جريدة الوطن:
2025-01-23@00:01:44 GMT

الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني

تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT

الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني

لا شكَّ أنَّ أيَّ تنمية وطنيَّة شاملة، ومن ضِمْنها تنمية المُجتمع المَدَني، لا يُمكِن أن تتحققَ ما لَمْ يسبقها تحقيق مستوى معيَّن من التطوُّر الاقتصادي، في وقت ما زلتُ أُصرُّ فيه على استحالة تحقيق أيِّ تطوُّر اقتصادي ما لَمْ يسبقه تطوُّر وإصلاح سياسي يبدأ بتمكين وتطوير الثقافة السياسيَّة للمُجتمع. بمعنى آخر، أن يكُونَ المُجتمع جزءًا لا يتجزَّأ من التدابير السياسيَّة التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني.


إنَّ أيَّ نظام سياسي يعيش في ظلِّ ثقافة سياسيَّة معيَّنة، هي مجموعة الاتِّجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تُعطي نظامًا ومعنى للعمليَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وتعكس نوعيَّة المناخ السَّائد وطبيعته داخل النَّسق السياسي، وعلى ذلك لا يُمكِن أن ينشطَ المُجتمع المَدَني لمجرَّد توافُر هياكل تنظيميَّة مستقلَّة من الناحية النظريَّة؛ أي وجود قوانين ومؤسَّسات عامَّة يبدو ظاهرها الاستقلاليَّة والحياديَّة، بَيْنَما يؤكِّد الواقع العملي أنَّها تعمل على احتكار السُّلطة ولا تشجِّع على حُريَّة التعبير والتفكير، بالإضافة إلى وضعها للعديد من المُعوِّقات أمام قيام المُجتمع بأدواره الفاعلة في بيئته السِّياسيَّة.
لعلَّ أبرز الآليَّات التي يجِبُ أن تعملَ الأنظمة السِّياسيَّة على تشجيعها وتمكينها ـ إن كانت ترغب في تحقيق البيئة السِّياسيَّة السليمة والتي بِدَوْرها تشجِّع التطوُّر والتنمية الاقتصاديَّة ـ هي تمكين التنشئة الاجتماعيَّة ـ السِّياسيَّة، والثقافة السِّياسيَّة الهادفة إلى إطلاق روح الإبداع والمبادرة المُجتمعيَّة، بالإضافة إلى تهيئة البيئة السِّياسيَّة والتشريعيَّة التي تشجِّع المُجتمع على الرقابة والمحاسبة والمساءلة، أمَّا خلاف ذلك فلَنْ يكُونَ سوى مضيعة للموارد البَشَريَّة والماليَّة.
ولنضرب أمثلةً لتقريب وجهة النظر السَّابقة، أيُّهم أقدر على حماية وطنه والمشاركة في تنميته الوطنيَّة ومواجهة التحدِّيات التي يمرُّ بها، ومن ضِمْنها التحدِّيات الاقتصاديَّة، هل هو المواطن المطمئن على مستقبله ومستقبل أبنائه الواثق من حكومته؟ أم ذلك الخائف القلق المُحبَط دائمًا؟ لعلَّ الجواب سهل جدًّا في السِّياق السَّابق، ولكنَّ الأهم هو الكيفيَّة التي يُمكِن من خلالها تحقيقُ وتمكينُ المواطن من الوصول إلى تلك الغاية.
مؤكَّد أنَّ ذلك لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتوفير فرص العمل لأبناء الوطن وتهيئة البيئة الاقتصاديَّة لذلك، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالحدِّ من هجرة الكفاءات الوطنيَّة والعقول العلميَّة، وتمكين حمَلة الشهادات الجامعيَّة من خدمة وطنهم، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح المجال للمواطن للمشاركة السياسيَّة في القرارات المصيريَّة، خصوصًا تلك التي تلامس حياته اليوميَّة ومستقبل أبنائه.
لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح البيئة القانونيَّة للمواطن كَيْ يتمكَّنَ من التعبير عن الرأي بِدُونِ خوف، خصوصًا حيال ثروات وطنه، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتمكين الإعلام من ممارسة حقِّ الرقابة المسؤولة، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالمحاسبة ومكافحة الفساد…إلخ.
أمْرٌ آخر مرتبط بالعلاقة بَيْنَ السِّياسة والاقتصاد بحيث لا يُمكِن أبدًا فصلهما عن بعض. ولتقريب وجهة النظر حَوْلَ ذلك أقول: إنَّ العنف ينخفض ـ كما نعلم ـ في الأنظمة السِّياسيَّة التي تعتمد الحداثة والإصلاح والتقارب مع المُجتمع وتمكين المواطن من حقوقه العامَّة في ظلِّ وجود مؤسَّسات سياسيَّة ومُجتمعيَّة تُنظِّم تلك العلاقة بَيْنَ المُجتمع والمؤسَّسة السِّياسيَّة، بالتَّالي فإنَّ انخفاض العنف السِّياسي ومعدَّلاته سيؤدِّي مع الوقت إلى ارتفاع معدَّلات التنمية الاقتصاديَّة، والعكس صحيح. فهناك علاقة تناسب عكسيَّة بَيْنَ التنمية الاقتصاديَّة والعنف؛ أي كُلَّما تزايدت مظاهر الإصلاح الاقتصادي انحسرت مظاهر العنف السِّياسي والعكس صحيح.
ومن المؤكَّد أنَّ انخفاض العنف ومستوى الجريمة يتحقق فقط في البيئة السِّياسيَّة التي يتوافر بها الأمن والاستقرار بمختلف أشكاله، وعلى رأسه الاستقرار والأمن الإنساني، في البيئة التي ينخفض فيها حجم الفساد وتتوسَّع فيها رقعة الديموقراطيَّة والمحاسبة، في بيئة يستشعر فيها الفرد العامل بالاستقرار نتيجة وجود رواتب تتناسب مع مستوى الغلاء، وأسعار السِّلع والخدمات تتناسب مع دخل الفرد.
باختصار، الإصلاحات الاقتصاديَّة، وبناء منظومة اقتصاديَّة وطنيَّة تُواكِب المتغيِّرات الحاصلة في البيئة الأمنيَّة والاقتصاديَّة العالميَّة لا يُمكِن أن يتحققَ عَبْرَ إصلاحات اقتصاديَّة مادِّيَّة بحتة، فالاقتصاد ليس قِيَمًا جامدة، بل يبدأ بالإنسان وينتهي معه، يبدأ بالقِيَم والعوامل البَشَريَّة وينتهي بها، وكُلُّ ما سبق لا يُمكِن أن يتحققَ كذلك دُونَ عبور بوَّابة الإصلاحات السياسيَّة.
إذًا لَنْ تنجحَ أيُّ إصلاحات اقتصاديَّة ما لَمْ تبدأ بالإنسان وتنتهي عِنده.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
MSHD999 @

