أنجيليك بوشارد تكتب: «أوبنهايمر.. Oppenheimer».. هل يوجد عالم آخر موازٍ لا نجد فيه أوبنهايمر؟
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
مع ظهور فيلم السيرة الذاتية «أوبنهايمر» فى ٢١ يوليو الماضى، يتصدى الكاتب والمخرج كريستوفر نولان، المعروف بفيلميه الأيقونيين الرائعين «Interstellar» و«Inception»، لخطر الحرب النووية الحرارية والإبادة البشرية ويخبرنا الصحفى كيم مورفى فى إحدى الحلقات فى برنامج Variety)١٥ يوليو٢٠٢٣: عن تحذير كريستوفر نولان من احتمالات مرعبة مع وصول الذكاء الاصطناعى إلى «لحظة أوبنهايمر") والتى تولى فيها صاحب الرؤية نولان أقصى درجات الحذر فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعى وذلك على هامش عرض خاص لأوبنهايمر فى نيويورك.
أصل الأسطورة
يحكى الفيلم قصة روبرت أوبنهايمر، عالم فيزياء د ذو شخصية جذابة، ويلعب دوره سيليان مورفى، والذى كتم تكليفه بقيادة مشروع مانهاتن فى لوس ألاموس بنيومكسيكو، لصنع القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية. تم الترحيب بأوبنهايمر كبطل بعد تفجيرات هيروشيما وناجازاكى والتى أنهت الحرب ضد اليابان فى عام ١٩٤٥، بعد أن استسلمت ألمانيا بالفعل.
بعد بضع سنوات، فى عام ١٩٥٤، تم سحب تصريح الأمن الخاص به خلال جلسة الاستماع السيئة أمام مستشارى هيئة الطاقة الذرية وذلك بسبب علاقاته الوثيقة مع اليسار الأكاديمى فى جامعة كاليفورنيا ببيركلى، ومن بين آخرين هناك صديقته وشقيقه وهما عضوان فى الحزب الشيوعي- ومعارضته لصنع قنبلة هيدروجينية فائقة، بتشجيع من زميله إدوارد تيلر. وفى الحقيقة، هوليوود لا تخشى معارضة الأساطير.
ويسأل دينيس أوفرباى، مراسل صحيفة نيويورك تايمز، نولان قائلا: «إذن هل روبرت أوبنهايمر هوأهم شخص عاش على الإطلاق؟».. يعتقد المخرج كريستوفر نولان ذلك وسيكون بالتأكيد الرجل الذى سيدمر العالم.. من يمكن أن يكون أهم منه؟».. قد يكون الرجل الذى يضغط على الزر الذى يدمر العالم.
لكن نولان يواصل قائلا: «يجب أن يكون لديك زر لتضغط عليه. أعتقد أنه من السهل جدًا القول أن أوبنهايمر هو أهم شخص عاش على الإطلاق لأنه كان الشخص الذى سهل صنع الأسلحة الذرية وصنعها وحتى القنبلة الهيدروجينية ولأنه سمح لـ Teller بالعمل عليها. لذلك كان هوالشخص الذى كان قادرًا على جمع القوات معًا بشكل فعال».
«هل يوجد عالم آخر موازٍ لا نجد فيه أوبنهايمر، بل نجد شخص آخر؟ من الممكن ولكن لا ينبغى أن يقلل ذلك من أهميته فى التاريخ. لم يُبنى التاريخ من التطورات المجتمعية البسيطة فحسب بل صنعه أفراد أقوياء. إنه نقاش فلسفى للغاية».
«نحو لحظة أوبنهايمر»
فى ١٦ يوليوالماضى وخلال إحدى الموائد المستديرة التى أدارها تشاك تود، مقدم برنامج «Meet the Press وبحضور مدير المعهد القومى للأبحاث بلوس ألاموس وبعض الخبراء العلميين والفيزيائيين، أصر كريستوفر نولان على أن الأفراد يجب أن يتحملوا مسئولياتهم حول تطور الذكاء الاصطناعي.
