يروي ناحوم غولدمان، أحد الرؤساء السابقين للمنظمة الصهيونية العالمية، في كتابه "المفارقة اليهودية"، تفاصيل لقاء جمعه مع ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل في صيف عام 1956، حدثه فيه الأخير قائلا: "لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمري، فلو سألتني عما إذا كان سيتمّ دفني في دولة إسرائيل لقلت نعم، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية.

ولكن إذا سألتني عما إذا كان ابني عاموس سيكون محظوظا بأن يُدفن بعد موته في دولة يهودية فسوف أجيبك ربما بنسبة 50٪". قاطعه غولدمان قائلا: "كيف لك أن تنام مع هذا التوقّع؟". فأجابه: "من قال لك إنني أذوق النوم يا ناحوم؟!".

تسلط هذه الحكاية الضوء على أزمة عميقة الجذور لدى الإسرائيليين، وهي فقدان الإحساس بالثقة في أمن دولتهم، بل وفي بقائها أصلًا على المدى الطويل، وهي أزمة تضرب المجتمع الإسرائيلي طوليا من أرفع قياداته إلى أدنى قواعده.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الطريق إلى الطوفان.. ما الذي أراده محمد الضيف؟list 2 of 2لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرأى الطوفان!end of list

ويتفاقم هذا الشعور بانعدام الأمن في الأوقات التي تتعرض فيها إسرائيل لضربات من خصومها حتى لو ألحقت بهم عمليا من الأذى أضعاف ما أصابوها به، وهو ما ينطبق تماما على الأوضاع بعد طوفان الأقصى.

فخلال عام كامل من الحرب على غزة، ارتكبت إسرائيل زهاء 5000 مجزرة بحق المدنيين، خلفت أكثر من 42 ألف شهيد، وأكثر من 98 ألف مصاب، فضلا عن 10 آلاف مفقود حتى اللحظة. كما شنت حملة تهجير أرغمت فيها مليوني فلسطيني، بنسبة قاربت 90% من المجموع الكلي لسكان قطاع غزة، على ترك منازلهم.

ومع ذلك، تظهر استطلاعات الرأي المتواترة أن السواد الأكبر من الإسرائيليين يشعرون بأنهم خسروا الحرب، أو فشلوا في تحقيق النصر خلالها على أقل تقدير.

يظهر ذلك مثلا في الاستطلاع الذي أجرته قناة كان العبرية بالتعاون مع معهد "كنتر" ونُشر عشية الذكرى الأولى لطوفان الأقصى في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وأكد خلاله 38٪ من المواطنين الإسرائيليين المشاركين أنهم يعتقدون أن بلادهم خسرت الحرب، في حين قال 27٪ فقط إنهم يثقون في أن إسرائيل انتصرت، وقالت النسبة الباقية إنها لا تعرف على وجه التحديد من المنتصر.

خلال نفس الاستطلاع؛ قال 41٪ من المشاركين إن ثقتهم في جيشهم تراجعت، كما أجمعت أغلبية ساحقة، بنسبة 86%، على رفض فكرة العودة للسكن في مستوطنات "غلاف غزة" مرة أخرى.

بيد أن نتائج أكثر بؤسا أظهرها استطلاع رأى آخر أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في سبتمبر/أيلول 2024 ونشر في غرة أكتوبر/تشرين الأول 2024، حيث عبر ثلثا المشاركين عن تدهور إحساسهم بالأمن الشخصي منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى وقت إجراء الاستطلاع.

وليست استطلاعات الرأي وحدها في ذلك، بل إن محللين وباحثين بارزين في إسرائيل تبنوا نفس الاستنتاجات، ومنهم المحلل العسكري عاموس هرئيل، في مقال له في صحيفة هآرتس، جاء فيه: "الفشل الذريع الذي حدث في 7 أكتوبر سوف يستمر في مصاحبة إسرائيل، وكذلك الحرب التي قد تستمر لسنوات طويلة".

