لماذا لم يزر الرئيس الأميركي بايدن أي دولة أفريقية؟
تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT
شولا لاوال
كان من المفترض أن تكون رحلة الرئيس الأميركي جو بايدن المخطط لها إلى أنغولا يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول الحالي تاريخية باعتبارها أول زيارة يقوم بها لأفريقيا خلال ولايته الرئاسية، لكنها تأجلت إلى موعد غير محدد بسبب إعصار ميلتون في فلوريدا الأسبوع الماضي، حسب ما قال البيت الأبيض، وكان يفترض أن تسبقها زيارة إلى ألمانيا للتحدث مع الزعماء الأوروبيين حول حرب أوكرانيا قبل التوجه إلى لواندا.
وكانت رحلة الرئيس الأميركي الذي يعيش الأيام الأخيرة من ولايته، بمثابة الوفاء أخيرا بوعوده العديدة لزيارة أفريقيا.
بالنسبة لأنغولا، كان من المقرر أن تحقق الزيارة انتصارًا دبلوماسيًا لحكومة الرئيس جواو لورينسو المضطربة، حيث تمنح الدولة الواقعة في الجنوب الأفريقي حق "التفاخر الإقليمي" باعتبارها الدولة التي اختارتها واشنطن لهذه الزيارة بعد غياب دام عقدًا من الزمن.
ورغم أن سبب التأجيل يبدو معقولا، فإن النقاد يقولون إن بايدن لم يبدو حريصًا قط على إعطاء الأولوية لأفريقيا في المقام الأول حتى في ظل التنافس القوي مع الصين وروسيا، اللتين توسعان نفوذهما بقوة في القارة ذات الموارد الطبيعية الكبيرة، والنمو السكاني السريع، وكتلة التصويت المعتبرة في الأمم المتحدة.
منذ انتخاب بايدن رئيسا في عام 2020 لم تطأ قدماه أي أرض أفريقية، على الرغم من إصرار إدارته على إعطاء الأولوية لاحتياجات سكان القارة البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة واحترام قادتها. في المقابل، تمكن بايدن من السفر إلى أوروبا عدة مرات -خمس مرات إلى المملكة المتحدة وحدها- وكذلك إلى دول في الشرق الأوسط وآسيا وأميركا اللاتينية.
وقال كاميرون هدسون، كبير محللي شؤون أفريقيا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية ومقره الولايات المتحدة، للجزيرة إن "إدارة بايدن لم تصل إلى مستوى خطابها". وأضاف هدسون "حتى رحلة لواندا بدت وكأنها محاولة أخيرة رتبت على عجل للرئيس مع اقتراب أشهره الأخيرة في منصبه. ومن المفارقات أن هذه الرحلة ربما تكون أكثر أهمية بالنسبة لبايدن، الذي يبحث عن ترسيخ إرث في أفريقيا ويريد الوفاء بالوعد الذي قطعه مرارا وتكرارا لأفريقيا التي تستعد بالفعل لخليفته".
وعود كبيرة وأفعال قليلةوعد بايدن لأول مرة بزيارة أفريقيا في ديسمبر/كانون الأول 2022 عندما كان يتحدث إلى 49 زعيمًا أفريقيًّا اجتمعوا في واشنطن العاصمة لحضور قمة "القادة الأميركيين الأفارقة". وعقدت تلك القمة في وقت كان فيه نفوذ الولايات المتحدة في القارة قد تضاءل بشكل كبير بالفعل حيث تفوقت عليها الصين في حجم التجارة في عام 2019.
ومنذ عام 2021، اتجهت دول منطقة الساحل في غرب أفريقيا أيضًا إلى روسيا لإقامة شراكات أمنية بعد أن طردت الغرب بمن فيها القوات الأميركية المتمركزة هناك.
بعد وليمة في البيت الأبيض، قدم بايدن وعودًا رسمية لنظرائه قائلا إن الولايات المتحدة ستعمل على ضمان حصول الدول الأفريقية على مقاعد دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو الهدف الذي سعى إليه الاتحاد الأفريقي منذ 20 عامًا. وأضاف أن واشنطن تؤيد توصية بانضمام الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين وسط تصفيق حاد من القادة.
وأعلن بايدن أن الولايات المتحدة مهتمة بأفريقيا مع حزمة دعم بلغت 55 مليار دولار للاتحاد الأفريقي من أجل الرعاية الصحية والبنية التحتية ومجموعة من القطاعات الأخرى.