ويحذر: «إن الذكاء الاصطناعى على وشك الوصول إلى لحظة أوبنهايمر. فعلى مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، استخدمت المزيد والمزيد من الشركات مصطلحات مثل الخوارزميات، متجاهلة معناها الرياضى الحقيقي. إن الأشخاص فى مجال عملى فى صناعة السينما والذين يتحدثون عن تلك اللوجاريتمات، لا يريدون تحمل مسؤولية عواقب ما تنتجه تلك الخوارزميات».
ويتابع قائلًا: «عند تطبيقه على الذكاء الاصطناعى، فإن هذا الاحتمال مرعب بكل بساطة» ليس فقط لأن الأنظمة الخاصة بالذكاء الاصطناعى ستخدم البنى التحتية الدفاعية وربما ستكون مسؤولة عن تفعيل الأسلحة النووية. إذا اعتبرنا أن الذكاء الاصطناعى كيان منفصل عن الشخص الذى يقوم بالتنشيط والبرمجة، فنحن مدانون بكل تأكيد فنحن بحاجة إلى محاسبة الأشخاص على ما يفعلونه بالأدوات التى يمتلكونها».
وتأتى تعليقات المخرج فى الوقت الذى كانت فيه صناعة السينما الأمريكية متوقفة تقريبًا لبضعة أيام، فى ١٧ يوليو، نظمت SAG -AFTRA إضرابًا للانضمام إلى أعضاء الاتحاد الثانى، WGA لأول مرة منذ عام ١٩٨٠. ولا يزال أصحاب المصلحة والنقابات والاستوديوهات الرئيسية فى خلاف حول اثنتى عشرة نقطة، منها عدد قليل فقط تم الإعلان عنها. ووفقًا للمصادر، فإن النقطة الشائكة الرئيسية هى مطالبة نقابة الأغلبية بتحصيل ٢٪ من الدخل الناتج عن العروض المتدفقة.
وتظل مسألة الذكاء الاصطناعى وتأثيره على ممارسات وجودة العمل فى صناعة السينما الأمريكية مشكلة كبيرة فى إطار الخلافات العديدة بين النقابات واستوديوهات هوليوود الكبرى،. ولا يسعى اتحاد SAG-AFTRA إلى حظر الذكاء الاصطناعى من هوليوود ولكنه يريد التأكد من أن أى استخدام لصورة الفنان / المؤدى يجب أن يكون مصحوبًا بالتعويض اللازم والموافقة المسبقة. هل يختبئ الشيطان هنا فى التفاصيل؟
وتؤكد النقابات أنه «تمت صياغة هذا الاقتراح بمهارة شديدة من قبل الاستوديوهات التى لا يدرك عيوبها الأشخاص العاديون». «وسيسمح هذا للاستوديوهات بالحصول على تفويض مطلق لإنشاء ملفات تعريف للفنانين المؤدين بإستخدام الذكاء الاصطناعى أو لتحويل استخداماتهم لأغراض أخرى». تريد SAG-AFTRA فرض موافقة النقابة على الاستوديوهات لأى استخدام فردى للذكاء الاصطناعى وهوما رفضته الاستوديوهات الكبرى على طاولة المفاوضات.
وقال كريستوفر نولان: «مع النزاعات العمالية فى هوليوود فى الوقت الحالى، لا يمكننا تجاهل الانجراف المتأصل فى الذكاء الاصطناعى وهو أنه عندما تبتكر من خلال التكنولوجيا، فعليك أن تحافظ على مستوى عالٍ من المساءلة».
ويتساءل تشاك تود: «هل تعتقد أننا سنواصل إعادة النظر فى قضية أوبنهايمر بينما يتقدم فهمنا لفيزياء الكم وبينما نقوم بترويض الذرة؟»
ويقول نولان: «آمل ذلك». «عندما أتحدث إلى كبار الباحثين فى مجال الذكاء الاصطناعى، فإنهم يشيرون حرفيًا إلى هذه اللحظة - اليوم - على أنها لحظة أوبنهايمر الخاصة بهم. إنهم يتطلعون إلى التاريخ لمعرفة مسؤوليات العلماء الذين يطورون هذه التقنيات الجديدة «.