وجاء كذلك في تقدير موقف بعنوان "عن حلم الشرق الأوسط الجديد وانهياره"، أعده ميخائيل ميلشتاين رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، بمناسبة الذكرى الأولى للحرب، أن "السابع من أكتوبر كان اليوم الأكثر دموية في تاريخ الصراع، وهو مفاجأة صادمة وعلى جبهة لم يُنظر إليها على أنها تهديد مباشر؛ مما يقوض الشعور بالتفوق الإستراتيجي، وهو صدمة ستبقى تعيشها الذاكرة الجماعية اليهودية".

وفي مقال نشرته صحيفة "زو هدريخ" العبرية، قال الكاتب البارز أفيشاي إرليخ "إن السنة الماضية كانت أسوأ سنة في تاريخ دولة إسرائيل، معتبرا أن مستقبل البلاد يبدو غامضًا وسط ضباب حرب طويلة دون هدف واضح، ودون موعد نهائي، ودون تكلفة محددة".

وفي مقال في جريدة هآرتس للكاتب حاييم ليفنسون تحت عنوان: "قول ما لا يمكن قوله.. لقد هزمت إسرائيل هزيمة كاملة" علق الكاتب قائلا: "لن يتمكن أي وزير في الحكومة من استعادة شعورنا بالأمن الشخصي".

هذه المفارقة بين حجم الدمار والخسائر التي تسبب فيها العدوان الإسرائيلي على غزة وشعور الإسرائيليين أنفسهم بالهزيمة وفقدان الأمن، تفتح الباب لتساؤلات مهمة حول أسباب هذا الشعور المتأصل، التي تنقسم إلى أسباب بنيوية عميقة تسكن الوجدان الإسرائيلي وتجعله دائم الشعور بالقلق والتهديد، وترفع حساسيته للشعور بالخطر أكثر من غيره، وأسباب أخرى أكثر حداثة نتجت عن عملية "طوفان الأقصى" التي أدمت كيان إسرائيل، دولة ومجتمعا، بشكل ربما لا تبرأ منه أبدا.

مشيعون يحضرون جنازة جندي إسرائيلي قُتل في قطاع غزة (رويترز) معضلة الجغرافيا وعقدة التاريخ

 

"سوف نقبل بحدود الدولة كما سترسم الآن، ولكن حدود الآمال الصهيونية هي شأن الشعب اليهودي وحده، ولن يستطيع أي عامل خارجي الحدّ منها".

هكذا صرح ديفيد بن غوريون بُعيد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، معبرا ليس فقط عن آمال عقائدية بشأن حدود دولة اليهود التاريخية كما يتخيّلها أتباع الحركة الصهيونية، وإنما عن ضرورة جيوسياسية لتأمين الدولة الإسرائيلية الوليدة التي فُرضت قسرا فوق أرض طُرد منها أهلها، ووسط محيط يعادي وجودها بصورة جذرية.

لدى إسرائيل العديد من المعضلات، لكن الجغرافيا هي أهم هذه المعضلات وأعقدها على الإطلاق. بادئ ذي بدء، تعاني الجغرافيا الإسرائيلية من قِصر المسافة المِتْرية بين حدود الأراضي التي تسيطر عليها وبين عاصمتها المفترضة في القدس التي تواجه انكشافا واضحا أمام الخصوم، كما تعاني من هشاشة خطوط اتصالها البحرية والبرية، وسط جيران لا تشعر بينهم بالأمان الكافي بالرغم من تحييد جبهتي مصر والأردن رسميا عقب اتفاقات السلام في كامب ديفيد 1979 ووادي عربة 1994.

هذه المعضلة، كما تهدد الجغرافيا، فإنها تهدد نفسية الإسرائيلي وترفع لديه متطلبات الشعور بالأمن مقارنة بالمواطن في أي دولة أخرى "طبيعية".

ولذا يعتقد كثير من الإسرائيليين أن حدود دولتهم الحالية غير كافية، وأن أمان الشعب اليهودي لن يتحقق إلا بمخطط الدولة المترامية الأطراف الذي وضعه "الآباء المؤسسون"، بما يعطي للدولة الإسرائيلية أمانا طوبوغرافيا طبيعيا ويوفر للمجتمع الإسرائيلي في قلبها حزاما آمنا.

