رغم المذابح وتفوّق القوة لماذا يشعر الإسرائيلي دائما بالهزيمة؟
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
يروي ناحوم غولدمان، أحد الرؤساء السابقين للمنظمة الصهيونية العالمية، في كتابه "المفارقة اليهودية"، تفاصيل لقاء جمعه مع ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل في صيف عام 1956، حدثه فيه الأخير قائلا: "لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمري، فلو سألتني عما إذا كان سيتمّ دفني في دولة إسرائيل لقلت نعم، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية.
تسلط هذه الحكاية الضوء على أزمة عميقة الجذور لدى الإسرائيليين، وهي فقدان الإحساس بالثقة في أمن دولتهم، بل وفي بقائها أصلًا على المدى الطويل، وهي أزمة تضرب المجتمع الإسرائيلي طوليا من أرفع قياداته إلى أدنى قواعده.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الطريق إلى الطوفان.. ما الذي أراده محمد الضيف؟list 2 of 2لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرأى الطوفان!end of listويتفاقم هذا الشعور بانعدام الأمن في الأوقات التي تتعرض فيها إسرائيل لضربات من خصومها حتى لو ألحقت بهم عمليا من الأذى أضعاف ما أصابوها به، وهو ما ينطبق تماما على الأوضاع بعد طوفان الأقصى.
فخلال عام كامل من الحرب على غزة، ارتكبت إسرائيل زهاء 5000 مجزرة بحق المدنيين، خلفت أكثر من 42 ألف شهيد، وأكثر من 98 ألف مصاب، فضلا عن 10 آلاف مفقود حتى اللحظة. كما شنت حملة تهجير أرغمت فيها مليوني فلسطيني، بنسبة قاربت 90% من المجموع الكلي لسكان قطاع غزة، على ترك منازلهم.
ومع ذلك، تظهر استطلاعات الرأي المتواترة أن السواد الأكبر من الإسرائيليين يشعرون بأنهم خسروا الحرب، أو فشلوا في تحقيق النصر خلالها على أقل تقدير.
يظهر ذلك مثلا في الاستطلاع الذي أجرته قناة كان العبرية بالتعاون مع معهد "كنتر" ونُشر عشية الذكرى الأولى لطوفان الأقصى في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وأكد خلاله 38٪ من المواطنين الإسرائيليين المشاركين أنهم يعتقدون أن بلادهم خسرت الحرب، في حين قال 27٪ فقط إنهم يثقون في أن إسرائيل انتصرت، وقالت النسبة الباقية إنها لا تعرف على وجه التحديد من المنتصر.
خلال نفس الاستطلاع؛ قال 41٪ من المشاركين إن ثقتهم في جيشهم تراجعت، كما أجمعت أغلبية ساحقة، بنسبة 86%، على رفض فكرة العودة للسكن في مستوطنات "غلاف غزة" مرة أخرى.
بيد أن نتائج أكثر بؤسا أظهرها استطلاع رأى آخر أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في سبتمبر/أيلول 2024 ونشر في غرة أكتوبر/تشرين الأول 2024، حيث عبر ثلثا المشاركين عن تدهور إحساسهم بالأمن الشخصي منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى وقت إجراء الاستطلاع.
وليست استطلاعات الرأي وحدها في ذلك، بل إن محللين وباحثين بارزين في إسرائيل تبنوا نفس الاستنتاجات، ومنهم المحلل العسكري عاموس هرئيل، في مقال له في صحيفة هآرتس، جاء فيه: "الفشل الذريع الذي حدث في 7 أكتوبر سوف يستمر في مصاحبة إسرائيل، وكذلك الحرب التي قد تستمر لسنوات طويلة".
وجاء كذلك في تقدير موقف بعنوان "عن حلم الشرق الأوسط الجديد وانهياره"، أعده ميخائيل ميلشتاين رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان بجامعة تل أبيب، بمناسبة الذكرى الأولى للحرب، أن "السابع من أكتوبر كان اليوم الأكثر دموية في تاريخ الصراع، وهو مفاجأة صادمة وعلى جبهة لم يُنظر إليها على أنها تهديد مباشر؛ مما يقوض الشعور بالتفوق الإستراتيجي، وهو صدمة ستبقى تعيشها الذاكرة الجماعية اليهودية".
وفي مقال نشرته صحيفة "زو هدريخ" العبرية، قال الكاتب البارز أفيشاي إرليخ "إن السنة الماضية كانت أسوأ سنة في تاريخ دولة إسرائيل، معتبرا أن مستقبل البلاد يبدو غامضًا وسط ضباب حرب طويلة دون هدف واضح، ودون موعد نهائي، ودون تكلفة محددة".
وفي مقال في جريدة هآرتس للكاتب حاييم ليفنسون تحت عنوان: "قول ما لا يمكن قوله.. لقد هزمت إسرائيل هزيمة كاملة" علق الكاتب قائلا: "لن يتمكن أي وزير في الحكومة من استعادة شعورنا بالأمن الشخصي".
هذه المفارقة بين حجم الدمار والخسائر التي تسبب فيها العدوان الإسرائيلي على غزة وشعور الإسرائيليين أنفسهم بالهزيمة وفقدان الأمن، تفتح الباب لتساؤلات مهمة حول أسباب هذا الشعور المتأصل، التي تنقسم إلى أسباب بنيوية عميقة تسكن الوجدان الإسرائيلي وتجعله دائم الشعور بالقلق والتهديد، وترفع حساسيته للشعور بالخطر أكثر من غيره، وأسباب أخرى أكثر حداثة نتجت عن عملية "طوفان الأقصى" التي أدمت كيان إسرائيل، دولة ومجتمعا، بشكل ربما لا تبرأ منه أبدا.
"سوف نقبل بحدود الدولة كما سترسم الآن، ولكن حدود الآمال الصهيونية هي شأن الشعب اليهودي وحده، ولن يستطيع أي عامل خارجي الحدّ منها".
