بين أزيز الرصاص.. الشاب أبو نحل يبدع في خيمته
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
غزة- خيمة على إحدى نواصي شارع السلام في مدينة دير البلح تلفت انتباهك حين تطأ قدماك البقعة الجغرافية الأكثر ازدحاما في العالم، وبمجرد وصولك يستقبلك "بلال أبو نحل" الفنان الأبكم إلا من الحديث عن حبه لغزة والوطن.
إبداع من رحم الحرببلال الذي يبلغ من العمر 26 ربيعًا، والذي لم تثنه ظروف الحرب ولا أزيز الرصاص ولا وابل الصواريخ، ولم يفلت قلمه الذي يرسم فيه لغزة.
لا يصغي "بلال" إلى الناس ولا يسمع لهمومهم، لكنه يلحظ بقلبه ماذا حل بغزة وأهلها في رحلات نزوحهم وفقدهم لأحبابهم.. فيرسم أوجاعهم بألوان رمادية، بينما كان يلون حكاياهم قبل العدوان بريشته بألوان قوس قزح.
نشأ الشاب "بلال" هاويًا للرسم فبدأ بالرسم على ورق، بينما تطور رسمه إلى اللوحات والنقش على الجدران، وهو يعد أن هذه اللوحات هي أسهل طريقة يخاطب العالم بها وتقربه من الناس.
"بلال أبو نحل" في خيمته (الجزيرة) لوحات قبل وبعد الحربكانت اللوحة تأخذ ما بين يوم وعشرة أيام قبل العدوان، فكان يرسم الأطفال يلعبون بين الحدائق، وعلى شاطئ البحر، وبعد العدوان على غزة، أصبح يرسم لوحات بالأبيض والأسود تعبر عن معاناة الناس وقهرهم.
لم يكن الرسم بالنسبة للشاب "بلال" مجرد هواية قبل العدوان، بل أصبح مصدر دخله، فقد أصبح يرسم على جدران الشوارع الرئيسية في غزة، كما يرسم أيضًا "بورتريهات" لشخصيات اعتبارية سطرت بسيرتها أجمل صور العطاء لفلسطين قبل أن تأتي الحرب وتدمر مخططاته وأحلامه.
كمعرض ثقافي يرى النازحون خيمة الشاب الرسام "أبو نحل"، يزورونه وسط اندهاشهم من الرسم تحت وابل الصواريخ تارة، وأن الأنامل التي أبدعت هي لشاب يعاني من عدم التفاعل مع العالم بالكلام تارة أخرى.. فيذهل جميع الزائرين ويلتقطون صورًا للوحاته، كما يلتقطون صورًا لهم كذكرى في خيمة إبداعه، ويشجعونه على استمرار شغفه ويدعمون مواصلته.
خيمة "أبو نحل" يزورها النازحون وسط اندهاشهم من مهارته المميزة في الرسم (الجزيرة) الخيمة صمود وتحدٍ"رياض الجايح" هو المتكفل بالفنان "أبو نحل" ببيته، كان حاضرًا جالسًا بجانبه يستقبل زوار الخيمة ويتحدث إليهم نيابة عن "بلال"، يقول وهو ينظر إلى لوحاته: "أبقى مع بلال من الساعة السابعة صباحًا حتى العاشرة ليلًا، أدعمه وهو يخط بريشته لوحاته الإبداعية، مضيفًا: "أنشأت له خيمة الرسم حتى تكون مصدر دخل له في ظل الحرب البشعة التي شنت على قطاع غزة".
مجدي موسى هو صديق "بلال" الذي يأتيه كل يوم يدعمه ويعزز صموده، يقول وهو يتنقل بين لوحاته: "في غزة كل شيء معدوم، مواهبنا وطموحنا ومؤسساتنا التي تهتم بالفن معدومة في ظل العدوان الهمجي على قطاع غزة".
وأشاد الشاب الغزي يامن عويضة الذي يزور خيمة بلال الفنية يوميًا، بعمله الفني الذي ولدت موهبته من رحم الحرب، ودعا إلى دعمه لا سيما وأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، كي يتفجر الإبداع في نفس بلال بلوحات تعبر عن مشاعره وأهل غزة.
