غزة- مدلين خلة - صفا كانت الساعة تشير عقاربها إلى التاسعة والنصف مساءً، حمل الجميع على نفسه التجهز لخطف قسطًا من الراحة والخلود للنوم، بعد تعب يوم شاق من أيام النزوح في مراكز الإيواء، على أمل أن تكون هذه الليلة مختلفة عن سابقتها. لكن اختلاف تلك الليلة لمن أرادوا نيل قسطًا من السكينة والهدوء لا تُفسده أصوات الصواريخ والقذائف، أصبحوا هدفًا لمدفعية الاحتلال الإسرائيلي وحمم نيران حقدها لتبدأ فصول مجزرة تحولت فيها عظام نازحي مدرسة "المفتى" لجمرات ملتهبة وساحة أخرى لتفحم أجساد النازحين.

محرقة جديدة تلك المدرسة التي تحمل شعار الأمم المتحدة كانت ملاذ النازحين قسرًا من شمال قطاع غزة، ظنًا منهم أنها ستكون أكثر أمنًا من بيوتهم التي لم تسلم من نيران الحقد الإسرائيلي. هنا تجرع الغزيون كل صنوف الموت، ولم يتبق شكل إلا وتعرضوا له خلال عام من حرب الإبادة المستمرة، لكن الأفظع أن تشاهد عظامك وهي تُوقد بالنيران ويكون جسدك حطبًا لعنجهية الاحتلال. "كنا نجهز حالنا للنوم، نحاول أن نسرق ساعة راحة قبل أن يبدأ القصف والقذائف، كنا خايفين نسمع مجازر جديدة تحدث في شمالي القطاع، وندعي ربنا تمر هالليلة على خير دون وجع جديد أو فقد متكرر". لم تكن تدري الناجية من محرقة مدرسة "المفتي" في مخيم النصيرات وسط القطاع، أنها ونازحي المدرسة سيكونون الحدث الاعظم لهذه الليلة، وأن سكون الليل سيتبعه محرقة عظيمة تلتهم أجساد الضعفاء. تقول الناجية من محرقة المفتي لمى أبو غولة لوكالة "صفا": "سمعنا صوت القذائف ورأينا لهبها وهي في السماء، ونحن نقول يا رب سلم الناس النازلة عليهم، ما كنا نعرف إنه بندعي لحالنا، وأن نيرانها سوف تأكل لحمنا". وتضيف أبو غولة "شفنا لهب القذيفة بالسماء، لكن لم نعرف أنها موجهة على أحد الفصول الذي يكتظ بالنازحين في الطابق الثالث للمدرسة". "اشتعلت النار بالفصل والناس موجودة فيه، لهب القذيفة واشتعال الفصل كسر ظلمة الليل، وصار الكل يجري يحاول أن ينقذ نفسه وأولاده، والرجال صارت تحاول تطفي النار في محاولة لإنقاذ العالقين داخل الفصل". لحظات مؤلمة لم تصدق الغولة أنها ما زالت على قيد الحياة صارعت الموت حرقًا لتنجو بجسدها دون أي حروق قد تتطور لاحقًا، بسبب نقص الأدوية أو عدم وجود المواد الخاصة بعلاج الحروق. وتتابع "لحظات والناس تركض لإطفاء النار والنساء تهرب مع الصغار، إلا أن قذيفة ثانية استهدفت درج المدرسة وكسرت طوق النجاة أمام الفارين من ألسنة النيران التي أخذت بالتوسع لتلتهم بوحشية كل ما يقف بطريق انتشارها". كانت المجزرة ستكون كافية لهذا الحد، إلا أن جشع الاحتلال لم يسكن، فإذا بقذيفة ثالثة تصيب فصلًا آخر لتعلن بداية المحرقة بعدة فصول دراسية. وما هي إلا دقائق حتى سقطت قذيفة ثالثة في فصل دراسي آخر لتشتعل النيران بداخله، وتنتقل للفصول التي بجواره، وتم محاصرة كل من في المبنى، بعدما أحاطت النيران بهم من كافة الجهات، ولم يعد هناك أمل في مواجهتها فأصبحت أجسادهم وقودًا لها. لحظات الفاجعة كانت فوق تخيل العقل، فالفصول الدراسية تمزقت جدرانها أمام بطش القذائف المدفعية، وتناثرت شظاياها لتعلن سقوط 22 شهيدًا، وإصابة العشرات ممن كتب لهم أن يكونوا شهودًا على تلك المحرقة. وأضحت جدران المدرسة تحكي فصول معاناة يومية يعيشها سكان القطاع على مدار عام كامل من حرب الابادة والتجويع. فصول حكاية تحولت فيها أجساد النازحين لوقود قذائف الجيش الأكثر حقدًا وعنجهية وجبروت، وسط صمت عربي مطبق على ما يتعرض له الغزيون على مدار 375 يومًا ويزيد. ولم تكن مدرسة "المفتي" الأولى، ولن تكون الأخيرة، في ظل استمرار حرب الإبادة، ووفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي، بلغ عدد مراكز النزوح التي قصفها جيش الاحتلال 191مركزًا. 

