حركة اللغة الشعرية في مجموعة «منطاد دائخ» لصالح العامري
تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT
«أنا
ذِئْبٌ خائفٌ
يهربُ
كلما سمعَ مزمارَ الرَّاعي»
يُعدُّ صالح العامري واحدا من الأصوات الشعرية العمانية المنفردة بنغمة شعرية خاصة، وأسلوب خاص، ولغة مبتكرة لها اشتغالاتها العميقة؛ وذلك دالٌ على ثقافة واسعة ينهل منها، وعمق اطلاع وسعة استشهاد وبلاغة تعبيرية خلابة وظّفها في تطويع النص الشعري.
في مجموعة (منطاد دائخ) الصادرة عن دار الفراشة للنشر والتوزيع بالكويت عام 2020م، يقودنا صالح العامري إلى عوالم متداخلة بين الواقعي والمتخيل، كما يَعبُرُ بنا مواضع شائكة تتشكّل منها اللغة والصورة.
تتشكّل المجموعة من (56) نصا شعريا، قسّمهم الشاعر إلى محورين اثنين: عنون المحور الأول بـ: «زهرتك الوحشية التي تفيض بالعسل وتزلزل المدينة»، فكتب في هذا المحور (6) نصوص شعرية فقط، أما المحور الآخر فسماه بـ: «منطاد دائخ» وجمع فيه (50) نصا.
تتفاوت نصوص المجموعة في الاشتغال القائم على اللغة والتكثيف الدلالي والرمزي، كما تعتمد على الحضور المكاني الذي يعد ملمحا مهما في تجربة صالح العامري في مجموعاته السابقة. كذلك نجد التعبير الدلالي عن الذات واضحا في غير نص من نصوص المجموعة؛ إذ تظهر معه دلالات متنوعة للذات المتشكّلة في النص الشعري.
إنّ المتأمل في لغة المجموعة الشعرية يجد أنّها قائمة على توليد الصور، وتكرار ابتكارها، وانزياح المعاني من خلالها إلى مساحات شعرية خصبة؛ فاللغة المستخدمة في المجموعة لغة تحيط بالأشياء، قادرة على الإحاطة بمضمون الوصف الداخلي للأشياء والأمكنة والذات المتشكّلة داخل النص.
تقودنا حركة اللغة في المجموعة إلى التعبير المكاني وارتباطه بالزمن، أو التعبير عن استدعاءات الشخصية وحضورها النصي، كذلك تُقدّم ملمحا لتفتيت الشكل الشعري، والاشتغال على القطع النثرية مقدّمة تداخلا بين مفهومي الشعر والنثر في النص الحديث.
ففي حديث اللغة عن الملمح المكاني، نجد المكان حاضرا في نصوص المجموعة بدقة واشتغال فني عالٍ، وهو ملمح مهم في التجربة الشعرية لصالح العامري، بحكم الهوية المرتبطة بالمكان العماني أو تعزيزات الثقافة الحديثة المتمثلة في ذاكرة المدن والمتشكلة في وجدان الشاعر.
هنا، نجد حضورا لمسقط على سبيل المثال في نص (ملمح مكاني)، ومعه يقوم النص باستحضار المكان العماني/ مسقط التي تمثّل في المقاطع الأولى غربة متشكّلة، ثم تنتقل إلى تمثيل علاقات قائمة على التشرد والضياع، ثم سرعان ما تصبح مسقط في النص عاشقة ورحلة حب يبحث فيما بينها عن صورة شعرية قائمة على علاقة مطاردة بين العاشق والمعشوق. يوجه العامري خطابه إلى مسقط في صورة أنثى، وهو تعبير استخدمه غير شاعر في خطابهم الأنثوي مازجين بين الخطاب الأنثوي الرومانسي وبين المكان، قائلا:
مسقط، يا حبيبتي المثخنة بالخمر والجراح
تعرّي هذه الليلة
استندي على الجمرة الصغيرة في خاصرة الأسلاف
اركضي بي في الطرقات مجنونة بالشهاب المنفجر الذي يحتطب الأفق،
اندفعي في الكتب الملدوغة بالألحان
اقرئي وجهي ووجهك على بصيص الحانة المخمورة
كما تستحضر اللغة المكان البعيد في نص (شرفة جورجية) محاولا تقريب المسافات البعيدة، فاللغة تعمد إلى تقريب البعيد، واقتران العالَمِ الشعري بالمكاني، يقول:
صباح الخير
أيتها الشرفة الحبلى بالكنز
أيتها الغجرية المولودة على سفوح القوقاز
صباح الخير
يا شجرة الدردار الناعسة
أيتها الملكة المتوجة في الأفق
أيتها الشعلة الخضراء
المتفشية في موسيقى الأزمنة
وقلائد القصائد
لم تكن لي شرفة من قبل
أحلم فيها بعرائس الفجر
وظلال المسافرين
لم تكن لي أرجوحة صغيرة
أقع منها على اللهفات والأناشيد الرعوية
لذا سأحملكما معي
إلى الصحراء
إلى البحر
إلى قلبي
سأعزف بكما الليل والظلال
مرتعشا بالحنانات
التي هبت فجأة من أعالي الجبال الجورجية
وهي تعزف الألم والنصر
الرقة والكبرياء
الزجاج والفولاذ
الأنوار العارفة
والنيران المقدسة.