بلال يتمنى المشاركة في معارض رسم دولية يكون فيها صوت غزة التي حرم شبابها من التحليق خارج أسوارها بسبب الحصار المدقع على قطاع غزة (الجزيرة) الثقافة في بنك أهداف الاحتلالوفي حديث مع مختص ثقافي قال مدرس التربية الفنية في مدرسة خان يونس الإعدادية أحمد الترتوري إن خيمة بلال تمثل شكلًا من أشكال الإرادة والتحدي التي تميز الشعب الفلسطيني والتي يعبر عنها بلال بريشته التي تقاوم بطريقتها الخاصة.
ويضيف الترتوري إن وجود هذا المعرض في منطقة تعج بالنازحين يعطي رسالة لهم بأن الصمود والتحدي هو الخيار الوحيد لهذا الشعب الذي يتعرض لأبشع حروب الإبادة لكنه يأبى الركوع والاستسلام.
كما دعا الترتوري المؤسسات الثقافية في الوطن العربي إلى الاهتمام بهذه الموهبة وتوفير الدعم المادي والمعنوي لها في ظل الظروف القاهرة التي تمر بها المؤسسات الثقافية في القطاع المحاصر، والتي يستهدفها الاحتلال بشكل مباشر ضمن حربه الهمجية على كل ما هو فلسطيني.
يحلم "أبو نحل" بما وراء حدود البلاد الجريحة المحاصرة.. فيتمنى أن يشارك في معارض رسم دولية، يعرض فيها رسوماته ويكون صوت غزة التي حرم شبابها من التحليق خارج أسوارها بسبب الحصار المدقع على قطاع غزة منذ أكثر من 17 عامًا، بعيدًا عن حمرة الصواريخ التي تملأ سماء غزة.
لم تكن الحركة الثقافية بعيدة عن عنجهية الحرب وعدوانه، فقد كانت مرمى استهدافه، ووفقًا لآخر تقرير أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية، فإن 44 كاتبًا وفنانًا وناشطًا في حقل الثقافة قد استشهدوا خلال الأشهر الأربعة الأولى للحرب، بجانب تضرر 32 مؤسسة ومركزًا ومسرحًا إما بشكل جزئي أو كامل، وتضررت أيضًا 9 مكتبات عامة و8 دور نشر ومطابع.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات على قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
عبد الله الآخَر
بعدَ أن ينتهي من تناول طعامه في مطعم القزَّاز بشارع صبري أبو علم، ينهض هذا الشاب ليغسل يديه، ينتظر قليلًا حتَّى يخرج أحد الزبائن ثم يدخل فيرى مُسدَّسًا أسود غليظ الكُتلة فوق خزَّان مياه مقعد المرحاض. أوَّل مرَّة في حياته يكون بهذا القُرب مِن مسدَّس حقيقي، مِن المُتَّهم الرئيسي في ملايين جرائم القتل منذ مئات السنين على هذه الأرض. حيوان مفترس نائم في المكان غير المناسب. خشي أن يوقظه. ماذا عليه أن يفعل؟
في رسالة إلى صديق، كتبَ تشيخوف نصيحة كتابة تخصُّ المُسدَّسات أو ربما البنادق، بقدر ما يتذكَّر عبد الله، وهو اسم الشاب المجهول في الفقرة السابقة، كتب تشيخوف ناصحًا: «لا تُعلِّق بندقية على الجدار، في قصة أو مسرحية، إن لم تنوِ استخدامها. من الخطأ تقديم وعود زائفة».
يعتقد عبد الله أنه قرأ هذه النصيحة ذاتها بأكثر من نسخة أو صيغة، وقد حاول الاستفادة منها بقدر الإمكان، في عَمله، وإن لم يكن على اقتناعٍ تامٍ بها، لأنَّه وجدَ صعوبةً بالِغةً في تحديد كل ما هو زائد عن الحاجة، فضلًا عن امتلاك شجاعة الاستغناء عنه.
في تلك اللحظة، أمامَ قطعة السِلاح هذه، انقسمَ عبد الله وصارَ شخصين، هكذا تفترض هذه القصة على الأقل. أخذ أحدهما المُسدَّس وخبَّأه بين ثنايا ثيابه كما كان يفعل مع الكتب التي يسرقها من مكتبة قصر ثقافة في صباه وشبابه. انسلَّ خارجًا من غير التفاتةٍ واحدة إلى صاحب السلاح المفقود أو المسروق الآن. دفعَ عبد الله حسابه في ثباتٍ يدعو للفَخر، خرجَ بسرعة وعبر الطريقَ إلى الناحية الأخرى مِن الشارع مشيرًا لتاكسي يقترب. هكذا مضى أوَّلهما.
