جريدة الوطن:
2025-03-16@05:52:52 GMT

الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني

تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT

الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني

لا شكَّ أنَّ أيَّ تنمية وطنيَّة شاملة، ومن ضِمْنها تنمية المُجتمع المَدَني، لا يُمكِن أن تتحققَ ما لَمْ يسبقها تحقيق مستوى معيَّن من التطوُّر الاقتصادي، في وقت ما زلتُ أُصرُّ فيه على استحالة تحقيق أيِّ تطوُّر اقتصادي ما لَمْ يسبقه تطوُّر وإصلاح سياسي يبدأ بتمكين وتطوير الثقافة السياسيَّة للمُجتمع. بمعنى آخر، أن يكُونَ المُجتمع جزءًا لا يتجزَّأ من التدابير السياسيَّة التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني.


إنَّ أيَّ نظام سياسي يعيش في ظلِّ ثقافة سياسيَّة معيَّنة، هي مجموعة الاتِّجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تُعطي نظامًا ومعنى للعمليَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وتعكس نوعيَّة المناخ السَّائد وطبيعته داخل النَّسق السياسي، وعلى ذلك لا يُمكِن أن ينشطَ المُجتمع المَدَني لمجرَّد توافُر هياكل تنظيميَّة مستقلَّة من الناحية النظريَّة؛ أي وجود قوانين ومؤسَّسات عامَّة يبدو ظاهرها الاستقلاليَّة والحياديَّة، بَيْنَما يؤكِّد الواقع العملي أنَّها تعمل على احتكار السُّلطة ولا تشجِّع على حُريَّة التعبير والتفكير، بالإضافة إلى وضعها للعديد من المُعوِّقات أمام قيام المُجتمع بأدواره الفاعلة في بيئته السِّياسيَّة.
لعلَّ أبرز الآليَّات التي يجِبُ أن تعملَ الأنظمة السِّياسيَّة على تشجيعها وتمكينها ـ إن كانت ترغب في تحقيق البيئة السِّياسيَّة السليمة والتي بِدَوْرها تشجِّع التطوُّر والتنمية الاقتصاديَّة ـ هي تمكين التنشئة الاجتماعيَّة ـ السِّياسيَّة، والثقافة السِّياسيَّة الهادفة إلى إطلاق روح الإبداع والمبادرة المُجتمعيَّة، بالإضافة إلى تهيئة البيئة السِّياسيَّة والتشريعيَّة التي تشجِّع المُجتمع على الرقابة والمحاسبة والمساءلة، أمَّا خلاف ذلك فلَنْ يكُونَ سوى مضيعة للموارد البَشَريَّة والماليَّة.
ولنضرب أمثلةً لتقريب وجهة النظر السَّابقة، أيُّهم أقدر على حماية وطنه والمشاركة في تنميته الوطنيَّة ومواجهة التحدِّيات التي يمرُّ بها، ومن ضِمْنها التحدِّيات الاقتصاديَّة، هل هو المواطن المطمئن على مستقبله ومستقبل أبنائه الواثق من حكومته؟ أم ذلك الخائف القلق المُحبَط دائمًا؟ لعلَّ الجواب سهل جدًّا في السِّياق السَّابق، ولكنَّ الأهم هو الكيفيَّة التي يُمكِن من خلالها تحقيقُ وتمكينُ المواطن من الوصول إلى تلك الغاية.
مؤكَّد أنَّ ذلك لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتوفير فرص العمل لأبناء الوطن وتهيئة البيئة الاقتصاديَّة لذلك، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالحدِّ من هجرة الكفاءات الوطنيَّة والعقول العلميَّة، وتمكين حمَلة الشهادات الجامعيَّة من خدمة وطنهم، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح المجال للمواطن للمشاركة السياسيَّة في القرارات المصيريَّة، خصوصًا تلك التي تلامس حياته اليوميَّة ومستقبل أبنائه.
لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح البيئة القانونيَّة للمواطن كَيْ يتمكَّنَ من التعبير عن الرأي بِدُونِ خوف، خصوصًا حيال ثروات وطنه، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتمكين الإعلام من ممارسة حقِّ الرقابة المسؤولة، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالمحاسبة ومكافحة الفساد…إلخ.
أمْرٌ آخر مرتبط بالعلاقة بَيْنَ السِّياسة والاقتصاد بحيث لا يُمكِن أبدًا فصلهما عن بعض. ولتقريب وجهة النظر حَوْلَ ذلك أقول: إنَّ العنف ينخفض ـ كما نعلم ـ في الأنظمة السِّياسيَّة التي تعتمد الحداثة والإصلاح والتقارب مع المُجتمع وتمكين المواطن من حقوقه العامَّة في ظلِّ وجود مؤسَّسات سياسيَّة ومُجتمعيَّة تُنظِّم تلك العلاقة بَيْنَ المُجتمع والمؤسَّسة السِّياسيَّة، بالتَّالي فإنَّ انخفاض العنف السِّياسي ومعدَّلاته سيؤدِّي مع الوقت إلى ارتفاع معدَّلات التنمية الاقتصاديَّة، والعكس صحيح. فهناك علاقة تناسب عكسيَّة بَيْنَ التنمية الاقتصاديَّة والعنف؛ أي كُلَّما تزايدت مظاهر الإصلاح الاقتصادي انحسرت مظاهر العنف السِّياسي والعكس صحيح.
ومن المؤكَّد أنَّ انخفاض العنف ومستوى الجريمة يتحقق فقط في البيئة السِّياسيَّة التي يتوافر بها الأمن والاستقرار بمختلف أشكاله، وعلى رأسه الاستقرار والأمن الإنساني، في البيئة التي ينخفض فيها حجم الفساد وتتوسَّع فيها رقعة الديموقراطيَّة والمحاسبة، في بيئة يستشعر فيها الفرد العامل بالاستقرار نتيجة وجود رواتب تتناسب مع مستوى الغلاء، وأسعار السِّلع والخدمات تتناسب مع دخل الفرد.
باختصار، الإصلاحات الاقتصاديَّة، وبناء منظومة اقتصاديَّة وطنيَّة تُواكِب المتغيِّرات الحاصلة في البيئة الأمنيَّة والاقتصاديَّة العالميَّة لا يُمكِن أن يتحققَ عَبْرَ إصلاحات اقتصاديَّة مادِّيَّة بحتة، فالاقتصاد ليس قِيَمًا جامدة، بل يبدأ بالإنسان وينتهي معه، يبدأ بالقِيَم والعوامل البَشَريَّة وينتهي بها، وكُلُّ ما سبق لا يُمكِن أن يتحققَ كذلك دُونَ عبور بوَّابة الإصلاحات السياسيَّة.
إذًا لَنْ تنجحَ أيُّ إصلاحات اقتصاديَّة ما لَمْ تبدأ بالإنسان وتنتهي عِنده.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
MSHD999 @

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة السیاسی التی ی مع الم ة التی

إقرأ أيضاً:

الصناعة في عُمان.. ركيزة للتنويع الاقتصادي

 

 

د. هلال بن عبدالله الهنائي **

 

يشهد القطاع الصناعي في سلطنة عُمان تطورًا مُتسارعًا في ظل الجهود الحكومية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على النفط، انسجامًا مع رؤية "عُمان 2040". وتلعب الصناعة دورًا محوريًا في تحقيق هذه الرؤية من خلال توفير فرص عمل، وتعزيز القيمة المضافة، ودعم الصادرات العُمانية.

وتعمل الهيئة العامة للمناطق الصناعية على توفير بيئة استثمارية جاذبة عبر تطوير المناطق الصناعية والمناطق الحرة، مثل مدائن، خزائن، والمناطق الحرة في صلالة وصحار والمزيونة. وتُوفر هذه المناطق بنية تحتية حديثة، وخدمات لوجستية متقدمة، ومزايا استثمارية تنافسية، مما يجعلها محركًا رئيسيًا لنمو القطاع الصناعي في السلطنة.

 

موقع استراتيجي يعزز الاستثمار

 

تمتلك عُمان موقعًا جغرافيًا فريدًا يربط بين الأسواق الآسيوية والإفريقية والأوروبية، مما يمنحها ميزة تنافسية في مجالي التصنيع والخدمات اللوجستية. ويعزز هذا الموقع من دور السلطنة كمركز تجاري إقليمي، خصوصًا مع وجود موانئ بحرية عالمية مثل ميناء صحار، ميناء الدقم، وميناء صلالة.