هذه المسافات التي يحاول الشاعر التقريب بينها لا تخلو أن تكون مسافات زمنية أيضا، فالمسافة بين الماضي والحاضر تتمثل في المسافة بين القرية التي تركها وبين المدينة التي اختطفته منها؛ لذا جاءت أول ثلاثة نصوص في المجموعة تشي بروائح التصادم بين المكان الأول والمكان الحديث، وإن لم يكن التعبير المكاني حاضرا بصورة مباشرة، يقول في نص (نبوءة):
مذ كنت طفلا،
يشتبك مع أقواس قزح الأكوان
يقفر غزلان الكلمات
أدركت أنني واقع، لا محالة،
في عين عصفورك المشاغب
في هوائه المجدول سهما من لهب
لحنا سيالا بالربيع والقمح الذهبي
مذ كنت بعيدا جدا،
في آخر القرى وفي أقصى الآبار،
كنت أنتظر، على الكرسي البوهيمي،
قطار صباحك الذي تتعالى من نوافذه
صيحات مزامير البن
وأغنيات الأشواق العارية
كنتُ، هناك مع كسرة خبزي اليابسة،
أصوب عيني جهة لؤلؤتك المظفرة
وهي تتنزل في بحري اليتيم
هذا الحنين اللغوي إلى المكان البعيد/ القرية المتمثل في ألفاظ: (القرى، البنّ، كسرة الخبز، الآبار، العصفور، القمح، الطفولة) يقابلها طابع التحديث للمدينة، وألفاظ مقابلة لما يُتخيّل في مقابل القرية، عندما كتب نصه (رقصة) قائلا:
لا زمن لي إلا دورتك المجنونة في قلبي
لا دوار لي إلا أرضك الموارة بالأعياد
لا سكرة لي
إلا حاناتك التي بلا سقف ولا قوانين
أنت الرقصة، التي تقودني في سلالم الغيب
إلى نشيد المجرات
أنت المجهول المندفع كـ «غراديفا»،
في وثبة السر،
أنت الصندوق المكنون
الذي يتفتح على اللذائذ المختلسة
بينما الرمان ينبجس في معدني
والقمر يندلع بالصور الوحشية
بالعشتارات الساهرات على الحصاد
الناجيات من أي طوفان غابر أو قادم.
ثم يعود في نص (هدب) إلى المزج بين الذاكرتين والصورتين وكأنه في مرحلة التشظي الكبير بين عاطفتين، يقول في هذا النص:
هكذا وجدتني، رغم أنف المصائر،
مقيما في كوخك المقمر الذي تجتازه ظلال الصفصاف
مرابطا عند الجسر المؤدي إلى رعشتك منهوبا في هدب عينيك
مشتعلا كنهر من حنين جارف
إلى أطيافك المتناسلة في البراري
أطيافك العارية
حديقة محزومة بالبروق
التي تصرع الفرسان.
وهنا يذكّرنا العامري بالسياب على سبيل المثال، الذي لم تستطع بغداد أن تنسيه جيكور القرية الصغيرة، وظل محافظا على ذاكرته، حتى توغّلت تقاطعات الغربة والقلق من المكان الحديث في نصوصه الشعرية.