أمَّا عبد الله الثاني -أو الآخَر- فَلَم يلمس قِطعة السلاح مِن الأساس، كأنَّ فيها لَعنة أو آفة، وإذا لمسها ولو بأطراف أنامله سوف تسري عبر جلده تلك العدوى الخطيرة، رُبَّما عدوى جرائم القتل المقترفة، عمدًا أو خطأ، من مئات السنين على هذه الأرض. خرج مِن الحمَّام وترك بابه مواربًا وتوجَّه بسرعة نحو الرجل الذي خرجَ للتَّوِّ، ما كادت مؤخرته المكتنزة تستريح على المقعد المواجه للشابة الحُلوة التي معه على مائدتهما الصغيرة. حرصَ عبد الله هذا على عدم توجيه كلمة واحدة له؛ ربما لأنه لم يدرِ ماذا عليه أن يقول، وربما لأنَّ صوت إعلانات التليفزيون أعلى ممَّا يجب.
نظر في عينَيْ الرجل بجفنَيهما العلويَّيْن المُسدلَين، وفردَ إصبعيه السبابة والوسطى معًا، على شكل فوهة المسدس، وصوَّبه نحو المتهم بالنسيان وفقدان ملكية خطيرة مثل هذه. لم يُطلق عبد الله رصاصة مُتخيَّلة نحو الرجل، بل اكتفى بمراقبة وجهه وهو يتغيَّر ويتَّخذ تعابير وألوانًا غير متوقَّعة وجديرة بالملاحظة. وفي لحظة وضعَ يده على جنبه، في الموضع الخالي من صاحبه، وتناوبَ على وجهه الذعر والخجل واللهفة وهو ينهض مرتبكًا من غير كلمة شكر واحدة لصاحبنا الذي عاد ينتظر قُربَ الحمَّام من جديد حتى يسترد الرجل مفقوداته الثمينة.
بعد أن اغتسل ودفعَ حسابه متمهلًا، كان عبد الله هذا حريصًا على ألَّا يلتفت نحو صاحب المسدس، لكي يجنِّبَه مزيدًا من الحرج أو يُشعِرَه بأنَّه مدين له بأي شيء.
اكتفى من هذا كله بأن كتبَ الفكرة في دفتر ملاحظات لا يفارق حقيبته، وهي الصفحة نفسها التي قرأها ضابط شرطة استوقفه للاشتباه وحرصَ على تفتيش محتويات حقيبته بعد أن قرأ أحدث ما كتبه على موقع فيسبوك، ثم قرَّر احتجازه. لكن هذا قد يحدث بعد أسابيع، وربما أكثر، أمَّا الآن فلنرجع إلى عبد الله الأوَّل، بترتيب الظهور في هذه القصة على الأقل، الذي دسَّ المسدس في ثيابه وانفلت هاربًا به.
بعد أن تحرَّك به التاكسي، لمحَ صاحبَ السلاح وقد نزلَ مهرولًا من الطابق الثاني للمطعم، مُنتبهًا إلى أنه سُرقَ وأنَّ سارقه هو مَن خرج للتَّوِّ مِن الحمَّام ثُمَّ من المطعم كله. رآه عبد الله وهو يجول بعينيه مستريبًا في الواقفين والعابرين، ثم رآه وهو يثبِّت بصره على التاكسي الذي لم يصل بَعدُ إلى ميدان طلعت حرب، وللحظةٍ عابرة التقت أعينهما فأدارَ عبد الله وجهه بسرعة، وبحثَ عن غريمه في المرآة فرأى كيف يتتبع التاكسي بعينيه من بعيدٍ متشكِّكًا مُتردِّدًا غير قادر على الجزم إن كان هذا هو نفس الشخص أم لا. ثم رأى كيف ضرب بقبضة يده اليُمنى كفَّ يسراه بقوة، كأنه يريد أن يحطِّم وجهَ أحدهم بيديه. ابتعد عبد الله ظافرًا ومنتشيًا، كان هذا هو انتقامه الأوحد مِن كل شيء. لكنه فجأة أحسَّ بالشيء المعدني البارد مُلتصقًا بجلده تحت كَمر البنطلون فاختلطت فرحته بالهَلع، وانتبه أخيرًا لضربات قلبه المتسارعة. نزل من التاكسي بعدَ قليل، جنبَ ميكروباصات أكتوبر، شاعرًا بنشوة غريبة أسمى مِن أي شيء عرفه من قبل مع المخدرات بأنواعها.
