لم يكن الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا (1935 – 2024)، الذي غيّبه الموت الأسبوع الماضي، مجرد رقم عادي في حركة الشعر اللبناني الحديث، وربما العربي أيضا. فالرجل على مرّ تاريخه وعمره المديد، عرف كيف يصنع لنفسه مكانة فعلية، مميزة، خاصة، توزعت على أكثر من صعيد، بدءا من مجلة "شعر" )الأسطورية(، وانتهاء بدواوينه الأخيرة التي صدرت قبل رحيله بفترة وجيزة، ومن بينها أيضا مذكراته، وكتاب آخر من المفترض أن يصدر قريبا وفق ناشره سلمان بختي (دار نلسن) يجمع فيه ما كتبه (شوقي أبي شقرا) من مقالات عن أصدقائه الراحلين.
بيد أن انطلاقة رحلة شوقي أبي شقرا الشعرية، لم تكن غارقة في هذه التجربة الحداثوية، التي ذهبت إلى أقصاها. لقد بدأت هذه الرحلة الكتابية مع مجموعة "حلقة الثريا" (في خمسينيات القرن الماضي) وقد كان واحدا من مؤسسيها، والتي نشرت أعمالها الأولى في مجلة "الحكمة" اللبنانية، وهي بدت غارقة في هذه الكلاسيكية اللبنانية التي نجد منبعها في كتابات أمين نخلة والأخطل الصغير والياس أبو شبكة وغيرهم ممّن أعطوا زخما حقيقيا للشعر العربي في بداية القرن العشرين. إلا أنه مع تقدم التجربة، بدأ أبي شقرا في التميز عنها عبر كتابة قصيدة التفعيلة. ومع ذلك، بقيت هذه القصيدة الجديدة، تتكئ على موروث تقليدي نجده امتداده في الشعر العربي. لذا يمكن القول إن خروجه من عباءة هذه الكلاسيكية جاء فعلا مع "مجلة شعر"، الذي انتسب إليها منذ بدايتها وكان أحد محرريها الرئيسيين.
خروج أبي شقرا عن الوزن التفعيلي، لم يكن بالطبع مع أعداد المجلة الأولى، بل حدث في مرحلة لاحقة، ليتبنى بعدها قصيدة النثر، وكأنه كان يبحث خلال كل تلك الفترة الماضية، التي سبقت، عن صوته الخاص، عن مناخه، عن أسلوبه، الذي بقي مرافقا له حتى كلماته الأخيرة. في هذا الصدد، ربما تجدر الإشارة إلى ما كتبه الباحث الإيطالي الأب جاك أماتييس السالسي في كتاب "خميس مجلة شعر" والذي تُرجم قبل سنتين إلى اللغة العربية (دار نلسن أيضا) من أن أبي شقرا هو أول من كتب القصيدة النثرية من بين أعضاء هذه الحركة، ومن بعد كتاباته جاءت تنظيرات كلّ من أدونيس وكتابات أنسي الحاج حول قصيدة النثر. بهذا المعنى، ثمة حق تاريخي علينا أن نعيد التفكير فيه، أي إعطاء أبي شقرا حقه في أن يكون رائد هذه القصيدة، على الأقل ضمن الحركة الشعرية التي تأسست حول المجلة.
حق آخر لا يمكن تجاهله أبدا في كون شوقي أبي شقرا هو من أسس أول صفحة ثقافية في الصحافة اللبنانية (وربما العربية، فيما لو استثنيا الصحف المصرية على ما أعتقد). صحيح أن قسما من صحافة لبنان التاريخية، كانت تضم بين كتّابها أسماء العديد من الشعراء والنقاد والقصاصين الذين ساهموا في الكتابة والتعليقات، ولكن لم تكن هناك صفحات يومية خاصة بالثقافة (ولا أتحدث هنا عن المجلات الثقافية التي كانت موجودة يومها مثل "الآداب" و"الأديب" و"الطريق" و"الثقافة الجديدة" وغيرها). لذا، جاءت الصفحة الثقافية لجريدة "النهار"، في ستينيات القرن الماضي، لتكون أكثر من مجرد صفحة يومية، إذ سرعان ما تحولت إلى مختبر حقيقي للأدب الجديد كما لباقي الفنون والثقافات: بدأنا نقرأ فيها النقد المسرحي والتشكيلي والسينمائي والتلفزيوني والموسيقي وبالطبع الأدبي والفكري. ربما مناخ بيروت في تلك الفترة، ساعد على تكوين هذه الصفحة، إذ كانت المدينة تعيش في نهضة ثقافية لا مثيل لها بين أقرانها من الحواضر العربية، ولتكمل "النهار" مسيرة هذه الثقافة لاحقا حين أصدرت أيضا ملحقها الثقافي الأسبوعي الخاص بها، والذي ترأس تحريره أنسي الحاج، وقبل أن يبدأ أدونيس بتأسيس صفحة ثقافية في صحيفة "لسان الحال" ويبدأ الكتابة فيها أيضا. بهذا المعنى، امتدت مجلة "شعر"، لتخرج من القصيدة البحتة، كي تصب في مختلف مجالات الثقافة، على يد من كان يدير تحريرها فعليا (الأسماء التي ذكرتها للتو، والتي شاركت العمل مع مطلق المجلة ومؤسسها يوسف الخال).