هكذا صرح ديفيد بن غوريون بُعيد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، معبرا ليس فقط عن آمال عقائدية بشأن حدود دولة اليهود التاريخية كما يتخيّلها أتباع الحركة الصهيونية، وإنما عن ضرورة جيوسياسية لتأمين الدولة الإسرائيلية الوليدة التي فُرضت قسرا فوق أرض طُرد منها أهلها، ووسط محيط يعادي وجودها بصورة جذرية.
لدى إسرائيل العديد من المعضلات، لكن الجغرافيا هي أهم هذه المعضلات وأعقدها على الإطلاق. بادئ ذي بدء، تعاني الجغرافيا الإسرائيلية من قِصر المسافة المِتْرية بين حدود الأراضي التي تسيطر عليها وبين عاصمتها المفترضة في القدس التي تواجه انكشافا واضحا أمام الخصوم، كما تعاني من هشاشة خطوط اتصالها البحرية والبرية، وسط جيران لا تشعر بينهم بالأمان الكافي بالرغم من تحييد جبهتي مصر والأردن رسميا عقب اتفاقات السلام في كامب ديفيد 1979 ووادي عربة 1994.
هذه المعضلة، كما تهدد الجغرافيا، فإنها تهدد نفسية الإسرائيلي وترفع لديه متطلبات الشعور بالأمن مقارنة بالمواطن في أي دولة أخرى "طبيعية".
ولذا يعتقد كثير من الإسرائيليين أن حدود دولتهم الحالية غير كافية، وأن أمان الشعب اليهودي لن يتحقق إلا بمخطط الدولة المترامية الأطراف الذي وضعه "الآباء المؤسسون"، بما يعطي للدولة الإسرائيلية أمانا طوبوغرافيا طبيعيا ويوفر للمجتمع الإسرائيلي في قلبها حزاما آمنا.
فالوضع الحالي لإسرائيل وغياب العمق الدفاعي يجعلها غير مستعدة لمواجهة عمليات الغزو والاجتياح ولا لإدارة العمليات البرية داخل أراضيها؛ ولذا تعتمد إستراتيجيتها الدفاعية بشكل رئيس على مبدأ "الإنذار المبكر" الذي يمنحها أفضلية قتالية وقدرة على المواجهة الاستباقية.
ومن ثم فإن ثقة الإسرائيليين في قدرة الدولة على استشعار العدوان قبل حدوثه بوقت كافٍ، والاطمئنان للتفوق الاستخباري والتقني؛ ليسا أمرين هيّنين وإذا ضُربا مرة -كما حدث يوم الطوفان- فلن تستعيد إسرائيل عافيتها بسهولة، بل ربما لن تستعيدها أبدا.
ومثل الجغرافيا، يأتي التاريخ الذي لا يلعب كذلك لصالح الوعي الإسرائيلي، الذي يعاني من عقدة موروثة تتعلق بالخوف من العودة إلى الشتات، ويختزن ذاكرة الاضطهاد الأوروبي التي تضغط بها ماكينة الدعاية الإسرائيلية على وعي الإسرائيلي نفسه بالقدر ذاته الذي تضغط به على الغرب، وهو ما يظهر في همسات القادة الإسرائيليين وتصريحاتهم، من بن غوريون إلى نتنياهو.
ففي 2017، وقبل 6 سنوات من الطوفان؛ صرح رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، قائلا: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة". هذا المجتمع القلق والمضطرب والخائف من الزوال لا يستطيع تحمل تهديدات وجودية كالتي سببها طوفان الأقصى، ولا يقدر على الخروج من تبعاتها سريعا.
وبشكل أكثر تفصيلا قال رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك في مقال بجريدة يديعوت أحرونوت في مايو/أيار 2022: "التاريخ اليهودي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككهما في العقد الثامن، وتجربة الدولة الحالية على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته".
ثمة شعور دفين في العقلية الصهيونية بأن وجود دولتهم، إسرائيل، طارئ ومؤقت، وأنها استثناء تاريخي لا يملك مقومات الاستدامة، وليست حقيقة جغرافية ولا واقعا جيوسياسيا راسخا.
وهذا الشعور ليس وليد قراءات تلمودية وتراكمات تاريخية فحسب، وإنما يستند إلى وقائع سياسية وتهديدات داخلية وخارجية مرشحة للانفجار دوما، وقد انفجر بعضها بالفعل ولا تزال تداعياته آخذة في الاتساع شهرا بعد شهر.
وإلى جانب الشعور بالتهديد، ثمة شعور آخر عميق في الوعي الصهيوني يتجلى في احتقار المجتمعات العربية عموما والشعب الفلسطيني خصوصا، وهذا الشعور بقدر ما يطلق قدرا هائلا من الاستعداد للعنف الدموي في العقيدة القتالية الإسرائيلية، بوصفها لا تقاتل بشرا وإنما "حيوانات بشرية" كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بعد ثلاثة أيام من انطلاق الطوفان، فإن هذه النزعة الاستعلائية تولد كذلك شعورا بالحرج وبالهزيمة إذا أثبتت هذه الحيوانات البشرية -كما يرونها- مقدرة عالية على المقاومة، بل وتوجيه الضربات الاستباقية الموجعة التي جرحت الاستعلاء الإسرائيلي وتركت فيه ندوبا ليس من السهل أبدا محوُها.
هذه العوامل المركبة والمتشابكة والضاربة في عمق الوعي الصهيوني، شعبا وقادة، تجعلهم أكثر حساسية للأخطار مقارنة بالدول والشعوب الأخرى. وتصبح الأمور أسوأ في ظل حرب ممتدة ولا تزال مرشحة للتوسع، وتعد أطول حرب في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها.
لم يعد مستغربا إذن أن الإسرائيليين وداعميهم صاروا في أدنى درجات تفاؤلهم بشأن مستقبل دولتهم منذ لحظة تأسيسها، وأنه مهما ارتكب جيشهم من المذابح في غزة ولبنان وفي غيرهما، فما من سبيل لتغيير هذه الحقيقة في وقت قريب.