في قصة أخرى غير هذه، سوف ينقسم الرجل صاحب السلاح هو أيضًا إلى اثنين أو ربما أكثر من اثنين، وكلٌّ منهم سوف يواصل حكايته وفقًا للقرار الذي سيتخذه في تلك اللحظة، ويكمل حياته بناءً على اختياره. بأفكار مثل هذه سوف يتسلَّى عبد الله الأوَّل، الذي لم يأخذ المسدس، وهو في الميكروباص يجمع الأجرة بعد أن تمشَّى على مهله حتَّى موقف عبد المنعم رياض، مدركًا أنه لن توجد أبدًا تلك القصة التي تفي بجميع الاحتمالات والممكنات في كل لحظة من لحظات الوجود. بينما كان عبد الله الآخَر في نفس الميكروباص يضع يده على المسدَّس المغروس في لحمه، ويقاوم إغراءً كاسحًا بأن يستخرجه ويُشهِره في وجوه الرُّكَّاب وسائقي الموقف والتَّبَّاعين والباعة والجميع، لا ليقتل أو ليُهدِّد، بل فقط لمجرد أن يرى ردَّ فِعلهم، لكنه يكتفي مؤقتًا بأدرينالين الفِكرة دونَ الفِعل.
لَطَالما كان -أحدهما أو كلاهما- مفتونًا بِفكرة وجود عوالم أخرى موازية، يوجد فيها كل ما يوجد في عالَمنا هذا ولكن بتغييرات وتنويعات لا حصر لها. حين نختار شيئًا واحدًا مِن شيئين نستبعدُ الاحتمالَ الآخر، غير أنَّه لا يموت ولا يتبدَّد إلَّا بالنسبة لنا؛ إذ توجد نسخةٌ أخرى مِنَّا تواصل حياتها المختلفة بناءً على الخيار الآخر المستبَعد هُنا والمختار هناك.
*
تخرَّج عبد الله الأصلي في معهد السينما سنة 2010، وكتب أفلامًا قصيرة نال بعضها جوائز، ثم اتجه لسيناريوهات مسلسلات السِّتْ كوم وبرامج كوميدية لبعض قنوات النيل المتخصصة وغير ذلك من حِيَلِ أكل العيش. بعض أعماله حقَّق نجاحًا لا بأس به، وكان يشعر بسعادة غامرة إذا سمعَ في مكانٍ عام أحد الإيفيهات التي كتبها بنفسه. يده مخرومة كما تقول أمه، فلم يدَّخر مالًا يُذكَر، وباستثناء شقة أكتوبر لا يملك شيئًا. يعيش فيها بمفرده، أبوه متوفًّى من طفولته وأمُّه لم تزل في بَنها مع زوجها الثاني وأبنائها منه. لا تُعمِّر علاقاته العاطفية طويلًا، لكنَّ علاقاته العابرة كثيرة وبدأت تتناقص مع مرور السنين؛ تكاسُلًا، أو لسوء سُمعته في الوسط الفني والثقافي، بأنه لا يميل للاستقرار وأهم شيء عنده الضَّرْب أي المخدرات. لا يعتبر نفسه مدمنًا ويرى أنَّه أعقل مِن غالبية مَن حوله، لكنه يحتقر البشرَ عمومًا.