ويتابع تود فيسأل: «هل تعتقد أن وادى السيليكون يشكك فى هذا الآن؟» ليرد نولان قائلا: «أنا لا أقول أن قصة أوبنهايمر الشخصية» توفر إجابات سهلة لهذه الأسئلة الأساسية ولكنها دعوة للتشكيك فى فكرة المسؤولية الفردية والجماعية للأشخاص».
«ندم الراعى الرئيسى للذكاء الاصطناعى»
يخشى جيفروى هينتون الذى ساعد فى ابتكار تكنولوجيا ChatGPT، من أننا نندفع إلى خطر مشابه لذلك الذى وصفه نولان.
وتحدث كيد ميتز، مراسل قسم التكنولوجيا لصحيفة نيويورك تايمز، مع الأب الروحى لمنظمة العفوالدولية فى ٣٠ مايو٢٠٢٣، حيث بدأ العالم فى تجربة قوة الذكاء الاصطناعي. ونشأ النقاش الضرورى للحد من المخاطر. وأحد أكثر التحذيرات صدى يأتى من رجل اخترع هذه التكنولوجيا.
قال جيفروى هينتون إنه استقال من وظيفته فى Google حيث عمل لأكثر من ١٠ سنوات وأصبح أحد أكثر الأصوات إحترامًا. ويقول إن هذه الشركات تتكبد خسائرا من خلال تشجيع حملات إنشاء المنتجات القوية على أساس الذكاء الاصطناعى المولدة، وهى التكنولوجيا التى تشغل برامج الدردشة الشهيرة مثل ChatGPT.
ويمضى هينتون فى إخبار صحيفة نيويورك تايمز بأنه حتى العام الماضى، كان يعتقد أن Google لديها إدارة جيدة للتكنولوجيا ولكن ذلك تغير عندما بدأت Microsoft فى دمج روبوت الدردشة فى محرك البحث الخاص بها » Bing» وأن الشركة بدأت فى التعبير عن مخاوف تهدد أنشطة البحث والتطوير.
وقال لبى بى سى: «إن بعض مخاطر الذكاء الاصطناعى لبرامج الدردشة الآلية مخيفة للغاية». وقال محذرًا من أنها يمكن أن تتفوق على البشر وأن يتم استغلالها من قبل الجهات الفاعلة السيئة. يمكنهم إنتاج الكثير من النصوص تلقائيًا مما يجعل برامج «السبام» فعالة للغاية. «وسيسمح ذلك للحكام المستبدين بالتلاعب بناخبيهم.»
ويضيف هينتون: «لقد توصلت إلى استنتاج مفاده أن نوع الذكاء الذى نطوره مختلف تمامًا عن الذكاء الذى لدينا. إنه يشبه وجود ١٠٠٠٠ شخص وفى كل مرة يتعلم فيها شخص ما شيئًا ما ويعرفه الجميع تلقائيًا. هذه هى الطريقة التى تزدهر بها تقنية روبوتات المحادثة والتى يمكنها معرفة أكثر بكثير من أى شخص آخر».
لا شك أن نولان وهينتون ليسا الوحيدين فى الدوائر المتقدمة لأبحاث الذكاء الاصطناعى والقوة الناعمة لهوليوود اللذان يخشيان الانجرافات التكنولوجية.
وقال إيلون ماسك الشهر الماضى، أنه اختلف مع لارى بيج، المؤسس المشارك لشركة Google، لأن الأخير لم يأخذ «مسألة أمن الذكاء الاصطناعى على محمل الجد بما فيه الكفاية. قال ماسك لشبكة فوكس نيوز إن بيج لم يرغب فى إنشاء «ذكاء رقمى فائق، بل إله رقمى» و«فى أسرع وقت ممكن».
ويشير الصحفيان جوش تايلور وأليكس هيرن فى صحيفة الجارديان، ٢ مايو٢٠٢٣ (غادر جيفرى هينتون، رائد الذكاء الاصطناعى، جوجل وحذر من مخاطر التضليل) إلى أن المدير العام لميلا، وهومعهد كيبيك للذكاء الاصطناعى، فاليرى بيسانو، قد قال إن «الإهمال لأمن أنظمة الذكاء الاصطناعى لن يتم التسامح فيه فى أى مجال آخر». «إن التكنولوجيا موجودة وبينما يتفاعل النظام مع البشر، ينتظر مطوروه ليروا ما سيحدث لإجراء التعديلات وفقًا لذلك.»