المصدر: وكالة الصحافة الفلسطينية

كلمات دلالية: حرب غزة مدرسة المفتي مجزرة

إقرأ أيضاً:

قيود الحقد وحرية التسامح

بقلم : اللواء الدكتور سعد معن ..

لم يكن الصراع بين التسامح والحقد يومًا صراعًا خارجيًا بين الإنسان وخصمه، بل هو صراع داخلي، معركة تدور في أعماق النفس بين الأنا المتعطشة للانتقام ، وبين العقل الذي يدرك أن الاستمرار في الحقد لا يفضي إلا إلى مزيد من المعاناة. فالإنسان يعيش ممزقًا بين غريزته الأولى التي تدفعه إلى رد الإساءة بمثلها، وبين وعيه الذي يفرض عليه التفكير بما هو أبعد من اللحظة الآنية. وبين هذين القطبين، يجد نفسه أسيرًا لصراع لا ينتهي إلا بقرار حاسم: إما أن يتحرر أو أن يبقى عالقًا في دوامة الغضب.

يرى علي الوردي أن الإنسان كائن تحكمه التناقضات، فهو يقدّس الانتقام باسم الكرامة، لكنه في الوقت ذاته يعظّم قيم العفو والتسامح. هذه الازدواجية ليست وليدة العقل، بل هي نتاج بيئة اجتماعية زرعت في الأفراد فكرة أن التسامح ضعف، وأن المسامح يُنظر إليه على أنه منهزم حتى لو كان يملك القوة على الرد. وهكذا يتحول الحقد إلى أداة لإثبات الذات، لا لأن صاحبه بحاجة إليه، بل لأنه يخشى أن يظهر متسامحًا فيُساء تفسير موقفه. وهذه العقدة ليست فردية، بل هي جزء من النسيج الثقافي الذي يُطبع به الإنسان منذ صغره، حيث يتعلم أن القوة في التشبث بالأذى، لا في التخلي عنه.

علم النفس يرى أن الحقد ليس مجرد مشاعر، انما هو منظومة عقلية وسلوكية تنمو داخل الفرد بفعل التجارب المتكررة……وفقًا لنظرية سيغموند فرويد، فإن الإنسان عندما يتعرض للأذى ولا يجد طريقة فورية للانتقام، فإنه يكبت غضبه ليعود لاحقًا في شكل كراهية عميقة تجاه المعتدي، وأحيانًا تجاه العالم كله. هذه الكراهية تتحول إلى نمط تفكير، حيث يصبح الدماغ مبرمجًا على استدعاء الألم كلما فكر في الشخص الذي أساء إليه. في المقابل، التسامح ليس مجرد قرار أخلاقي، بل هو عملية عقلية تحتاج إلى جهد واعٍ لإعادة برمجة العقل ليكفّ عن استرجاع الإساءة وكأنها حدثت للتو.

علم الأعصاب يؤكد أن الدماغ البشري يتأثر بالحقد كما يتأثر بالخوف، فاستمرار الشعور بالغضب يحفز اللوزة الدماغية، مما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر كالكورتيزول، والتي تؤثر سلبًا على صحة الإنسان الجسدية والنفسية. الإنسان الحاقد يعاني من توتر دائم، من تراجع في جودة النوم، من ضعف جهاز المناعة، وحتى من اضطرابات القلب، بينما الشخص المتسامح يتمتع بقدرة أكبر على التعامل مع ضغوط الحياة، لأن ذهنه غير مثقل بالمشاعر السلبية التي تستنزف طاقته.

التسامح ليس استسلامًا، هو قرار يتطلب قوة داخلية هائلة. مصطفى محمود يرى أن التسامح ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل هو فلسفة حياة، حيث يدرك الإنسان أن الانتقام لا يغيّر الماضي، وأن أفضل انتصار على الظلم هو أن يواصل المرء حياته دون أن يسمح للأذى بأن يعيد تشكيله وفق مقاييس المعتدي. الحاقد يظن أنه يمتلك زمام الأمور لأنه لم ينسَ الإساءة، لكنه في الحقيقة أسيرها، بينما المتسامح هو من يكسر القيد ويمضي خفيفًا، لا يحمل أعباء لا حاجة له بها.

حين يتصارع العقل والقلب، يكون القرار بين أن يغفر الإنسان ليحيا، أو أن يحتفظ بحقده ويموت ببطء. الأنا تحب الحقد لأنها تراه وسيلة لحماية كرامتها، لكنها لا تدرك أنها بهذا الحقد ترهن نفسها لمن أساء إليها، وكأنها تمنحه سلطة مستمرة عليها. في حين أن القوة الحقيقية ليست في الانتقام، بل في القدرة على التجاوز دون أن يفقد الإنسان كرامته أو ذاكرته. التسامح ليس نسيانًا، لكنه قرار بأن لا يكون الماضي قيدًا يكبّل الروح، خاصة وان كل الأشياء في هذه الدنيا هي افتراضية و وهم زائل من المال والمنصب والجاه وغيرها ،وأن لا يتحوّل الإنسان إلى صورة مشوهة ممن أساء إليه. ففي النهاية، لا ينتصر في هذه المعركة إلا من امتلك القدرة على التحرر وادرك ان متغيرات الحياة كثيرة ومستمرة وداوم الحال من المحال.

د. سعد معن

مقالات مشابهة

  • وزيرة التضامن تزور مدرسة راهبات الراعي الصالح بشبرا.. تخرجت فيها من 35 عاما
  • وزيرة التضامن تزور مدرسة راهبات الراعي الصالح للغات بإدارة شبرا التعليمية
  • في أيرلندا.. طائر يلقي يداً بشرية داخل مدرسة
  • ولي أمر يحرر محضرا يتهم فيه مدير مدرسة بالتحرش بنجله
  • مدرسة صناعة الطائرات 2025 في مصر.. الشروط والمزايا وعنوان المدرسة
  • بالصور.. تعرّض مدرسة في وادي خالد لأضرار جراء العدوان الإسرائيلي على مجرى النهر الكبير
  • نوتردام دو بيتارام.. مدرسة كاثوليكية تهدد انتهاكاتها عرش رئيس الحكومة الفرنسية
  • مدير مدرسة في اليمن يشهر سلاحه في وجه الطلاب.. ما السبب؟ (شاهد)
  • يمنيون ينتقدون مدير مدرسة أطلق النار باتجاه طلاب لم يدفعوا الرسوم
  • قيود الحقد وحرية التسامح