مرة واحدة فقط أحبَّ ممثِّلة اسمها مَيّ، كانت عجيبة من عجائب الدنيا كما ردَّد كثيرًا. جامحة ومستهترة حتَّى مقارنةً به. بعد حادث خطير بسيارتها، زعمَت أنها خاضت تجربة الاقتراب من الموت ورأت روحَ أخيها الراحل وكلَّمها. لم تخبر عبد الله أبدًا بما قاله لها أخوها الراحل، وربما لم تخبر أحدًا قَطُّ، رغم أهمية ما قد يخبرنا به الموتى عن الحياة الأخرى أو عن أي شيءٍ آخَر. اتَّجهَت بعد تلك التجربة للتَّصوُّف وعلوم الطاقة وكل تلك الخزعبلات بتعبيره. عاقبته على عَدم تصديقه إيَّاها بانسحابها مِن حياته ببطء وتمهُّل. كانت كأنها تستمتع بارتياعه بينما يراقبها تغيب ويدرك كم كان يحبُّها، لكنه سيتعلم هو أيضًا نسيانها ببطء وتمهُّل، كأنه يستمتع بتعذيب نفسه. سوف يستعين بالوييد وكتب الفيزياء النظرية التي وقَفَت به على حافة الشِّعر والوجد الصوفي، ومواسم بلا نهاية من مسلسلات بلا نهاية على منصات بلا نهاية، من السهل تجريد قصص حبكاتها كلها في كلمات معدودة، أمَّا ما يمكن الاستغناء عنه فكل شيء آخر، كل شيء عدا مَيّ والمخدرات.
*
عندما أخذوه مِن الشارع كان شِبهَ مسطول، واستهانَ بالأمر، وقال إنه سيخرج في صباح اليوم التالي على الأكثر، وتسلَّى بتخيُّل نفسه يلعبُ دورًا في مسلسل جديد من إنتاج نِتفلكس. مندوبون مِن وكالة ناسا نزلوا متخفِّين إلى شوارع القاهرة، يبحثون عن ذوي القدرات الخاصة، ويعثرون عليه ويأخذونه معهم ليمتحنوا استعداده.
بعد أن اطَّلع أحدهم على محتوى صفحاته على فيسبوك وتطبيقات أخرى استشعر أنَّه يملك استعدادًا طيبًا. أدركَ عبد الله حقيقتهم على الفور، رغم إتقانهم اللهجة المصرية وظهورهم بمظهر رجال الشُّرطة، وأسلحتهم التي ذكَّرَته بقِطعة أخرى متروكة في البيت أو في قصة غير مكتملة.
قضى معهم نحو ثلاثة أشهر، مُحتجَزًا بلا سبب. استفسروا منه عن كل شيء في حياته وعرَّضوه لمضايقات وإهانات، فقط لامتحان صبره وقوة تحمُّله. سخروا منه ومن أفكاره ومن مسلسلاته ومنجزاته. أحسَّ أنهم يفعلون ذلك مِن وراء قلوبهم، رغمًا عنهم، بل إنهم يتألَّمون لاضطرارهم إلى ذلك، لكنَّ هذه هي ضرورة فترة الاختبار. عندما أطلقوا سراحه لم يكن سعيدًا، أحسَّ أنه خذلهم وخذل نفسه، لأنهم لم ينقلوه إلى مرحلة مُتقدِّمة، لأنه فشلَ في إقناعهم بقدراته الخاصة. كان من المفترض بعد استغنائهم عنه أن يخرج من المسلسل، وأن يعود إلى حياته السابقة لكنها بَدَت له فارغة تافهة. أوصدَ بابه على نفسه وكفَّ عن العمل ومقابلة الناس، مكتفيًا بقراءة كتب فيزياء الكَمِّ ومواصلة تجاربه في مَعمل دماغه مازجًا بين أنواع مختلفة من الأقراص والمشروبات والمخدرات المستحدَثَة، بإخلاص باحثٍ في مَهمَّة عِلمية كونية، سوف تحسم نتيجتها الحرب الأزلية بين النور والظلام في هذا الوجود المتوازي للأكوان.
ظنَّ أحيانًا أنه قادر على النسيان، نسيان الصحاب الذين سُجنوا واختفوا، الذين سافروا وهاجروا، والذين قُتلوا عبثًا وغِيلةً منذ خمسة وعشرين يناير فَما بعدها، ثم الذين بعد أن انفضَّ المَولد ذهبوا فتحمَّموا وتعطَّروا وظهروا على شاشات التليفزيون بوجوه لامعة وأعين جائعة وأيديهم تصافح قَتَلَة أصحابهم وأهلهم. رآهم عبد الله بأفواهٍ مملوءة بالنفاق والكذب والأرز والطبيخ واللحم والسَّلطات والمحشيات والمشويات والحلويات، ثم رآهم ينفجرون أمامَ عينيه فتلطِّخه محتويات أحشائهم ليمسح عن وجهه ونظَّارته بقايا الطعام والدَّم ومِزَق الأمعاء، ويلفُّ لنفسه ولأخيه البحري سيجارة جديدة.