ومع ذلك، فإن قلق السيد هينتون على المدى القصير يتعلق بظاهرة أصبحت بالفعل حقيقة واقعة: لم يعد مستخدمووسائل التواصل الاجتماعى، على سبيل المثال، قادرين على تمييز الشيء الحقيقى، من خلال الصور ومقاطع الفيديوالتى تم إنشاؤها فى الذكاء الاصطناعى الذى يغمر الإنترنت.
يقول جوش تايلور وأليكس هيرن: «إن التحسينات الأخيرة لمولدات الصور مثل Midjourney، تتيح الآن إنتاج صور واقعية - مثل صورة للبابا فرانسيس وهويرتدى معطفًا من Balenciaga الذى انتشر فى مارس الماضي».
فى حين قال كبير مسؤولى العلوم فى Google جيف دين، فى بيان: إن جوجل تقدر مساهمات السيد هينتون فى الشركة على مدار العقد الماضى ويقول جيفروى هينتون، فى الوقت نفسه. إن الذكاء الاصطناعى يمكن أن ينتهى باستبدال الوظائف مثل: المساعدون القانونيون والمساعدون الشخصيون وغير ذلك من «الأعمال الشاقة» فى المستقبل».
معلومات عن الكاتبة:
أنجيليك بوشارد.. صحفية فرنسية.. أجرت الكثير من الحوارات الصحفية لموقع «لوديالوج» مع العديد من الشخصيات الفرنسية.. تكتب عن فيلم «أوبنهايمر».
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: اوبنهايمر المخرج كريستوفر نولان الذکاء الاصطناعى کریستوفر نولان
إقرأ أيضاً:
نهال علام تكتب: جيل العيال المحظوظة
"مُنَعَم أنت أيها الجيل"… عبارة ظلت لعقود طويلة ذات وقع وتأثير، وبعد أن مرّ زمان وأهوال وأساطير أصبح وَقع ذكرى تلك الكلمة أمرا مثيرا.
أتذكر تلك العبارة التي كانت تلقى على مسامعي في مجالس الكبار، وكنت أنا وحفنة الأطفال الصغار نموت حنقاً من ذلك الافتراء، والاستهانة بحجم مشكلاتنا حد الشعور بالازدراء، ولولا قدرتنا على تحمل هذا الظلم؛ لتعرضت شخصياتنا للاهتراء.
كنا قلقون ومتوترون ،فكيف لم يتعاطف معنا الكبار ونحن نمر بتلك الحالةِ من الجنون، وكيف لا "والجادون" لم يعثر عليه إلا المحظوظون في أغطية المياه الغازية، وصدفة الحصول على كيمو كونو مجانية، قد تضاءلت لتصبح سبعين في المية، أما الهدية المخفية في كيس الشيبسي والمتمثلة في ربع جنيه أو بعض اللعب البلاستيكية لم تَعُد أمرا عظيما، فالحصول عليها متاحاً للجميع.
مشكلات جمة دون تعاطف من خالة أو عمة، ألا يكفي ألبوم الشمعدان الذي لا يكتمل إلا بعد صرف ما يربو على جنيهين؟، وذراع الأتاري الذي لا يتحمل أكثر من أسبوعين وينكسِر، وليس هناك من يتعاطف مع وجيعتنا ويتأثر، وحدث بلا حرج عن الدراسة فذلك مبلغ الغلاسة، فلم تعد هناك سلاسة خاصة مع تعدد الألوان المطلوبة لتجليد الكتاب والكراسة، حتى القلم السنون طالبنا المعلمون بإستخدامه فقط في حصة الفنون، كان قرار بلا كياسة، وتلك الوجيعة التي لم تمح السنون آثارها الفظيعة والمتعلقة بالقلم المتعدد الألوان، ذو السوستة التي باتت تهترئ في العام مرتين.