تأثير الطوفان
يقودنا ذلك إلى التساؤل: ما الذي حدث في إسرائيل خلال عام من الحرب ليتعزّز هذا الشعور المتأصل بالهزيمة والفشل؟
هناك 3 تحولات رئيسية يمكن رصدها في هذا الصدد، أولها انهيار الثقة التاريخية في الجيش الإسرائيلي وقدرته على حماية "حدود إسرائيل" وتوفير الأمن لمواطنيها، وثانيها الاستنزاف الاقتصادي المتواصل الناتج عن حالة الحرب المستمرة، الذي يضغط على مستوى الرفاهية الذي يأمله الإسرائيليون من دولتهم، وأخيرا هناك التحول في الرأي العام الغربي الذي صار أكثر استبصارا بحقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى وإن لم تنعكس تداعيات هذا الاستبصار على المواقف الرسمية للحكومات الغربية حتى الآن.
انهيار الثقة: الجيش الإسرائيلي في مأزق تاريخي
يصف حاييم ليفنسون إسرائيل في مقاله المنشور في أبريل/نيسان 2024 الوضع في إسرائيل قائلا: "لسنا دولة كبيرة، نحن بلد صغير يمتلك قدرات جوية عالية شرط أن تنتبه في الوقت المناسب"، هكذا يمكن لإسرائيل فقط أن تكون آمنة، لكن في السابع من أكتوبر فقدت إسرائيل المبادرة وظهرت قدراتها التقنية والدفاعية محل شك أمام مواطنيها والعالم كله.
ثمة تقارير عديدة تؤكد أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد التقطت عدة مؤشرات تفيد بأن قادة المقاومة يفكرون في عملية لاقتحام مستوطنات غلاف غزة، لكن الثقة المفرطة في تأمين الحدود الجنوبية جعلت التقييم النهائي يرى أن هذه المعلومات مجرد أمانٍ، ولا يمكن أن تتحول إلى خطط عملية فضلا عن واقع ملموس.
فشلت إسرائيل في تقدير قوة المقاومة، وفشلت في تحديد ساعة الصفر، كما فشلت في المواجهة، وفقدت التوازن ساعات عديدة بعد بدء العملية دون أي رد إسرائيلي.
وطوال شهور الحرب، لم يلتئم الجرح الرئيسي الذي أحدثه الطوفان، ففشلت إسرائيل مرة أخرى في إظهار مقدرة استخبارية داخل غزة، فلم تستطع هدم البنية التحتية للمقاومة حتى في أقرب النقاط الملاصقة لمستوطنات الغلاف، ولا يزال قادة المقاومة الرئيسيون أحياء، ولا يزال الأسرى في مكان غير معلوم رغم اجتياح القطاع.
الحرب إذن زادت من شعور الإسرائيلي بالعجز ولم تشف جروحه الأولى. وبعد اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وتفجيرات منظومة الاتصال في الحزب، كادت إسرائيل للحظة أن تستعيد الشعور بالسيطرة والمبادرة -ولو على جبهة واحدة- لكن الأحداث لم تترك هذا الشعور طويلا ليستقر.
فسرعان ما ضربت صواريخ إيران قواعد إسرائيل الجوية وأصابتها بدقة، بل ضربت تمركزاتها العسكرية داخل قطاع غزة نفسه، في محور نتساريم الذي لا يتعدى عرضه كيلومترا واحدا، وأصابت أهدافها بدقة وثقة عالية في تحدٍّ واستعراض لقدرات صواريخها على إصابة أهدافها دون انحراف كان من الممكن لو حدث أن يؤدي إلى مجزرة في القطاع المكتظ بالسكان.
أمام هذا الواقع تتعرض العقيدة الأمنية لجيش الاحتلال لتحدٍّ بالغ، وتآكل في الثقة يصعب ترميمه. كما يشعر الإسرائيليون ليس بالفشل فقط، بل بعدم الثقة في المستقبل كله، حيث عبر 48٪ من الإسرائيليين، في الاستطلاع الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، عن تشاؤمهم بشأن مستقبل إسرائيل، كما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية بمناسبة عام على الحرب أن 61٪ من الإسرائيليين أصبحوا لا يشعرون بالأمان في دولتهم.
إدماء اقتصادي واستنزاف طويل المدى
ولنعد إلى التاريخ مجددا، ففي أعقاب حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 دخل الاقتصاد الإسرائيلي في موجة طويلة من الركود، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري، مع تراجع النمو الاقتصادي وتعثر المداخيل القومية للاقتصاد. وبعد دورة من الزمن، ها هو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش -الذي يُعدّ من أكثر القيادات الإسرائيلية رغبة في توسيع الحرب واستمرارها- يقر بالضغط الهائل الذي تمثله الحرب الحالية على الاقتصاد الإسرائيلي، واصفا إياها بأنها "الحرب الأعلى تكلفة في تاريخ البلاد".
ويقدر خبراء إسرائيليون تكلفة الحرب حتى الآن بحوالي 250 مليار شيكل (67 مليار دولار) وهو ما يمثل 12٪ من الناتج المحلي القومي الإجمالي، ويتوقعون أن تحتاج وزارة الدفاع إلى زيادة سنوية تقدر بنحو 20 مليار شيكل لمواجهة التحديات الجديدة. أدت هذه المستجدات إلى عجز تراكمي في الميزانية العامة زاد على 8٪؛ مما أدى إلى تصاعد الاعتماد على الديون التي زادت خلال عام واحد بمقدار ضعفين.
وتحت وطأة الحرب، تراجعت العملة المحلية، الشيكل، بنسبة تتجاوز 5٪ خلال عام، وبلغت خسائر قطاع السياحة رقما قياسيا وصل إلى 18.7 مليار شيكل (4.9 مليارات دولار)، كما قُدرت خسائر البورصة الإسرائيلية بنحو 20 مليار دولار.
بيد أن الآثار الأكثر استدامة تكمن في تراجع الثقة في الاقتصاد الإسرائيلي؛ فقد خفضت العديد من الوكالات المختصة تصنيفها الائتماني لإسرائيل، مثل وكالة "ستاندرد آند بورز" التي خفضت تصنيف دولة الاحتلال من "A+" إلى "A" وذلك للمرة الثانية خلال العام، وأبقت على نظرتها المستقبلية السلبية، وكذلك فعلت وكالتا "فيتش" و"موديز". وتزامن ذلك مع خروج 60٪ من المستثمرين الأجانب من السوق الإسرائيلية.