لقد عرف شوقي أبي شقرا يومها كيف يحول صفحته اليومية، إلى منبر ثقافي شامل اجتمعت فيه أسماء كثيرة، لبنانية وعربية، عرف امتدادا واسعا، وحضورا كبيرا، قبل أن تنافسها، لاحقا، في ثمانينيات القرن الماضي، صفحة "السفير" الثقافية. قد يكون الفرق، في أن النهار بقيت محسوبة على الليبيراليين وعلى بعض "اليمينيين" بمعنى من المعاني، بينما أصبحت ثقافة "السفير"، خاصة باليساريين وداعمي القضية الفلسطينية، والمنحدرين من حركة القوميين العرب. لكن لا يعني هذا أن صفحة شوقي أبي شقرا كانت تقف ضد القضية الفلسطينية، بل على العكس تماما، فغالبية أعضاء حركة مجلة "رصيف" الفلسطينية (علي فوده، ورسمي أبو علي، وغيلان وغيرهم ممّن "تمرد" على الثقافة الفلسطينية "الرسمية")، لم يكتبوا ولم يخرجوا إلا من صفحة "النهار".
عديدون هم من ظهرت أسماؤهم للمرة الأولى عبر صفحة "النهار". كان شوقي أبي شقرا ماهرا في "اصطياد" الأصوات الجديدة، الناشئة، التي بدأت لتوها بالكتابة الشعرية. بهذا المعنى، لعب أيضا الدور الكبير في إطلاق أجيال كان يجد أنها تستحق فرصة الظهور، إذ وجد أن كتاباتها جديرة بأن يصل إلى القارئ وأن يلقى عليها الضوء. ومع هذا الدور الذي لعبه في اكتشاف كُتّاب جدد، لم ينس بالطبع مكانة الأسماء الكلاسيكية، لذا بدت صفحته مزيجا جميلا من أجيال متعاقبة، تتجاور في حوار ونقاش ساهم فعلا في خلق حركة ثقافية حقيقية تقوم على احترام منجز الكتابة.
أشرت في بداية كلامي إلى أن شعر أبي شقرا لم يكن ذاك الشعر التجديدي الكبير، بل أتى الأمر في مرحلة لاحقة. فبعد هذا البحث، وجد لغته التي لا تشبه فعلا أي لغة شعرية أخرى، لا حين نقارنها مع زملائه الذين كتبوا في "شعر" ولا تلك التي كانت تكتب في الشعر السائد عربيا في تلك المرحلة. لقد وصل أبي شقرا، إلى مكان لم يسبقه إليه أحد، ولا أعتقد أن من جاء بعده، استطاع تقليده. ثمة بصمة خاصة به، عرف كيف يتخلى فيها عن الإطناب المسيطر ليكتب نوعا من حلمية طفولية مرتبطة بأجواء الريف والقرية. مع العلم أنه يجب التمييز هنا، بمعنى أنه لا يستعيد أدب القرية اللبناني الذي وجدناه منذ القرن التاسع عشر. لقد بنى ريفه الخاص، وقصره الخاص، الذي يحمل فقط اسمه فقط. وهذا ليس بالأمر السهل بتاتا في الشعر. كان معلما حقا. وسيبقى معلما فعليا في تاريخ الحداثة العربية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: شوقی أبی شقرا
إقرأ أيضاً:
سورية تطوي صفحة الأسد والخدمات تعود لطبيعتها
سرايا - دمشق "مثل الذي كان في عداد الموتى، وعاد إلى الحياة مجددا، بنفس جديد وأمل يتجدد".. بهذه الكلمات عبّر الطالب العشريني مهند الحكيم عن استقباله أول أيام الدوام الرسمي في كلية الحقوق في جامعة دمشق بعد سقوط النظام السوري.