أيقنَ بوجود أكثر مِن عبد الله، نُسَخٍ أخرى منه في أكوان متوازية، وهذا تَمَام جِدًّا معه، لكنَّ واحدًا منهم ظهر له ذات يوم وفتح معه كلامًا. سعِدَ بالمبادرة وأسماه عبد الله البحري، على اعتبار أنه هو عبد الله البري.
حكى له عن كل شيء، كابِتًا في ركنٍ من عقله الأسئلة الخطرة، هل أخوه هذا حقيقي؟ ألا يجوز أنه يتخيَّل وجوده؟ ألم يزل المسدس معه؟ هل أخذ المسدس حقًّا؟ هل هذا أحد مندوبي الوكالة متخفيًا في هيئةٍ تشبهه؟ هل منحوه فرصة أخرى للانضمام إلى فريق كتابة مسلسل الخيال العلميِّ الضَخم؟
*
تُرى أين أنتَ الآن يا تيفا؟ ولماذا كُلَّما اعتادَ المرء على دِيلر فرَّقَت بينهما الدُّنيا؟ كلَّا، تيفا لم يكن مجرد ديلر، بل كان صاحبًا شهمًا ودليلًا مرشدًا في دهاليز التجارب المَعملية التي عكف عليها عبد الله طويلًا. يقولون إنه سُجنَ ويقولون إنه غيَّر حياته وتاب الله عليه وفتح مشروعًا محترمًا. لكن لِمَن تترك أصحابك وأحبابك يا تيفا الغالي؟
ذاقَ المرار أيامًا حتَّى ظفرَ أخيرًا برقم النَّجم الصاعد في سماء الوييد. على الهاتف أخبره النجم الجديد أنَّه عادةً لا يذهب إلى بيوت بل يقابل زبائنه في المكان الذي يحدِّده لهم. حاول عبد الله أن يستخدم اسم تيفا، وأنه كان صاحبَه وحبيبه، وأنه يا ما جاءه لحد البيت. وعندما لم يبدُ أنَّ الديلر الجديد الشاب، قد تأثَّر، رمى عبد الله بورقة يائسة متظاهرًا بأنه مصاب باضطراب نفسي مُعيَّن يمنعه من الخروج من البيت كثيرًا، وشرعَ في إغراقه بالمصطلحات والأعراض، حتَّى بدا أنَّ البائع تفهَّم الموقف وعرضَ أن يعمل له استثناء ويرسل له شابًّا بكل المطلوب. أرسلَ له عبد الله العنوان بالتفصيل على الواتس، وأرسلَ له الديلر صورة الشاب، يقف ببدلة لامعة في مدخل قاعة أفراح مُزيَّنة بالورد والأضواء الملوَّنة. سرسجي لكن على سِنجة عشرة كما يقولون. سأله عبد الله عن اسم الشاب فتلقَّى الجواب بعد ثوانٍ: «عبد الله برضو»، ثم إيموچي يضحك دامعًا.
الفجوة التي تركها اختفاء تيفا في حياة عبد الله أكبر مِن تلك التي شعرَ بها بعد ابتعاد ميّ عنه، الصَّبيَّة الجامحة التي تَمَومَسَت الآن في رأيه، وصارت ممثِّلةً شابَّةً واعِدَة. لم يكُن اللف الجيد للسجائر مهارتها الوحيدة. كانت تعرف كيف تغيب وكيف تفيق، كيف ترقص حافيةً شِبه غائبة عن الوعي لكن بحرص على أن تكون مَحطَّ أنظار جميع الموجودين في الملهى، وكيف تتوازن على أدقِّ حبل من حبال العلاقات الاجتماعية. تعرف كيف تسحبه بهدوء ونعومة من وسط ضباب أفكاره وأوهامه إلى رؤية صافية لها ولجسدها على سفينة صغيرة، منعزلة عن كل زمان وكل مكان، لا ينزلان منها إلى الماء إلَّا بعد الشَّبع والتعب من الإبحار ويتوقان للمس اليابسة، فيقول أحدهما للآخر: خلاص، شِبعنا وضِعنا، قاصدًا الجِنس أو المخدرات، لا يدري. فيحينُ وقتُ القهوة والاستحمام بالماء البارد وارتداء ثيابٍ نظيفة والخروج للعالَم والناس. منذ متى لم يحلق؟ منذ متى لم يستحم؟ منذ متى لم يرتِّب الشقة ولو قليلًا؟ لا شيء يستحق، لا شيء يستحق.