 

وتدعم شبكة الموانئ هذه الصناعات التحويلية والصناعات الثقيلة، حيث يتم استيراد المواد الخام بسهولة، وتصنيعها، ثم إعادة تصديرها للأسواق العالمية. ومن خلال مبادرات تطوير البنية التحتية، تسعى الحكومة إلى تحسين الربط بين المناطق الصناعية والموانئ، مما يسهم في خفض تكاليف الإنتاج وتعزيز تنافسية الصناعات العُمانية.

 

المناطق الصناعية في عُمان: محركات التنمية الاقتصادية

 

تُشرف الهيئة العامة للمناطق الصناعية على عدد من المناطق الصناعية والمناطق الحرة، والتي تتميز بتخصصها في قطاعات صناعية محددة وفقًا لمزايا كل منطقة.

• مدينة خزائن الاقتصادية: تُعد واحدة من أهم المشاريع المستقبلية في السلطنة، حيث توفر بنية تحتية متكاملة للصناعات الخفيفة والمتوسطة، بالإضافة إلى منطقة لوجستية متطورة تدعم حركة التجارة الداخلية والخارجية.

• المنطقة الحرة في صحار: تُركز على الصناعات الثقيلة مثل الصناعات المعدنية والبتروكيماوية، مستفيدةً من قربها من ميناء صحار الصناعي.

• المنطقة الحرة في صلالة: تشتهر بصناعات التعبئة والتغليف والصناعات الغذائية، إضافة إلى استثمارات في قطاعات الطاقة المتجددة.

• مدائن: تضم العديد من المناطق الصناعية مثل الرسيل، صحار، ريسوت، نزوى، وسمائل، وتدعم الصناعات التحويلية، والتقنية، والغذائية، إضافةً إلى الصناعات الصغيرة والمتوسطة.

 

دور الصناعة في تعزيز الاقتصاد الوطني

 

شهد القطاع الصناعي نموًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، إذ ارتفع الناتج الإجمالي للصناعات التحويلية بنسبة 10.1% في النصف الأول من عام 2024، ليصل إلى 1.868 مليار ريال عُماني.

 

ومن أبرز القطاعات الصناعية التي حققت تقدمًا كبيرًا:

• الصناعات البتروكيماوية والمعدنية: شهدت زيادة في الإنتاج نتيجة ارتفاع الطلب العالمي على المعادن والمواد الخام المكررة.

• الصناعات الغذائية والدوائية: توسعت بشكل ملحوظ لتلبية الطلب المحلي والعالمي، خصوصًا بعد الجائحة التي سلطت الضوء على أهمية تحقيق الأمن الغذائي والدوائي.

• الصناعات التقنية والإلكترونية: بدأت بعض الشركات العُمانية بالدخول في مجال تصنيع الإلكترونيات والمعدات الذكية، وهو توجه جديد يعزز من مكانة السلطنة في الاقتصاد الرقمي.

 

التحديات التي تواجه الصناعة العُمانية

 

على الرغم من التطورات الكبيرة التي يشهدها القطاع الصناعي، إلا أن هناك تحديات لا تزال بحاجة إلى حلول لضمان تحقيق نمو مستدام وزيادة القدرة التنافسية، ومن أبرزها:

1. ارتفاع تكاليف الإنتاج: تحتاج السلطنة إلى زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتقليل تكلفة الطاقة المستخدمة في المصانع.

2. التكامل بين الصناعات المحلية وسلاسل التوريد العالمية: حيث لا تزال بعض المصانع تعتمد على استيراد المواد الخام، مما يزيد من تكاليف التشغيل.

3. الحاجة إلى المزيد من الابتكار والتكنولوجيا: تعزيز الاستثمار في البحث والتطوير، واستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات في عمليات التصنيع، سيعزز من تنافسية القطاع.

4. تطوير القدرات البشرية: على الرغم من وجود كوادر عمانية مؤهلة، إلا أن الحاجة إلى مزيد من التدريب والتأهيل المتخصص لا تزال قائمة لمواكبة التطورات الصناعية.

 

الحلول والمبادرات الحكومية لدعم القطاع الصناعي

 

تعمل الحكومة العُمانية على تنفيذ مجموعة من المبادرات لتحفيز القطاع الصناعي، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي. ومن بين هذه المبادرات:

• الإعفاءات الضريبية والحوافز الاستثمارية: تقدم الحكومة مزايا مثل إعفاءات ضريبية على الشركات الصناعية لفترات تصل إلى 10 سنوات، وتسهيلات تمويلية لدعم المشاريع الناشئة.

• التحول نحو التصنيع الذكي: يتم تشجيع المصانع على تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة مثل إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والطباعة ثلاثية الأبعاد.

• برنامج "صُنع في عُمان": الذي يهدف إلى تعزيز الوعي بأهمية دعم المنتجات الوطنية، والترويج لها في الأسواق المحلية والعالمية.

• الاستثمار في الطاقة المتجددة: تعمل الحكومة على إطلاق مشاريع جديدة للطاقة النظيفة، بهدف تزويد المصانع بالكهرباء بأسعار تنافسية، وتقليل الانبعاثات الكربونية.

 

دور الهيئة العامة للمناطق الصناعية في تعزيز النمو الصناعي

 

تضطلع الهيئة العامة للمناطق الصناعية بدور حيوي في دعم الصناعات العُمانية، من خلال توفير بيئة استثمارية متكاملة للمصانع، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتسهيل عمليات الإنتاج والتصدير. ومن بين إنجازاتها:

• إطلاق مبادرات لدعم رواد الأعمال: تقديم حوافز مالية وإدارية لرواد الأعمال والشركات الناشئة في القطاع الصناعي.

• تطوير البنية التحتية الصناعية: من خلال إنشاء مجمعات صناعية حديثة، وتحسين شبكات النقل والاتصالات داخل المناطق الصناعية.

• تعزيز الاستدامة البيئية: عبر تشجيع المصانع على استخدام مصادر الطاقة النظيفة، وتحفيز الشركات على تبني ممارسات صديقة للبيئة.

 

نحو مستقبل صناعي أكثر تنافسية

 

تمثل المناطق الصناعية والموقع الاستراتيجي لعُمان عاملين أساسيين في تعزيز مكانتها كوجهة استثمارية إقليمية، لكن هناك حاجة إلى مزيد من التطوير في مجالات البنية التحتية، والاستدامة، والتكنولوجيا، لضمان تحقيق أقصى استفادة من هذه المزايا التنافسية.

 

ومع تنفيذ رؤية “عُمان 2040”، يُتوقع أن يشهد القطاع الصناعي نموًا متسارعًا، مدعومًا بالإصلاحات الاقتصادية، والاستثمارات الأجنبية، والتوجه نحو الصناعات المتقدمة، مما سيُسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني، وتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير فرص عمل جديدة للعُمانيين.

** رئيس مجلس إدارة جمعية الصناعيين العُمانية

مقالات مشابهة

  • في الأمم المتحدة : الحكومة اليمنية تؤكد اهتمامها بتعزيز المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمرأة
  • عون: استقرار لبنان لا يتحقق من دون تطبيق القرارات الدولية
  • الصناعة في عُمان.. ركيزة للتنويع الاقتصادي
  • 11 مليون مستفيد من مشروع توسعة وإعادة تأهيل طريق العبر بدعم وتنفيذ البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن
  • مدير فرع الرعاية الصحية بالأقصر يلتقى ممثلي منظمات المجتمع المدني بمستشفى طيبة
  • لتنمية الثروة الحيوانية.. إصدار تراخيص لإقامة مشروعات ومزارع
  • فلسطين.. رمضان آخر في ظل العدوان والضنك الاقتصادي
  • بورسعيد تطلق دورة تدريبية لتنمية الشباب وتعزيز العمل التطوعي
  • هاميلتون يبدأ مغامرة فيراري بلا ضغط.. حلم الطفولة يتحقق في أستراليا
  • قرار جمهورى بالموافقة على اتفاق قرض بـ 131 مليون دولار لتنمية القطاع الخاص