الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
لا شكَّ أنَّ أيَّ تنمية وطنيَّة شاملة، ومن ضِمْنها تنمية المُجتمع المَدَني، لا يُمكِن أن تتحققَ ما لَمْ يسبقها تحقيق مستوى معيَّن من التطوُّر الاقتصادي، في وقت ما زلتُ أُصرُّ فيه على استحالة تحقيق أيِّ تطوُّر اقتصادي ما لَمْ يسبقه تطوُّر وإصلاح سياسي يبدأ بتمكين وتطوير الثقافة السياسيَّة للمُجتمع. بمعنى آخر، أن يكُونَ المُجتمع جزءًا لا يتجزَّأ من التدابير السياسيَّة التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني.
إنَّ أيَّ نظام سياسي يعيش في ظلِّ ثقافة سياسيَّة معيَّنة، هي مجموعة الاتِّجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تُعطي نظامًا ومعنى للعمليَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وتعكس نوعيَّة المناخ السَّائد وطبيعته داخل النَّسق السياسي، وعلى ذلك لا يُمكِن أن ينشطَ المُجتمع المَدَني لمجرَّد توافُر هياكل تنظيميَّة مستقلَّة من الناحية النظريَّة؛ أي وجود قوانين ومؤسَّسات عامَّة يبدو ظاهرها الاستقلاليَّة والحياديَّة، بَيْنَما يؤكِّد الواقع العملي أنَّها تعمل على احتكار السُّلطة ولا تشجِّع على حُريَّة التعبير والتفكير، بالإضافة إلى وضعها للعديد من المُعوِّقات أمام قيام المُجتمع بأدواره الفاعلة في بيئته السِّياسيَّة.
لعلَّ أبرز الآليَّات التي يجِبُ أن تعملَ الأنظمة السِّياسيَّة على تشجيعها وتمكينها ـ إن كانت ترغب في تحقيق البيئة السِّياسيَّة السليمة والتي بِدَوْرها تشجِّع التطوُّر والتنمية الاقتصاديَّة ـ هي تمكين التنشئة الاجتماعيَّة ـ السِّياسيَّة، والثقافة السِّياسيَّة الهادفة إلى إطلاق روح الإبداع والمبادرة المُجتمعيَّة، بالإضافة إلى تهيئة البيئة السِّياسيَّة والتشريعيَّة التي تشجِّع المُجتمع على الرقابة والمحاسبة والمساءلة، أمَّا خلاف ذلك فلَنْ يكُونَ سوى مضيعة للموارد البَشَريَّة والماليَّة.
ولنضرب أمثلةً لتقريب وجهة النظر السَّابقة، أيُّهم أقدر على حماية وطنه والمشاركة في تنميته الوطنيَّة ومواجهة التحدِّيات التي يمرُّ بها، ومن ضِمْنها التحدِّيات الاقتصاديَّة، هل هو المواطن المطمئن على مستقبله ومستقبل أبنائه الواثق من حكومته؟ أم ذلك الخائف القلق المُحبَط دائمًا؟ لعلَّ الجواب سهل جدًّا في السِّياق السَّابق، ولكنَّ الأهم هو الكيفيَّة التي يُمكِن من خلالها تحقيقُ وتمكينُ المواطن من الوصول إلى تلك الغاية.
مؤكَّد أنَّ ذلك لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتوفير فرص العمل لأبناء الوطن وتهيئة البيئة الاقتصاديَّة لذلك، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالحدِّ من هجرة الكفاءات الوطنيَّة والعقول العلميَّة، وتمكين حمَلة الشهادات الجامعيَّة من خدمة وطنهم، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح المجال للمواطن للمشاركة السياسيَّة في القرارات المصيريَّة، خصوصًا تلك التي تلامس حياته اليوميَّة ومستقبل أبنائه.
لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح البيئة القانونيَّة للمواطن كَيْ يتمكَّنَ من التعبير عن الرأي بِدُونِ خوف، خصوصًا حيال ثروات وطنه، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتمكين الإعلام من ممارسة حقِّ الرقابة المسؤولة، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالمحاسبة ومكافحة الفساد…إلخ.
أمْرٌ آخر مرتبط بالعلاقة بَيْنَ السِّياسة والاقتصاد بحيث لا يُمكِن أبدًا فصلهما عن بعض. ولتقريب وجهة النظر حَوْلَ ذلك أقول: إنَّ العنف ينخفض ـ كما نعلم ـ في الأنظمة السِّياسيَّة التي تعتمد الحداثة والإصلاح والتقارب مع المُجتمع وتمكين المواطن من حقوقه العامَّة في ظلِّ وجود مؤسَّسات سياسيَّة ومُجتمعيَّة تُنظِّم تلك العلاقة بَيْنَ المُجتمع والمؤسَّسة السِّياسيَّة، بالتَّالي فإنَّ انخفاض العنف السِّياسي ومعدَّلاته سيؤدِّي مع الوقت إلى ارتفاع معدَّلات التنمية الاقتصاديَّة، والعكس صحيح. فهناك علاقة تناسب عكسيَّة بَيْنَ التنمية الاقتصاديَّة والعنف؛ أي كُلَّما تزايدت مظاهر الإصلاح الاقتصادي انحسرت مظاهر العنف السِّياسي والعكس صحيح.
ومن المؤكَّد أنَّ انخفاض العنف ومستوى الجريمة يتحقق فقط في البيئة السِّياسيَّة التي يتوافر بها الأمن والاستقرار بمختلف أشكاله، وعلى رأسه الاستقرار والأمن الإنساني، في البيئة التي ينخفض فيها حجم الفساد وتتوسَّع فيها رقعة الديموقراطيَّة والمحاسبة، في بيئة يستشعر فيها الفرد العامل بالاستقرار نتيجة وجود رواتب تتناسب مع مستوى الغلاء، وأسعار السِّلع والخدمات تتناسب مع دخل الفرد.
باختصار، الإصلاحات الاقتصاديَّة، وبناء منظومة اقتصاديَّة وطنيَّة تُواكِب المتغيِّرات الحاصلة في البيئة الأمنيَّة والاقتصاديَّة العالميَّة لا يُمكِن أن يتحققَ عَبْرَ إصلاحات اقتصاديَّة مادِّيَّة بحتة، فالاقتصاد ليس قِيَمًا جامدة، بل يبدأ بالإنسان وينتهي معه، يبدأ بالقِيَم والعوامل البَشَريَّة وينتهي بها، وكُلُّ ما سبق لا يُمكِن أن يتحققَ كذلك دُونَ عبور بوَّابة الإصلاحات السياسيَّة.
إذًا لَنْ تنجحَ أيُّ إصلاحات اقتصاديَّة ما لَمْ تبدأ بالإنسان وتنتهي عِنده.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
MSHD999 @
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ة السیاسی التی ی مع الم ة التی
إقرأ أيضاً:
«مصطفى بكري»: مشروع الدلتا الجديدة حلم يتحقق على أرض مصر في عهد الرئيس السيسي «فيديو»
أكد الإعلامي مصطفى بكري أن مشروع "الدلتا الجديدة" كان حلما، وأصبح حقيقة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، هذا الحلم الذي سيجعلنا نكتفي ذاتيا من احتياجاتنا الغذائية الأساسية، عبر مشروع آخر وهو النهر الصناعي الذي يروي آلاف الأفدنة ويحولها من صحراء جرداء إلى أرض زراعية خضراء بكافة أنواع العذاء، بهدف تعزيز الأمن الغذائي، وتوسيع الرقعة الزراعية، وتوفير حوالي ٥ ملايين فرصة عمل، مشيرا إلى أن المشروع يستهدف استصلاح نحو 2.2 مليون فدان في الصحراء الغربية، الأمر الذي يزيد من المساحة الزراعية بنسبة تقارب 30% من مساحة الدلتا القديمة.
وبشأن أهمية المشروع، قال مصطفى بكري خلال تقديمه برنامج «حقائق وأسرار» عبر قناة «صدى البلد»، إن مشروع "الدلتا الجديدة" سيساعد في التخزين اللوجيستي للحبوب وسهولة وزيادة سعات التخزين للدولة، عبر صوامع بطاقات استيعابية تصل إلى 600 ألف طن.
وأضاف، أن مشروع "الدلتا الجديدة" يقترب موقعه من الموانئ البحرية مثل الإسكندرية ودمياط، والمطارات مثل برج العرب وسفنكس، وارتباطه بشبكة الطرق الرئيسية والمناطق الصناعية الكبرى مثل السادات، السادس من أكتوبر، وبرج العرب، مما يعني الطريق إلى التصدير وتوفير العملة الصعبة.
وأشار مصطفى بكري إلى أن المشروع له مميزات عدة، أبرزها ما يأتي..
- التربة الخصبة: تحتوي الأراضي على عناصر غذائية مهمة، مثل البوتاسيوم، الذي يحسن جودة وطعم المحاصيل.
- الموارد المائية: يعتمد المشروع على مصادر متنوعة، منها المياه الجوفية من خزان غرب الدلتا، الذي تتراوح ملوحة مياهه بين 400 و900 جزء في المليون، وهي نسبة مناسبة لزراعة معظم المحاصيل. كما يتم استخدام نظم الري الحديثة لترشيد استهلاك المياه وضمان استدامة الموارد المائية.
- تعزيز الأمن الغذائي: من خلال زيادة المساحات المزروعة، مما يقلل الفجوة الغذائية.
- توفير فرص العمل: يُتوقع أن يوفر المشروع حوالي 5 ملايين فرصة عمل جديدة زي ماقلتلكم.
- التنمية الاقتصادية: يساهم المشروع في زيادة الناتج المحلي الإجمالي من خلال تعزيز القطاع الزراعي والصناعات المرتبطة به.
- التوسع العمراني: يتيح المشروع إقامة مجتمعات عمرانية جديدة، مما يخفف الضغط عن المناطق الحضرية المكتظة.