ومع ذلك، قال هدسون إن العديد من الوعود لم تتحقق. وأضاف أن فشل بايدن في مطابقة أفعاله مع كلماته يأتي إلى حد كبير بسبب تراخي الإدارة تجاه القارة. وأضاف "في الواقع، لم يتابع البيت الأبيض في عهد بايدن ولم ينشر وثيقة سياسية تحدد علاقاته المخططة مع أفريقيا حتى أغسطس/آب 2022. لم يترك له ذلك سوى عامين لبناء إرث، وهو ليس وقتًا كافيا لإحداث تأثير حقيقي كبير".
وعندما ظهرت وثيقة الإستراتيجية الأفريقية، التي طال انتظارها، على السطح ووصفها المحللون بأنها "طموحة" و"حديثة"، ابتعدت عن تركيز الرئيس السابق دونالد ترامب على العلاقات التجارية وتتبع دولارات المساعدات من خلال الوعد بالتركيز على رفع التمثيل الأفريقي في المؤسسات العالمية الدولية، وتعزيز الاقتصادات وتعزيز التكيف مع المناخ، وتضاءل الحماس بشأن هذه السياسة تدريجيا، خاصة بعد خروج بايدن من السباق الرئاسي في يوليو/تموز الماضي.
ويشير بعض الخبراء إلى أن بايدن حقق بعض الانتصارات، إذ تم قبول الاتحاد الأفريقي عضوا دائما في مجموعة العشرين في سبتمبر/أيلول 2023، كما أعلنت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد الشهر الماضي أن بلادها ستدعم مقعدين دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لأفريقيا من دون حق النقض.
كما أرسل بايدن مجموعة من المسؤولين الأميركيين للقارة، حيث قام وزير الخارجية أنتوني بلينكن بأربع رحلات، الذي ساعد في التوسط من أجل السلام بين الجارين المتنازعين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
كما زارت كامالا هاريس نائبة الرئيس أيضًا غانا وتنزانيا وزامبيا في رحلة استمرت أسبوعا في مارس/آذار 2023.
أميركا مقابل الصين وروسياومع ذلك، فإن الضغط من أجل حصول أفريقيا على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي دون حق النقض يشبه نقل مواطنيها إلى فئة من الدرجة الثانية، كما قال تيم موريثي، الأستاذ والباحث المشارك في جامعة كيب تاون، في صحيفة ديلي مافريك الجنوب أفريقية.
وأضاف "في الواقع، ستقتصر أفريقيا مرة أخرى على وضع المتفرج في قرارات مجلس الأمن الدولي التي تؤثر على حياة شعوبها، مما يكرر الاستبعاد التاريخي للدول الأفريقية الذي حدث في يونيو/حزيران 1945 عندما تم إنشاء الأمم المتحدة رسميًا في سان فرانسيسكو"، في إشارة إلى الوقت الذي كانت فيه معظم الدول الأفريقية لا تزال مستعمرة وغير ممثلة في المنظمة.
وفي المقابل، زار الرئيس الصيني شي جين بينغ القارة ثلاث مرات. وكانت زيارته الأخيرة إلى جنوب أفريقيا في أغسطس/آب 2023 لحضور قمة مجموعة البريكس (البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وهي المجموعة التي يقول المحللون إنها تريد منافسة مجموعة الدول السبع.
وعندما سافر الزعماء الأفارقة إلى بكين لحضور القمة الصينية الأفريقية في سبتمبر/أيلول الماضي، لاحظ المحللون كيف التقى شي بالعديد من الزعماء الأفارقة بشكل فردي وأخذهم في جولة في العاصمة. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضا في جنوب أفريقيا في عام 2013 لحضور اجتماع البريكس. واضطر إلى الانضمام إلى اجتماع العام الماضي عن بعد بسبب الضغوط الدولية على بريتوريا لاعتقاله بناءً على مذكرات أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في مارس/آذار 2023 بشأن حربه على أوكرانيا.