فالوضع الحالي لإسرائيل وغياب العمق الدفاعي يجعلها غير مستعدة لمواجهة عمليات الغزو والاجتياح ولا لإدارة العمليات البرية داخل أراضيها؛ ولذا تعتمد إستراتيجيتها الدفاعية بشكل رئيس على مبدأ "الإنذار المبكر" الذي يمنحها أفضلية قتالية وقدرة على المواجهة الاستباقية.

ومن ثم فإن ثقة الإسرائيليين في قدرة الدولة على استشعار العدوان قبل حدوثه بوقت كافٍ، والاطمئنان للتفوق الاستخباري والتقني؛ ليسا أمرين هيّنين وإذا ضُربا مرة -كما حدث يوم الطوفان- فلن تستعيد إسرائيل عافيتها بسهولة، بل ربما لن تستعيدها أبدا.

ومثل الجغرافيا، يأتي التاريخ الذي لا يلعب كذلك لصالح الوعي الإسرائيلي، الذي يعاني من عقدة موروثة تتعلق بالخوف من العودة إلى الشتات، ويختزن ذاكرة الاضطهاد الأوروبي التي تضغط بها ماكينة الدعاية الإسرائيلية على وعي الإسرائيلي نفسه بالقدر ذاته الذي تضغط به على الغرب، وهو ما يظهر في همسات القادة الإسرائيليين وتصريحاتهم، من بن غوريون إلى نتنياهو.

ففي 2017، وقبل 6 سنوات من الطوفان؛ صرح رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، قائلا: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة". هذا المجتمع القلق والمضطرب والخائف من الزوال لا يستطيع تحمل تهديدات وجودية كالتي سببها طوفان الأقصى، ولا يقدر على الخروج من تبعاتها سريعا.

وبشكل أكثر تفصيلا قال رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك في مقال بجريدة يديعوت أحرونوت في مايو/أيار 2022: "التاريخ اليهودي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككهما في العقد الثامن، وتجربة الدولة الحالية على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته".

ثمة شعور دفين في العقلية الصهيونية بأن وجود دولتهم، إسرائيل، طارئ ومؤقت، وأنها استثناء تاريخي لا يملك مقومات الاستدامة، وليست حقيقة جغرافية ولا واقعا جيوسياسيا راسخا.

وهذا الشعور ليس وليد قراءات تلمودية وتراكمات تاريخية فحسب، وإنما يستند إلى وقائع سياسية وتهديدات داخلية وخارجية مرشحة للانفجار دوما، وقد انفجر بعضها بالفعل ولا تزال تداعياته آخذة في الاتساع شهرا بعد شهر.

وإلى جانب الشعور بالتهديد، ثمة شعور آخر عميق في الوعي الصهيوني يتجلى في احتقار المجتمعات العربية عموما والشعب الفلسطيني خصوصا، وهذا الشعور بقدر ما يطلق قدرا هائلا من الاستعداد للعنف الدموي في العقيدة القتالية الإسرائيلية، بوصفها لا تقاتل بشرا وإنما "حيوانات بشرية" كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بعد ثلاثة أيام من انطلاق الطوفان، فإن هذه النزعة الاستعلائية تولد كذلك شعورا بالحرج وبالهزيمة إذا أثبتت هذه الحيوانات البشرية -كما يرونها- مقدرة عالية على المقاومة، بل وتوجيه الضربات الاستباقية الموجعة التي جرحت الاستعلاء الإسرائيلي وتركت فيه ندوبا ليس من السهل أبدا محوُها.

هذه العوامل المركبة والمتشابكة والضاربة في عمق الوعي الصهيوني، شعبا وقادة، تجعلهم أكثر حساسية للأخطار مقارنة بالدول والشعوب الأخرى. وتصبح الأمور أسوأ في ظل حرب ممتدة ولا تزال مرشحة للتوسع، وتعد أطول حرب في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها.

لم يعد مستغربا إذن أن الإسرائيليين وداعميهم صاروا في أدنى درجات تفاؤلهم بشأن مستقبل دولتهم منذ لحظة تأسيسها، وأنه مهما ارتكب جيشهم من المذابح في غزة ولبنان وفي غيرهما، فما من سبيل لتغيير هذه الحقيقة في وقت قريب.

 

تأثير الطوفان

يقودنا ذلك إلى التساؤل: ما الذي حدث في إسرائيل خلال عام من الحرب ليتعزّز هذا الشعور المتأصل بالهزيمة والفشل؟

هناك 3 تحولات رئيسية يمكن رصدها في هذا الصدد، أولها انهيار الثقة التاريخية في الجيش الإسرائيلي وقدرته على حماية "حدود إسرائيل" وتوفير الأمن لمواطنيها، وثانيها الاستنزاف الاقتصادي المتواصل الناتج عن حالة الحرب المستمرة، الذي يضغط على مستوى الرفاهية الذي يأمله الإسرائيليون من دولتهم، وأخيرا هناك التحول في الرأي العام الغربي الذي صار أكثر استبصارا بحقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى وإن لم تنعكس تداعيات هذا الاستبصار على المواقف الرسمية للحكومات الغربية حتى الآن.

صورة من اعتصام الطلاب في جامعة كولومبيا (الجزيرة)

انهيار الثقة: الجيش الإسرائيلي في مأزق تاريخي 

يصف حاييم ليفنسون إسرائيل في مقاله المنشور في أبريل/نيسان 2024 الوضع في إسرائيل قائلا: "لسنا دولة كبيرة، نحن بلد صغير يمتلك قدرات جوية عالية شرط أن تنتبه في الوقت المناسب"، هكذا يمكن لإسرائيل فقط أن تكون آمنة، لكن في السابع من أكتوبر فقدت إسرائيل المبادرة وظهرت قدراتها التقنية والدفاعية محل شك أمام مواطنيها والعالم كله.

ثمة تقارير عديدة تؤكد أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد التقطت عدة مؤشرات تفيد بأن قادة المقاومة يفكرون في عملية لاقتحام مستوطنات غلاف غزة، لكن الثقة المفرطة في تأمين الحدود الجنوبية جعلت التقييم النهائي يرى أن هذه المعلومات مجرد أمانٍ، ولا يمكن أن تتحول إلى خطط عملية فضلا عن واقع ملموس.

فشلت إسرائيل في تقدير قوة المقاومة، وفشلت في تحديد ساعة الصفر، كما فشلت في المواجهة، وفقدت التوازن ساعات عديدة بعد بدء العملية دون أي رد إسرائيلي.

وطوال شهور الحرب، لم يلتئم الجرح الرئيسي الذي أحدثه الطوفان، ففشلت إسرائيل مرة أخرى في إظهار مقدرة استخبارية داخل غزة، فلم تستطع هدم البنية التحتية للمقاومة حتى في أقرب النقاط الملاصقة لمستوطنات الغلاف، ولا يزال قادة المقاومة الرئيسيون أحياء، ولا يزال الأسرى في مكان غير معلوم رغم اجتياح القطاع.

الحرب إذن زادت من شعور الإسرائيلي بالعجز ولم تشف جروحه الأولى. وبعد اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وتفجيرات منظومة الاتصال في الحزب، كادت إسرائيل للحظة أن تستعيد الشعور بالسيطرة والمبادرة -ولو على جبهة واحدة- لكن الأحداث لم تترك هذا الشعور طويلا ليستقر.

فسرعان ما ضربت صواريخ إيران قواعد إسرائيل الجوية وأصابتها بدقة، بل ضربت تمركزاتها العسكرية داخل قطاع غزة نفسه، في محور نتساريم الذي لا يتعدى عرضه كيلومترا واحدا، وأصابت أهدافها بدقة وثقة عالية في تحدٍّ واستعراض لقدرات صواريخها على إصابة أهدافها دون انحراف كان من الممكن لو حدث أن يؤدي إلى مجزرة في القطاع المكتظ بالسكان.