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة السیاسی التی ی مع الم ة التی

إقرأ أيضاً:

فاطمة المعدول: «ثقافة الطفل» منظومة متكاملة لتنمية المهارات عبر حدود الكلمة

اختيرت الكاتبة والمخرجة فاطمة المعدول شخصية معرض كتاب الطفل فى الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، تقديراً لإسهاماتها الكبيرة فى أدب ومسرح الطفل، حيث قدمت أكثر من 50 كتاباً، وأخرجت مسرحيات وأفلاماً قصيرة، بالإضافة إلى عملها فى تطوير ثقافة الطفل، وقد جاء هذا التكريم ليعكس تأثيرها العميق فى تعزيز وعى الأجيال المقبلة.. وإلى نص الحوار:

كيف استقبلتِ اختيارك شخصية معرض كتاب الطفل لهذا العام بجانب الدكتور أحمد مستجير؟

- أشعر بسعادة كبيرة وشكر عميق لهذا التكريم، وأتوجه بالشكر لكل من دعم مسيرتى، هذا التكريم تتويج لرحلة طويلة مع عالم الطفل، وأدركت الآن مدى تقدير الناس لما قدمته، أشعر بسعادة لا توصف من الحب الذى أحاطنى به الجميع، كما أود أن أشكر القائمين على معرض القاهرة الدولى للكتاب، فهذا التقدير يؤكد لى أن جهودى فى مجال الطفل منذ بداياتى فى «الثقافة الجماهيرية» لم تذهب سدى، ويضىء طريقى بمزيد من الأمل والحب.

تكريمي يعكس تقديراً لمسيرة مكللة بصناعة المستقبل وكنت محظوظة بالعمل فى «الثقافة الجماهيرية»

بصفتك رائدة فى أدب الطفل، هل كان لإنجازاتك فى مجال ثقافة الطفل دور فى اختيارك شخصية المعرض؟

- أرفض مصطلح «أدب الطفل»، وأرى أن اختيارى يعكس جهودى الطويلة فى تطوير «ثقافة الطفل» بشكل عام، لم يكن التكريم بسبب كونى كاتبة فقط، بل لدورى فى دفع هذا المجال للأمام، من خلال ورش العمل والمبادرات، كما كنت حريصة على تطوير الكتابة والكتاب ذاته، مع إدراك أن الكتابة وحدها غير كافية، فسعيت لتوفير أدوات تنمى مهارات الأطفال الإبداعية، وتساعدهم فى اكتشاف أنفسهم، وهذا التكامل هو ما أسهم فى هذا التكريم.

ما رؤيتك لمفهوم «أدب الطفل» ودوره فى ثقافته بشكل عام؟

- لا يمكن حصر «ثقافة الطفل» فى تعريف واحد، فهو يتضمن مجموعة من الفنون والثقافات المتكاملة مثل المسرح والأدب والرسومات والموسيقى، ومسرح الطفل، على سبيل المثال، ليس مجرد نص، بل تجربة ثقافية وفنية تبدأ بفكرة وتنتهى بتفاعل الطفل معها، ثقافة الطفل بالنسبة لى منظومة شاملة تهدف إلى إلهام وتنمية خيال الطفل ومهاراته بطرق تتجاوز حدود الكلمة المكتوبة.

