لم يعد خافيا اليوم، بعد مرور سنة وأكثر عن “طوفان الأقصى”، الذي حرك المياه الآسنة، والتي كانت ستؤول حتما إلى صفقة بيع للقضية الفلسطينية، تنهي الصراع من أجل التحرر، حتى ولو كان إلى حين، كون جذوة المقاومة لا يمكن إطفاؤها بالصفقات والمناورات السياسية والدسائس والتطبيع مع غير المعني، لم يعد خفيا أن العدو الصهيوني بات يعرف أكثر من غيره أن وهو القزم المتغول بمال وسلاح وحماية الغير من الأغيار المقربين قدميه باتتا متوحلتين في رمال متحركة في غزة وفي الضفة من جهة ولبنان من جهة ثانية.
تمطر عليه الطيور الأبابيل حجارة من سجيل من اليمن والعراق، ومن إيران وغزة ولبنان، من بين أيديهم وأرجلهم.
لقد انكشف للقيادة الصهيونية المعمية بحمى الانتقام الإجرامي الحيواني المتوحش الذي لا حدود له، المأزومة داخليا، المهددة بالسقوط، المنقسمة على نفسها، المتكالبة فيما بينها، أن التمادي في الحروب، كسياسة للهروب إلى الأمام لتجميع أشتات المستوطنين الباحثين عن العز والرخاء والجنة الموعودة لهم في التوراة، حسب زعمهم، ما هو إلا وهم وسراب وخديعة للنفس.
هذه الجنة الموعودة لم تعد كذلك، بل عادت جحيما لا يطاق، ولا يمكن من الآن أن يفكر أحدٌ في شد الرحال إلى “أرض الميعاد”، بل العكس هو كذلك: أربعون ألفا فقط هذه السنة شدّوا الرحال خارج الأرض المحتلة، والعدد مرشح ليتضاعف مرارا بفعل تنامي المقاومة التي وصلت مدياتها إلى قلب عاصمة الكيان وموانئ حيفا وإيلات، ووصلت مئات الصواريخ والمسيَّرات والمقذوفات إلى كل منطقة “غوش دان”، مركز وجوهرة الكيان الاقتصادية والمالية.
هذا الوضع، لم يكن الكيان يتخيله قبل سنة: فقد كان يرى، ومن معه في فلك الجريمة بلا عقاب، من الغرب الأوربي والغرب الأمريكي، أن فلسطين قد بيعت جزئيا تحت الطاولة بتفاهمات تطبيعية، وأن البقية سيأتي عليها الزمن بعد حين.
فوجئ الكيان ومن معه والعالم كله والعرب المطبعون والصامتون، بقوة الزلزال الذي سيغير وجه المنطقة والمعادلة برمتها
خلال هذا الحين، فوجئ الكيان ومن معه والعالم كله والعرب المطبعون والصامتون، بقوة الزلزال الذي سيغير وجه المنطقة والمعادلة برمتها. وها هي سنة تمر على حملة التخريب والإبادة في غزة وشعبها الباسل صامدٌ خلف مقاومته الباسلة: صمود مبهر أمام آلة القتل والتشريد والتدمير الوحشي. كل هذا، في غياب أي رد فعل من الغرب “الناعم” و ”الخلوق” و ”الإنساني”، والداعم، وأمريكا المناصرة، المبشِّرة بتغيير المنطقة من قبل ضمن مشروع قديم متجدد: “الفوضى الخلاقة”.
بلا شك، أن توحّل أقدام الوحش الورقي في رمال غزة، والصداع المزمن الذي سبّبته له المقاومة في الشمال، جعله ينسى قدميه ويبحث عن “دواء كان هو الداء”، فحوّل قضية غزة بعد عام على البحث عن تحقيق “نصر كامل” إلى ساحة “منسية” لا تزال تدمي قدميه تحت الرمال الحارقة: فإذا بالصداع يتحول إلى ألم لا يطاق، بعد أن كان يعتقد أنه، وبضربة فاصلة غاشمة ماحقة، عبر جريمة تفجير “البايجر والطالكي والكي” الخمسة آلاف، والتي لم يُستعمل منها إلا أقل من النصف، ثم اغتيالات جبانة للقيادات بأطنان من المتفجرات الأمريكية الصنع في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت المأهولة بالسكان، ثم باغتيالات قيادات من المقاومة، كان يمكن في اعتقاده أن يفصل الرأس عن الجسد، ثم يدخل سائحا برًّا في لبنان.