وأصبحت سورية على نهار مُشرق، كنسَ فيه سكانها واحدة من "أكثر الحقب المظلمة في تاريخ البلاد بعد ما يزيد على 5 عقود من حكم آل الأسد" بحسب مهند.
وعادت مؤسسات الدولة إلى العمل، والموظفون إلى الدوام، والطلبة إلى مدارسهم وجامعاتهم مستبشرين خيرا بعصر جديد تسوده العدالة والمساواة، وتفنى فيه التفرقة والفساد.
وكانت رئاسة مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال السورية أصدرت قرارا باستئناف العملية التعليمية في المدارس والجامعات العامة والخاصة، اعتبارا من يوم أول من أمس، مع التأكيد على جاهزية جميع المؤسسات لضمان سير العملية التعليمية بشكل منظم.
وشهدت الكوادر الطبية في مستشفيات العاصمة دمشق، مع سقوط النظام، ليلة صعبة مع خروج بعض المستشفيات عن الخدمة، وغياب موظفي النظافة والطاقم التمريضي وغيرهم.
وفي استرجاع لأحداث تلك الليلة، يقول طبيب الجراحة العامة في مستشفى المجتهد محمد النجم، إن الإدارة انسحبت من المستشفى، مما دفع أطباء وموظفين وممرضين إلى الانسحاب تاركين المرضى إلى مصيرهم، ليشكل لاحقا "الأطباء الأحرار" وحدة تنسيق فيما بينهم للوقوف على احتياجات المرضى واستقبال الحالات في تلك الليلة.
ويضيف "كان هناك شح بالمواد الطبية ليلتها، واكتشفنا وجود مستودعات مليئة بالأدوية والمواد الطبية التي لم نكن نعلم بوجودها، فبدأنا باستخراجها وتزويد المرضى بها، واستقبلنا حالات حرجة جراء الاشتباكات وأجرينا أكثر من 10 عمليات جراحية، ولعب الأطباء الأحرار ليلتها دور الممرضين وعمال النقل وحراس البوابات وغيرها من الأدوار حفاظا على حياة المرضى وسير عمل المستشفى".
وبحسب أطباء في مستشفى المجتهد عادت المستشفى إلى جاهزيتها المعهودة مع عودة معظم الأطباء إليها، ومع توافر أدوية ومستلزمات طبية لم تكن متوافرة في السابق.
وأقام طلبة جامعة دمشق أول من أمس صلاة جماعية في حرم الجامعة احتفالا بسقوط النظام، واستئناف العملية التعليمية في أجواء من الحرية والتواصل الإيجابي بين الطلبة.
وعقب الصلاة، خرج الطلاب بمسيرة انطلقوا فيها من الجامعة، وانتقلوا إلى شوارع العاصمة رافعين أعلام الثورة السورية، ومرددين هتافاتِها وشعاراتها في أجواء من الحماسة والتفاؤل.
وقال الطالب علي المصري (19 عاما) "انظروا إلى الفرحة المرتسمة على وجه الشباب والشابات، إنها فرحة لا تقدر بثمن، ونحن لا نطالب بأكثر من ذلك، فالمستوى التعليمي جيد، ونأمل من القيادات الجديدة في سورية أن تؤمن لنا مستقبلنا هنا في البلاد، لأنه لطالما كان حلمنا أن نعيش ونعمل في بلدنا".
بدورها، أشارت طالبة إلى أنها شعرت بشيء جديد لم تعتد عليه، وأنهم كطلبة كانوا مقهورين ومقموعين لمدة تزيد عن 50 عاما، راجية الله "أن يتمم هذا النصر".
من جهته، أكد وزير التعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عبد المنعم عبد الحافظ أن الوزارة ستعمل على رفع أجور الأساتذة والموظفين في القطاع التعليمي بشكل تدريجي خلال الأشهر القادمة، وأنه سيتم مراجعة ملفات الطلبة الذين تم فصلهم من قبل النظام السابق.
وأضاف عبد الحافظ في حديث لوسائل إعلام محلية أن الوزارة ستعمل على إعادة هيكلة اتحاد الطلبة دون ضغوط من السلطة.
جاء ذلك في وقت استؤنفت فيه العملية التعليمية في جميع مدارس العاصمة وريفها، والتحقت الكوادر التدريسية والطلبة بمدارسهم لمتابعة العملية التعليمية من حيث توقفت قبل نحو أسبوع.-(وكالات)
تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
طباعة المشاهدات: 614
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 16-12-2024 10:07 PM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الرد على تعليق
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | تحديث الرمز أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...