كيف ترين تطور مجال ثقافة الطفل فى السنوات الأخيرة؟

- فى البداية «ثقافة الطفل» منظومة متكاملة لإلهام الخيال وتنمية المهارات عبر حدود الكلمة وهناك تقدم فى بعض جوانب ثقافة الطفل، مثل الكتابة والرسومات التى أصبحت أكثر جذباً للطفل، لكن ما زالت هناك تحديات، أبرزها غياب قناة متخصصة للأطفال، مما يعرضهم لمحتويات غير ملائمة، بالإضافة إلى تراجع الأنشطة الثقافية التى أصبحت موجهة للنخبة فقط، ما يعكس الحاجة إلى رؤية شاملة لضمان وصول الثقافة إلى الجميع.

ما أبرز التحديات التى تواجه فنون الطفل فى الوقت الحالى؟

- تواجه فنون الطفل تحديات كبيرة، أبرزها غياب القنوات الفضائية المخصصة لهم، مما يعرضهم لمحتويات غير ملائمة، كما أن دعم الناشرين لأدب الأطفال محدود، ما يؤثر على تطور هذا المجال، إضافة إلى نقص التمويل المخصص لإنتاج الأعمال الثقافية، ما يجعلها مقتصرة على فعاليات محدودة بدلاً من أن تكون متاحة بشكل مستمر.

هل يمكن أن نرى فى السنوات المقبلة معرضاً خاصاً بالطفل فقط؟

- بالفعل تم تنظيم معارض سابقة تخص أدب الطفل، لكنها لم تحظَ بالاهتمام الكافى من الناشرين والجمهور مع مرور الوقت، أتمنى أن نرى مزيداً من التركيز على هذا المجال، خصوصاً أن المعارض تشكل فرصة رائعة لتعريف المجتمع بالكتب والثقافة الموجهة للأطفال.

وهذه المعارض يمكن أن تلعب دوراً كبيراً فى تعزيز اهتمام الأطفال بالقراءة والأنشطة الثقافية الأخرى. من المهم أن نرى المزيد من المؤتمرات والمهرجانات التى تتناول هذه القضايا بشكل جاد، حيث ستسهم فى تعزيز ثقافة الطفل وتوسيع الوعى بين الكبار أيضاً، حول أهمية أدب وفن الطفل فى بناء وعى المجتمع.

كيف أثرت رحلاتك الخارجية على رؤيتك لتطوير ثقافة الطفل فى مصر؟

- رغم أننى سافرت كثيراً لأسباب مختلفة، بعضها كان بصحبة زوجى لينين الرملى، إلا أن فكرة الطفل كانت دائماً حاضرة فى ذهنى، خلال زياراتى لدول مثل الصين وغيرها، كنت أراقب كيف تهتم هذه الدول بالأطفال، وبدأت أتعرف على ما نفتقده فى بلادنا.

ثقافة الطفل تبدأ من أرفف مليئة بالكتب فى كل قرية من قرى مصر لصناعة الفارق بالمجتمعات الريفية  

اكتشفت أن أهم ما نحتاجه هو مكتبات فى كل قرية من ريف مصر، مكتبات بسيطة لا يشترط أن تكون مبنية من الرخام أو الجرانيت، بل ما يهم هو أن تكون أرففها مليئة بالكتب المناسبة لكل الأعمار، مكتبة يمكن أن تكون وجهة لكل أفراد الأسرة، من الطفل إلى الأم إلى الجد، مكتبات تحتفى بالكتاب وتشجع القراءة من خلال مسابقات وأنشطة، لأن القراءة هى الحصن الأقوى الذى نحمى به أطفالنا من مختلف التحديات.

لطالما حلمت بمراكز ثقافية بسيطة تُبنى حول المكتبات، وكنت قد طالبت بهذا الأمر منذ أكثر من عشرين عاماً، فى النهاية، كل الاهتمام بالطفل فى الدول المتقدمة ينبع من المكتبات، وهى المفتاح لنشر الثقافة وبناء جيل واعٍ ومثقف.

مقالات مشابهة

  • فاطمة المعدول: «ثقافة الطفل» منظومة متكاملة لتنمية المهارات عبر حدود الكلمة
  • مؤسسات المجتمع المدني تواصل جهودها التنموية لدعم الأشقاء في غزة| صور
  • إدخال بعض الآليات الواردة من مصر للمشاركة في عمليات الإغاثة بـ غزة
  • مدير الإغاثة الطبية بغزة: إدخال بعض الآليات الواردة من مصر للمشاركة في إعادة القطاع الطبي
  • محافظ المنوفية يبحث مع منظمات المجتمع المدني آلية دعم قطاع غزة
  • وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تُواصل مشاركاتها في فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» 2025
  • مكتب المبعوث الأممي يعقد اجتماعا في عدن لمناقشة المخاوف الاقتصادية التي تواجه اليمنيين
  • الدفاع المدني بغزة ينشر إحصائية بأعداد الجثامين التي انتشلت في القطاع (فيديو)
  • إعلام فلسطيني: 2092 عائلة أبادها الاحتلال ومسحها من السجل المدني بغزة
  • كاتب صحفي: المشهد السياسي في قطاع غزة بات غير واضح