وثمة عوامل أخرى ستظهر آثارها تباعا، مثل إغلاق آلاف الشركات نتيجة تدهور الوضع الأمني أو تهجير عمالها وإغلاق مقراتها في مستوطنات الشمال وغلاف غزة، فضلا عن استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط؛ مما يلقي أعباء مزدوجة على ميزانية الدولة وعلى سوق العمل في الوقت نفسه.
وتقدر شركة معلومات الأعمال الإسرائيلية "كوفاس بي دي آي" (Koface BDI) أن 60 ألف شركة إسرائيلية ستغلق أبوابها هذا العام، وغالبية تلك الشركات من فئة الشركات الصغيرة والصغرى.
ما لم تعتده إسرائيل: تحولات في الرأي العام الغربي
بالتزامن مع ذلك كله، تضررت صورة إسرائيل في الغرب بشكل غير مسبوق، وأصبحت الأصوات أكثر جرأة على انتقادها، خاصة وسط صفوف اليساريين والتقدميين، والشباب الصغار عموما.
ومثالا لذلك، أظهر استطلاع رأي أجراه معهد هارفارد للسياسة في الولايات المتحدة، فيما بين 14 و21 مارس/آذار الماضي، على عينة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، أظهر أن 5 من كل 6 أشخاص يؤيدون الوقف الدائم للحرب على غزة.
هذا التدهور في صورة إسرائيل في الغرب يضع الكثير من الأمور على المحك، فقد اقتاتت الدولة العبرية منذ ولادتها على المساعدات الغربية، خاصة بعد إعلان أيزنهاور 1957 الذي مثل بداية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وفتح أبواب الدعم الغربي أمام إسرائيل التي أصبحت المتلقي الأكبر للمساعدات الأميركية منذ الأربعينيات فضلا عن أطنان أخرى من المساعدات الغربية دُفعت جراء الاهتمامات الجيوسياسية والضريبة الباهظة التي فُرضت على أوروبا نتيجة اضطهاد اليهود خلال الحقبة النازية.
لكن الحرب الحالية، والتغيرات المصاحبة لها، تعيد مساءلة هذا الدعم المفتوح وترفع حدة النقاش حوله بشكل غير مسبوق، متحدية السردية الإسرائيلية التي ظلت سائدة ومهيمنة لعقود طويلة. وتحت وطأة الضغوط الحقوقية المحلية؛ قررت العديد من الدول حظر، أو تخفيض، الصادرات العسكرية لإسرائيل، ومن بينها كندا، وإيطاليا، واليابان، وبريطانيا.
كما قطعت عدة دول علاقتها بشكل كامل مع إسرائيل مثل بوليفيا وكولومبيا، وانضمت 7 دول إلى دعوى جنوب أفريقيا لمقاضاة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية بينها كولومبيا والمكسيك وتركيا ونيكاراغوا، إضافة إلى دولة أوروبية مهمة هي إسبانيا.
واعترفت الأمم المتحدة في مايو/أيار 2024 بدولة فلسطين "كاملة العضوية" بغالبية فاقت الثلثين من أعضائها (147 دولة من الدول الأعضاء). وخلال عام من الحرب أعلنت 40 جامعة، بعضها من كبريات الجامعات الغربية، المقاطعة الأكاديمية والمؤسسية لجامعات إسرائيل.
على المستوى الإقليمي، كانت إسرائيل قبل اندلاع طوفان الأقصى متجهة في تقدير الكثيرين إلى سنوات "ربيع إقليمي" بفضل اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية. لكن دراسة نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي في أبريل/نيسان 2024 اعتبرت أن أسوأ ما قد يحدث بسبب الحرب هو أنها ستفوت على إسرائيل منافع التطبيع وتعطل وصول قطاره إلى محطات جديدة.
وطبقا للدراسة؛ رفعت الحرب أثمان التطبيع على نحو مذهل، ليس فقط لأن الدول التي تفكر في التطبيع ستتعين عليها المطالبة بخطوات عملية من إسرائيل في طريق الدولة الفلسطينية، بل لأن الدول المطبعة أصلًا سوف تكون أكثر ترددا في أخذ علاقاتها مع إسرائيل إلى مستويات جديدة.
بداية الانهيار
"الهجرة اليهودية إلى فلسطين هي دم الحياة لإسرائيل، وضمان أمنها ومستقبلها وجوهر حياتها وروحها".
ديفيد بن غوريون
هذا المزيج المعقد من التعقيدات الجغرافية والتراكمات التاريخية والهشاشة النفسية، الممتزج بالوقائع المعقدة الجديدة التي فرضها طوفان الأقصى وفشلت المذابح الإسرائيلية في تغييرها، بدأ في دفع المجتمع الإسرائيلي بأسره إلى التصرف كـ"جيش منهزم". بداية، فجّرت الحرب أعمق أزمات المجتمع الصهيوني ووسعت الشرخ الديني العلماني إلى هوة غير مسبوقة، سيتصاعد ظهورها في قضايا عديدة لن تقف عند مسألة تجنيد الحريديم وحدها، كما أظهرت مدى التباعد بين التيارات السياسية، وإذا كان مناخ الحرب والشعور بالتهديد الوجودي يحجم ظهور تداعيات ذلك فإن شهور الحساب فيما بعد الحرب ستكون أشد وأعنف على المجتمع الإسرائيلي.
أبعد من ذلك، بدأ الكثير من الإسرائيليين يفكرون في النجاة بأنفسهم والفرار ما دام ذلك ممكنا. وقد كشف استطلاع رأى أجرته قناة كان التابعة لهيئة البث الرسمية أن حوالي ربع الإسرائيليين فكروا خلال العام الماضي في الهجرة من إسرائيل دون عودة، بسبب الأوضاع الأمنية التي خلفتها الحرب. وعلى الرغم من أن هذا التوجه كان مرصودا منذ عدة أعوام قبل الحرب، فإنه ازداد بشكل ملحوظ خلال عام الحرب.
