انتصرنا ولا يزال السلام سكة طريقنا!
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
انتصرنا ولا يزال السلام سكة طريقنا!
صالح عمار
أكدت ردة الفعل الشعبية السريعة، والمنظمة، والسلمية، والهتافات الديسمبرية التي رددتها الجماهير، وإغلاق الأسواق والطرق وسط مدينة كسلا غداة اغتيال الشاب الشهيد (الأمين محمد نور) قبل أسابيع بواسطة المستنفرين ومخابرات البرهان، أن مبادئ ثورة ديسمبر قد تجذرت بين كل طبقات الشعب، ولم يعد بإمكان قوى الظلام إعادة عقارب الساعة للوراء حتى لو استخدمت أفظع أساليب الترويع والتصفيات الجسدية، وأن الجماهير التي عركتها التجارب الممزوجة بالتضحيات لن يسري في دمها أفيون الأكاذيب مهما كانت براعة حبكتها.
ولكن للحقيقة وحتى نضع قطار التاريخ في مساره الصحيح، لم يكن الفضل في جذرية الوعي تلك يعود إلى الإرث المباشر لثورة ديسمبر وحدها، ولكن هناك حدث آخر أيضا نقش اسمه في ذاكرة الشرق، وكسلا بالدماء الطاهرة، وهو مجزرة (15 أكتوبر 2020).
وملخص الحدث أن القوات العسكرية المشتركة أطلقت نهاراً يوم (15 أكتوبر 2020م) النار على موكب سلمي كان يمارس حقه في التعبير عن رفض قرار إقالة والي كسلا، ونتج من ذلك سقوط سبعة شهداء وعشرات الجرحى. وامتدت الاحتجاجات بالتوازي لأيام وبأعداد كبيرة أيضا في بورتسودان وسواكن بجانب القضارف وحلفا الجديدة والخرطوم، ولكن انتقل التركيز من بعد إلى كسلا حيث جرت المجزرة، وهي الولاية مركز الحدث.
وفي مواجهة الموقف العصيب والامتحان التاريخي الذي وجد فيه تحالف التيار المدني- الأهلي نفسه يقود حراك الشارع، وهو أمام امتحان الاستجابة إلى استفزاز الأجهزة العسكرية التي كانت تدفع الجماهير دفعا إلى التمرد أو اختيار النضال السلمي. وقد حسم التحالف أمره عاجلا، واختار سكة السلم في تلك اللحظات، وهو يواجه الموجة العاتية من خطاب الكراهية والتمييز، وما تفرزه من غبن وضغوط شعبية باتجاه التمرد.
وقد اتبع التحالف الذي ضم أحزاباً سياسية ومنظمات مدنية وزعماء قبائل وقادة دين تكتيكات متعددة في مواجهة تداعيات المجزرة ترتكز على تجنب المواجهات العنيفة ضد السلطة أو المواجهات الأهلية التي يرعاها القادة العسكريون، وشملت تلك الوسائل الاعتصام ومواكب السلاسل البشرية والبالونات والاستخدام المكثف للإعلام ورفع الدعاوى أمام المحاكم ومتابعتها والمصالحات الاجتماعية والخطاب السياسي المحدد بمطالب متوافق عليها.. الخ.
وقد نجح هذا الحراك المستمر حتى اليوم في تحقيق نسبة مقدرة من مطالبه، ومنها إقالة اللجنة الأمنية لولاية كسلا بقيادة الوالي ومنع تعيين والٍ آخر إلى حين فتح حوار (أول والٍ تم تعيينه كان بعد حرب 15 إبريل) وتقديم عدد من المتهمين في المجزرة وحوادث أخرى مصاحبة إلى المحكمة وصدور أحكام إعدام ضدهم وإقامة تجمعات تخليد للذكرى في وسط المدينة والموافقة على تسمية أحد الشوارع الرئيسة في كسلا باسم شهداء (15 أكتوبر)… إلخ.
