د. حامد بن عبدالله البلوشي

Shinas2020@yahoo.com

استخلف الله تبارك وتعالى الإنسان في أرضه، وجعله مكرمًا ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، وحمله مسؤولية إعمار الأرض، وأمانة إصلاحها.

وبهذا أصبح الإنسان منذ أن خلقه الله -عز وجل- يتحمل المسؤولية المجتمعية، ويتوارثها جيلًا بعد جيل، ينجح تارة، ويفشل تارات، ويصلح حينًا، ويفسد أحيانًا.

هذا المخلوق الإنساني الكريم لا يمكنه أن يعيش وحيدًا على الأرض، فهو مخلوق اجتماعي بفطرته، يسعى إلى التكافل والتعاون بين الأفراد والمجتمعات، ويبحث عن بيئة هادئة عادلة تضمن الحياة الكريمة للجميع، ورغم ذلك فإنه يفتقد إلى قيم التضافر والتسامح في الكثير من الأوقات، وفي العديد من الأماكن، ولهذا فقد وجد ضالته في المسؤولية المجتمعية التي هي جزء جوهري، وعنصر أساسي من نسيج حياته، فإذا فقد تلك المسؤولية؛ فقد الحياة ومعناها.

إن المسؤولية المجتمعية ليست مجرد نشاط هامشي، أو فعالية إضافية، أو إجراءات اختيارية يقوم بها البعض في أوقات الفراغ، وتتبناها المؤسسات حين تنتهي من أمورها الأساسية، أو تحرص عليها الهيئات إذا سمح لها الوقت بذلك، بل هي جزء لا يتجزأ من واجبهم نحو المجتمع، وتعبير حقيقي عن وعي الأفراد والمؤسسات والشركات والهيئات بأثر ما يقومون به، وما يتبنونه، نحو مجتمعهم وأمتهم، ويدركون نتيجته الحتمية على الاقتصاد، والبيئة، والمجتمع، ويفخرون كل الفخر بإسهامهم الجميل في توثيق عرى الوطن، وتقوية اللُحْمَة الوطنية، وزيادة التماسك المجتمعي، وتعزيز استقرار البلاد.

إنَّه سلوك متبادل، وشعور مشترك، وجسر بين طبقات وشرائح المجتمع المتنوعة، وحل جذري لتقليل الفجوات والتفاوت بين مكونات المجتمع، وحماية للموارد الطبيعية، وضمان استدامتها للأجيال القادمة.

ولذا؛ فإن البواعث إلى الدفع بمفاهيم المسؤولية المجتمعية كمفهوم وكممارسة؛ لا تقتصر على المتطلبات التي تفرضها الدول، بل هي أساس جوهري في أصل المعاملات، ومع اشتداد الأزمات، وتعسر الظروف؛ وصعوبة الحياة، تبرز المسؤولية المجتمعية كداعم ومحرك لمعالجة الثغرات التي تفرزها الأزمات؛ بل إن المسؤولية تتخطى تلك الفرضية في بعض الأحيان.

لذلك تكثر في الآونة الأخيرة الدعوات لأن تكون المسؤولية المجتمعية عملا مؤسسيا بامتياز، لاسيما في ظل الأزمات التي تعصف بالاقتصاديات على مستوى العالم كله، وتطحن المواطنين، وتؤثر بشكل كبير على نسيج المجتمعات وترابطها، فالمسؤولية المجتمعية قبل أن تكون ممارسة حديثة في ظل الاقتصاديات المعاصرة؛ فهي فكرة لها امتدادها في أصل المعاملات الشخصية بين الأفراد والمجتمعات والدول، فهي قيمة دينية أصيلة تتجلى في عدة مستويات، فالأفراد مطالبون بتقديم مصلحة المجتمع على مصالحهم الشخصية، حتى يتمكن كل واحد منهم من التعايش سلميا مع مجتمعاته، كما أن المجتمعات هي الأخرى مطالبة بالتعاضد، والتراحم، والتضامن، والتكافل، والسعي لتفريج الكربات، وإغاثة الملهوف، والتيسير على المعسرين، وقضاء حوائجهم، ومن جهة أخرى فإن الدول والحكومات مطالبة بالإنفاق على المجتمعات، وضمان العيش الكريم لشعوبها، ولذا فإن المسؤولية المجتمعية مسؤولية مشتركة،  وتأخذ أشكالا متعددة على مستويات الفرد والمجتمع والدولة، كما أن هذا التأصيل التشريعي للمسؤولية المجتمعية يمكن أن يتوسع ليشمل المسؤولية المجتمعية للشركات كذلك، فالشركات مطالبة بإبداء أقصى درجات التمكين والمسؤولية، وإظهار كامل الحرص على مصلحة موظفيها، وعمالها، ومنتسبيها، وعدم مصادرة حقوقهم، وتحسين بيئة العمل الداخلية، والتي تقوم على العدل والمساواة، مصداقا لقوله تعالى: )وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم(، أما مسؤولية الشركات تجاه المجتمع؛  فالمبدأ الذي أقره الرسول ﷺ في الحث على التعاضد بقوله: "خيركم خيركم لأهله"، وغيرها من الاستدلالات  التي تتجلى فيها مسؤولية الشركات تجاه الدولة، والبيئة، والمستهلك، والتي لا يتسع المجال لذكرها.