وحتى قرار بايدن بزيارة أنغولا -إذا حدث ذلك- يعد أيضا معيبا، كما يقول النقاد، فقد روج الجانبان لتعميق العلاقات التجارية والعسكرية، فضلا عن زيادة الاتصال الجوي، حتى إنهم وقعوا صفقة لاستكشاف الفضاء العام الماضي. والأهم من ذلك هو أن أنغولا جذابة للولايات المتحدة بسبب ممر لوبيتو، وهو مشروع للسكك الحديدية غير مكتمل بقيمة مليار دولار سيشهد نقل المعادن الثمينة من جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى ميناء لوبيتو في أنغولا. وضخت الولايات المتحدة 3 مليارات دولار في المشروع.
ومع ذلك، يقول البعض إن هذا يبدو أكبر إرث لبايدن في القارة، وهو أمر غريب، إذ يشير الآخرون إلى أن الصفقة تركز في نهاية المطاف على الاستيلاء على الموارد وتشبه "الاستغلال" الذي اتهمت الولايات المتحدة الصين بالقيام به في القارة.
حليف مثير للجدلوبينما تشيد حكومة بايدن بأنغولا باعتبارها حليفًا وثيقا، يشكك بعض الأنغوليين في هذه العلاقة، ذلك بأن حكومة الرئيس لورينسو لا تحظى بشعبية كبيرة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والفساد وتصاعد انتهاكات حقوق الإنسان.
في يونيو/حزيران الماضي، فتحت السلطات النار على المتظاهرين الغاضبين من التضخم، مما أسفر عن مقتل 8 أشخاص في مقاطعة هوامبو وسط البلاد. وتم القبض على عدة أشخاص آخرين في مدن في جميع أنحاء البلاد.
كما أن حزب لورينسو، الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، الذي يتولى السلطة منذ الاستقلال عن البرتغال عام 1975، يعاني أيضًا من صراع داخلي على السلطة أضعف صورة الرئيس. ولم يذكر بايدن قضايا حقوق الإنسان هذه، ولا حتى عندما استضاف لورينسو في البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ويقول الخبراء إن قربه من لورينكو يمكن أن يُنظر إليه على أنه يشجع الحكومة الأنغولية.
لقد استثمر الرئيس الأنغولي بكثافة في جهود الضغط لتحسين صورته في واشنطن. وقال فلوريندو تشيفوفوت، مدير مجموعة أصدقاء أنغولا والتي تدافع عن قيم ديمقراطية أقوى في أنغولا والتي يوجد مقرها في لواندا وواشنطن العاصمة، "إنه يواجه احتجاجات في الداخل. لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتنازل عن قيمها الأساسية المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان في محاولة للحاق بالركب".
وقال تشيفوفوت "تحسنت العلاقة مع الولايات المتحدة فقط في الآونة الأخيرة. تاريخيًا، كانت أنغولا تميل نحو روسيا، وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت تميل نحو الصين. واختارت الحكومة الأنغولية الأخيرة الحصول على القروض الصينية بدلاً من الحصول عليها من مؤسسات مثل البنك الدولي".
بالنسبة لبايدن، قد يُنظر إلى انتزاع أنغولا من الصين أو روسيا على أنه نجاح، لكن الخبراء يقولون إنه لا يعترف به الكثير من الأنغوليين. ويقول محللون إنه مع انتهاء فترة ولايته، ليس هناك الكثير الذي يمكن أن يفعله بايدن الآن لتعزيز إرثه الأفريقي الضعيف.
وقال هدسون إنه حتى النجاحات القليلة التي حققها تتوقف الآن على الجهة التي سيمرر إليها العصا. في حين أن هاريس قد لا تبتعد كثيرًا عن سلفها، إلا أن تعليقات دونالد ترامب بشأن الدول الأفريقية لا تزال جديدة بالنسبة للكثيرين.
ومع ذلك، فإن وعود بايدن التي لم يتم الوفاء بها ستظل دائمًا وصمة عار. وأضاف "مشكلة التوقعات التي لم تتم تلبيتها هي أنها مؤلمة أكثر من الوعود التي لم يتم تقديمها على الإطلاق. في النهاية، لن يتم الحكم على سياسات إدارة بايدن تجاه أفريقيا بقدر ما سيتم الحكم على الفجوة بين تلك السياسات والتوقعات التي حددتها الإدارة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الولایات المتحدة البیت الأبیض أفریقیا فی مجلس الأمن فی القارة ومع ذلک
إقرأ أيضاً:
البطل المنقذ وبداية الانهيار الأميركي
بالنسبة لكثير من الأميركيين المحافظين، يبدو ترامب "بطلًا مُنقذًا" في مواجهة وضع أميركي متدهور؛ وتبدو قراراته وإجراءاته ضرورية لتحقيق شعاره الذي رفعه: "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"؛ وهي إجراءات منهجية واعية، وليست مزاجية متخبطة مُستفزّة كما يتهمه خصومه.
