حميدتى.. مخاوف قديمة لدى تاجر إبل متقاعد
تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT
يظل راعى الإبل على خوف دائم من انتقامها إذا ما أذاها، فالجمل- وفقًا لمرويات رعاة الإبل- ينفذ انتقامه قبل مرور أربعين يومًا على إهانته أو الغدر به من صاحبه.
وإذا ما لم ينتقم.. مات كمدًا وقهرًا.
ولرعاة الإبل هذا الشعور الدائم بأن معاشرة الجمال تختلف عن أى حيوان آخر، فهى تقتضى معاملة حذرة والاستعداد لانتقام وشيك، يتم بعد تخطيط عميق من الجمل.
وتختلط خبرة حدو الإبل ورعايتها مع مرويات غيبية لا تكاد تستبين أصولها بسهولة، تفيد بأن الجمل يخالطه الشيطان ويدخل فى تكوينه الجان، بما يلقى الكثير من الفزع مما يسمى «حقد الإبل» أو «انتقام الجمل».
وفى الوقت ذاته، يقال إن راكب الإبل يميل طبعه للسكون والأناة، من إيقاع مشية الجمل وصبره، وقالت العرب إن طبع الدابة ينسحب لطبع صاحبها مع الوقت.
ظلت تلوح هذه الأفكار وتحوم حولى وأنا أشاهد خطاب محمد حمدان دقلو «حميدتى»، الذى خرج قبل أيام فى قرابة ٣٥ دقيقة، ويتهم فيه الطيران المصرى بدك قواته فى «جبل موية».
فحميدتى بالأساس تاجر جمال، تطور مع مجموعة من رفاقه إلى حام للقوافل من اللصوص، ثم إلى ميليشى سمين، يسيطر على طرق التجارة بين السودان وتشاد، وأحيانًا المتجهة من السودان إلى مصر.
إلى أن انخرط فى بنية نظام البشير قائدًا لما سمى قوات الدعم السريع، والتى كانت جزءًا من التشكيلات المسلحة العديدة التى يتوازن نظام عمر البشير بها ويدير التنافسات بينها لمصلحته. وكان حميدتى بقواته جزءًا من مآس ومجازر عدة منذ العام ٢٠١٠ كأول تأريخ يمكن الاستيثاق فيه من ظهور الميليشى الشاب بقواته للعلن.
يحمل «حميدتى» رتبة «فريق»، وهو بالأساس لم يتم تعليمه الأساسى، فيما يذكرك رغمًا عنك بشخصية «الجنرال» فى رواية ماركيز الأولى «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، والذى كان يعتز فى رسائله العبثية الكثيرة بأن رتبته رتبة ثورية حصل عليها ضمن سياق ثورى فيما اجتاح البلاد من أحداث جسام، لا عبر مسار وظيفى بيروقراطى ترقى خلاله داخل الجيش.
لكن المسألة ليست بهذا التبسيط الذى يغرى بالوقوف عنده والاكتفاء به، والذى قد ينتهى بنا لتشخيص أوجه عبثية الشخصية التى نعاينها، عبر تلسين ثقيل الوطأة، أو حتى سخرية خفيفة الظل.
فخلف هذا الميليشى عقول منشقة تفكر وتدبر، فى السياسة والقانون والعسكرية والإعلام، ولربما بكفاءة تفوق نظيرتها لدى الحكومة السودانية ذاتها.
ففى أغسطس الماضى، شارك الدعم السريع فيما سمى «مفاوضات جنيف»، بينما أحجم الجيش السودانى عن المشاركة، وتمكن «حميدتى» من إظهار نفسه كجزء قابل للانتماء للبيئة الدولية، بالمشاركة والقابلية للتفاوض، وبتبنى اللغة العالمية التى تتحدث عن «الأطر» و«الشرعية الدولية» و«المجتمع الدولى» و«الاتفاقات والمعاهدات» و«القانون الدولى».
وفى المقابل رفض الفريق البرهان المشاركة فى هذه المفاوضات بتصريحه الشهير «سنحارب مئة عام»، وهو تصريح له وقعه- ربما الإيجابى- عند جماهير السودان المؤيدة للجيش الوطنى السودانى أو المناهضة للدعم السريع، لكنه يترجم معنى ذهنى فى المخيلة الدولية يظهر البرهان كما لو كان متعطشًا للدماء، فى حين يبدو حميدتى كرجل سياسة ومفاوضات وقانون!.