تبادلا قُبلتهما الأولى عندما انقطعَ النور فجأة في مقهى الحُرية في باب اللوق، كانا يجلسان متجاورَيْن، وسط آخرين، ولم ينتبه أحدٌ لما حدث، وعندما تحرَّك عُمَّال المقهى سريعًا وأحضروا الكشافات التي تعمل بالبطاريات، كان قد وُلدَ سِرُّهما الأوَّل. آلاف القبلات التالية لا يكاد يميز من بينها واحدة. وحدها القبلة الأولى تقف صامدة ومميَّزة في مواجهة آلاف القُبَل التالية، وفي هذا شيء من الظلم. ربما لم تستغرق أكثر من نصف دقيقة، لكن عند تحليل عبد الله لهذه المدة فإنها عكست له ما عاشاه معًا، على مدار نحو أربعة أعوام، مِن مراحلَ وتحوُّلات. متعة الاختلاس، فرحة اكتشاف كلٍّ منهما للآخَر، النَّهم والتَّعجُّل والخوف، العنف والضجر والتَّخلِّي. الغريب أنه لم يكن منتبهًا لذلك كله لحظة التقبيل، لم يكن منتبهًا لكل المرارة والأحقاد والخذلان، لم يكن منتبهًا للتلاعُب والتَّشفِّي وتبادُل الاتهامات والخِزي والنقمة. لم ينتبه إلَّا لمذاق التبغ والبيرة ولذوعة ملح خفيفٍ من أثر عَرَقٍ مختلط بطعم طلاء شفاه لا يطيق مذاقه وأحبَّه فقط مع ميّ.
تلك النظرية الخاصة بالقُبلة الأولى أفسدت عليه قبلاتٍ عديدة بعد ذلك، فكلَّما تبادَل قُبلةً مع إحداهنَّ انتبهَ تمامًا كأنه عرَّافٌ يقرأ كفَّ المَلك، حتَّى يتنبأ له إن كانت هذه الحرب تستحق خوضها أم لا. وفي كل مرة يرفع العرَّاف عينيه عن كفِّ الملك ويتطلَّع إلى وجهه في خيبة أمل ويهزُّ رأسه يمينًا ويسارًا وهو يردِّد شِعاره الأثير: لا شيء يستحق! لا شيء يستحق!
*
دقَّ جرس الباب بعد نحو أربعين دقيقة فارتعدَ بدنه وتذكر الأوردر. حدث كل شيء بسرعة. أفلتت منه كلمة تفضَّل، فدخلَ الشابُّ ببساطة وألقى نفسه على الكنبة المريحة، وخلع نظارة الشمس ودقَّق النظر في عبد الله الذي يردِّد أهلًا وسهلًا، ويسأله إن كان يشرب شيئًا. يذكر أنهما بعد ذلك انهمكا في تجربة الصنف الجديد ودخَّنا معًا. ثُمَّ وجد نفسه وحده فجأة. بحث عن الموبايل فلم يجده في أي مكان، فنهض يبحث عن أي شيء آخر ضاع فلم يجد لا المحفظة ولا اللاب توب، ولا يدري كيف استطاع الشاب أن يأخذ هذا كله من غير أن ينتبه. على الأقل ترك له الأعشاب السِّحْرية.
ماذا كان شكله؟ كان يبدو في منتصف العشرينيات، نحيل ورشيق وأبيض البشرة وشَعرُه غارقٌ في الچيل ومُصفَّف بطريقة تتداخل فيها الخصلات على نحوٍ مُعقَّد. على الموبايل الضائع، كان يرتدي بدلة لامعة ويبتسم بفخر على مدخل قاعة أفراح ملونة ومضيئة. كان بحاجة لشخصٍ ما معه، شخص يستطيع أن يفكر معه، أن يتحدث إليه. شخص يسأله ما الذي سُرقَ منكَ؟ ليجيبه: لا شيء يستحق! لا شيء يستحق! في عالَم آخَر، عبد الله آخَر لم يُسرَق منه شيء، ولم يخسر أي شيء.