فإذا نظرنا نظرة تأصيلية؛ نجد أن المسؤولية المجتمعية قد ظهرت في الإسلام مع بزوغ فجره، ومع بعثة النبي محمد ﷺ، فهي واجب ديني، وفضيلة إسلامية سامية، سبق الإسلام بها التشريعات والنظم المعاصرة، وعم نفعها الإنسان، والحيوان، والشجر، والطبيعة، والبيئة، بل شمل كل ما يحقق الخيرية للبشرية جمعاء، ويمنع عنها الأذى، ويحفظ للمجتمع أمنه، ورفعته، واستقراره، وتطوره، ونماءه، فيقول الله عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ﴾، ولم يقتصر نطاقها على المسلمين فحسب؛ بل شملت غير المسلمين كذلك. قال الله تبارك وتعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ﴾.

وينطلق المؤمن للقيام بأعمال الخير والبر وأداء هذه المسؤولية ابتغاء الأجر والثواب من الله عز وجل، بعيدا عن الرياء، والشهرة، والسمعة.

وتراعي المسؤولية المجتمعية في الإسلام حاجات الجسد والروح، وتشمل الحاجات النفسية للفرد والمجتمع، وتشمل كل ما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع والبيئة.

وتعني المسؤولية المجتمعية في الإسلام؛ قيام كل فرد يعيش في هذا المجتمع بواجبه تجاهه، وأن الجميع يشترك في تحمل هذه المسؤولية ولا تقتصر على فرد بعينه؛ فالإسلام لم يحصر الإحسان في بذل المال وحده، بل جعل كل عون يُقدَّم لمحتاج، وكل منفعة تعود على المجتمع أو البيئة، نوعًا من الصدقة التي ينال صاحبها الأجر والثواب. فقد قال النبي الكريم ﷺ: «لقد رأيت رجلًا يتقلَّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين». هنا نجد الدعوة واضحة إلى الاهتمام براحة الناس، وإزالة الأذى عنهم، فما أعظم الإسلام في توجيهه نحو الخير بكل صوره. ويحثُّ ﷺ أمته على قضاء حوائج الناس وتفريج كروبهم، والستر على من يستحق الستر، معتبرًا هذه الأعمال المعنوية من أعظم ما اهتم به الإسلام، فيقول ﷺ: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كُرَب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كُرَب يــوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستــره اللــه يــوم القيامة». فالمجتمع في الإسلام أشبه بجسد واحد، يتألم لألم أفراده، ويتفاعل مع آلامهم. ولقد عبَّر النبي ﷺ عن هذه الوحدة قائلًا: «مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد: إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». وفي تصوير آخر للتعاون بين المؤمنين، يقول ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا»، في إشارة بليغة إلى التكافل والتآزر الذي يرسخ بنيان الأمة الإسلامية.

وقد وضع الإسلام أسسًا راسخة للمسؤولية المجتمعية، فالقيم الإسلامية تحث على التعاون، والتكافل، والإحسان إلى الآخرين، وكلها قيم مرتبطة بشكل مباشر بالمسؤولية المجتمعية ، وقد عاب الله -عز وجل- على بني إسرائيل قسوة قلوبهم، وإهمالهم حقوق المسكين، واليتيم: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ والمتأمل للآية الكريمة يجد أنها دعوة إلى الإكرام التي هي أوسع كثيرًا من فكرة الإطعام أو الإنفاق، فهي دعوة نفسية، ومادية، ومعنوية، فاليتيم في حاجة إلى لمسةٍ حانية، ونظرة رحيمة، ومشاعرَ فياضةٍ، كما أنه نداء من أجل التحاض والتشجيع على طعام المسكين، والتفكير الجماعي، وليست فقط الإطعام الفردي، كما أنها ليست دعوة للأغنياء والقادرين فحسب، لكن الجميع يعمل، ويجتهد، ويبذل، ويقدم قدر استطاعته.