وحين تتعالى نبرة الاتهامات للدعم السريع بارتكاب جرائم حرب وفظائع فى القرى التى تسيطر عليها قواته، يرسل حميدتى رسالة إلى الوسطاء الدوليين فى جنيف تفيد بإصداره أوامر صارمة لجنوده بالالتزام بحقوق المدنيين، استنادًا إلى القانون الدولى الإنسانى والمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان فى حالات السلم والصراع داخل وخارج البلاد، ووفقًا لجميع أحكام قانون «قوات الدعم السريع» لسنة ٢٠١٧ المعدل لسنة ٢٠١٩.
ليبدو وكأنه تتحدث عن مدونة أخلاق الجيش السويسرى مثلًا!.
وعلى ذات المنوال يتجاوب ويتفاعل حميدتى مع الاتحاد الأوروبى- سرًا- فى ضبط ملف الهجرة غير الشرعية، بامتداده وسيطرته على نطاقات سير المهاجرين غير الشرعيين فى بعض مناطق إفريقيا، ويهدده أحيانًا إذا لم يعترف علانية بطبيعة «التعاون» بين الطرفين.
ويرسل حميدتى قواته لليمن للمشاركة ضمن مصالح القوى المتحاربة هناك، ويدير تحالفاته فى الإقليم، ويتدبر حربًا إعلامية عبر السوشيال ميديا تفوق قدرة خصومه وتسبقها فى إصدار البيانات، وفى معالجات الأحداث وتكييفها.
والمتابع للشأن السودانى يلاحظ مع الوقت أن ميليشيا الدعم السريع بكل فظائعها وجرائمها تنتحل صفة لها مقومات الدولة- فى خطابها الرسمى- بأكثر مما هى سمات العصابات المارقة، فى حين تبدو الدولة السودانية الشقيقة بحاجة ماسة إلى تطوير أدائها على كل الأصعدة.
وفى الحديث الأخير لـ«حميدتى»، والذى اتهم فيه القوات الجوية المصرية بدك أتباعه فى «جبل موية»، تجرد الرجل من كل هذه العقول التى تشترى البذلات الفاخرة لتاجر الجمال وقائد العصابة الصحراوية، وتنازل عن كل اللغة الرسمية لفصيله، والتى تتحدث بالقانون الدولى وبالمصطلحات السياسية البراقة، ليرتد لطبيعته وسجيته الأولى بلا ماكياج.
فقد تكلم الرجل بلغته الأصلية التى هى مزيج من العظات الدينية البسيطة والحكايا المرسلة والاتهامات والتلسينات المندفعة، وبارتباك بادٍ للجميع.
لم يتمترس خلف الكلمات المكتوبة بعناية، والتى كان يلاقى صعوبة فى نطقها وقراءتها باللغة العربية الفصحى، ليبدو كرجل دولة كما أراد داعموه، بل تخلى الرجل عن كل هذه الرطانة وتحدث كـ«حميدتى» الذى يدير ميليشيا تسيطر عليها عائلته وتشغل فيها مناصب قيادية، يتحكم من خلالها بالملف المالى والتفاوضى والتسليحى عبر شقيقه «القونى حمدان دقلو»، وينثر بقية أفراد عائلته فى بنية التنظيم.
تحدث حميدتى كتاجر جمال له تأملات بدائية يعتقد أنها خلاصة الحكمة المقطرة، ممزوجة بتصورات دينية تشبه أحاديث الأرياف فى الليالى المقمرة، مدفوعة بسجية بسيطة وخيالات عن الذات وعن أخلاقياتها الرفيعة فى مقابل تجبر الخصوم.
وفق المراقبين، بدا محمد حمدان دقلو مضطربًا مرتبكًا فى هذا الخطاب، مضطرًا للاصطدام مع القوى الأكبر والأكثر قابلية للحسم «مصر»، ومعترفًا ببداية انكساره.
ووفقًا لما يبدو لى ترابطًا روائيًا بين البدايات والخواتيم، فإن تاجر الجمال بداخله يستنهض خوفه القديم من انتقام «الإبل».. وهو يدرك فى أعماقه أن «الجمل» يصبر ولا يترك حقه.
أحمد الدريني – صحيفة المصري اليوم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
السودان يستنكر استضافة كينيا اجتماعا لقيادات الدعم السريع
استنكرت الحكومة السودانية أمس الثلاثاء استضافة كينيا اجتماعا ضم قوى سياسية وقيادات من قوات الدعم السريع بهدف تشكيل حكومة موازية، واعتبرت ذلك "تشجيعا لتقسيم الدول الأفريقية وخروجا عن قواعد حسن الجوار".
وجاء ذلك في بيان صادر عن وزارة الخارجية السودانية بعد ساعات من انعقاد الجلسة الافتتاحية لمؤتمر بعنوان "تحالف السودان التأسيسي" في العاصمة الكينية نيروبي.
وشارك في الاجتماع عدد من قادة الحركات المسلحة وقوى سياسية معارضة، بينهم رئيس حزب الأمة القومي فضل الله برمة، وعبد الرحيم دقلو نائب قائد قوات الدعم السريع، ورئيس "الحركة الشعبية-شمال" عبد العزيز الحلو.
ويهدف المؤتمر إلى تشكيل حكومة موازية في السودان، وهو ما اعتبرته الحكومة السودانية مخالفا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
انتهاك للقانون الدوليوأعربت الخارجية السودانية في بيانها عن أسفها لاستضافة كينيا هذا الاجتماع، واصفة ذلك بأنه "تنكّر لالتزاماتها بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والأمر التأسيسي للاتحاد الأفريقي".
وأضافت الوزارة أن الهدف المعلن من الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه خلال الاجتماع هو "إقامة حكومة موازية في جزء من أراضي السودان"، مما يشجع على "تقسيم الدول الأفريقية وانتهاك سيادتها والتدخل في شؤونها الداخلية".
إعلانكما انتقدت الوزارة السماح لقيادات قوات الدعم السريع بممارسة النشاط السياسي والدعائي العلني في كينيا، في وقت تُتهم فيه هذه القوات بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" في السودان.
وذكر البيان أن قوات الدعم السريع ارتكبت "مجزرة بشعة" خلال الأيام الماضية في قرى مدينة القطينة بولاية النيل الأبيض جنوبي السودان، راح ضحيتها 433 مدنيا.
وأشارت الخارجية السودانية إلى أن استضافة كينيا قوات الدعم السريع "تشجيع لاستمرار هذه الفظائع والمشاركة فيها". وشددت على أن "خطوة الحكومة الكينية لا تتعارض فقط مع قواعد حسن الجوار، بل تناقض أيضا التعهدات التي قدمتها كينيا على أعلى مستوى بعدم السماح بقيام أنشطة عدائية ضد السودان على أراضيها".
واعتبرت أن هذه الخطوة "إعلان عداء لكل الشعب السوداني"، داعية المجتمع الدولي إلى "إدانة هذا المسلك من الحكومة الكينية".
وتأتي هذه التطورات في وقت يشهد فيه السودان حربا طاحنة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل/نيسان 2023، خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
وفي سياق متصل، أشارت الخارجية السودانية إلى أن "هذه التظاهرة الدعائية (اجتماعات نيروبي) لن يكون لها أي أثر على أرض الواقع"، مؤكدة أن القوات المسلحة السودانية، بدعم من الشعب، تواصل تقدمها لتحرير الأراضي التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع.
انقسامات سياسيةمن جهة أخرى، انقسمت القوى السياسية في السودان بين مؤيدين ومعارضين لتشكيل حكومة موازية. فبينما تدعم قوى سياسية قوات الدعم السريع، ترفض أخرى هذا التوجه بما في ذلك "تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية"، التي كانت تمثل أكبر تحالف مدني معارض بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.
وأعلنت التنسيقية في فبراير/شباط الماضي رفضها فكرة الحكومة الموازية، مما أدى إلى انقسامها إلى مجموعتين، إحداهما تدعم مؤتمر نيروبي.
إعلانوتزامنت اجتماعات المعارضة في كينيا مع تراجع سيطرة قوات الدعم السريع في عدة مناطق لصالح الجيش السوداني، خاصة في ولايات الوسط (الخرطوم والجزيرة) والجنوب (النيل الأبيض وشمال كردفان).
وفي ولاية الخرطوم، التي تضم 3 مدن رئيسية، تمكن الجيش من السيطرة على 90% من مدينة بحري شمالا، ومعظم أنحاء مدينة أم درمان غربا، و60% من مدينة الخرطوم، في حين لا تزال قوات الدعم السريع تسيطر على أحياء شرقي وجنوبي العاصمة.
وحتى الساعة 18:00 بتوقيت غرينتش، لم تصدر السلطات الكينية أي تعليق على اجتماعات نيروبي أو على بيان الخارجية السودانية.