفيري هنغاريا وبولندا
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. ابن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. hبن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. بن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي