د.عبد المنعم سعيد يكتب: الجماعة الدينية والدولة الوطنية.. إدخال الدين فى السياسة وضع بذور الانشقاق الداخلى وأدى لانقسام السودان إلى دولتين
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
الدولة الوطنية أو The Nation State هى الخطوة الأولى على طريق التقدم فى العالم المعاصر. هى الإطار الذى من خلاله يمكن تحقيق الاستقرار السياسى وتوفير اللحمة بين ساكنى الدولة والتى بمقتضاها يصبحون مواطنون يتمتعون بالمساواة فى الداخل والتمثيل فى الخارج انتماء إلى دولة لها وجود فى النظام «الدولي».
هذا النوع من التكوين السياسى يعد بالنسبة للتاريخ البشرى حديثا نسبيا، أخذ خطواته مع بدايات القرن التاسع عشر، وأخذ انطلاقة كبيرة فى أعقاب الثورة الفرنسية والتى من بعدها أخذت الدول «الإمبراطورية» فى الذبول والانكماش إلى داخل حدودها الأولى قبل الانتشار الجغرافي.
بعد مائة عام تقريبا انهار الكثير من الإمبراطوريات مثل النمساوية المجرية والعثمانية ودخلت تعديلات كثيرة على الدول الاستعمارية بتمثيل النظام الدولى سواء كان تحت عصبة الأمم أو الأمم المتحدة. الدولة الوطنية أو «القومية» باتت الإطار الذى تستخدم فيه التكنولوجيا لربط أطراف الدولة وحدودها من خلال الطرق والسكك الحديدية، ووسائل الاتصال الحديثة.
وباختصار بات مواطنو الدولة ممثلين لسوق واحدة تجرى فيها عمليات الإنتاج والاستهلاك والخدمات والتعليم والصحة إلى آخر ما يصيبهم من فائدة ويدفع عنهم من ضرر.
وبالطبع فإن للدولة رموزا من أول العلم إلى القيادة السياسية وما يصاحبها من قيادات تعكس حضارة الدولة وثقافتها؛ وعلاقاتها وتفاعلاتها مع دول العالم الأخرى أمنيا واقتصاديا وسياسيا. ورغم مرور أكثر من قرنين على بزوغ الدولة الوطنية فإن بناءها الوطنى أو القومى يظل دائما يعيش عمليات التحام بين المواطنين من خلال الدستور والقوانين، وربط أقاليم الدولة حال اتساعها بحيث تخفت الفوارق داخلها سواء كانت إقليمية أو طبقية.
وفى حالات كثيرة فإن عمليات الدمج والاستيعاب داخل الدولة تواجهها صعوبات كثيرة عندما تتشكل الدولة من طوائف عدة عرقية أو دينية يكون عليها جميعا التعامل مع أشكال أخرى من الحداثة التى تحقق اختراق إقليم الدولة، وتنسيق وسائل التنشئة الاجتماعية والسياسية التى تأتى من خلال التعليم والإعلام والثقافة ومؤسسات الدولة.
عملية إنضاج هذا الشكل من الدولة الحديثة كان مقصد الحركة التاريخية فى المنطقة العربية والإسلامية خلال العقود التى تلت الحرب العالمية الثانية وتحقيق الدول استقلالها من المستعمر، وهى العملية التى كانت فى حد ذاتها واحدة من أهم أسباب تحقيق الرابطة القومية.
كل هذه العمليات التى تجمع أحزابا وأشكالا مدنية كثيرة تدخل إلى الحداثة من زوايا مختلفة لم تكن محل ترحيب على وجه الإطلاق من جانب الأحزاب والجماعات الدينية وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين الذين منذ نشأتهم عام ١٩٢٨ فى مصر فإن موقفها كان مضادا للدولة المصرية الحديثة منذ بدأ خطواتها الأولى الوالى «محمد على» فى مطلع القرن التاسع عشر، وحتى العصر الحديث فى القرن الواحد والعشرين حينما أعلن مرشد الجماعة مهدى عاكف عن ازدرائه لمصر الدولة واستعداده لقبول حاكم من ماليزيا طالما كان مسلما حقا.
على أى الأحوال سوف نترك الإخوان إلى مقال قادم، بينما نركز على الجماعات الدينية فى عمومها التى تدخل السياسة العربية ليس من باب الوحدة الوطنية وبناء الدول الحديثة واللحاق بالعالم المتقدم، وإنما من خلال مظلات دينية تنتمى فى العادة إلى عالم واسع لا يأخذ الدولة موضع الانتماء وإنما الجماعة الدينية ومدى انتشارها داخل وخارج حدود الدولة.
الحالة اللبنانية تضعنا أمام حالة واضحة لنفى قومية الدولة والتبعية للأطراف القوية خارجها. فالطائفة الشيعية التى تمثل الأكثرية السكانية عددا، أو جماعة كبيرة منها بزعامة حزب الله، فقدت عفتها اللبنانية التى تربطها ثقافيا وهوية بباقى الطوائف اللبنانية وأصبحت امتدادا للعالم الشيعى ودولته القوية فى إيران أكثر من مشاركتها للبنانيين آخرين.
ولأول مرة بين الطوائف اللبنانية باتت هناك جماعة لا ترفع العلم اللبنانى وإنما ترفع علمها الخاص وفوقه صور الإمام الخمينى ومعه المرشد العام آية الله خامئنى، وأمامهما تكون الدعوات للثورة الإيرانية. «حزب الله» مع هذا المظهر أضاف إلى مخبره «التوكيل» الحصرى للأمن القومى اللبناني.
وأيا كانت الحالة فى الحكومة أو مجلس النواب أو الجيش، فإن الحزب المسلح من قمة الرأس إلى أخمص القدم بات له الحق الحصرى لقرارات الحرب والسلام بالنسبة للدولة. وهن التوافق كثيرا، ولم يبق منه إلا شكليات يحسمها «الثلث المعطل» فى مجلس الوزراء الذى له حق الاعتراض أو «الفيتو» على القرارات.
الخلاصة لم تعد ديمقراطية التوافق ممكنة؛ ومعها وجدت البلاد نفسها متورطة فى الحرب الأهلية السورية، ومعها فى الحرب الأهلية العراقية، والثالثة اليمنية. أصبح لبنان فى النهاية واقع تحت العقوبات الدولية حتى الوقت الراهن الذى تغيب فيه رموز الدولة من حكومة إلى رئيس.
حزب الله فى لبنان ليس هو المثال الوحيد على القيام بدور كبير فى عملية تفكيك الدولة الوطنية اللبنانية ومنع جروحها من الالتئام، وإنما نجد دراسة تجارب الدول العربية تحت راية ما يسمى «الربيع العربى» أن القوى الدينية وفى مقدمتها الإخوان المسلمين تسعى بقوة إلى هذه الحالة من التفكيك معتمدة أحيانا على الطوائف أو القبائل أو الأقاليم المتمايزة.
ولكنها فى أحوال أخرى تسعى إلى إخفاق الدولة فى القيام بوظائفها من خلال خلق تنظيمات وتشكيلات سياسية موازية للبرلمانات والنقابات. فوق ذلك فإنها تنزع عن الدولة أهم وظائفها وهى الاحتكار الشرعى للسلاح من خلال خلق ميليشيات مسلحة حيث أدى فقدان الدولة لاحتكارها لاستخدام القوة عقب انتشار الميليشيات المسلحة إلى تقويض الاستقرار والأمن وقدرة الدولة على بسط سيطرتها على أقاليمها.
ولعل انتشار الميليشيات المسلحة التى أخذت مسارات دينية فى ليبيا والعراق واليمن وفصائل الجيش الحر فى سوريا والميليشيات الطائفية فى لبنان خاصة حزب الله أدى لتصاعد التهديدات الداخلية التى تحيق ببقاء الدولة وتماسكها. ولكن أهم الأسلحة السياسية التى استخدمتها الحركات الدينية قام على إثارة قضية «الهوية» حيث يتفق أغلب المراقبين على أن قضية الهوية باتت مطروحة بقوة منذ الثورات العربية كأحد تداعيات الصعود السياسى للتيارات الإسلامية.
ففى مصر لم يكن باب الهوية أحد المكونات الرئيسية للدستور سوى عقب وصول التيار الإسلامى للسلطة فى منتصف عام ٢٠١٢، وذات الأمر ينطبق على الصراعات المذهبية بين الحوثيين وحزب التجمع اليمنى للإصلاح والصراع المحتدم فى اليمن.
إدخال الدين فى السياسة والاقتصاد والثقافة فى الدولة العربية أدى من ناحية إلى وضع البذور للانشقاق الداخلى، وأحيانا الحرب الأهلية كما هو واضح فى سوريا ولبنان والسودان.
ومن ناحية أخرى تحقيق درجة عالية من الانكشاف الخارجى حيث تصاعدت درجة هذا الانكشاف فى أغلب الدول العربية والذى تجسد فى الضغوط الدولية على عدد كبير من الدول العربية فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان وانتهاءً بالتدخلات الخارجية على غرار التدخل العسكرى لحلف الناتو فى ليبيا والحرب بالوكالة فى سوريا والترابط بين إيران والحوثيين فى اليمن وحزب الله فى لبنان.
لعب إدخال الدين فى السياسة السودانية سواء من قبل الإخوان من قبل قادة سياسيين تحالفوا معهم إلى تحقيق انقسام الدولة السودانية إلى دولتين واحدة فى الجنوب والأخرى فى الشمال.
ولم يمض وقت طويل على وجود الدولتين حتى بات ظاهرا أن كلا منهما بات تحت أوضاع أكثر قسوة وتفكيكا مما كان عليه الوضع إبان الدولة الموحدة. ولكن لم يكن الدور المدمر للجماعات الدينية فى بناء الدولة الوطنية ليكون أكثر قسوة من ذلك الدور الذى لعبته حركة «حماس» الإخوانية الطابع فى منع المسار الوطنى نحو الدولة، وتقسيم وحدة الكيان الوطنى الفلسطينى بين غزة والضفة الغربية. ولكن ذلك هو موضوع المقال القادم.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الدولة الوطنية الدولة الوطنیة حزب الله من خلال
إقرأ أيضاً:
مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية
الرسالة التي حملت رؤية المؤتمر الوطني المستقبلية للسودان جديرة أن تثير نقاشا واسعا في أوساط النخبة السودانية المثقفة . وقد آن لقادة الفكر في بلادنا أن يبدأوا السباق المعرفي ، وليفتحوا الأبواب لشعب السودان ليسهم في رسم استراتيجية البناء والنهضة العظيمة للأمة السودانية .
ونهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة ومعاونيها من شباب السودان بتكويناته وانتماءاته المختلفة من تضحية وفداء وثبات وصبر وعزيمة ، لجديرة بأن
تسجل في كتاب التاريخ فخرا وعزا ومجدا أثيلا للسودان ، وتترك في قلوب أعدائه رعبا ورهبة
لا يمحوها مرور الأيام والليالي . فالتحية والدعاء بعد حمد لله لكل من اشترك في معركة الكرامة بالقتال المباشر وبالإعداد وبالانفاق المادي وبالرأي السديد وبالدعاء الصادق لتحقيق النصر الخالد والمجد التليد . والرحمة والقبول من الله لشهدئنا من المقاتلين في صف القوات المسلحة الذين وهبوا حياتهم لربهم ولبلادهم العزيزة . والدعاء لكل مكلوم وكل مهموم ومظلوم وجريح ومصاب ولكل أم وأب لشهيد أو مقاتل جسور .
إن من ملامح ما بعد النصر أنها كما أنهت المؤامرة الاقليمية والدولية الكبري علي البلاد ، فإنها قد انتهت بها حقبة جيل السبعينات والثمانينات ومعظم مواليد الاربعينات والخمسينات من أبناء السودان الذين عمروا بلادهم وأداروها في تلك الحقبة . فمن عبر منهم إلي الدار الآخرة فهو رجاء الله تعالي ومغفرته ورضوانه . ومن بقي منهم فهو في فترة المراجعة والإنابة والاستعداد للرحيل ، مع بذل ما اكتسبه من تجارب الحياة العامة والخاصة للجيل الناهض بأعباء الحياة القادمة . فبتقدم العمر وبتغير الأحوال وباختلاف أهداف المرحلة وتحدياتها لم يعد هناك من يطمع من أبناء ذلك الجيل في منصب أو في قيادة أو مكسب دنيوي إلا ما ندر ، وقد عبروا عن مواقفهم هذه في مناسبات عدة . فليهنأ الذين أصابهم الوجل من عودة مشاهير سابقين إلي تولي الحكم مجددا فلا العمر ولا الرغبة ولا الأحوال تسعفهم في ذلك . ولتستعد الأجيال الناهضة لتولي مسئولية إدارة الحياة في الدولة والمجتمع بمواهبهم في العلم والمعرفة ، وليدخلوا بابتلاء الله لهم في معترك الحياة بالعزم والحزم والزهد والاستقامة ، وبحب الله وحب الوطن وحب الناس وكراهية الفساد والخيانة والجريمة .