مواقع إسرائيلية استهدفتها الصواريخ الإيرانية (الجزيرة)

أمام هذا الواقع تتعرض العقيدة الأمنية لجيش الاحتلال لتحدٍّ بالغ، وتآكل في الثقة يصعب ترميمه. كما يشعر الإسرائيليون ليس بالفشل فقط، بل بعدم الثقة في المستقبل كله، حيث عبر 48٪ من الإسرائيليين، في الاستطلاع الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، عن تشاؤمهم بشأن مستقبل إسرائيل، كما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية بمناسبة عام على الحرب أن 61٪ من الإسرائيليين أصبحوا لا يشعرون بالأمان في دولتهم.

 

إدماء اقتصادي واستنزاف طويل المدى

ولنعد إلى التاريخ مجددا، ففي أعقاب حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 دخل الاقتصاد الإسرائيلي في موجة طويلة من الركود، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري، مع تراجع النمو الاقتصادي وتعثر المداخيل القومية للاقتصاد. وبعد دورة من الزمن، ها هو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش -الذي يُعدّ من أكثر القيادات الإسرائيلية رغبة في توسيع الحرب واستمرارها- يقر بالضغط الهائل الذي تمثله الحرب الحالية على الاقتصاد الإسرائيلي، واصفا إياها بأنها "الحرب الأعلى تكلفة في تاريخ البلاد".

ويقدر خبراء إسرائيليون تكلفة الحرب حتى الآن بحوالي 250 مليار شيكل (67 مليار دولار) وهو ما يمثل 12٪ من الناتج المحلي القومي الإجمالي، ويتوقعون أن تحتاج وزارة الدفاع إلى زيادة سنوية تقدر بنحو 20 مليار شيكل لمواجهة التحديات الجديدة. أدت هذه المستجدات إلى عجز تراكمي في الميزانية العامة زاد على 8٪؛ مما أدى إلى تصاعد الاعتماد على الديون التي زادت خلال عام واحد بمقدار ضعفين.

وتحت وطأة الحرب، تراجعت العملة المحلية، الشيكل، بنسبة تتجاوز 5٪ خلال عام، وبلغت خسائر قطاع السياحة رقما قياسيا وصل إلى 18.7 مليار شيكل (4.9 مليارات دولار)، كما قُدرت خسائر البورصة الإسرائيلية بنحو 20 مليار دولار.

بيد أن الآثار الأكثر استدامة تكمن في تراجع الثقة في الاقتصاد الإسرائيلي؛ فقد خفضت العديد من الوكالات المختصة تصنيفها الائتماني لإسرائيل، مثل وكالة "ستاندرد آند بورز" التي خفضت تصنيف دولة الاحتلال من "A+" إلى "A" وذلك للمرة الثانية خلال العام، وأبقت على نظرتها المستقبلية السلبية، وكذلك فعلت وكالتا "فيتش" و"موديز". وتزامن ذلك مع خروج 60٪ من المستثمرين الأجانب من السوق الإسرائيلية.

وثمة عوامل أخرى ستظهر آثارها تباعا، مثل إغلاق آلاف الشركات نتيجة تدهور الوضع الأمني أو تهجير عمالها وإغلاق مقراتها في مستوطنات الشمال وغلاف غزة، فضلا عن استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط؛ مما يلقي أعباء مزدوجة على ميزانية الدولة وعلى سوق العمل في الوقت نفسه.

وتقدر شركة معلومات الأعمال الإسرائيلية "كوفاس بي دي آي" (Koface BDI) أن 60 ألف شركة إسرائيلية ستغلق أبوابها هذا العام، وغالبية تلك الشركات من فئة الشركات الصغيرة والصغرى.

 

ما لم تعتده إسرائيل: تحولات في الرأي العام الغربي 

بالتزامن مع ذلك كله، تضررت صورة إسرائيل في الغرب بشكل غير مسبوق، وأصبحت الأصوات أكثر جرأة على انتقادها، خاصة وسط صفوف اليساريين والتقدميين، والشباب الصغار عموما.