كما تقودنا اللغة إلى شخصيات مختلفة في مجموعته، موظّفا لها التوظيف القائم على إنتاج الدلالة التي تتناسب وهذه الشخصية؛ حضرت عائشة ومريم حضورا عمل على توسيع دلالات النص ومنحه بُعدا رمزيا تأويليا حيث تتعدّد الصور وتتجانس مع المفردات، كما حضرت شخصية الطفل القرصان واصفا له:
بعد أن تركتموني وحيدا هناك
في تلكم الأراضين الحيزبون
في تلك الجبانة الموحشة
تضرعت للشجرة أن تُرضِعني من ثديها المشوك
للأغصان الرطبة أن تسعطني بلعابها
للظلال أن تنحني على أسناني اللبنية
للشمس أن تغذي عظامي بالجمرة التي لا تنكسر أخلاقها المشاغبة
للغابة أن تنسجني على هيئة مقلاع أو كرسي ذي جناحين
بعد أن تركتموني هناك بذرة صغيرة
كادت الريح المجنونة أن تأخذني رافعتها إلى الهاوية
الشلال الأهوج أن تدهسني مركبته المسرعة
البركان ذو العين الواحدة أن تسحبني عضاءته بلسانها الطويل
لكنني - أيها السم، أيتها المكيدة - تشبثت بغريزة النمور
التي تنشب أظافرها في أراجيح الزمن
احتميت بهواء الطائر
كي أرتفع في الأفق
غراما أو لوعة ممطرة
قلت لجسدي الضئيل أن يتربى على العسل والجراد
لكي ينمو قرصاني
قلت لعيني أن تبرقا
كي أحتمي بالأهلة والأعاصير
قلت لصرختي المنسية
أن تزرع بستانها في الأرض التي تتخرب أشواقها ومآقيها
قلت لعزلتي المجيدة
أن تكون متاريسها أجنحة...
نلاحظ اشتغال النص على رموز متعددة تعطي النص مساحة في التأويل والاتساع الدلالي؛ فشخصية الطفل القرصان تجمع بين نقيضين: الطفولة المتمثلة في البراءة واللعب وحب العالم، كما تجمع صورة مخيفة للقرصان قائمة على البطش والاعتداء. هكذا هي صورة الحياة، أنتج منها النص صورة متضادة للأشياء في تشكّلها، وعليه يتلاعب النص برموزه ويعمل على منحها دلالات تؤثر في التشكيل الشعري، فالأشجار لها ثديٌ تُرضع منه، فقد رضع منه الطفل الذي تُرك وحيدا في الأرض الحيزبون، واحتمى بالظلال والأغصان والشمس والغابة التي تشكّل في دواخلها عالما متخيلا يحيل على صور إنسانية.
يكرّر الشاعر عناصر الطبيعة التي يحتمي خلالها باللغة مشكّلا بُعدا تصويريا لتلك الشخصية، وهذا ما يمثّله كل من الشلال والبركان والريح في عملية البناء الشعري.
يمثّل الطفل القرصان صورة واقعية في عملية التخييل؛ لذا يظهر في شخصية الناقد للواقع، والمطّلع على العجز الإنساني. إنّ الطفل القرصان هو صورة متكررة لنا جميعا قد يرى الشاعر أنها انعكاس واقعي لصور مشاهدة:
ها أنا ذا على المشارف
أرقب عودتكم المخزية
ها أنا الذي لا تتذكرون ولا تعرفون
تقف طفولتي على ضفاف الأنهار
قرصانا من لحم ودم
ها أنا ذا تلك البذرة القديمة
التي جفت واخترقت السماء
واقفا بمرصاد الطفولة وأنغامها
كي تبتلعكم الحرب
أو يتخطفكم الطوفان،
كي تناموا قريري الأعين على مائدة الرماد أو تلفظكم السفينة،
كي يردمكم الموج أو ينهركم الفنار
بينما أنا أعزف ولع الأكورديون
وتفاحه الصباحي
قبالة مسافرين مجهولين
وطيور جريحة
تكتب الأفق.
للغة إذن قيمة كبرى في التعبير الشعري، فما تقدّمه إثارة وإنتاج هو ما يعكس التجربة الشعورية والتخيلية في العملية الشعرية. لقد أسهمت اللغة في خلق جوٍ شعري متماسك ومعبّر عن المكان والإنسان والشعر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قائمة على
إقرأ أيضاً:
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعراء في زمن السيولة التواصلية؟
لا تَقُلْ شعراً ولا تهمم به … وإذا ما قلت شعرًا فأجد
هذا ما قاله الإمام محمد بن مناذر محذرا من الخوض في غمار الشعر إذا لم يكن لدى الشاعر ملكة تمكّنه من مجاراة فحول الشعراء من جهة، ومشيرا إلى سلطة الشعر وقوة تأثيره في جمهور المتلقين من جهة أخرى. أما دعبل بن علي الملقّب بشيطان الشعر، فقد قال مبينا عزمه نظم شعر فريد ينال به إعجاب الناس، ويصل إلى أصقاع الأرض رواية وتأثيرًا وجودة:
سأقضي ببيت يحمد الناس أمره … ويكثر من أهل الروايات حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله … وجيده يبقى وإن مات قائله
الشعر كما يُقال رأس الأدب، وقد وضع الرّافعي يده على مكمن النبوغ في الأدب وسرّه حين قال في كتابه (وحي القلم): "سِرّ النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا، وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة، ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مر كالنيزك وخلّف كل هذا الضجيج.. الغياب المدوي لتيسير السبولlist 2 of 2استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بالغونكور الفرنسيةend of listويؤكد ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" هذه الفكرة بقوله "إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن".
هذا الكتاب حظي بانتشار واسع وقبول حسن، مما دفع العلماء لامتداحه كابن خلدون إذ قال: إن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله (الجزيرة)إذن يمكننا القول إنّ عنوان النبوغ والفرادة والتميّز في الشعر هو التوليد، فبقدر ما يكون الشّاعر قادرًا على تطويع لغة النّاس العاديّة لتوليد معانيَ تبهرهم ويفغرون أفواههم عند سماعها يكون شاعرًا حقيقيا.
لماذا يتردّى الشعراء ويفقد الشعر بريقه؟لم يكن للشعر لدى العرب قديما منازعٌ، وكان بمنزلة تخوّله رفع أقدار الناس أو الحطّ منها، وكان نبوغ شاعر في قبيلة ما مدعاة فخر وفرح عريض، وقد عبّر أبو عمرو بن العلاء عن أهمية الشعراء لدى العرب فشبّههم بالأنبياء في قبائلهم، ثم ذكر بعض الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانتهم لدى القبائل العربية عامة؛ إذ قال:
"كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم حتى خالطهم أهل الحضر فاكتسبوا بالشعر فنزلوا عن رتبهم، ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بتهجين الشعر وتكذيبه، فنزلوا رتبة أخرى، ثم استعملوا الملق والتضرع فقلوا واستهان بهم الناس".
إذن، كان للشاعر مكانة مهمة تقترب من حدِّ التقديس كالأنبياء، إذ كان للناس لهم حاجة لأنهم يمثلون لسان قبائلهم، يقيدون المآثر ويُخوّفون الأعداء من جهة، وكانوا يتمتعون برؤية خاصة للكون ويذودون عن أقوامهم وقبائلهم بالكلمة من جهة أخرى، غير أن مكانة الشعر والشعراء تراجعت حين خالط أهلُ البادية أهلَ الحضر وصاروا إلى التكسّب بالشعر، فغدا وسيلة نفع شخصية لا جمعية.
ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بالتقليل من شأن الشعر والشعراء عامة بعد أن كانوا بمنزلة الأنبياء، وذلك بوصف معظمهم بالغَيّ والضّلال والنفاق واستثناء القلة الصالحة، ثم تحوّل الشعر بعد ذلك في العصور الإسلامية اللاحقة إلى أداة للتملّق والتضرع والشكاية والتسول والاستعراض الفني؛ فحطّ ذلك كلّه من مكانته وأُزيح الشعر عن عرشه الذهبي لدى المجتمع العربي آنذاك.
وكذلك عبّر ابن رشيق عن أهمية الشعر والشعراء لدى العرب قديما، مستشهدًا بسعادة أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فقال موصّفا حال القبائل العربية في الجاهلية:
"فإذا نبغ في القبيلة شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج".
على أن كلام ابن رشيق هذا لا يُؤخذ على محمل توصيف الواقع والحقيقة تصويرا حرفيا، إذ لم تحدثنا كتب الأخبار فيما أعلم عن احتفال أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فالأمر مدعاة فخر وسرور كبير، غير أنه يحمل وجوهًا أخرى؛ فعلى الرغم من أن الشاعر يذود عن عرض قبيلته ويرد على أعدائها ويرفع شأنها بشعره الرصين ويقلل من شأن خصومها ومُبغضيها، ويترنم ذووه وأبناء قبيلته بجميل شعره ويتحمسون وينقادون وراء كلماته إن وافقت مصلحة القبيلة ورأي أسيادها، فإن نبوغ أحد أفراد القبيلة بالشعر لا يجعله سيدًا فيها إذا لم يكن له من نسبه مساعد ومعين، وعنترة بن شداد خير مثال على ذلك.
كما أن نبوغ شاعر في القبيلة لا يجعل كلامه مسموعًا مطاعا إن لم يكن من الأساس سيدًا أو من أبناء الرؤساء والوجوه الكبيرة في القبيلة مثل كليب بن ربيعة وعمرو بن كلثوم ودريد بن الصمة وغيرهم، فإذا وافقت موهبة الشعر نسبًا عريضا في القبيلة كان فوزًا عظيما بالنسبة لهم، وإلّا فإنه محض شاعر يذيع صيته بقدر خدمته لأبناء قبيلته وافتخاره بهم وتقديمهم على مَن سواهم، وبقدر قدرته على إغاظة أعدائهم بشعره.