وإدراكًا من المجتمع الدولي والمؤسسات العالمية للأهمية المتزايدة للمسؤولية المجتمعية في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي يواجهها العالم اليوم. وفي استجابة لمقترح تقدمت به الشبكة الإقليمية للمسؤولية الاجتماعية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فقد خصصت الأمم المتحدة يوم 25 من سبتمبر يومًا عالميًا للمسؤولية المجتمعية. هذا اليوم يهدف إلى الاحتفاء بالإنجازات، ومراجعة المستجدات، وزيادة وعي الأفراد والمؤسسات حول دورهم تجاه المجتمع والبيئة، فضلًا عن تعزيز الجهود الرامية إلى تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية في إطار الاهتمام الدولي المتزايد بالتنمية المستدامة، وحماية حقوق الإنسان والبيئة. حيث يشكل هذا اليوم فرصة لتسليط الضوء على أهمية تبني الشركات والمؤسسات لممارسات مسؤولة تجاه المجتمع.

في سلطنة عُمان، تشكل المسؤولية المجتمعية جزءًا أصيلًا من ثقافة المجتمع وتراثه الاجتماعي. فهي إحدى القيم الراسخة التي يتحلى بها العمانيون عبر تاريخهم الطويل، وتعبر عن روح التعاون والتكافل الاجتماعي التي تجمعهم كالبنيان المرصوص، في أسمى صور الوحدة الوطنية والتراحم. فالمسؤولية المجتمعية في السلطنة ذات جذور عميقة، وتوازن بين متطلبات البيئة والاقتصاد والمجتمع. ومن الجدير بالذكر أن سلطنة عمان قد تبنت أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أقرها العالم، واعتمدها قادة الدول في سبتمبر 2015، ضمن خطة التنمية المستدامة 2030، ودمجتها في رؤيتها الإستراتيجية "عُمان 2040". هذا الاتساق بين الأهداف العالمية والتوجهات الوطنية يعزز الجهود التنموية في السلطنة.

ويؤدي القطاع الخاص والشركات الحكومية في عُمان دورًا محوريًا في دعم المسؤولية المجتمعية، ليس فقط كواجب أخلاقي ووطني، بل كمساهم فاعل في تحقيق التنمية المستدامة. وتظهر هذه الجهود في المبادرات والبرامج التي تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة، وتعزيز الاقتصاد الوطني، والحفاظ على البيئة، من خلال العمل المشترك مع المجتمعات المحلية، التي تُعد العمود الفقري للاقتصاد الوطني.

لقد آمنت القيادة الحكيمة بأن النهضة المرجوة، والتقدم المنشود، والتطور المأمول؛ لا يتحقق بالنمو الاقتصادي فحسب؛ بل من خلال التكافل الاجتماعي، والتعاون المشترك بين جميع مكونات المجتمع، قيادة وشعبًا، قطاعًا خاصًّا وقطاعًا عامًّا، مقيمًا وزائرًا، موظفًا وصاحب مهنة، رجلًا وامرأة. فقامت العديد من الشركات والمؤسسات على أرض السلطنة بتبني تلك الممارسات المسؤولة، وقدمت لها الحكومة الرشيدة الكثير من الدعم لبرامجها الاجتماعية والبيئية.

إنه شعور محمود، وسلوك قويم من تلك الشركات الكبرى، وهذه المؤسسات الإيجابية، لتعزيز التنمية المستدامة، ولا تزال قافلة الخير تسير، ومسيرة العطاء تتوالى، وركب الإحسان يتحرك، والتسابق في عمل الخير متواصل من الجميع، فقد أصبحت المسؤولية المجتمعية جزءًا أساسيا من إستراتيجيات تلك المؤسسات والشركات.

وقد نادى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بمضاعفة جهود القطاع الخاص في التنمية، مشيرًا إلى الدور الحيوي الذي يلعبه في ديمومة النشاط الاقتصادي وتوفير الخدمات للمواطنين والمقيمين. حيث قال جلالته: (كما لا يفوتنا الإشادة بالقطاعات المدنية، الإنتاجية منها والخدمية، التي تحرص على ديمومة النشاط الاقتصادي، وتوفير الخدمات اللازمة للمواطنين والمقيمين على هذه الأرض الطيبة، وكذلك القطاع الخاص الذي نُقدّر دوره في التنمية، وندعوه لمضاعفة هذا الدور؛ فكلّ يد تبني عُمان لها منا كل التقدير والامتنان)، إن تعزيز هذا الدور اليوم بات أمرًا ضروريًا في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها السلطنة والعالم، مع التأكيد على أهمية الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتحقيق الطموحات المنشودة.