ومثالا لذلك، أظهر استطلاع رأي أجراه معهد هارفارد للسياسة في الولايات المتحدة، فيما بين 14 و21 مارس/آذار الماضي، على عينة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، أظهر أن 5 من كل 6 أشخاص يؤيدون الوقف الدائم للحرب على غزة.

هذا التدهور في صورة إسرائيل في الغرب يضع الكثير من الأمور على المحك، فقد اقتاتت الدولة العبرية منذ ولادتها على المساعدات الغربية، خاصة بعد إعلان أيزنهاور 1957 الذي مثل بداية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وفتح أبواب الدعم الغربي أمام إسرائيل التي أصبحت المتلقي الأكبر للمساعدات الأميركية منذ الأربعينيات فضلا عن أطنان أخرى من المساعدات الغربية دُفعت جراء الاهتمامات الجيوسياسية والضريبة الباهظة التي فُرضت على أوروبا نتيجة اضطهاد اليهود خلال الحقبة النازية.

لكن الحرب الحالية، والتغيرات المصاحبة لها، تعيد مساءلة هذا الدعم المفتوح وترفع حدة النقاش حوله بشكل غير مسبوق، متحدية السردية الإسرائيلية التي ظلت سائدة ومهيمنة لعقود طويلة. وتحت وطأة الضغوط الحقوقية المحلية؛ قررت العديد من الدول حظر، أو تخفيض، الصادرات العسكرية لإسرائيل، ومن بينها كندا، وإيطاليا، واليابان، وبريطانيا.

مظاهرة في واشنطن مؤيدة لفلسطين تطالب باعتقال نتنياهو (الفرنسية)

كما قطعت عدة دول علاقتها بشكل كامل مع إسرائيل مثل بوليفيا وكولومبيا، وانضمت 7 دول إلى دعوى جنوب أفريقيا لمقاضاة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية بينها كولومبيا والمكسيك وتركيا ونيكاراغوا، إضافة إلى دولة أوروبية مهمة هي إسبانيا.

واعترفت الأمم المتحدة في مايو/أيار 2024 بدولة فلسطين "كاملة العضوية" بغالبية فاقت الثلثين من أعضائها (147 دولة من الدول الأعضاء). وخلال عام من الحرب أعلنت 40 جامعة، بعضها من كبريات الجامعات الغربية، المقاطعة الأكاديمية والمؤسسية لجامعات إسرائيل.

على المستوى الإقليمي، كانت إسرائيل قبل اندلاع طوفان الأقصى متجهة في تقدير الكثيرين إلى سنوات "ربيع إقليمي" بفضل اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية. لكن دراسة نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي في أبريل/نيسان 2024 اعتبرت أن أسوأ ما قد يحدث بسبب الحرب هو أنها ستفوت على إسرائيل منافع التطبيع وتعطل وصول قطاره إلى محطات جديدة.

وطبقا للدراسة؛ رفعت الحرب أثمان التطبيع على نحو مذهل، ليس فقط لأن الدول التي تفكر في التطبيع ستتعين عليها المطالبة بخطوات عملية من إسرائيل في طريق الدولة الفلسطينية، بل لأن الدول المطبعة أصلًا سوف تكون أكثر ترددا في أخذ علاقاتها مع إسرائيل إلى مستويات جديدة.

 

بداية الانهيار

"الهجرة اليهودية إلى فلسطين هي دم الحياة لإسرائيل، وضمان أمنها ومستقبلها وجوهر حياتها وروحها".

ديفيد بن غوريون

 

هذا المزيج المعقد من التعقيدات الجغرافية والتراكمات التاريخية والهشاشة النفسية، الممتزج بالوقائع المعقدة الجديدة التي فرضها طوفان الأقصى وفشلت المذابح الإسرائيلية في تغييرها، بدأ في دفع المجتمع الإسرائيلي بأسره إلى التصرف كـ"جيش منهزم". بداية، فجّرت الحرب أعمق أزمات المجتمع الصهيوني ووسعت الشرخ الديني العلماني إلى هوة غير مسبوقة، سيتصاعد ظهورها في قضايا عديدة لن تقف عند مسألة تجنيد الحريديم وحدها، كما أظهرت مدى التباعد بين التيارات السياسية، وإذا كان مناخ الحرب والشعور بالتهديد الوجودي يحجم ظهور تداعيات ذلك فإن شهور الحساب فيما بعد الحرب ستكون أشد وأعنف على المجتمع الإسرائيلي.

أبعد من ذلك، بدأ الكثير من الإسرائيليين يفكرون في النجاة بأنفسهم والفرار ما دام ذلك ممكنا. وقد كشف استطلاع رأى أجرته قناة كان التابعة لهيئة البث الرسمية أن حوالي ربع الإسرائيليين فكروا خلال العام الماضي في الهجرة من إسرائيل دون عودة، بسبب الأوضاع الأمنية التي خلفتها الحرب. وعلى الرغم من أن هذا التوجه كان مرصودا منذ عدة أعوام قبل الحرب، فإنه ازداد بشكل ملحوظ خلال عام الحرب.

لا يمكننا الآن الوقوف على الأعداد الحقيقة لأولئك الذين فرّوا من إسرائيل خلال العام الماضي؛ وذلك ببساطة لأن هناك تشكيكًا إسرائيليًّا في الأرقام التي تصدرها دائرة الإحصاء الرسمية حول أعداد المهاجرين، من قبل الإسرائيليين أنفسهم.

وقد نشرت صحيفة "ذا ماركر" (The Marker) الاقتصادية البارزة تقريرا اتهمت فيه الدائرة بإخفاء الأعداد الحقيقية، وقدرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن نصف مليون إسرائيلي غادروا بالفعل دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب، ولا يُعلَم ما إذا ما كان ذلك قرارا مؤقتا أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة. أما البيانات الرسمية لدائرة الإحصاء فتظهر أن 55 ألفا غادروا إسرائيل في 2023 مقابل 38 ألفا في 2022، وتصاعد هذا العدد ليصل إلى 40 ألفا خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024.

يخبرنا ذلك أن مكاسب الحرب وخسائرها لا تحددها فقط أعداد القتلى والمباني المهدمة، فالحرب سلوك شامل متعدد الأوجه وخسائرها أيضا شاملة متعددة الأوجه. ورغم ما أظهرته إسرائيل من مرونة في التكيف في حالة الحرب الدائمة، وكفاءة في القفز إلى الأمام نحو حرب متعددة الجبهات؛ فإن ذلك لا يعني أنها نجحت في تجاوز آثار السابع من أكتوبر نهائيا أو أنها قريبة من ذلك؛ إذ يظل ذلك التاريخ بمثابة لحظة الحقيقة التي تضغط على وعي إسرائيل الجمعي وتطارد مستقبلها ووجودها، تماما كما تنبأ قادة الاحتلال عبر العصور.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد السابع من أکتوبر من الإسرائیلیین الإسرائیلی فی طوفان الأقصى إسرائیل فی هذا الشعور بن غوریون خلال عام من الحرب فی تاریخ فضلا عن أکثر من فی مقال الذی ی

إقرأ أيضاً:

منها دولة عربية.. قائمة الدول التي تضم أعلى عدد من المفاعلات النووية

دبي، الإمارات العربية المتحدة-- (CNN) في تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحت عنوان "مفاعلات الطاقة النووية في العالم" تقدم من خلاله البيانات الحديثة المتعلقة بوحدات مفاعلات القوى النووية في الدول الأعضاء في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

المفاعلات النووية هي بمثابة قلب محطة الطاقة النووية، تحتوي على التفاعلات النووية المتسلسلة التي تنتج الحرارة من خلال عملية فيزيائية تسمى الانشطار وتتحكم فيها. تُستخدم هذه الحرارة لإنتاج البخار الذي يدير التوربينات لتوليد الكهرباء. لا تزال الطاقة النووية واحدة من أكبر المصادر المتاحة للكهرباء الموثوقة الخالية من الكربون.

تعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية كمدقق للسلامة النووية العالمية، وقد زاد هذا الدور بشكل كبير في أعقاب حادث تشيرنوبيل. وينص على إجراءات السلامة والإبلاغ عن الحوادث البسيطة. وقد تم تعزيز دورها منذ عام 1996. كل دولة تقوم بتشغيل محطات الطاقة النووية لديها مفتشية للسلامة النووية وكلها تعمل بشكل وثيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ووفقًا للتقرير فإن أكبر ثلاثة منتجين من الكهرباء النووية في عام 2023 هم الولايات المتحدة والصين وفرنسا. حيث تستحوذ الولايات المتحدة التي تمتلك أكبر أسطول نووي في العالم على 31% من إجمالي توليد الكهرباء بإنتاج 779.2 تيراواط/ ساعة. تليها الصين بنسبة 16% (406.5 تيراواط/ ساعة). في حين بلغ إنتاج فرنسا 323.8 تيراواط/ ساعة، أي ما يعادل 13% من الإجمالي العالمي.

ومن بين الدول التي تضم مفاعلات الطاقة النووية، جاءت الإمارات كالدولة العربية الوحيدة التي تضم مفاعل نووية عاملة، بمجموع 4 مفاعلات. محطة براكة للطاقة النووية، أول محطة كهرباء في الإمارات، تتكون من أربع مفاعلات نووية من طراز APR-1400. دخلت براكة 1 مرحلة التشغيل التجاري في أبريل 2021، تلتها الوحدة 2 في مارس 2022 والوحدة 3 في فبراير 2023. وتنتج الوحدات التشغيلية الثلاث 30 تيراواط ساعة من الكهرباء النظيفة سنويًا. تم ربط الوحدة 4 بالشبكة في مارس 2024، ودخلت حيز التشغيل التجاري في سبتمبر من هذا العام. حيث تنتج المحطة 40 تيراواط ساعة من الكهرباء الخالية من الكربون سنويًا لمدة 60 عامًا على الأقل، وهو ما يعادل 25% من احتياجات الدولة من الكهرباء. ومن المتوقع أن تمنع محطة براكة للطاقة النووية ما يصل إلى 22 مليون طن من الانبعاثات الكربونية كل عام، أي ما يعادل إزالة 4.8 مليون سيارة من الطرق.

وقد أضاف التقرير، بأنه في نهاية عام 2023، بلغت القدرة الإجمالية للمفاعلات النووية قيد الإنشاء 61.1 غيغاوات (59 مفاعلًا) في 17 دولة. لتنضم مصر ضمن القائمة الدول التي تضم مفاعلات نووية قيد الإنشاء ضمن مشروع محطة الضبعة للطاقة النووية.

أمريكاالإماراتالصينروسيافرنساكوريا الجنوبيةالبرنامج النوويانفوجرافيكنشر الأربعاء، 13 نوفمبر / تشرين الثاني 2024تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2024 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

مقالات مشابهة

  • لماذا لم تخبرني بهدف الحرب.. ردة فعل هاليفي على تصريح كاتس تثير المغردين
  • لماذا بدأ "حزب الله" في استخدام الصواريخ بعيدة المدى ضد إسرائيل؟
  • لماذا وقف النار قبل انتخاب الرئيس؟
  • FP: لماذا لم يدعم النظام السوري غزة وتجنّب دخول الحرب المستمرة بالمنطقة؟
  • ما الذي تريده تركيا تحديدًا من ترامب؟
  • لماذا تترك الموسيقى التي تسمعها في سنوات شبابك تأثيرًا خالدا؟
  • منها دولة عربية.. قائمة الدول التي تضم أعلى عدد من المفاعلات النووية
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟
  • الحوثي يتحدى الولايات المتحدة: دعوة للبث المباشر من حاملة الطائرات التي استهدفتها القوة الصاروخية اليمنية
  • حزب الله اللبناني يصدر بيانًا حول معركة"أولي البأس" ضد إسرائيل