ناهيك عن الكوارث اليومية كاختفاء البِلي، وتهتك كور الراكيت، وانفلات سير الدراجة، وسف شرائط الكاسيت، وقرطاس البمب الذي تجاوز ثمنه الخمس وعشرون قرشا، ولكن ليست كل بُمبة فيه قادرة على الفرقعة أليس هذا غِشا؟، لن أتحدث عن المجهود المبذول لصيانة إبرة الڤيديو والكاسيت ذو البابين باستخدام العطر أو الإسبراي، وشعور عودتك للمنزل بعد فقدان الزمزمية أو المقلمة الحديدية، ولا قدر الله إذا ضاعت المحفظة الأكتوبوس ذات الشرائط اللاصقة الفوسفورية، ولا كتب الله على أحد لحظة نفاد شحن بطاريات الووكمان كعادة أصيلة نصف شهرية.
أضف إلى ذلك مسئولية مواكبة الاختراعات الحديثة، سواء على صعيد المطاعم مثل ويمبي ومؤمّن وشو إن وأربيز، بالإضافة للحاتي الذي عَكس تطوراً طبيعياً لأبو شقرة وفرحات، ثم سلسلة أمريكانا التي أضافت لحياتنا بعض الحركات.
أو في إطار المتابعة الجادة الحثيثة، لموضة ملابس جيلنا الفضفاضة دون مبرر وذات الألوان المضيئة وقصات الشعر العنيفة، فلم يكن الاختيار سهلاً بين الموديلات الجديدة التي تتغير كل 7 أعوام، واختيار الملابس كان مأساة جلل فهي من ستصاحبك سنوات بلا عدد، فهي لا تذوب ولا تبلى ولا يتغير لونها، مهزلة.. فتلك الملابس كانت صناعتها متقنة وكأنها سلع معمرة، الأمل في فِراقها أن تتغير أنت وتكبر فيصبح التخلص منها قرار دون فرار.
أتتذكر محلات ناف ناف وميكس وبينيتون، التي تجعل الحياة أكثر تشويقاً على كوكب نبتون؛ لأن منتجاتها كانت متينة لدرجة أنها كان من الممكن أن تعيش لليوم فهي تركة ثمينة، حتى ريموندس وفرج وجلجلة عنوان الضمير الحي في صناعة ملابس المدرسة المقاومة للعب والشقاوة والبهدلة.
هل أدرك أصحاب رؤية أننا جيل مدلع، معنى أن تكون طفلاً وقصة شعرك اسمها الأسد والكنيش للبنات، والبانك والجنب للأولاد، ويزداد الطين بِلة إذا كنت ترتدي النظارة الموضة السوداء فلا يستطيع من أمامك تمييز هل أنت مبصر أم من العميان حتى وإن كانت ماركة ريبان! وتكتمل الصورة.. بأنك متشرد أو هربان من أسرتك المستورة، بوضع الكاب بطريقة عكسية وحسبك أن الناس مبهورة، لن ينقذك من ذلك الظن إلا لو كنت ترتدي الساعة الرقمية الملحق بها آلة حاسبة، أو على أقل تقدير في معصمك الساعة الفضية التي تزن قرابة الوِقَّة.
آه وآه على لحظة انتهاء حكايات أبلة فضيلة معاناة لم يطبب وجيعتها إلا صوت صفية المهندس في رسالتها اليومية إلى ربات البيوت، والتي تعني انتهاء الفترة الصباحية التي بدأت ببرنامج على الطريق وقطرات الندى وكلمتين وبس…
يقتلني الشك أن أهل الظن بجيلنا الذي تربى على أخلاق تمنعه من الزَّن، وخاصة وقت ماما سامية وبابا ماجد وسينما الأطفال حيث أن تلك الأوقات إذا ألقيت بالإبرة سترن، لكن شكوكي أنهم لم يقدروا الضغط العصبي الذي نعيشه أثناء مشاهدة مازنجر أو في الساعة ونصف التي يستغرقها جول كابتن ماجد من لحظة ركل الكُرة وحتى تستقر في الشبكة ونتنفس الصعداء، حسبي ربي فذلك ليس من عدل السماء!