لا يمكننا الآن الوقوف على الأعداد الحقيقة لأولئك الذين فرّوا من إسرائيل خلال العام الماضي؛ وذلك ببساطة لأن هناك تشكيكًا إسرائيليًّا في الأرقام التي تصدرها دائرة الإحصاء الرسمية حول أعداد المهاجرين، من قبل الإسرائيليين أنفسهم.
وقد نشرت صحيفة "ذا ماركر" (The Marker) الاقتصادية البارزة تقريرا اتهمت فيه الدائرة بإخفاء الأعداد الحقيقية، وقدرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن نصف مليون إسرائيلي غادروا بالفعل دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب، ولا يُعلَم ما إذا ما كان ذلك قرارا مؤقتا أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة. أما البيانات الرسمية لدائرة الإحصاء فتظهر أن 55 ألفا غادروا إسرائيل في 2023 مقابل 38 ألفا في 2022، وتصاعد هذا العدد ليصل إلى 40 ألفا خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024.
يخبرنا ذلك أن مكاسب الحرب وخسائرها لا تحددها فقط أعداد القتلى والمباني المهدمة، فالحرب سلوك شامل متعدد الأوجه وخسائرها أيضا شاملة متعددة الأوجه. ورغم ما أظهرته إسرائيل من مرونة في التكيف في حالة الحرب الدائمة، وكفاءة في القفز إلى الأمام نحو حرب متعددة الجبهات؛ فإن ذلك لا يعني أنها نجحت في تجاوز آثار السابع من أكتوبر نهائيا أو أنها قريبة من ذلك؛ إذ يظل ذلك التاريخ بمثابة لحظة الحقيقة التي تضغط على وعي إسرائيل الجمعي وتطارد مستقبلها ووجودها، تماما كما تنبأ قادة الاحتلال عبر العصور.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد السابع من أکتوبر من الإسرائیلیین الإسرائیلی فی طوفان الأقصى إسرائیل فی هذا الشعور بن غوریون خلال عام من الحرب فی تاریخ فضلا عن أکثر من فی مقال الذی ی
إقرأ أيضاً:
نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أمريكا في فيتنام؟
يمانيون../
تتدفق المروحيات فوق مبنى السفارة الأميركية في مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، بينما يتزاحم تحتها آلاف الباحثين عن منفذ خروج من المدينة التي سقطت في يد المقاتلين الشيوعيين من فيتنام الشمالية، في مشهد كان أشبه ما يكون بسباق محموم ضد الزمن والمصير.
نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟
لقد كانت تلك اللحظة من صباح 30 أبريل/نيسان 1975، آخر ما يفصل أكبر قوة عسكرية في العالم عن اعتراف صامت وغير معلن، لكنه مدو وصاخب في الوقت نفسه، بالهزيمة في أوضح صورها.
ومع إقلاع المروحية الأميركية الأخيرة مبتعدة عن سايغون بمن أمكنها حملهم، أُسدل الستار على واحدة من أطول الحروب في القرن الـ20، لتنهي الولايات المتحدة صفحة دامية في تاريخها وسط مرارة وانكسار، لم تعرف لهما مثيلا منذ تأسيسها.
ورغم مرور نصف قرن على مشاهد سايغون، لا تزال الحرب الفيتنامية واحدة من أكثر الحروب الحديثة تناولا بالدراسة، ومحور عديد من الأدبيات العسكرية، التي سعت إلى تفكيك أسباب فشل قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، وإخضاع خصم أقل منها بكثير رغم الفارق الهائل في الإمكانات والموارد ورغم سنوات الحرب الطويلة.
ومع أن الروايات الأميركية فرضت هيمنتها على مجريات التأريخ والتحليل في ما يخص تلك الحرب، فإن ذلك لم يمنع من اعتبارها نموذجا ملهما لحركات التحرر عبر العالم، ودرسا بليغا في كيفية انتصار طرف محدود الموارد على خصم متفوق عسكريا وتقنيا واقتصاديا.
ويعد هذا الدرس مهما بشكل خاص بالنظر إلى حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التي تخوض فيها المقاومة الفلسطينية والشعب الغزي الأعزل مواجهة ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة المدعومة من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية.
لقد طرحت حرب فيتنام سؤالا جوهريا عن سر هزيمة الولايات المتحدة في تلك الحرب، وهي هزيمة ثبت أن أسبابها تتجاوز الأخطاء العسكرية البحتة إلى سوء فهم أميركي متأصل للواقع الذي دارت فيه الحرب وانفصال معرفي جسيم عن الواقع.
لقد خاضت واشنطن حربا على عدو لم تفهمه، في بيئة لا تدرك تعقيداتها، بحسب ما عبرت عنه الصحفية الأميركية الحاصلة على جائزة “بوليتزر” فرانسيس فيتزجرالد، في كتابها “حريق في البحيرة.. الفيتناميون والأميركيون في فيتنام”، حين وصفت مأساة “الغربة المعرفية” الأميركية تلك بقولها: “إن الأميركيين تاهوا بغباء في تاريخ شعب آخر”.
عدّاد الجثث
ولعل أول مظاهر الغياب المعرفي يتجسد في فشل أميركا في استيعاب الطبيعة الخاصة للحرب التي خاضتها، حيث واجه جيشها تمردا مسلحا وحرب عصابات طويلة النفس، استحال خلالها الحسم عبر معركة فاصلة واحدة أو من خلال احتلال عاصمة العدو، وفق الأنماط التي اعتادت عليها الجيوش النظامية.
ومما زاد من تعقيد المهمة أن الفيتناميين نجحوا في المزج بين تكتيكات حرب العصابات والقتال التقليدي المنظم عبر مراحل مدروسة، إلى جانب بذل جهود دبلوماسية، للاستفادة من اضطرابات الجبهة الداخلية الأميركية وانقسامات القوى الكُبرى (استفاد الثوار الفيتناميون من الدعم السوفياتي)، بما أتاح لهم تعظيم مكاسبهم في الميدان والسياسة معا.
في المقابل، وفي مواجهة ضبابية الميدان، لجأت القيادة العسكرية الأميركية إلى سلسلة من التكتيكات والإستراتيجيات التجريبية، لكنها سرعان ما أثبتت قصورها. منها اعتمادها عمليات “البحث والتدمير” الاستنزافية، القائمة على تمشيط الأدغال والقرى واستخدام القوة النارية غير المتماثلة لسحق الخصوم، مع تكثيف القصف الجوي لقطع خطوط الإمداد القادمة من الشمال عبر لاوس وكمبوديا.
وبالتوازي مع ذلك، ابتكرت القيادة الأميركية مقياسا إحصائيا غريبا لقياس التقدم العسكري، عُرف بـ”عدّاد الجثث”، استند لفرضية أن تكبيد المقاومة أكبر قدر من الخسائر البشرية سوف يؤدي في النهاية إلى إنهاكها وكسر إرادتها.
وشملت الممارسات الأميركية أيضا تكتيكات الحرب النفسية، مثل إلقاء ملايين المنشورات واستخدام مكبرات الصوت المحمولة جوّا، لبث رسائل التهديد والذعر في صفوف الفيتناميين.
لكن تبقى أكثر ممارسات الحرب النفسية الأميركية إثارة للجدل هي ما عُرف باسم “عملية الأرواح المتجولة” وتضمنت قيام القوات الأميركية ببث تسجيلات لأصوات بشرية مذعورة ومشوهة، تحاكي أصوات أرواح متخيلة، بغرض إثارة الخوف والارتباك في صفوف الفيتناميين وتقويض معنوياتهم، وإجبار مقاتلي “الفيت كونغ” على الفرار مستغلة اعتقادهم في معاناة الأرواح التي لا تُدفن بشكل لائق.
كانت فيتنام حقلا لتلك التجارب الأميركية وغيرها، لكن رغم تنوع الأساليب، فإن الواقع الميداني ظل عصيا على الأميركيين، فعدّاد الجثث، على سبيل المثال، سرعان ما تحوّل إلى فخٍّ قاتل، إذ دفع الوحدات الأميركية إلى السعي المحموم وراء تحقيق أرقام مرتفعة للقتلى بأي طريقة، حتى لو كان ذلك بارتكاب المذابح في صفوف المدنيين، مما عزز من كراهية السكان المحليين للجيش الأميركي وأفقده فُرص التعاون معهم وكسب ولائهم.
ومن جهة أخرى، شجّعت هذه السياسة على المبالغة المتعمدة وتقديم أرقام مضخمة للقتلى من جانب القادة الميدانيين، بهدف إظهار التفوق أمام القيادة العليا، مما أوحى مرارا باقتراب النصر الحاسم، لكن مع كلّ تعبئة جديدة وتعويض لتلك الخسائر البشرية من جانب المقاومة الفيتنامية، كان يبدو أن “عداد الجثث” يرتد بتأثير معنوي سلبي داخل الوحدات الأميركية، في الوقت الذي يزيد فيه من عزيمة الثوار وتصميمهم.
اختبار إرادة لا اختبار أسلحة
وعلى غرار إخفاق الإستراتيجيات البرية، أثبت القصف الجوي الأميركي أيضا فشله في تحقيق الأهداف الإستراتيجية والعملياتية.
فعلى الرغم من نصف مليون جندي أمريكي أرسلهم الرئيس ليندون جونسون إلى فيتنام، وإسقاط أكثر من 8 ملايين طن من القنابل، بما يتجاوز أضعاف ما استخدم في الحرب العالمية الثانية (أسقط الحلفاء حوالي 2.7 مليون طن من القنابل خلال سنوات الحرب)، فإن ذلك لم ينجح في خنق المقاومة أو قطع خطوط الإمداد الحيوية.
في غضون ذلك، استمر تدفق المقاتلين والعتاد عبر طريق “هو تشي منه” الأسطوري، حتى إن الإحصاءات الأميركية نفسها أقرت بارتفاع عدد المتسللين من الشمال إلى الجنوب، من نحو 35 ألف مقاتل عام 1965 لما يقرب من 90 ألفا عام 1967 لدرجة أن تكلفة تدمير مستودع مؤن واحد صارت باهظة، قياسا بقدرة الفيتناميين على تعويضه سريعا عبر شبكة إمداداتهم الفعالة والمموهة جيدا.
تزامن هذا الفشل ومشكلة تكتيكية أعمق، فمثلما لم تعرف هذه الحرب خطوط إمداد مكشوفة، لم تكن أيضا تحتوي جبهات محددة قابلة للاستهداف، فهي بالأساس حرب عصابات، يظهر خلالها الخصم مثل طيف كي يضرب ثم يختفي، وسط تضاريس يعرفها كراحة يده وبين سكّان بلده وحاضنته الاجتماعية القوية.
وقد أفضى ذلك في الأخير إلى فشل مبدأ “البحث والتدمير”، الذي تبناه الجنرال وليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام في الفترة 1964-1968، حين اكتشف الأميركيون أن مواقع العدو لا تبقى فارغة بعد انسحابه، إذ سرعان ما يعود إليها الفيتناميون لاستئناف معادلة الكر والفر، وزرع الكمائن والفخاخ الأرضية، قبل الاختفاء مثل الأشباح في الأدغال أو التسلل إلى شبكة الأنفاق السرية، فور استشعار الخطر.
ومع تعاظم الخسائر والإحباط، اضطرت القيادة الأميركية إلى التخلي عن إستراتيجية “البحث والتدمير”، واعتماد مبدأ “التطهير والاحتفاظ” بدلا منها، ويركز هذا المبدأ على تأمين المواقع عوضا عن مطاردة المقاتلين الأشباح، وتزامن ذلك مع تولي الجنرال كريتون أبرامز القيادة الأميركية في فيتنام خلفا لويستمورلاند.
ولا يعني هذا الطابع الشبحي الذي غلب على المواجهات أن المقاومة الفيتنامية افتقدت المبادرة، فوفقا للدراسة العسكرية الصادرة عن جامعة جونز هوبكنز الأميركية، امتلكت القوات الفيتنامية المبادرة في 88% من الاشتباكات ضد القوات الأميركية، على مدار أكثر من 10 سنوات هي عمر التدخل العسكري البري لأميركا في فيتنام، مما يعني أن الأميركيين ظلوا في أغلب الأوقات في موقع رد الفعل لا الفعل.