كما أن اتخاذ نحو 200 قرار رئاسي وأمر تنفيذي خلال الأيام الأولى لولايته الرئاسية الثانية، يعكس بالنسبة لهم قدرته على الحسم ومواجهة التحديات ووضوح الرؤية، وحاجة الولايات المتحدة الماسَّة لشخصية مثله صاحبة قرارات ومستعدة لتحمُّل النتائج؛ إذ إن التدهور الداخلي بحسبهم أخذ في الاستفحال، بطريقة تجعل من علاجه بالوسائل الرتيبة التقليدية أمرًا محكومًا بالفشل.
أما مدرسة "القومية الشعبوية"، فهي مدرسة العلاقات الدولية التي يتبناها ترامب للاستجابة لتحدّي التراجع الأميركي العالمي.
ولكن، هل يستطيع ترامب مواجهة التّحديات ولعب دور "المنقذ"، أم أنه سيُسرِّع من تدهور الوضع الأميركي داخليًا وخارجيًا؟! وهل عقليته بما هي عليه، تصلح لتحسين الأمور أم تفجيرها؟!
المأزق الأميركيفي منظومة الحياة الأميركية تظهر مجموعة من الإشكالات الخطيرة تشمل تصاعد حالة الاستقطاب السياسي، والشد المتبادل بين اليمين المتشدد واليسار المتشدد، وتزايد الفجوة الاقتصادية المالية بين الأغنياء والفقراء، وتصاعد الديون الحكومية إلى مديات بدأت تخرج عن السيطرة، واتّساع المشاكل المرتبطة بالهجرة واللجوء، وزيادة مظاهر العنصرية والتوترات الاجتماعية، والعجز المتزايد لدى الطبقات الاجتماعية المتوسطة عن توفير الرعاية الصحية والتعليمية وشراء المساكن، وزيادة مظاهر العنف المسلح والجريمة.
إعلانوفي هذا المقال، نختار بعض الأمثلة؛ فمثلًا، يشعر "الأميركيون البيض"، وخصوصًا المسيحيين البروتستانت، الذين يرون أنفسهم العنصر الأساس للمجتمع الأميركي والعمود الفقري للنهضة الأميركية، بأن الهوية الأميركية أصبحت مهددة.
فعلى سبيل المثال، فقد كانت نسبة المسيحيين في الولايات المتحدة في 1970 تشكل 85% من السكان، وكان المسيحيون البيض يشكلون 80% من المجتمع الأميركي، بينما أصبحت نسبة الذين يُعرفون أنفسهم كمسيحيين هذه الأيام 62-65% فقط، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 50% سنة 2050.
أما المسيحيون "البيض" (من غير الهسبان/ اللاتينو) فقد انخفضت نسبتهم إلى نحو 40% فقط سنة 2025، (30% بروتستانت)، بعد أن كان البروتستانت يشكلون أكثر من 60% من السكان في سبعينيات القرن العشرين. وأما الكاثوليك فحافظوا على نسبتهم بحدود 23% تقريبًا (بسبب قدوم أبناء الأصول الهسبانية)؛ بينما بلغت نسبة من ليس لهم انتماء ديني نحو 30%.
ومن ناحية التوزيع العرقي، فقد كان الأميركان البيض (من غير الهسبان/ اللاتينو) يشكلون سنة 1970 نحو 85% من المجتمع الأميركي، بينما انخفضت نسبتهم سنة 2025 لتصل إلى نحو 57% فقط.
وارتفعتْ نسبة الهسبان/ اللاتينو في الفترة نفسها من نحو 5% إلى 20% (نحو 62 مليونًا)، والسودِ من 11% إلى 13% (41 مليونًا) والآسيويين من أقل من 1% إلى 7% (19 مليونًا). وهو ما يعني أنّ "البيض" قد يفقدون غالبيتهم خلال العشرين سنة القادمة.
ولذلك فلا عجب أن تصبح معركة "الهوية" وضمان استمرار سيطرة "الإنسان الأبيض" في الولايات المتحدة، معركة مركزية مصيرية بالنسبة لترامب وأنصاره، ممن يعبرون عن التطلعات والمخاوف، خصوصًا في الوسط البروتستانتي الأبيض.