أين العدل والرفاهية في سهرات ثابتة، تبدأ من السبت بنادي السينما مروراً بحدث بالفعل وتاكسي السهرة، والثلاثاء الذي يشبه الببغاء فلم يكن له هوية ولا سهرة تلفزيونية، أما الأربعاء فكان يوم العظماء من متابعي ماكجيفر وملفات إكس وباقي فقرات اخترنا لك، مسرحية يوم الخميس المحفوظة وفيلم يوم الجمعة الذي لا زالت أحداثه في الذاكرة محفورة، والذي يقطع صفو متابعته البرنامج الإخباري العريق أحداث 24 ساعة والذي يستغرق قرابة الساعة نكون خلالها انقلبنا على ظهورنا كصرصار رفصه حِمار!.
لم تكن حياتنا سهلة! وكيف لك ذلك خاصة إن سولت لك نفسك الوقوف ضد الريح ورفضت ارتداء أميجو اللي بتنور بينما نصف الشعب عليها بيدور.. وهذا حديث صحيح يعني أنك كائن تقليدي متأخر متمسك بالرجعية الإيطالية وخاصة إذا كنت ترتدي أحذيتك من زلط وتوب أو لطفي وكوتشي، سواء من مصر الجديدة أو من بحري أو المحافظات القبلية.
سأحدثك عن الكارثة الكبرى والتي تنسف منطق التنعيم وتذهب به إلى الجحيم، وهي تتعلق بالألعاب التي أرى في عينيك ذكراها الممتلئة بالحنين، وتلك مأساة أخرى، فالنحلة الدوارة ألوانها تخبو كالدنيا الدوارة، ألعاب الجيب التي يُعَد عدم امتلاكها عيب، نط الحبل وصلَح ودور أتوبيس كومبليه في المدرسة قبل ما نروح، Xo على الشاطئ أو الزجاج الخلفي لسيارة يكسوها التراب، بنك الحظ والساعات التي نقضيها متوترين في محاولات مضنية باستراق النظر وذلك للتحايل على مسارات الدور الطبيعية وكشف كروت اللاعبين بطرق تجسسية، مشكلات السلم والثعبان الجمة، فكم من نرد ذهب في طي النسيان وورق الكرتون المرسوم عليه اللعبة كم تعرض للامتهان، ولليوم لا أحد يعلم كيف يختفى النرد وچوكر الكوتشينة وأحجار الدومينو الثمينة!
كيف يقترن بجيل الثمانينيات والتسعينيات وصم اللهو! ونحن الجيل الذي دفع أعصابه ثمناً للحصول بانتظام على إصدارات رجل المستحيل والمغامرون الخمسة وفلاش، ومجلدات عم ذهب وكابتن ماجد، أظنوا أننا كنا نحصل عليها ببلاش! ولن أتحدث عن الأيام التي كُنا نفترش فيها الأرض أمام المكتبات لأولوية الحصول على شريط جديد مصحوباً بالبوستر الملون بسعر قد قارب الأربع جنيهات، وبالطبع هذا سعر مختلف عن شرائط الكوكتيلات العمولة.
عجيب أمركم أيها الأجداد والأباء.. كيف غاب عنكم عناءنا وداومتم على نعتنا بالعيال المحظوظة، ونحن مشكلاتنا كان علاجها قُبلة وربتة وحنية فالبيوت كانت لا تزال بالأُسر عامرة ومن الهواتف المحمولة خالية، والألواح الذكية كانت منها خاوية، وللعادات متشبثة، وبالحب متشبعة، فلم يكن هناك منصات للتواصل الاجتماعي لكن كانت هناك مناسبات للتجمع الإنساني، وسفرة الغداء التي تتسع لحل مشكلات الجميع، وصينية ساندويشات العَشاء القادرة على إعادة ترتيب الكون بحسب أحلامك وكأنك ولدت من جديد! أصناف الطعام واحدة سواء كنت غفير أو وزير، والبيوت كلها مستورة في تناغم إنساني غريب.
نحن جيل تحمل التنمر بصبر فنحن من تربينا على أن أجمل من في الحفلة دبدوبة التخينة، والطويل يعود للوراء والقصير نفضحه ونقعده بالأمام، أما أصحاب الكوبايات عفواً أعني النظارات فعليهم الجلوس في منتصف الفصل حتى لا يصيبهم حَوَل والخوف عليهم هو الأصل!
زمن ليس كمثله زمن.. تلك حقيقة أي نعم، مرت الأيام وكبر جيل الأمنيات والأحلام واختفت ملامح ذلك الزمان، وصدقاً... كنا جيل مِدلع ولكن طيب ومحترم ومتربي وغلبان، رَحَل غالبية الأهل والجيران، ولا نملك اليوم إلا أن نقاوم النسيان، لنبقي على تلك الذكريات التي صنعت أرواحنا وشكلت لقلوبنا حماية مما أخفته الأيام، وقد انقلبت رأساً ووقع على عاقِبنا سيف التكيُف والتغُير حتى لا نقف أمام قطارها الذي لا يرحم الأنام!
كان في جعبة الأيام تربص وسوء نية، تركتنا نفرح ونمرح ونسرح في جمالها ونتغنى بدلالها ونرقص تحت صفو سمائها، ثم انقضت علينا بغتة، تطالبنا بسداد فواتير سعادتنا وبراءتنا وأمنياتنا، واللئيمة الجريئة نسيت أنها من سرقت أحلامنا، دون أن يشفع لنا مفارق شعرنا التي تلونت بالأبيض، ومشاعرنا التي اتشحت بالأسود حداداً على سوء اختياراتنا وغباء بعض قرارتنا، تركتنا المأسوفة على مفترق السنين ننزف كالذبيحة في صباح عيد حزين.
هل كان ذلك قبيل صدفة أم فعل متعمد يشوبه الإصرار والترصد! حتماً أنه المكتوب الذي لا مهرب منه إلا الوجوب، وسبحان الموجود المستعان على معنى أن نكون مفعول به في هذا الوجود، لكنها سُنة الحياة التي فرضُها أن تلك الأيام التي نشعر فيها بغربة ساحقة ووحدة ماحقة، ستصبح يوماً ذكرى لجيل آخر.
ربما بعد عشرات السنين سيكتب أحدهم مقالاً يترحم على أيام الذكاء الاصطناعي الوسطي الجميل، والأسرة التي تتقابل كل بضع شهور، والموضة المتغيرة من دقيقة لدقيقة، وجروبات الماميز التي تزرع الكراهية بين طلاب الفصل الواحد، والجو الحارق صيفاً والشديد البرودة شتاءً، و فيروس كورونا الذي كان رحيم، ربما سيتحسر صاحب المقال أيضاً على زمن الرقي الفني في موسيقى المهرجانات وأفلام العشوائيات ونجوم المطواة والسيوف حملة لواء انحدار الأخلاقيات، قد يشتاق لأيام كانت فيه معدلات الطلاق نصف نسب الزواج بعد أن أصبحت النسبتين متساويتين!
كله وارد.. فالحياة بابها موارب، لا نرى منها إلا ما تسمح لنا به، ونصيبنا فيها هو قسمة خالقنا منها، وما باليد حيلة إلا المضي فيها قُدماً حتى تحين ساعة لن يصبح لنا فيها على كل الأحوال قَدماً، ولذلك الوقت سنفترش الذكريات ونستعين بها على ما هو آت.
وسيظل المجد كل المجد لأيام ما كان المصيف يعني العجمي والمعمورة، ورأس البر وجمصة وجهات سياحية مشهورة، ومجلات الموعد والكواكب طوق نجاة للوجوه المغمورة، والسينما والمسرح والأوبرا سهرات مشروعة، والسهر خارج المنزل مع شلة النادي لبعد الثامنة من المحرمات الممنوعة، وطوبى لكل من ظلم جيلنا وقال "مُنعَم" فالرحمة لمن غادرنا منهم، والصحة لمن لا زالت ضحكاتنا معهم.
وعسى أن يكون ما مرّ بنا من حروب تكنولوجية، وغلاء الحياة المعيشية ووباء الإشاعات والأمراض الأخلاقية، وغباء كل من ظن أنه صاحب فكرة لوذعية، هو شاهد أن ذلك الدلع وتلك الرفاهية لم يكنا إلا هدوء سبق العاصفة، وسُكون ما قبل الزلزال، وإطراق ما قبل البركان…
وسنظل نحكي أنه كان يا ما كان، وبكل ما أوتينا سنحمي ذكرى هذا الزمان من طوفان التكنولوجيا والصراعات والمعلومات، وما خَفي وكُتب علينا من كل المقدرات.