غير أن المفاجأة كانت أقوى، وها هو اليوم ينتظر أن يردّ على الرد الإيراني، وها هي إيران تنتظر الرد على الرد لترد، وها هو الشمال، والوسط، وطبريا وصفد وحيفا ونهاريا تُدكّ بالمسيّرات والصواريخ.. وكما تدين تدان ولو في “غوش دان”.
الشروق الجزائرية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة لبنان لبنان غزة حزب الله الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
صمت حزب الله… بين الردع المتراكم والصبر الاستراتيجي
كيان الأسدي
تتسع في الآونة الأخيرة دائرة التساؤلات، لا سيّما في أوساط المحبين والمؤيدين، حول صمت حزب الله إزاء التمادي الإسرائيلي والخروقات المتكررة للسيادة اللبنانية. هذا الصمت، في نظر البعض، قد يُفسَّر على أنه ضعف في القدرة على الرد، أو مؤشّر على أزمة داخلية تعيق اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
لكن لفهم حقيقة الموقف، لا بدّ من النظر بعين أعمق إلى المعادلات التي تحكم تعاطي المقاومة مع هذه المرحلة الدقيقة. وهنا، تبرز أربعة اعتبارات أساسية ترسم ملامح المشهد وتوضح الخلفية الاستراتيجية التي يتحرّك من خلالها حزب الله:
أولاً: الردع الاستراتيجي وتجنّب الاستنزاف
المقاومة، في جوهر عقيدتها القتالية، لا تعتمد سياسة الرد الانفعالي أو العشوائي، بل تتّبع نهج “الردع التكتيكي المتراكم”، الذي يؤسّس لمعادلات مستقبلية راسخة. من هذا المنطلق، فإن حزب الله لا يرى في كل خرق ذريعة لرد فوري، بل يحرص على بناء معادلة ردع متينة، بعيدة المدى، تؤتي ثمارها حين يحين وقتها، وتُسهم في لجم العدو عن الاستمرار في اعتداءاته.
ثانياً: الحسابات السياسية والإقليمية
تأخذ المقاومة في حسبانها تعقيدات الواقع اللبناني الداخلي، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية الخانقة، والحرص على عدم جرّ البلاد إلى حرب واسعة قد تكون تداعياتها أقسى من سابقاتها. كما توازن المقاومة بين تطلعاتها الميدانية وضغوط الواقع السياسي والدبلوماسي، سواء على مستوى الحكومة اللبنانية أو على الساحة الإقليمية، حيث تتداخل الملفات من غزة إلى صنعاء، ومن بغداد إلى طهران.
ثالثاً: تراكم الخروقات كذخيرة سياسية
قد تمنح المقاومة أحياناً هامشاً زمنياً أوسع للدبلوماسية اللبنانية والدولية، لتُسقِط الحُجج وتُراكم الأدلة. وفي خلفية هذا الأداء، يُبنى أرشيف موثّق بالخروقات، يُستخدم لاحقاً كمسوّغ سياسي وقانوني لأي ردّ محتمل، أو حتى لتبرير خيار “عدم الرد” أمام الحكومة اللبنانية والرأي العام، في حال اقتضت المصلحة العليا ذلك.
رابعاً: الخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك الضمنية
منذ حرب تموز 2006، سادت بين المقاومة والعدو الإسرائيلي قواعد اشتباك غير معلنة، لكنها مفهومة ضمناً لدى الطرفين. ليس كل خرق بمثابة كسر لهذه القواعد، ولا كل انتهاك يستوجب ردّاً مباشراً. أحياناً، يكون الرد مكلفاً أكثر من جدواه، فتتقدّم الحكمة على الحماسة، وتُصان معادلات الردع بما يحفظ توازن الردع، لا ما يعرّضه للاهتزاز.
إننا أمام سلوك محسوب، يبدو للعيان صمتاً، لكنه في جوهره فعل استراتيجي دقيق، يستند إلى ما يمكن تسميته بـ”الردع المتراكم” و”الصبر الاستراتيجي”. وهو نهج يستهدف إدارة الصراع مع العدو على قاعدة تفويت الفرصة عليه لتغيير قواعد الاشتباك، أو لفرض معركة استنزاف طويلة الأمد في توقيت تختاره تل أبيب.
في هذا الصمت حسابات، وفي هذا الانتظار قرار، وفي هذا التمهّل قوّة… ستُترجم حين تحين اللحظة التي تختارها المقاومة، لا العدو.