من ناحية ثانية، فإن الهاجس الاقتصادي يشكل تحديًا كبيرًا لدى صانع القرار الأميركي. حيث بلغ مجمل الدَّين العام 36 تريليونًا و220 مليارًا، وهو ما يساوي نحو 125% من الناتج القومي الأميركي، بينما تبلغ خدمة الديون نحو 892 مليار دولار سنة 2025، وهو مبلغ متصاعد سيصل إلى 1.7 تريليون دولار سنة 2034.
إعلانويؤثر هذا الدَّين بشكل كبير على قدرة الحكومة على تمويل برامجها وخدمة المواطن الأميركي حتى في مواضيع حيوية كالتعليم والصحة والبنى التحتية وبرامج الدفاع.
وفي الوقت نفسه، تتسع الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، حيث يملك 1% فقط من السكان نحو ثلث إجمالي الثروة في الولايات المتحدة، ويملك 10% من الأميركيين نحو 70% من إجمالي الثروة، بينما يمتلك النصف الأفقر من السكان أقل من 3% من إجمالي الثروة؛ وثمة 37 مليون أميركي تحت خط الفقر، وهو ما يهدّد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وقد سُجِّلت 21.570 جريمة قتل في الولايات المتحدة سنة 2020، وهو من المعدلات الأعلى عالميًا. وتأتي السجون الأميركية في صدارة السجون في العالم من حيث عدد المساجين حيث يوجد فيها نحو مليونَي سجين، يمثلون 25% من المساجين في العالم!
ويبلغ عدد السجناء من أصل أفريقي أربعة أضعاف الأميركان البيض؛ وهي بقدر ما تعطي مؤشرات مقلقة على التفاوت الطبقي والاجتماعي، وشعور السود بالظلم، بقدر ما تدفع أعدادًا من البيض إلى التعامل مع الإثنيات والقوميات الأخرى باعتبارهم عبئًا ومصدرًا للمتاعب.
من ناحية ثالثة، يُمثل الصعود الصيني مصدر قلق كبير لصانع القرار الأميركي اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا. فمنذ 2009 بدأت الصادرات الصينية العالمية في تجاوز الصادرات الأميركية، حتى وصلت في سنة 2022 إلى نحو ضعف الصادرات الأميركية (3.6 تريليونات، مقابل 1.83 تريليون دولار)؛ ومن المتوقع أن يتساوى الناتج المحلي الإجمالي الاسمي Nominal الصيني مع نظيره الأميركي في سنة 2034، غير أنّ الناتج المحلي الإجمالي الصيني قد تجاوز نظيره الأميركي من ناحية القدرة الشرائية (PPP) منذ عشر سنوات، وهو يزيد عنه الآن بأكثر من 6 تريليونات دولار.
وقد ضاعفت الصين ميزانيتها العسكرية بنحو 800% في السنوات العشرين الماضية، مقارنة بزيادة بنحو 65% للولايات المتحدة في الفترة نفسها.
إعلانوأصبحت الصواريخ الصينية النووية الفرط صوتية تشكل تهديدًا جادًا للولايات المتحدة. وتجاوزت الصين الولايات المتحدة في براءات الاختراعات، حيث سجلت نحو 921 ألفًا سنة 2023 مقابل نحو 315 ألفًا للولايات المتحدة.
كما تمثل مجموعة البريكس: (الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا)، وتصاعد وزنها الدولي حالة قلق أميركي تضاف إلى همومها، وتراجع مكانتها العالمية.
سياسات ترامبيرى ترامب وفريقه أنه من أجل استعادة عظمة الولايات المتحدة، وتجاوز حالة التدهور، فلا بدّ من:
1. إنهاء حالة الترهل في المنظومة الإدارية والتنفيذية الأميركية، وخفض التكاليف، والحسم السريع للقرارات.
2. حماية الأغلبية البيضاء، وخصوصًا البروتستانتية، واتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بمواجهة ظاهرة الهجرة واللجوء من الأقليات الأخرى للولايات المتحدة؛ مع السعي لتحقيق تجانس ثقافي للمجتمع الأميركي.
3. حماية الأسرة و"القيم المحافظة" في المجتمع؛ ومحاربة الإجهاض، والتضييق على مجتمعات الشذوذ الجنسي والمثلية.