وإذا اتفقنا على أن الأحداث التي شهدها الشرق خلال الفترة الانتقالية تستلزم إجراء تحقيق مطول، وهو ما لا تتوافر الإرادة وقدرات الأجهزة العدلية على تحقيقه الآن وان الطريق للتعاطي مع أحداث الشرق يتم عبر برنامج للعدالة الانتقالية مثله مثل سائر أنحاء السودان، فمن فخر كسلا والشرق أنه قدم نموذجاً عملياً في التعاطي مع (15 أكتوبر) يمكن اتباع أثره لتحقيق العدالة وان هذا النموذج حقق ما يمكن تقديره بنسبة (70%) من مطلوبات العدالة والمتبقي حتى اليوم اعتذار السلطة والإصلاح المؤسسي الذي يمنع تكرار مثل هذه الحوادث وسن قوانين صارمة ضد مروجي خطاب الكراهية الذي كان أهم أسباب الأحداث في الشرق، وتفاقم من بعد، وامتد إلى كل شبر في السودان بعد الحرب.
واليوم إذا كان للشرق ما يتميز به فلا جدال كونه ينعم بالسلام وسط جحيم وجنون الحرب التي أهلكت الناس والبلاد، وان مدن الإقليم وقراه صارت مقصدا لأبناء وبنات الوطن الباحثين عن الأمان. والفضل في ذلك مردود إلى وعي الجماهير وقادتها المدنيين والأهليين الذين تمسكوا بتلابيب الحكمة في أحلك لحظات الجنون، وجنبوا شعبهم بذلك براميل الطيران وفظائع الحرب الأهلية.
والخطر القديم والمتجدد الذي يدق اليوم أبوابه حدود الشرق هو الحرب، الحرب بين مكونات السلطة القديمة التي تسببت في تهميش الشرق وزرع الفتن بين الإخوة من أهله، وتتخذ الآن من الإقليم منصة للحرب، وتستخدم كل وسائل الاستغفال والاستهبال من أجل تزييف تاريخها الحافل بالانتهاكات والعنصرية سعيا إلى خداع أهل الشرق وجرهم إلى حرب الحفاظ على الامتيازات بينما لا يحفل سجلهم في الحكم بأي إنجاز تجاه أهل الإقليم الذي حرم حتى من الماء، وهو على مقربة من حدوده بينما امتدت أنابيب البترول (1600 كيلومتر) من جنوب السودان إلى موانيه التي لم يكتفوا بنهب عائداتها، وزادوا على ذلك انتحال أسماء جديدة لها، وأضحت بذلك (اوشيري) تسمى (بشائر)!
وبعد أربع سنوات من الفاجعة، وما دمنا قد اجتزنا كل تلك الأشواك والمرارات، وما دامت تلكم الجماهير في كامل استعدادها لتدافع عن حقها في الحرية والسلام والعدالة، وتفسد مكر الأفاعي من دعاة الحروب، وما دام أهل الإقليم يتدافعون لتسيير قوافل المساعدات لبعضهم البعض، ومعها جلسات الصلح والصفاء دون وسيط، فنحن بخير والحمد لله.
وعلى ذلك، فإن دماء الشهداء- كل الشهداء كانت منارا وفداء لقادم الأجيال التي من حقها وواجبها علينا أن تعيش بسلام وكرامة، وأرواح الشهداء تقرئنا السلام، وليس هناك أعظم من أن نحيي ذكراهم، ونحن نقبض على جمر السلام ونلهج بالسلام.
وسكة طريقنا السلام!
15 اكتوبر 2024م
#شهداء_كسلا15اكتوبر
#شرق_آمن
#سودان_آمن
الوسومالإصلاح المؤسسي الخرطوم السودان اللجنة الأمنية بورتسودان ثورة ديسمبر سواكن شرق السودان شهداء 15 اكتوبر صالح عمار كسلاالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإصلاح المؤسسي الخرطوم السودان اللجنة الأمنية بورتسودان ثورة ديسمبر سواكن شرق السودان صالح عمار كسلا
إقرأ أيضاً:
ندوب الحرب التي لن تبرأ بصمت المدافع
توشك المفاوضات بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس أن تصل إلى ذروتها بإتمام اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. ورغم أن جانب دولة الاحتلال غير مأمون بناء على التجارب التاريخية وبناء على تجارب مفاوضات الحرب الحالية، لكن المؤشرات والتسريبات التي رشحت خلال الأيام الماضية والمشهد العام في المنطقة والمزاج الأمريكي كلها تشير إلى أن إسرائيل مضطرة هذه المرة إلى التوقيع قبل بدء الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي ترامب.
إن هذه الخطوة كان يمكن أن تحدث منذ أكثر من عام لولا تعطش رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة للدماء ولولا الأحقاد التي تستعر في نفوسهم ضد الشعب الفلسطيني، ولو حدثت في ذلك الوقت لكان يمكن لآلاف الأطفال الذين استشهدوا في هذه الحرب أن يكونوا من بين الذين سيفرحون بالقرار وهم يعودون إلى قراهم المدمرة ليبحثوا عما تبقى من ذكرياتهم وألعابهم وبعض طفولتهم.
لكن قتلة الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء لا يفهمون معنى الطفولة ولا قدسيتها حتى خلال الحرب ومن باب أولى لا يفهمون معنى أن تعود الأمهات الثكلى بأطفالهن فلا يجدن حتى قميصا فيه رائحة طفلها قد يخفف بعض حزنها أو يوقف دموع عينها المبيضة من الحزن والبكاء.
من حق الفلسطينيين أن يشعروا بالنصر رغم كل الخسائر التي منوا بها: خسائر في الأرواح التي قد تصل الآن بعد أن تتلاشى أدخنة الحرب إلى نحو 50 ألف شهيد وأكثر من 200 ألف جريح وبنية أساسية مهدمة بالكامل وغياب كامل لكل مظاهر الحياة الإنسانية وانعدام كامل للمواد الغذائية والطبية.. وشعور النصر مصدره القدرة على البقاء رغم الإبادة التي عملت عليها قوات الاحتلال، الإبادة المدعومة بأعتى الأسلحة الغربية التي جربها العدو خلال مدة تصل إلى 18 شهرا.
في مقابل هذا لا أحد يستطيع أن ينكر أن الموازين في المنطقة قد تغيرت بالكامل خلال هذه الحرب، والمنطقة في اليوم التالي لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار ليست هي المنطقة التي كانت عليها قبل يوم 7 أكتوبر.
وإذا كانت إسرائيل قد صفَّت الكثير من خصومها في هذه الحرب وفككت محور المقاومة وأثخنت الكثير من جبهاته وآخرها الجبهة السورية إلا أنها كشفت عن ضعفها في المواجهات المباغتة، وفضحت أسطورة أجهزتها الأمنية وقبتها الحديدية.
وفي مقابل ذلك فإن حركة حماس رغم ما تعرضت له من خسائر فادحة في رجالها وقياداتها الميدانية إلا أنها أثبتت في الوقت نفسه أنها منظمة بشكل دقيق ومعقد وأنها قادرة على الصمود وتجديد نفسها وتقديم قيادات جديدة.
والأمر نفسه مع حزب الله ومع إيران التي دفعتها هذه الحرب إلى دخول مواجهة مباشرة لأول مرة في تاريخها مع إسرائيل، ولا شك أن تلك المواجهات كشفت لإيران نفسها عن مواطن الضعف في منظوماتها كما كشف مواطن القوة.
ورغم أن بعض الخبراء يرون أن حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله يمكنهم تجديد قوتهم خلال المرحلة القادمة إلا أن الأمر يبدو مختلفا في سوريا التي يظهر أنها خرجت من المحور تماما سواء كان ذلك على المستوى الأيديولوجي أو حتى مستوى العمل الميداني واللوجستي.
وأمام هذا الأمر وتبعا لهذه التحولات ما ظهر منها وما بطن فإن الموازين في المنطقة تغيرت بالكامل، ولا يبدو أن ذلك ذاهب لصالح القضية الفلسطينية في بعدها التاريخي أو في جوهر ما تبحث عنه وهو دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المحتلة ولو على حدود 5 يونيو 1967.
لكن هذا لا يعني أن المقاومة ستنتهي أو تنتهي نصرة القضية الفلسطينية من الشعوب الحرة المؤمنة بالقضية، بل ستزهر في كل مكان في فلسطين أشكال جديدة من المقاومة والندوب الذي أحدثتها الحرب في أجساد الفلسطينيين وفي أرواحهم، ستبقى تغلي وستكون بذورا لمواجهات أخرى أكثر ضراوة وأكثر قوة وإصرارا على النصر.