وقد يكون النبوغ بالشعر سلاحًا ذا حدّين إذا لم يوافق أهواء القبيلة وتوجّهاتها الفكرية وسلوكها العام في تعاملها مع القبائل الأخرى، كالشاعر الغلام القتيل طرفة بن العبد مثلا؛ كان شاعرا فذًا لكنه كان شابا عابثا متمردا، وكذلك عروة بن الورد الشاعر الصعلوك.
ومما لا بدّ منه عند الحديث عن تردّي مكانة الشعر إلى جانب ما قاله المعرّي آنفا ملاحظة طبيعة المجتمع وتحولاته، فعندما كانت الطبيعة العسكريّة تغلب على المجتمع، وعندما كانت ثقافة الإغارة هي السائدة، كان الشعر متسيّدًا على الخطابة التي يحتاجها النّاس بشكل أكبر في حالات السلم والاستقرار المجتمعي، وقد عبّر المعري عن ذلك فيما ينقله عنه الجاحظ في "البيان والتبيين"، إذ قال:
"كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"
على أن أساس هذا التفاضل ليس فنيا، بل يقوم على أسس موضوعية تستند إلى مدى الحاجة إلى الفن الأدبيّ في الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري.
مراتب الشعراء وأثر تردي الشعر في التقسيمتحدث الشاعر عبد الرّازق عبد الواحد في إحدى مقابلاته عن موقف طريف حدث في مجلس الجواهري الذي كان يضمّ كبار الشعراء؛ فقال: كان كبار الشعراء يهابون أن يلقوا الشعر بين يدي الجواهري في مجلسه، فحدث يومًا أن دخل شاب متحمّسٌ إلى المجلس لا يعرفه منّا أحد ولا يعرفه الجواهري، ومن دون أن يستأذن بدأ يلقي قصيدة بين يدي الحاضرين، وكانت ركيكة ضعيفة، وعندما انتهى منها وقبل أن ينطق أحدنا بكلمة، بدأ بإلقاء قصيدة ثانية، فلمّا انتهى سأل الجواهري عن رأيه بما ألقاه من الشعر؛ فقال له الجواهري:
"يا بُنَيّ الشعراء ثلاثة؛ شاعر عظيم، وشاعر، وحمار، أنا شاعر، بقي شاعر عظيم وحمار فاقتسمهما أنت والمتنبّي كيفما تشاء!"
ومثل هذا كثيرٌ في كلام الأقدمين قبل المعاصرين، ومن طريف ما قيل في تقسيم الشعراء:
"الشعراء فاعلمنَّ أربعة
فشاعر يجري ولا يُجرى معه
وشاعر من حقه أن ترفعه
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر من حقه أن تصفعه".
فالشعراء ليسوا سواء لدى الناس وفي موازينهم، ويُنظر إلى قبول الناس للقصيدة وتصديقهم لما جاء فيها من مدح أو هجاء وفقا لقبولهم لقائلها وتصديقهم له في أحيان كثيرة، وبحسب موقفهم من المقول فيه في أحيان أخرى، وقد يخضع موقفهم لتقييم القائل والمقول فيه والمقول نفسه، لكن مما لا خلاف فيه أن للشعر فيما مضى سطوة كبيرة على أفهام الناس وآرائها، وقد قال ابن رشيق القيرواني متحدثا عن قوة الشعر وتأثيره الكبير في الناس:
"إنما قيل في الشعر: إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدَّنيّ وأدنى مروءة السَّريّ"
ويفسر هذا القول بقدرة الشعر على رفع مقام الإنسان الخامل الذكر وتصديره، وفسر وضع الشعر للمرء وحطه من شأنه مستشهدا بالنابغة الذّبياني الذي مدح النعمان بن المنذر ملك المناذرة، وتكسّب بشعره عنده وتواضع له مدحًا واعتذارا، فحط من شأن نفسه وهو من أشرف بني ذُبيان ومن شعراء المعلقات المشهورين.
وذهب ابن قُتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" إلى تقسيم الشعر إلى أربعة أضرب؛ أولها ما حسن لفظه وجاد معناه، وثانيها ما حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك طائلا، وثالثها ما جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، ورابعها ما تأخر لفظه وتأخر معناه، وضرب مثلاً لكل نوع منها.