لعلَّ نُسخة واحدة فقط مِن بين نُسخِه الكثيرة المبثوثة في الكون عاش حياته كما أرادَ حقًّا، عاشها سعيدًا ولو بقدرٍ ما، ناجحًا ولو بقدرٍ ما. ألم يكن هو نفسه، عبد الله الأصلي، ذات يوم سعيدًا وناجحًا ولو بأقل قدرٍ ممكن، أيكون هو نفسه أفضل نسخة منه؟ أيكون هذا العالَم أفضل احتمالٍ ممكن؟ معقول؟! مقلب وأي مقلب!
يقول عبد الله البري لأخيه البحري: «أنا اخترتُ عُزلتي بإرادتي، لم يفرضها عليَّ أحدٌ أبدًا. حينما انتهت فترة اختباري لدى وكالة ناسا بالفَشَل رموني في الشارع على الطريق الصحراوي كما ولَدَتني أمي في عِزِّ الليل؛ عِقابًا لي لأني لم أكن على مستوى توقُّعاتهم مِنِّي. أحسستُ أنني لم أعُد أصلح لشيء، ولا أريد أن أخرج للعالَم مرة أخرى. أطلب احتياجاتي الأساسية بالهاتف ولولا مشاوير الضرورة القصوى لَمَا خرجتُ من البيت».
*
شهقَ شهقةً عظيمة وهو يصعد من الماء في حُلمه. كان ديلڤري الوييد الشاب يدلق الماء على وجهه ليفيقه. أنهضه الشاب وسنَّده حتَّى الكنبة. ألم يسرقه؟ ألم يخدعه؟ أهذا هو قرينه؟ أهذا هو أخوه البحري؟ الساعة تقترب من الثانية صباحًا الآن. مرَّ على وجود هذا الضيف معه أكثر مِن ثماني ساعات. كان قد ظلَّ يتحدث طوال الوقت، قبل أن تفور القهوة ويتسرَّب الغاز وهما شِبه نائمَين. بادره الشَّبَحُ الغريب قائلًا: «كنت هَتموِّتنا يا صاحبي؟ ما إحنا مع بعض يا نعيش سوا يا نموت سوا. وعلى فكرة، عليَّا الحرام مِن ديني أنا مش تَبع وكالة ناسا». وأطلق قهقهة هادئة طيبة.
نَعم، هذا صحيح، نعيش معًا أو نموت معًا. منذ ظهور الآخر وهو يعرف أن مصيرهما مرتبط، منذ أن انقسمَ أمامَ المسدَّس وبات يعرف أنَّ كل شيء مرتبط. لم يعُد يدري أيُّ النُّسَخ غرق وأيُّها نجا، لكن لو أنَّ نسخة واحدة قد تبدَّدَت سوف تتبدَّد معها جميع النسخ الأخرى، ولو نجا هو لنَجَت جميع نُسَخه الأخرى، هذا مؤكَّد، وربما نجا الوجود بكامله معهم، مَن يدري؟
الآن يُعدَّان قهوة من جديد، ويجلسان لشُربها في محاولة جديدة للاستفاقة. كان ضيفه الشاب الذي أنقذه من الغرق في حُلمه يرنو إليه مبتسمًا بجفون مُثقَلَة ووجهٍ أصفر متعب ولكنه بريء كوَجه قِدِّيسٍ في أيقونة. شعر عبد الله أنَّ مصيرهما موحَّد، مصيرهم جميعًا موحَّد، جميع النُسَخ الإنسانية الشبيهة والمتنوّعة. ومع ذلك فقد كانت الطبنجة الميري لم تزل بينهما على المائدة الصغيرة، مثل أي شيء آخَر في قِصة منتظرًا أن يكون لوجوده معنى ومُبرر، أو أن يكون زائدًا عن الحاجة فيختفي كأن لم يكن.
محمد عبد النبي روائي ومترجم مصري