وحتى في الحالات النادرة التي تمكن خلالها الأميركيون من سحب الفيت كونغ إلى مواجهات مكشوفة، لم تكن انتصاراتهم التكتيكية تترجم إلى تقدم إستراتيجي، إذ سرعان ما تعود المقاومة للظهور في مناطق أخرى جديدة، وتجد القوات الأميركية نفسها مضطرة لإعادة احتلال القرى ذاتها مرارا، في دورة عبثية تجسد إحدى القواعد العسكرية البديهية، وهي أن كسب معركة لا يعني بالضرورة كسب الحرب، ورغم وضوح هذه الحقيقة، فإنه يبدو أن واشنطن نسيتها في غمار المستنقع الفيتنامي.
ولم يكن ذلك إلا انعكاسا لتفوق ميداني نوعي للفيت كونغ، الذين امتلكوا سلاحا أمضى من المدفع والبندقية، فهم أبناء هذه الأرض؛ يحفظون دروبها ويملكون القدرة على اختيار زمان المعركة ومكانها، واستغلال ذلك على أتم وجه، بما مكنهم من توجيه ضربات خاطفة ثم التلاشي وسط الأدغال والحقول والقرى. وأمام هذا النمط من الحرب السائلة، وفي مواجهة خصم يتحرك بمثل هذه المرونة، فقدت التكتيكات الأميركية التقليدية فعاليتها، وبدا الجيش الأميركي مثل دب عجوز ثقيل يواجه نمرا شابا سريعا وفتاكا.
ومما عمق تلك الهوة أكثر، الفارق الجوهري في دوافع القتال، فرغم تواضع تسليحهم، الذي لم يتجاوز البنادق الخفيفة والمدفعية المحدودة مع دعم جوي شبه معدوم، خاض الفيتناميون حربا وجودية دفاعا عن وطن موّحد وبرغبة التحرر من الهيمنة الأجنبية، وهي دوافع تُعلي من الإرادة والصبر والقدرة على التضحية، في حين قاتلت أميركا من أجل فرض النفوذ على دولة بعيدة، ضمن إستراتيجية أيديولوجية هي احتواء الشيوعية.
وشاسع هو الفارق بين مقاتل مستعد للموت من أجل وطنه، وجندي أُرسل إلى أرض غريبة، بناء على حسابات سياسية ربما تتجاوز فهمه.
شكّل هذا التباين عاملا حاسما في مسار الحرب، ففي مقابل استعداد الفيتنامي لتحمل أي خسائر من دون أن تهتز عزيمته، كانت عزيمة أميركا ومعنويات شعبها وعزم قياداتها تتآكل مع كل نعش عائد من فيتنام. وتفاقم المأزق الأميركي مع نجاح الفيت كونغ في بناء شبكات دعم شعبي واسعة في الجنوب (الخاضع للولايات المتحدة)، بين المزارعين والقرويين، الذين وفروا الإمدادات والملاذات الآمنة للمقاتلين، وتحوّلوا إلى جزء من شبكة الحرب، بما جعل مهمة التمييز بين المدني والمقاتل شبه مستحيلة بالنسبة للقوات الأميركية.
أنفاق الفيت كونغ.. كابوس تحت الأرض
ولم تقتصر معضلة التعامل عناصر الفيت كونغ على المعارك فوق الأرض، بل امتدت عميقا تحتها، فثمة ميدان قتال آخر فُرض على الأميركيين، وهو الأنفاق، التي لعبت دورا حاسما في تغيير قواعد المواجهة. وقد كانت شبكة الأنفاق أكثر من مجرد ممرات للهرب، حيث تشكّلت كمنظومة أمنية وعسكرية متكاملة مكتفية ذاتيا؛ مكّنت المقاومة الفيتنامية من التخفي والرصد والمناورة، ومن إعادة تنظيم الصفوف ونصب الكمائن، لتشكّل بذلك إحدى أعقد بيئات حرب العصابات في العصر الحديث.
وحسب التقديرات، امتدت شبكة أنفاق الفيت كونغ لقرابة 270 كيلومترا تحت الأرض، وتخللتها غرف قيادة وعمليات ومستشفيات ميدانية، وكذلك مخازن أسلحة ومؤونة، كما احتوت مساكن سرية ومصانع للأسلحة الخفيفة، إلى جانب مصائد للمتسللين ومخارج طوارئ تؤدي إلى الغابات والقرى المجاورة، مما جعل ملاحقة عناصر الفيت كونغ مهمة شبه مستحيلة.
وقُدّر لاحقا، أن بناء هذه الشبكات استغرق أكثر من 20 عاما، بدءا من أربعينيات القرن الماضي، في أثناء مقاومة الفيتناميين للاستعمار الفرنسي، ثم تطوّر بعضها بعد ذلك، ليشكّل هذه المنظومة المتداخلة المتعددة المستويات الممتدة تحت الأرض.
وقد تجلى التأثير العملياتي لشبكة الأنفاق بوضوح في أكثر من مناسبة، منها الهجوم الذي نفذته وحدات الفيت كونغ في فبراير/شباط 1969 على قاعدة “كوتشي”، إحدى أكبر القواعد الأميركية في فيتنام، مما أسفر عن تدمير 9 مروحيات من طراز “شينوك-47” وإلحاق الضرر بـ3 أخرى، فضلا عن تفجير مستودع الذخيرة الرئيسي داخل القاعدة.
والمفارقة أن قيادة القاعدة تلقت تحذيرات استخباراتية مسبقة بشأن الهجوم، ورغم ذلك، فإن نحو 80 من خبراء المتفجرات التابعين للفيت كونغ تمكّنوا من التسلل إلى عمق القاعدة، وإتمام مهمتهم في غضون دقائق معدودة، من دون أن يتمكن الحراس من اكتشافهم، مما دفع بعض الجنرالات الأميركيين لاحقا إلى الاعتراف بأن شبكة الأنفاق تحولت إلى كابوس نفسي يقوض الشعور بالأمان، حتى في الخطوط الخلفية.
ويؤكد هذا التأثير جو بوتشينو، المحلل العسكري ومدير الاتصالات السابق في القيادة المركزية الأميركية، في مقال بمجلة “فورين بوليسي” إذ يشير إلى أن أنفاق فيتنام تجاوزت تأثيرها المادي نحو إحداث ذعر وارتباك نفسي وجنون ارتياب مستمر بين الجنود الأميركيين، لأن العدو القادر على الظهور فجأة من باطن الأرض يحوز ميزة كاسحة، إذ يكسر أي شعور أمان يمنحه التفوق التسليحي.
ورغم المحاولات الأميركية المتكررة لتدمير الأنفاق، عبر القصف الجوي والمدفعي أو الغمر بالمياه والغازات السامة، فإن طريقة بنائها البسيطة والفريدة في الوقت نفسه، بطبقات متعددة من الطين المدكوك هيّأتها للصمود أمام الانفجارات، كما أن تصميمها المرن أتاح للفيتناميين تجاوز المناطق المتضررة ومواصلة القتال دون تأثير يُذكر.
وحسب الكاتب ومؤرخ الحرب الأميركي وليام بي هيد، فقد تشكّلت أنفاق فيتنام من تربة احتوت على الطين والحديد، مما أدى إلى تكوّن عامل ربط يشبه الأسمنت. واعتمد البناء على آلية بسيطة، حيث جرى الحفر في موسم الرياح الموسمية حينما تكون التربة لينة، وعند جفافها لاحقا تبقى مستقرة دون حاجة إلى دعامات.
ويُشار إلى أن اكتشاف الأميركيين لتلك الشبكات لأول مرة كان في أعقاب “عملية اللصوص” (Operation Marauder)، التي نفذها اللواء الأميركي 173 المحمول جوّا بالاشتراك مع الكتيبة الأولى من الفوج الملكي الأسترالي في دلتا نهر ميكونغ، خلال يناير/كانون الثاني 1966. ورغم العثور على بعض مداخل الأنفاق خلال تلك العملية، فإن القوات الأسترالية والأميركية لم تدرك آنذاك الحجم الحقيقي ولا مدى تعقيد المتاهة الكامنة تحت أقدامهم.
هجوم “تيت”.. صدمة نفسية ورهان إستراتيجي
ومع تصاعد قدرات الفيت كونغ على المناورة فوق الأرض وتحتها، جاءت اللحظة التي قرروا فيها نقل الحرب إلى مستوى أعلى، عبر شنّ هجوم مفاجئ شامل، استهدفوا خلاله أكثر من 100 مدينة وقاعدة عسكرية في وقت متزامن.
عُرف ذلك الهجوم الشهير باسم “تيت”، وشكّل نقطة تحول فارقة في تلك الحرب. ففي الساعات الأولى من صباح 30 يناير/كانون الثاني 1968، ومع بدء احتفالات السنة القمرية حسب التقويم الفيتنامي (عيد تيت)، اجتاح مقاتلو الفيت كونغ وزملاؤهم من الجيش الشعبي الفيتنامي عددا من المواقع الحيوية في جنوب فيتنام، بما فيها العاصمة سايغون.
اعتمد الهجوم في تصميمه على عنصر المفاجأة، مستغلا حالة التراخي ومتغاضيا عن فارق القدرة العسكرية، بما يجعله أقرب إلى مقامرة طموحة، لكنه لم يكن قرارا اعتباطيا، نظرا لأن القيادة الفيتنامية أرادت من خلاله تحفيز انتفاضة شعبية جنوبية تطيح بالحكومة الموالية للولايات المتحدة في سايغون، وإحداث صدمة نفسية وسياسية داخل الولايات المتحدة، بما يدفع الرأي العام الأميركي نحو مراجعة دعم استمرار الحرب.
بمعنى أن الهدف من الهجوم لم يكن حسم الصراع على الفور، وإنما تحقيق مكاسب إستراتيجية على مدى أبعد، وقد بُنيت الحسابات الفيتنامية للاستفادة من حالة الارتباك التي أصابت الإستراتيجية الأميركية، بعد سنوات من استنزاف قواتها دون نتائج حاسمة.
وعلى الرغم من أن الفيت كونغ لم يتمكنوا من الاحتفاظ بالمواقع التي سيطروا عليها في سايغون وهيو ومدن أخرى، فإن الهجوم كشف عن هشاشة حكومة الجنوب، وأدى إلى تآكل ثقة الأميركيين بإمكانية حسم الصراع عبر الحل العسكري وحده، ولم يقلل من ذلك التأثير تكبد الفيتناميين خسائر جسيمة على المستوى البشري، تجاوزت 50 ألف مقاتل وفق بعض التقديرات.
كان وقع الهجوم مدمرا على إدارة الرئيس الأميركي ليندون جونسون، التي كانت تروج لفكرة “الضوء في نهاية النفق”، وفوجئت بمطالبة الجنرالات بتعزيز القوات الأميركية في فيتنام، رغم أن أعدادها تجاوزت نصف مليون جندي في ذلك الوقت، وهو ما وضع الإدارة في موقف حرج أمام الرأي العام، ومما أكد أن الحرب أبعد ما تكون عن نهايتها، وأدى إلى تصاعد المظاهرات وتزايد الضغط على البيت الأبيض، ودفع جونسون إلى إعلان عدم ترشحه لولاية ثانية بعد أسابيع قليلة من الهجوم.
هكذا لم يكن هجوم تيت مجرد معركة عسكرية، بل ضربة نفسية وإستراتيجية زلزلت ركائز المشروع الأميركي في فيتنام، وأطلقت 7 سنوات أخرى من القتال المرير، انتهت بمشهد إقلاع آخر مروحية أميركية بعيدا عن سايغون.
وعلى امتداد السنوات التي تلت سقوط سايغون ونهاية الحرب، كان الاعتقاد يترسخ أكثر فأكثر بأن هجوم “تيت” كان هو بداية النهاية لتلك الحرب، حين كشفت فيتنام عن حدود القوة العسكرية، وأكدت لخصومها أن كسب الحروب لا يتحقق فقط عبر التفوق في العتاد، بل يتطلب فوق ذلك إرادة لا تلين، وفهما أفضل للأرض وللشعوب التي تقاتل دفاعا عن مصيرها ووجودها.
مواقع إلكترونية