4. وضع القوانين بما يتناسب مع مصالح الأغلبية، وليس الأقليات، وعلى الأجانب (أي الأقليات الوافدة) أن يندمجوا من خلال قبول الاستيعاب في ثقافة "المسيحي الأبيض"، لا أن يفرضوا التعددية الثقافية.
5. تبني سياسة خارجية "قومية شعبوية "Populist Nationalism، تعطي الأولوية للسيادة الأميركية، وتطبّق سياسات حماية اقتصادية، وتُشكك في قيمة المنظمات الدولية، وتعارض العولمة والتجارة الحرة، وترفض الالتزامات العسكرية الكبيرة، وتركز على الأولويات الوطنية الداخلية وعلى المصالح الخاصة في بيئة منافسة.
وهي سياسة تجمع في بعض جوانبها سلوك "المدرسة الواقعية" و"المدرسة الانعزالية" في السياسة الخارجية الأميركية.
6. يرى ترامب وفريقه أن السلطة العالمية يجب أن تكون للأقوياء، وهم الذين يتنافسون ويتفاوضون لصناعة المستقبل، وعلى الصغار أن يتكيفوا ضمن المساحة المتاحة لهم؛ مع تجاهل القيم والأخلاق والقانون الدولي.
إعلانوهو في ذلك يُطبِّق "الداروينية الاجتماعية" القائمة على فكرة أن البقاء للأصلح والأقوى، وبناء على ذلك يرى لنفسه حق السيطرة على مناطق يَعدُّها إستراتيجية لمصالح أميركا مثل كندا، وغرينلاند، وقناة بنما. ولا يرى حرجًا من تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، حتى ولو على حساب الأمن القومي لحلفائه في مصر والأردن.
7. يسعى ترامب وفريقه لتخفيف أي أعباء دولية تتحملها أميركا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وأخلاقيًا، في مقابل خدمة مصالحها العليا وبرامج استعادة تماسكها ومكانتها.
كما تسعى لتدفيع حلفائها وأصدقائها فواتير وأثمان خدماتها، بشكل موغل في "الجشع الرأسمالي" والابتزاز السياسي والمالي، وبطريقة مُتسرِّعة، مع استخدام أدوات الضغط المتاحة لتحقيق ذلك؛ وتوفير أكبر قدر من المال بأقل قدر من التكاليف. ويبرز نموذج أوكرانيا بشكل صارخ في هذا المجال.
هل تنجح سياسات ترامب؟يجد ترامب نفسه أمام حالة تحدٍّ كبير لتحقيق أهدافه، ويبدو أن فرصه ليست مُشجّعة كثيرًا في ضوء المعطيات المتاحة؛ لكنها بالنسبة له ولمؤيديه تستحق المحاولة و"المقامرة"، في مقابل مسار التدهور الحتمي الذي يلوح في الأفق.
ويتجلى المأزق الأميركي في أن الرغبات المندفعة لترامب لا تتناسب مع القدرات الفعلية على التنفيذ، وتبقى إلى حدٍّ كبير في إطار أسلوب رجل الأعمال الذي يسعى لتحقيق المكاسب السريعة بأي وسيلة.
وربما حظيت سياسات ترامب ببعض النجاحات الآنية، غير أنها قد تتسبّب بخسائر إستراتيجية على المدى المتوسط والبعيد. وتكمن مظاهر تأزيم الوضع الأميركي المحتملة فيما يلي:
1. إن الطريقة التي يريد بها ترامب "إدارة العالم" تُنهي عمليًا النظام العالمي ودور مؤسساته الدولية القائمة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وتُسقط أي مرجعيات قانونية دولية أو أخلاقية في العلاقات الدولية.
وقد يتيح ذلك بعض مساحات المناورة لترامب، لكن الكثير من القوى الصاعدة والطامحة، أو المقيَّدة بالنظام العالمي الحالي، ستجد هي الأخرى الفرصة للتنافس والسعي لخدمة مصالحها وفرض إرادتها.
إعلانوعند ذلك لا تستطيع الولايات المتحدة الاحتجاج بأي منطق عقلي أو قيمي أو مؤسسي يمكن العودة إليه؛ وهو ما سيفتح عليها "صندوق باندورا" للمخاطر، وستضعف قدرتها على لعب أي دور مركزي في أي منظومة تَحكُّم عالمية.