ما أحوجنا اليوم ونحن نعيش هذه النهضة المتجددة بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- أن نشارك جميعًا في مسيرة النهضة والبناء لهذا الوطن المبارك المعطاء على هذه الأرض الطيبة المباركة، كل من خلال موقعه ومسؤوليته، مجسدين أرقى معاني المواطنة الإيجابية؛ والمسؤولية الوطنية، من أجل مستقبل مشرق بإذن الله عز وجل.

** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية الاجتماعية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية: التكفير يعدُّ من أهم العقبات التي ابتليت بها هذه الأمة

قال الأستاذ الدكتور نظير محمد عيَّاد، مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم في خطبته في "مسجد مصر الكبير" بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة الإدارية بعد ضمه دعويًّا وعلميًّا إلى وزارة الأوقاف: إن من أعظم ما امتن الله تعالى به على هذه الأمة أن خصَّها بهذا الدين القويم الذي اشتمل على الخير للبشرية عامة، وللإسلام والمسلمين على وجه الخصوص، مبينًا أنه قد اشتمل على مقاصد كلية وقواعد ضرورية تدفع إلى تحقيق المصلحة، وتمنع من المفسدة، جلبًا للخيرات للبلاد والعباد، وتحقيقًا لمبدأ الاستخلاف الذي خلق الله الناس له.

مفتي الجمهورية يلقي خطبة الجمعة من مسجد مصر بالعاصمة بحضور كبار المسؤولين مفتي الجمهورية ضيف شرف مؤتمر كلية طب الأسنان جامعة الأزهر

ثم انتقل إلى بيان خطورة التكفير الذي يعدُّ من أبرز سمات الفكر المتطرف، موضحًا أنه من أهم العقبات التي ابتليت بها هذه الأمة، وأنه من أهم العوامل التي يمكن أن تقضي على آمالها وتفتح الطريق للآلام، وتساعد الأعداء عليها، ويمكن أن تؤدي إلى هلاك العباد والبلاد.

وأوضح أنه يجب ألا يُحكم على الإنسان بالكفر إلا بقرينة واضحة أو برهان ساطع، ويكون ذلك من خلال العلماء مع انتفاء الموانع كالجهل أو الخطأ أو الإكراه أو التأويل، وهذا منهج الأزهر الشريف. 
كما أشار فضيلته إلى جملة من أهم الآثار الخطيرة التي تعود على المجتمعات من جرَّاء التسرع في إصدار الأحكام على الناس وتقسيمهم دون حجة أو بيِّنة، مبينًا أن في هذا انتهاكًا لحرمات الناس، ومؤكدًا أن هذه قضية خطيرة حذَّر منها الإسلام، ونبَّهَ عليها لما يلزم فيها من مفاسد، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا...»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».

كما أكد أن هذا الفكر المتطرف يعمل على استباحه المال والعرض تحت مزاعم واهية، وأقوال فاسدة، لا يراد من ورائها إلا التطاولُ على النفس والمال والعرض، وهي مقاصد ضرورية في الإسلام، مستشهدًا في هذا السياق بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وأوضح فضيلته أن المتأمل في هذه الآية يقف على عقوبة تلو الأخرى من جراء استباحة المال والنفس والعرض، كما استشهد أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا»، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ».

التكفير والتطرف

وبيَّن أن التكفير والتطرف يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذي ينظر إلى الإنسان بكل إجلال وإعظام وإكبار وإكرام، فأقر مبدأ الحرية الدينية، وأكَّدَ أن التنوعَ والاختلاف سنة كونيَّة، ودعا إلى مراعاة الكرامة الإنسانية، وأشار إلى الوحدة في أصل الخلقة، ثم جعل التفاوتَ بين الناس مردَّه إلى تقوى أو عمل صالح، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بالتَّقْوَى».

وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذَّرَنا وهو يشير الى هذه العلامات، ويرشد إلى هذه الصفات التي يتصف بها أصحاب هذا الفكر المتطرف؛ ليحذر الإنسان منها في كل عصر، وفي كل مكان، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في بيان أوصافهم: «يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتهم، وصِيَامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّين كما يمرُقُ السهمُ من الرميَّةِ، أينَمَا لَقِيتُمُوهم فَاقتُلوهُم، فَمَنْ قَتَلَهم لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ وهو عَنْهُ رَاضٍ». 

ثمَّ أشار إلى جملة من الآثار الخطيرة لهذا الفكر المتطرف، ومنها: الإساءة للإسلام بعرضه على غير حقيقته، والدعوة إليه بخلاف ما هو عليه، بما يشتمل عليه هذا الفكر من الغلو والتطرف والتشدد واللا مبالاة، وسد اليسر أمام الناس، وهو ما يتنافى مع طبيعة هذا الدين، ويختلف تمامًا عن مقاصده ومآربه، وهذا بخلاف ما فهمه الصحابة والتابعون الذين رأوا فيه الإيمان والعدل وسعة الدنيا والآخرة، ومن آثار هذا الفكر أيضًا: أنه يؤدي إلى الفرقة والاختلاف، ويدعو إلى الانقسام والتنازع، وهو ما يمكِّن أعداءَ هذه الأمه منها، وهو ما يتنافى مع قول الله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

وحذَّر مما يتضمنه هذا الفكر الذي يصيب أصحابَه بالخلل في التفكير والسلوك، حيث إنه يُعَدُّ لونًا من ألوان الغش والخداع لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن أبرز صور هذا الغش في الدين: الاعتمادُ فيه على المظهر لا على الجوهر، وهو ما يتناقض مع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».

كما شدَّد في التحذير من جميع صور الغش، وأنه جناية على البلاد والعباد، وخيانة لله وللرسول وللمؤمنين، ومخالفة للتوجيهات الإلهية والهدي النبوي الذي يوجه إلى الأمانة والنصيحة الصادقة الخالصة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، موضحًا أن المتأمل يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرن بين مَنْ غَشَّ وبين مَنْ حَمَلَ السلاح على المؤمنين الآمنين، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ مِنَّا»، وقال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».

واختتم الخطبة بهذه النصيحة الغالية بقوله: "فما أحوجَنا أيها الأحبة إلى أن نتلاقى على هذا التوجيه القرآني وتلك المأدبة المحمدية، ننطلق من خلالها لبناء الإنسان وبناء الأوطان، والمحافظة على هذه المقاصد التي تحقق الخير للبلاد والعباد".

هذا، وقد حضر الخطبة كلٌّ من السادة: الدكتور أسامة السيد الأزهري.. وزير الأوقاف، الدكتور خالد عبد الغفار.. نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان، والفريق كامل الوزير.. نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير النقل والصناعة، الدكتور إبراهيم صابر.. محافظ القاهرة، الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني.. وكيل الأزهر الشريف، وسماحة السيد الشريف محمود الشريف.. نقيب السادة الأشراف، وسماحة الدكتور عبد الهادي القصبي.. شيخ مشايخ الطرق الصوفية ورئيس لجنة التضامن بمجلس النواب، الدكتور علي جمعة.. عضو هيئة كبار العلماء ورئيس لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب، الدكتور يوسف عامر.. رئيس لجنة الشؤون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ، والمهندس طارق شكري.. مدير عام شركة العاصمة الإدارية، وعدد من السادة الوزراء والسفراء والمسؤولين.

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية: التكفير يعدُّ من أهم العقبات التي ابتليت بها هذه الأمة
  • وحدة السكان تقدم درع التكريم لمحافظ الأقصر تقديرًا لدوره في تعزيز المسؤولية المجتمعية
  • الجندي يطلق حملة لإعادة إحياء قيمنا المجتمعية وتنشئة الصغار عليها لدعم خطة الدولة في بناء المواطن المصرى
  • أورنچ مصر تواصل ريادتها للمسئولية المجتمعية بإنجازات حافلة في 2024
  • برلماني يطلق حملة لإعادة إحياء قيمنا المجتمعية وتنشئة الصغار عليها
  • النائب حازم الجندي يطلق حملة "بأخلاقنا نبني مستقبلنا" لإعادة إحياء قيمنا المجتمعية
  • لدعم خطة الدولة في بناء المواطن.. النائب حازم الجندي يُطلق حملة لإعادة إحياء القيم المجتمعية وتنشئة الصغار عليها
  • مجمع إعلام الغردقة ينظم ورشة عمل للتوعية بأهمية التصدي للشائعات
  • أورنج تحقق إنجازات شاملة في المسؤولية المجتمعية خلال عام 2024
  • أبوظبي.. اتفاقية لتعزيز الفائدة المجتمعية من خلال عائدات الوقف