إن النظر في أسبقيات العمل في الدولة تفرض علي المرء البدء بما هو أولي . ولا أحسب أن قضية ما تسبق قضية الأمن القومي في البلاد . فبفقدان الأمن فقد أهل السودان كل شيء ، النفس والأرض والمال والعرض والطمأنينة والتعليم والصحة واجتماع الأسرة وغيرها . لقد كان عقلاء المجتمع يطلقون المحاذير للشعب السوداني عن مخطط العدو الخارجي لاستهداف الوطن والمواطنين ، ويبينون لهم ملامح التخطيط المجرم لاحتلال البلاد ، وقد نشرت ملامحه في وسائل الإعلام الغربية باقتراب احتلال دول في المنطقة من بينهم السودان ، ولكن غفلة العامة كانت كبيرة ، وتصديقهم لوقوع الكارثة كان ضعيفا ، وحسبوها مناورات من ساسة يريدون بها التكسب ، فلم يستبينوا النصح حتي وقعت الواقعة ورأوا بأعينهم ما لم يخطر ببالهم من فظائع الحرب وقسوة المجرمين ووحشية البشر وهمجية ليست من طبائع الحيوان ، وأصبح مخطط العدو يجوس خلال ديار المواطنين العزل في القري النائية والمدن الوادعة . ولولا لطف الله وحسن تدبيره ورعايته لفقدنا أرض السودان بما تحمله من مواهب الله الثرة وعواريه المستودعة ومنائحه الدارة وخيراته الوفيرة ومساجده العامرة وخلاويه التالية لكتابه ، ولأصبح أهله مشرودين في دول لا تعرف معاني الإخاء والنصرة وحب الناس واستقبال الملهوف .
فمن أجل هذا الدرس القاسي تكون العظة للحاكم والمحكوم علي السواء بأن قضية الأمن القومي هي القضية ذات السبق في الترتيب ، بلا تراخ ولا تفريط ، ولا استهانة ولا استكانة ولا مجاملة لقريب أو بعيد أو لصديق أو عدو . فإن كان في خزينة البلاد وفي خزائن أفراد مال كثير أو قليل فهو أولا لتأمين البلاد ، والبدء بالقوات المسلحة وقوات الأمن وقوات الشرطة . إن مضاعفة الاحتياطي البشري لهذه القوات في ظل التهديد الماثل والذي لم تزدة الأيام إلا تأكيدا ، ينبغي أن يضاعف بعشرة أضعافه . والقوات النظامية تدرك كيف تفعل ذلك دون عنت ومشقة . ومضاعفة الاحتياطي البشري تظل تأمينا للبلاد من أي تمرد داخلي وأي غزو خارجي ، كما أنها سند ميسور لمواجهة الكوارث الطاريئة ، وهي أيضا مورد للمعلومات ورصد لكل نشاط تخريبي في الاقتصاد ومكافحة التهريب وتجارة المخدرات والوجود الأجنبي غير المقنن ، وفي الحيلولة دون انفجار النزاعات القبلية وفي اختراق الحدود وغيرها .
إن مضاعفة قوات الاحتياط بشريا لابد أن تصحبه مضاعفة القدرات القتالية والتأهيل الأمني والتدريب المتقدم والإعداد النوعي الذي يستجيب للتطوير الفني باضطراد كلما تطورت الأنظمة التقنية ليواكب تطورها تجاوزا للتخلف وحرصا علي التفوق المستمر الذي يفضي إلي يأس شياطين الإنس والجن من الطمع في بلادنا .
بالطبع هنا لا نتحدث عن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية والفنية ، حيث أن قادة هذه الأجهزة أكثر دراية منا ، ولا نتحدث عن إعادة هيكلتها كما كان يفعل جهلة الحرية والتغيير وعملاء السفارة الغربية وخونة الزمرة المستعبدة وأرباب اليسار المستخدم ، ونحن نعلم أن ما لدي هذه الأجهزة ما يعينها في تطوير استراتيجيتها كلما لزم الأمر . ومع ذلك نلمح ولا نفصل في إعادة النظر في الخارطة الجغرافية الدفاعية بما يعين علي قيام مدائن حضرية جديدة مزودة بوسائل دفاعية مقتدرة وقدرات انتاجية مقتدرة ووسائل اتصال عالية الجودة وصناعات تحويلية ومصدات دفاعية محكمة وخارطة دائرية متصلة لا تعين العدو علي اختراق البلاد كما فعل الآن ، وتستوعب في داخلها نخبة كبيرة من الخريجين لتقوية حصون البلاد الجديدة ، ولميلاد جيل عالم مستنفر معبأ ومقاتل ومنتج ومهتد وهاد لأمته المحفوظة بعناية الله تعالي .