2. تدفع سياسات ترامب حلفاء الولايات وأصدقاءها والعاملين تحت نفوذها، إلى الاعتماد على أنفسهم، وتقليل حاجتهم للولايات المتحدة أو الاستغناء عنها؛ وبناء علاقات دولية أقوى مع قوى صاعدة كالصين، والبحث عن مصادر جديدة للسلاح. وهو ما سيُضعف النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي الأميركي على المدى المتوسط والبعيد؛ وبالتالي إضعاف قدرة الولايات المتحدة على الابتزاز المالي والسياسي، وتراجع تأثيرها في المجتمع الدولي.
3. تفتح سياسات ترامب- أحبّت أم كرهت- فرصًا أفضل للصين والقوى الدولية الصاعدة لملء الفراغ، وتحسين فرصها التنافسية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
4. تراجع قوة الولايات المتحدة كأعلى دولة جاذبة للاستثمارات في العالم، بسبب سياسات إدارة ترامب التي تنزع الثقة في مصداقية الولايات المتحدة، وتوفيرها بيئات استثمار حُرَّة.
5. في مقابل إجراءات الحماية الأميركية وفرض الضرائب والرسوم على الواردات، فإن الدول الأخرى ستقوم بإجراءات حماية مقابلة، وترفع الضرائب على الصادرات الأميركية، مما سيرفع تكلفتها ويفقدها مزاياها التنافسية. كما ستستعيد هذه الدول جزءًا كبيرًا من خسائرها التي تسببت بها سياسة ترامب.
6. سيتزايد سعي الكثير من الدول مثل دول البريكس وغيرها لتخفيف الاعتماد على الدولار الأميركي في التبادل التجاري العالمي، وسيتزايد التأثير إذا ما قررت دول أوروبية أو الدول النفطية ذلك، وهو ما سيضعف تأثير الدولار في الاقتصاد العالمي.
7. تسهم سياسات ترامب الداخلية في ضرب البنى المؤسسية الأميركية وإضعافها، وتأجيج الرغبة لدى بعض الولايات في الانفصال عن الدولة، ولو على المستوى البعيد، مثل كاليفورنيا وتكساس.
إعلان8. ستتسبّب سياسات ترامب في الحفاظ على هيمنة "البيض" وخصوصًا البروتستانت، وفرض نموذجه الاجتماعي الثقافي بطريقة متعسفة، في تصاعد النزاع الداخلي والإشكالات الاجتماعية والطبقية، وحالة الاحتقان لدى الأقليات العرقية والدينية.
وسيتضرر عددٌ من الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة كأرض للحرية والتعددية الثقافية، التي وفّرت على مدى أكثر من مئتي عام بوتقة صهر Melting Pot للمهاجرين المندمجين، الذين يقدمون أفضل ما لديهم من إمكانات وإبداع في ضوء شعور حقيقي بالولاء والانتماء لوطنهم الجديد.
9. ترامب لا يرغب في التدخل العسكري ولا خوض الحروب، بل إن وضع الولايات المتحدة الحالي لا يعينها على التدخل العسكري الواسع المباشر.
فبالرغم من قدرة ترامب على الإضرار بكثير من الدول إذا ما اتخذ إجراءات عقابية؛ فإن قدرته على الاستمرار في ممارسة الضغوط تظل محدودة، إذا ما رغبت هذه الدول في الاستمرار في تحدي سياساته.. إذ إنه لا يستطيع في الغالب تجاوز الإجراءات الاقتصادية. وستتمكن معظم الدول من تجاوز أزماتها على المدى المتوسط والبعيد.
وفي الخلاصة، فإن سياسة ترامب هي خسارة محققة على المدى المتوسط والبعيد. وهي ستسهم في تعميق المأزق الأميركي وبمزيد من تدهور الولايات المتحدة ومكانتها العالمية، كما ستضعف تماسكها الداخلي. وإن الكثير من تهديدات ترامب مبنية على تقديرات مبالغ فيها للقوة، وعلى إيجاد أجواء ضاغطة مصطنعة في عملية "المقامرة" التي يقودها.
وفي الغالب، فإن الدول الوازنة في العالم ستسعى لامتصاص اندفاعة ترامب واستيعابها، وعدم مواجهته مباشرة؛ وستلعب معه "الشطرنج" لتحشره بعد ذلك في زاوية الخسائر ودفع الأثمان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline